ميزة الاستغلال المفرط لإمبريالية العولمة / 2-2


حسين علوان حسين
2019 / 2 / 22 - 17:07     

"الاحتكار و المنافسة
من المفيد تدارس الكيفية التي يترابط عبرها الاستغلال و الاستغلال المفرط مع المكون الجوهري الأساسي الآخر للرأسمالية : المنافسة / الاحتكار . إن الاحتكار محفور في جينات الرأسمالية لكون كل الرأسماليين الأفراد يعملون كل شيء ممكن ليس لكي يتنافسوا مع بعضهم البعض ؛ و إنما لكي يتجنبوا المنافسة ، ليحرزوا التفوق إزاء منافسيهم ، و ليمارسوا نوعاً من الاحتكار الذي يؤمِّن لهم تحصيل الأرباح الأعلى من المعدل . أما المنافسة ، فإنها تنجم من الجهود الدائبة للرأسماليين الأفراد لخرق القانون الأساسي للقيمة و المتمثل بالتبادل المتكافئ بين المشتري و البائع . و لا يمكن كبح اندفاع الرأسماليين الجامح هذا إلا بقوة خارجية ؛ و من هنا تنبثق ضرورة تدخل الدولة و منظومة القوانين المستقلة عن الرأسماليين الأفراد – و من هنا أيضاً تتأتى المحاولات الدائمة للرأسماليين أفراداً و جماعات للاستيلاء على الدولة بغية إشباع نهمهم من أرباح الاحتكار .
و يتخذ الاحتكار أشكالاً متعددةً ، حيث يرتبط قسماً منه بعملية الإنتاج ، أي بالابتكارات التقنية التي تسمح للفرد الرأسمالي بإنتاج سلعة معينة بكفاءة أعلى (أي بكلفة أدنى) من غيره . كما يرتبط الاحتكار بعملية التوزيع أيضاً )مثل احتكار العلامة التجارية أو غيرها من أشكال الاحتكار في السوق ، أو وضع العقبات بوجه دخول المنتجين الجدد ، أو استيلاء الدولة على المرفق الإنتاجي ، أو الاستحواذ على امتياز المدخلات الرخيصة في الإنتاج ، الخ) . و كل شكل من أشكال الاحتكار هذه يمكن أن يكون قصير العمر أو مستديماً . و تشترك كل أشكال الاحتكار بخاصية إعادة توزيع فائض القيمة بين رؤؤس الأموال لتمكِّن الرأسماليين أفراداً أم جماعات من حصد الأرباح الإضافية عبر بيع سلعهم بأسعار أعلى من أسعار إنتاجها (أي الأسعار التي من شأنها أن تجعل نسبة الربح متساوية) على حساب الأرباح الأدنى لبقية الرأسماليين .
غير أنه ما من شأن أي شكل من أشكال الاحتكار أن يزيد في كتلة فائض القيمة المتاحة لإعادة التوزيع . و ينطبق هذا حتى على الابتكارات التقنية الخافضة لكمية العمل المطلوب في إنتاج السلع الاستهلاكية للعمال . فقط عندما يصبح هذا الابتكار التقني معمماً ( أي متاحا للتوظيف عند كل المنتجين عبر إلغاء احتكاره) ، عندها يفضي إلى تخفيض قيمة قوة العمل التي يقابلها الارتفاع في نسبة فائض القيمة في حال عدم تحصّل العمال على أي من هذه الأرباح عبر زيادة أجورهم الفعلية .

