إنها قضية موضوعية يا صاحبي


عدنان يوسف رجيب
2019 / 4 / 9 - 02:50     

إنها قضية موضوعية يا صاحبي
(مسرحية رمزية قصيرة جدا – من واقع الحياة)

عدنان يوسف رجيب

إكتضت القاعة الضخمة بالمحتفلين.... وهي التي إتسعت أرجاءها للكبار، ذلكم النوع الخاص من المتجمعين ....العلية الذين يرفلون بنمط الإتساق والمؤازرة مع أصحاب الحكم والسطوة....
ساد القاعة الآن صمت شديد.... فلقد وقف الخطيب الأول، السيد الكبير، وها هو شاخص متباهي، متألق بهندامه..... ينظر للمحتفلين نظرة الواثق..... يجول بنظره فاحصا مناصريه.... يتأمل ردود فعل ما سيقوله....ظهر هكذا منتشيا. وبدأ إرجوزته الخطابية شاهرا عن يدين عريضتين، ملوحا بهما في الهواء، وبان كأنه يرميهما بعيدا عنه ثم يلتقطهما، ولكن برهافة وإتقان تعود عليها، وأجاد صنعته هذه.... لقد بدى، الآن، إنه مدرك، أن خطبته تتطلب هكذا إجادة....

نطق بأول الغيث، فكان قويا شديدا: يجب القضاء على الشيوعية !. وإهتزت عمامته الواسعة، التي تخفي رأسا صغيرا، من قوة العزم عنده، وهو ينطق جملته الأولى، هذه. وأعقبها، بتعبير غزيز، صارخ: الشيوعية تقض المضاجع.... كيف نستكين، وهذا البعبع الشيوعي بين ظهرانينا. ثم علا صوته جهوريا، وفيه قساوة ظاهرة: لنوقف زحف الشيوعية، نمنع هؤلاء الشيوعيين بكل الوسائل من التغلغل بين الناس.... نمنعهم بشتى الطرق، وأومأ بيده، لتبيان مقدار قساوة المنع الذي يرتأيه ضد أعدائه الشيوعيين. ثم، صعد من عقيرته شدة، فصرخ، فحيحا، حيث أراده زمجرة: تعالوا نتكاتف.....نتناصر، لنوقف الشيوعيين..... نمنعهم من التواجد في مجتمعنا. وظل المجتمعون أمامه، بشتى بزاتهم وقيافاتهم المنوعة، يهزون الرؤس، متمازجين مع كلام هذا السيد الكبير. وبقي، هذا الخطيب الكبير، يكرر، ويكاد يزبد ويرعد بنفس الوعيد الحانق ونفس التوجه للتحشيد والتجمع، ليس فقط لهؤلاء الذين تواجدوا أمامه، بل لأولئك الآخرين الذين، حتى، لا يراهم....
وهنا خنقته العبرة لشدة إستثارته لنفسه، ولإنشداهه، إن كان كل السامعين يشاطرونه نهج وعيده الذي ولج فيه.... لكنه ظل يحاول أن يزيد الزمجرة شدة، ويضيف للحكايا إمتدادات تقسو على الشيوعيين....

وهناك في خضم، هذا، الوسط الإحتفالي، برز شاب يطلب الكلام، وكان المسؤول غافلا لا يلبي للشاب طلبه. بينما بقي السيد الخطيب يطيل مقولته، تلك المليئة وعيدا وحكايات تبدو غريبة.... و طال الدهر بالخطيب وكلامه..... وإلتفت المسؤول الى الشاب، وأومأ له بالكلام....
نهض الشاب هادئا، ثابتا على أرضه، وإنطلق للقول، موجها كلامه للخطيب الأول: أنا أيها السيد العزيز أريد، مثلك، أن أقضي على الشيوعية.... هنا، فجأة، خيم سكون مطبق على المحتفلين..... بل ذهل بعض المنصتين....
لكن الشاب تابع ليقول: هات يدك، ايها السيد العزيز، مع يدي لنتضامن لأجل ذلك..... القضاء على الشيوعية.
لكن، أيها السيد، علينا الحذر، إبتداء، ونحن نقوم بهكذا عمل كبير، حيث للشيوعيين حظوة بين الناس، كما بينت أنت، نفسك، توا. هنا، إذن، علينا وضع خطة......خطة حكيمة وبسيطة، وكذلك مباشرة. ثم نبدأ العمل. علينا في البداية، أن ..... أن نتفهم ما هي أهداف الشيوعيون....ثم..... ثم نعمد لقطع الطريق عليهم كي لا يتم إستمرارهم في المجتمع... الخطة المثالية، أيها السيد العزيز، هي بتلبية أهدافهم.... نعم تطبيق أهدافهم:

تعال، أذن، معي، ايها السيد، لنبدا العمل: من أولى مطالب الشيوعييون هو القضاء على الإستغلال.... فتعال يا عزيزي، لنضع يدينا بيد بعضنا، ونتوجه لمنع الإستغلال في المجتمع..... فأتوقف انا عن أستغلاك وأنت لا تستغلني، ولا نستغل نحن الثالث ولا هو يستغلنا.... فإذا، نحن، قضينا على الإستغلال، هنا نذهب للشيوعيين ونقول لهم:
توقفوا عن العمل والنشاط بين الناس، الآن، إننا طبقنا أهدافكم......

