حول دور ستالين في التاريخ الروسي


مشعل يسار
2019 / 3 / 4 - 13:04     

لم يعد ستالين منذ زمن بعيد ذاك قائداً من القادة العابرين الذين لم يتركوا أثرا في التاريخ السوفياتي أو البشري بشكل عام، بل أصبح القائد الأسطورة ورجل الدولة الذي لم يعرف له مثيل في التاريخ الحديث والقديم والذي يحلم الكثير من الناس بقائد مثله لبلادهم حريص مضحٍّ بالغالي والنفيس، بالشخصي في سبيل الصالح العام، وإن كان البعض الأخر الذي يسطح الأمور والمفاهيم يتهمه بالقسوة المفرطة حتى الإجرام دون التمعن جيداً في المرحلة التاريخية التي انوجد فيها هذا القائد الفذ على رأس دولة مترامية الأطراف والتي تنطح إلى ملئها بالفعال العظام. ولم يخطئ الكاتب الدرامي الاشتراكي البريطاني المنتمي إلى الحركة الفابية برنارد شو حين وصف ستالين في رسالة مفتوحة إلى صحيفة مانتشستر غارديان بالقول: "ستالين رجل لطيف جدا وهو حقا قائد للطبقة العاملة ... ستالين عملاق، وجميع القادة الغربيين أقزام". وأية قذارات رميت من قبل هؤلاء الأقزام على صورة ستللين سوف تتساقط شيئا فشيئا عن هذه الأسطورة التي تمثل طريقة تفكير وعيش وتختصر نماذج تاريخية مكثفة تجسدت في شخص واحد.
فأية حقائق يجب أن نعرفها عن ستالين وعهده، وهي حقائق لا يساور أحداً أي شك في شأنها؟