نقوم بعدها، أيها السيد العزيز، بتشغيل كل العاطلين عن العمل..... عندها نقول للشيوعيين: ها إننا نفذنا مطلبكم في القضاء على البطالة، وعاد كل شخص مع مردود مالي يعيله مع عائلته..... ونصرخ في الشيوعيين: ها إننا نفذنا مطلبكم في المجتمع، فتوقفوا عن النشاط بين الناس....

نعمل بعدها، أنت وأنا، أيها السيد العزيز، على إعطاء المراة حقوقها إسوة بالرجل..... أي تصبح المرأة مثل الرجل في أحقية صنع القرار الإجتماعي في المجتمع، وتتآزر هي متساوية مع الرجل في هذا المجال.... وهنا نقول للشيوعيين:
كفوا عن النشاط عن حقوق المراة، ها إننا حققنا المساواة، وأصبحت المراة صنوا للرجل.

ثم نقوم، أنت وأنا، بعمل كبير شامل، لتثقيف بنات وأبناء المجتمع ضد التخلف والخرافات وضعف الوعي. والعمل مع التوجهات الوطنية نحو الناس، لأجل مساعدة كل فرد للآخر. كل ذلك، من بإستخدام وسائل الإعلام في الدولة. وكذلك، في العمل على نشر المكتبات الحافلة بأنواع الكتب والمجلات. وأن لا يفوتنا، كذلك، العمل، لكل هذا، من خلال مناهج إنسانية في المدارس.... نعمل أن تكون هذه مرتعا للوعي والثقافة الجادة في الحياة. هنا، عزيزي السيد، سنكون واثقين من أنفسنا، لنواجه الشيوعيين ونقول: إن مطلبكم الثقافي والإنساني قد طبقناه، فلماذا أنتم باقون في المجتمع تنشطون؟!

وللآن هناك أهداف للشيوعيين، علينا تحقيقها، أيها السيد العزيز.... علينا التوجه الى إقتصاد البلد.... أن نضع النزيهين والخبراء للعمل بهذا المجال..... هنا تتم، عمليا، خدمة الناس إقتصاديا. ومتى ما أتممنا ذلك بشكل كامل، هنا يكون من حقنا أن نقول للشيوعيين:
ها نحن قد نفذنا مطلبكم الإقتصادي في البلد.... فلماذا أنتم باقون ...عليكم التوقف عن النشاط في المجتمع.

وعلينا ياعزيزي أن نقوم، أنت وأنا والوطنيين الآخرين، بالتحري لمعرفة الخونة والعاملين مع الأجنبي، لكي نتأكد من أن بلدنا حرا ذو سيادة كاملة، وأبناءه وبناته الوطنيين هم الذين يحكمونه..... وما أن نتثبت من ذلك، حتى نذهب للشيوعيين، بكل قوة وعزم، ونقول لهم: ها إن اهدافكم في الوطن الحر والسيادة الكاملة قد أتممناها.... فأوقفوا نشاطكم بين الناس.

ويبقى لنا أن نعمد الى القانون، والمحاكم...... ندون الأحكام والنصوص المنصفة للناس. التي تضع الجميع سواسية أمام المحاكم، ولا أفضلية لأحد على الأخر أمام القانون.....
والأهم ان يتم منع الظلم والتعسف مهما كان مصدرهما.... حيث يحارب الشيوعيون هذا الظلم والتعسف. ولنا حين أتمام ذلك بنجاح، ان نذهب بقوة للشيوعيين ونقول لهم: ها نحن طبقنا اهدافكم القانونية، ومنعنا الظلم والجور في المجتمع...... فما سبب نشاطكم في المجتمع الأن؟!

ولا ننسى أبدا، أيها السيد العزيز، جعل العوائل كلها (خصوصا الفقيرة)، تعيش بسكن لائق. وأبنائهم وبناتهم يحظون بمدارس محترمة. ويبىاح التطبب المجاني للناس جميعا في مصحات كاملة مفيدة. وبالتالي، علينا إذن إن نذهب للشيوعيين ونقول لهم بهمة وعزم:
ها أننا نفذنا أهدافكم في السكن والدراسة والمصحات، فلماذا أنتم تنشطون الأن في المجتمع!

هنا يتوقف الشاب الجرئ عن الكلام، وسط، إصغاء، وهدوء تام، للقاعة..... ولا يخفي البعض إستحسان الأفكار.
ثم يسترد، هذا الشاب، أنفاسه، لبرهة، ثم يكمل كلامه، ولكن بعزم أشد، و بصوت أقوى وأكثر تصميما وحماسة، ليقول:
لكن، يا عزيزي السيد، أود أن اعيد تذكيرك بما تعرفه أنت عن كثب، فأبين بوضوح:

إذا بقي ظلم وتعسف في المجتمع، هنا يمكن أن يصبح إبنك وأصدقاؤه شيوعيين، ليعملوا على إنهاء هذا الظلم..... وإذا بقي إستغلال في المجتمع، فيمكن أن تصبح بنت صديقك وصويحباتها شيوعيات، ليعملن على إنهاء الإستغلال...... وإذا لم تحصل المرأة، نصف المجتمع الهام، على حقوقها الكاملة، فيمكن أن يصبح إبن عدوك ومعارفه شيوعيين، ليناضلوا من أجل إعطاء المراة حقوقها......
وإذا أصبحت بلادنا بلا سيادة بسبب حكم الخائن والمجرم للبلاد، فهنا يمكن أن يصبح إبن جارك وبنت من لا تعرفه وأعوانهم، شيوعيون، ليعيد هؤلاء سيادة الوطن، وكي يحكمه الوطنيون...... وإذا حصل خلل في القوانين ولم تحكم الدولة بالعدل بين الناس، هنا يمكن لبنت قريبك وإبن الغريب عنك ومؤازروهم أن يصبحوا شيوعيين، فيعملوا على سيادة القانون والعدل والمساواة بين الناس.
ولك أن تعلم ايها السيد العزيز، عدم حصول الناس على حقوقهم في السكن والتطبيب والدراسة، سوف يجعلهم ينتفصون، ويكون المحرضون هم الشيوعيون، الذين لا نعرفهم نحن، ولكن الناس يعرفوهم جيدا، ويسيرون ورائهم.....

يا عزيزي، أيها السيد، إنك واعي بشكل كاف لتعرف:
إن الشيوعية هي قضية موضوعية.... إنها تحصل و تتواجد خارج إرادتي وإرادتك، وخارج إرادة أحبائك وأصدقائك.... تبرز بفعل ظروف المجتمع الموضوعية. متى ما كان هناك تعسف وظلم و إستغلال وبطالة وعدم أمان إجتماعي، فتحصل الشيوعية. وأيضا تظهر الشيوعية، حينما لا يتمتع الناس بحقوقهم كاملة، وحينما لا تحصل المراة على حقوقها.
ومتى كان هناك تخلف ثقافي، وتفشي للدجل، وإبتعاد السلطة عن مصالح الناس....هنا حتما تظهر الشيوعية، لازالة هذه الأدران من المجتمع.
أيها السيد العزيز، أنت تعرف أكثر من غيرك، إن الشيوعية ستظهر وسيعمل الشيوعيين بنشاط حينما تتدهور معيشة وسكن الناس. وكذلك إذا كانت الاوضاع الدراسية منهارة والوضع الصحي سيئ . وحين لا تسود العدالة في المجتمع. وحين تتوقف الأستفادة من خيرات البلد بسبب السلطة ومن الأوضاع الإجتماعية....
كل هذه المظاهر تعمل على خلق العامل الموضوعي لظهور الشيوعية. و يا عزيزي السيد، بالتالي لا نستطيع، لا أنت ولا أنا ولاغيرنا، أن نقضي على الشيوعية.... فتبقى الشيوعية قوية، وتعمل جاهدة لتطبيق أهدافها، لرخاء وسعادة المجتمع.

أكمل الشاب محاججته، وكان لا يزال بعنفوانه نشطا متألقا. ولكن بقي كثير من الحضور ساكنين متمسكين بكراسيهم. أما السيد، (الخطيب الأول)، فكان متسمرا، في مكانه، لكنه يرتعش.... وعمامته تهتز فوق رأسه بلا إنقطاع . ثم إلتفت بهدوء الى اصحابة، المنتشرين في القاعة الواسعة، يستنجد بهم، لكنه، أيقن من نظرته لهم، أنهم أكثر حيرة وإرتباكا منه....

اصبح شطر كبير من علية القوم، الان، مشلولي الإرادة. لم يستطع أي منهم إلا أن يبقى صامتا متقوقعا على نفسه. وها إن فترة ليست قصيرقد مضت، حتى تيسر للسيد الكبير، أن يقوم متراخيا، شبه مستسلم..... ثم إستجمع قوته، وحاول الصراخ، لكن صراخه عاد فحيحا، مرة أخرى.... بقي صوته، الخافت الحزين، يسمع باهتا هنا وهناك. وفي نوبة الغضب هذه، قال: هذا لا يصح..... لا يصح.... لكن.... لكن، ماذا عسانا أن نعمل ؟! ..... ثم خرج متثافلا، ليغادر معه جمع من أتباعه.....