1- لقد حوّل ستالين الاتحاد السوفييتي إلى قوة عظمى، وأنشأ تكافؤاً في القوى مع الولايات المتحدة وأرسى الأساس لدرع الصواريخ النووية. وبفضل ذلك، أصبح من المستحيل مهاجمة روسيا السوفياتية الاشتراكية "وجها لوجه" وحتى يومنا هذا رغم كل ما حصل للنظام الاشتراكي الذي أقامه بدءاً مسترشدا سلفه لينين العظيم منذ أواسط عشرينيات القرن الماضي؛
2- انتصر الاتحاد السوفييتي تحت قيادته في الحرب الوطنية العظمى، أي في وجه هجوم الجحافل النازية المؤيدة ضمناً من قبل الغرب الرأسمالي على الاتحاد السوفياتي في سياق الحرب العالمية الثانية؛
3- وضع ستالين أمام الاتحاد السوفياتي هدفًا عالميًا شاملاً يتجاوز الأوطان ألا وهو توحيد جميع الناس، بغض النظر عن المنشأ الإتني ولون البشرة وشكل الأنف، في الصراع ضد الاستغلال ومن أجل العدالة الاجتماعية. وكان في هذا يعد العدة لانتقال العالم كله إلى الاشتراكية بعيدا عن صراخ تروتسكي حول "الثورة العالمية المستمرة" التي تكون روسيا السوفياتية وقودها. وبعد أن طرح المهمة، حدد المسارات والمعايير لتحقيقها. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد جهود المواطنين تتسم بـ"التخبيص" و"التشتت"، وأصبحت حركة منسقة نحو هدف محدد؛
4- تم إنشاء آلية هي الأكثر فعالية لما يسمى "المصاعد الاجتماعية" أي الترقي الوظيفي، حيث يمكن لكل مواطن أياً تكن أصوله الطبقية أن يصبح أياً كان، بدءا من أدنى مرتبة في الهرم الاجتماعي ووصولا إلى أعلاها. فلو كان ابن فلاح فإن بوسعه أن يصبح أكاديمياً. ولو كانت ابنة عامل أصبحت إن أرادت وتوفرت لها الموهبة مغنية أوبرا.
بالإضافة إلى ذلك، تم تطبيق مبدإ المساواة أمام القانون على جميع المواطنين بغض النظر عن موقعهم أو "واسطتهم" أو مواردهم المالية؛
5- تخلص الشعب السوفياتي بهمته وإصراره من الفساد في جهاز الدولة، وحاصر تجارة المخدرات والجريمة، وأعاد إعمار البلاد بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية؛
6- الاتحاد السوفيتي كان بلداً ذا نظام مالي مستقل. وقد تم تضمين كل فلس قيمة سلعية حقيقية. وباتت ممارسة "العبودية الائتمانية" والربا محظورة قانونيا، وأصبحت البلاد بحكم القانون وبحكم الواقع ملكاً للشعب كله (وهو ما كان مثبتاً في الدستور)؛
7- خطت البلاد السوفياتية خطوة هامة إلى الأمام بأن تحولت من الصناعة الحرفية اليدوية إلى قوة صناعية عصرية حقيقية قائمة على الاكتفاء الذاتي. وبالتوازي مع ذلك، تم تشكيل نظام "المزارع الكبيرة" و"المجمعات الزراعية - الصناعية المتكاملة رأسياً"، إذا ما صنفنا مزارع الدولة والمزارع الجماعية التعاونية استناداً إلى لغة الأعمال الحديثة؛
8- كان هناك في الإمبراطورية الروسية عدد كبير من الأميين (خاصة خارج المدن)، فجاء الاتحاد السوفيتي الذي أنشأه لينين ليحل هذه المشكلة بالكامل في عهد ستالين، مكملِ المشروع اللينيني. ونتيجة لذلك، انهارت أسطورة "الفلاح النائم نومة أهل الكهف" والذي زعموا وعلى رأسهم تروتسكي إن لا سبيل لتعليمه وتثقيفه. وبالمثل، قامت الدولة بحل مشكلة أطفال الشوارع المشردين، ومشكلة تأمين الوصول جماعياً إلى ممارسة الرياضة والحصول على الطبابة؛
9- أصبح الاتحاد السوفياتي واحدة من قاطرات تنمية كوكبنا الأرضي. ولم يتم إخفاء الإنجازات المتقدمة كما تفعل الشركات الخاصة عادة بفعل الأنانية الرأسمالية ورغبة الاحتكار والربح المفرط، بل بالعكس استفيد منها على نطاق واسع، حتى قيل أن اليابانيين في سياق ثورة تقدمهم استفادوا كثيرا من الابتكارات التي كانت تنشر في المجلات العلمية السوفياتية، وتم تشجيع المخترعين وتطوير مواهبهم. فإذا توصلتَ إلى ابتكار ما أو عرفت كيف تخفض تكلفة الإنتاج أو كيف تزيد حجم الإنتاج في تجاوز للخطة الموضوعة سلفا، فإنك ستلقى الاستحسان وتكافأ وتحظى بامتنان الشعب في آن.
وأصبح العلماء والمهندسون، الرواد والمبرّزون في الإنتاج الذين لقبوا بـ"تلامذة استاخانوف" "Stakhanovites"، هم الأشخاص الذين كان الباقون يحهدون للتمثل بهم في المجتمع كله؛ أولئك الذين كانت مواهبهم مفخرة ومثار إعجاب؛ وكانوا مثابة المثل الأعلى للصغار والكبار. (وليس ذاك المثل الأعلى الذي يقدمه اليوم من يسمون بـ"النجوم" في مجال نفخ الشفاه بالسيليكون، بل ذاك الذي يقدمه أشخاص عاديون تعلموا كيف ينفُذون إلى المجهول ويضيئون عتمته بعقولهم)؛
10- وأخيرا لا آخراً، كان ستالين، كما يطلق عليه الآن، رجلًا "عصاميًا". صنع نفسه بنفسه. فتطور من ثوري بسيط كان يؤمن بالحلم ليضحي باحثًا وقائدًا ومنفذًا لهذا المفهوم في العالم المحيط – إذ خلق نموذجًا بديلاً لحياة دولة ضخمة تمثل عالماً بأكمله.
لكنه بقي هو نفسه متعاليا على الغرائز الدنيئة أو الرغبة في الترف الشخصي، وهما الآفتان اللتان نراهما اليوم في معظم البلدان السائرة في الطريق الرأسمالي حيث الاختلاسات من الخزينة العامة تترى وفضائح السرقة بالمليارات تتواتر. فبرهن بمثاله الشخصي أن رئيس الدولة يستطيع أن يكرس نفسه كليا لخدمة الشعب، ويختزل كل "منافعه" الشخصية في زوج من المعاطف والغلايين والأحذية البالية.
لقد فعل ستالين كل ما توقف عليه، وهو يستحق بحق كل احترام وإعادة نظر في موقف كل مؤمن بقضية العدالة بين الناس منه ومن إرثه، كل مخلص ومنصف في تقويمه لستالين ولكن طال تأثره بالدعاية الرأسمالية الصهيونية الهوى التي شوهت اسم ستالين وأفعاله مدى العقود. وقد كان المؤرخ الشيوعي الأمين العام السابق لحزب العمال البلجيكي لودو مارتنز بين أوائل من كشف النقاب القاتم عن شخصية ستالين في كتابة "ستالين، نظرة أخرى" الذي جهدت البرجوازية الأوروبية لحظره. لكن الحقيقة لا يمكن إخفاؤها مدى الدهر، فهي، كما قال عمر بن أبي ربيعة، "وهل يخفى القمر؟"
قال نيكيتا خروتشوف، الذي انقلب على القائد ستالين بعد موته أو إماتته كما أظهرت معطيات الأرشيف، في المؤتمر العشرين المشؤوم للحزب الشيوعي السوفياتي مقارناً افضلياته هو بـ"سلبيات" ستالين: "إن ستالين نفسه لم يكن ينام ولم يتح للآخرين أن يناموا. أنا لست ستالين. من الآن فصاعدا سوف تنامون وتعيشون في سلام. أضمن لكم ذلك".
لكن النوم الذي أرسل خروشوف البلاد السوفياتية إليه، بعد أن بدأ بنشر "فضائح" عهد ستالين في المؤتمر إياه، تحول إلى سبات رهيب انساب في العقول رويداً رويداً ليتحول لاحقاً إلى غيبوبة. وما يتبع الغيبوبة عادة هو إما الموت السريري، أو (في القليل من الأحيان) صحوة دراماتيكية. وسيكون على روسيا والعالم الاختيار بين الاستيقاظ والموت، فإما الانتصار لاسم ستالين ولأعماله الجلى، وإما القبول بالمصير المشؤوم الذي تعده الصهيونية للعالم كجبهة صداهية للرأسمالية حالياً: عبودية جديدة قد يكون الطريقَ إليها حربٌ عالمية نووية توصل إلى فناء القسم الأكبر من البشرية وبناء دولة إسرائيل الكبرى التي قد تتجاوز حدود الفرات والنيل على أنقاضها.