الاستغلال و الاستغلال المفرط
و فيما يرتبط الاحتكار كلياً بتوزيع فائض القيمة ، نجد أن الاستغلال يرتبط كلياً باستخلاص فائض القيمة . و مثلما يحلم كل رأسمالي في أن يصبح محتكِراً ، فإن في جينات كل رأسمالي صفة البحث الدائم عن طرق لتعظيم استخلاص فائض القيمة . في "رأس المال" ، يحلل ماركس بالتفصيل طريقتين يلجأ إليها الرأسماليون لتحقيق ذلك – بتمديد يوم العمل أطول "من وقت العمل الضروري" (أي الوقت المطلوب لاسترجاع القيم المستهلكة من طرف العامل و عائلته) و التي أسماها ماركس بفائض القيمة المطلق ؛ و كذلك بتخفيض وقت العمل الضروري عبر التقدم بالإنتاجية الذي من شأنه أن يرخص قيمة السلع الاستهلاكية للعمال و التي أسماها ماركس بفائض القيمة النسبي .
و كلتا هاتان الطريقتان تختلفان كلياً عن الطريقة الثالثة المتمثلة بـ : "إنقاص وقت العمل الضروري عبر تخفيض مستويات الاستهلاك للعمال" . و مثلما يشرح ماركس في عدة أماكن من "رأس المال" فإن طريقة : "تقليل أجر العامل إلى ما دون قيمة قوة عمله" قد "استثنيت من أخذها بعين الاعتبار لافتراضنا بأن كل السلع ، بضمنها قوة العمل ، يتم بيعها و شراؤها بقيمتها الكاملة" . كما يذكر ماركس بأن "التمييز بين نسب فائض القيمة في مختلف البلدان و من ثم بين المستويات الوطنية المختلفة لاستغلال العمل يقع كلياً خارج نطاق البحث الحالي" (للتوثيق و للمزيد من المناقشة ، أنظر مقالتي "إمبريالية القرن الحادي و العشرين") .

إننا إذا ما أكتفينا بمفهوم فائض القيمة المطلق أو النسبي بحد ذات كل واحد منهما ، أو حتى بكليهما معاً ، فإننا لن نستطيع استغراق علاقات القيمة القائمة في شبكات الإنتاج المعولم المعاصرة لأن مثل هذا المحاولات ستفشل في اجتياز اختبار التماسك النظري – في ضوء كون ماركس قد أعلن بصراحة بأنه قد استثني إنقاص مستويات الاستهلاك للعمال من هذين المفهومين (لافتراضه ابتداءً بأن كل السلع ، بضمنها قوة العمل ، يتم بيعها و شراؤها بقيمتها الكاملة). كما أن مثل هذه المحاولات ستفشل في اجتياز الاختبار العملي التطبيقي حيث أن تحويل إنتاج هذا العدد الكبير من البضائع الاستهلاكية إلى البلدان ذات الأجور المتدنية يعني أن أجور و إنتاجية العمال في هذه البلدان قد أصبحا هما المحددين الأكبرين لفائض القيمة النسبي في البلدان الإمبريالية نفسها . الشيء الجديد في هذا هو مداه الشاسع (بتوكيد عبارة : المدى الشاسع) ؛ و من هنا تتأتي الأهمية الاستثنائية لإسهامة "روي ماورو ماريني" (Ruy Mauro Marini) التي يكمن جزء منها في ملاحظته بأنه في عهد كارل ماركس كان استيراد الأغذية و غيرها من السلع الاستهلاكية المتدنية الأسعار التي ينتجها العمل الخاضع للاستغلال المفرط في المستعمرات البريطانية يساهم في رفع فائض القيمة النسبي داخل بريطانيا نفسها عبر خفضه للوقت الضروري للعمل دون خفض مستويات الاستهلاك للعمال .
إن كان مفهومي فائض القيمة المطلق و النسبي غير كافيين في تفسير وقائع الاستغلال لشبكات الإنتاج العولمي المعاصر ، فما هو المفهوم الآخر الذي نحتاجه ؟ الجواب الموجز على هذا السؤال هو : المفهوم النظري للاستغلال المفرط (أو الفاحش) . و مثلما رأينا ، فإن ماركس قد استثنى من "نظريته العامة" لرأس المال على نحو صريح و متكرر كلاً من آلية إنقاص الأجور إلى ما هو أدنى من قيمة قوة العمل و كذلك التباينات الدولية الحاصلة في نسبة فائض القيمة . غير أن إنقاص قيمة قوة العمل عبر كبح مستويات الاستهلاك (أو بكلمة أخرى : نقل الإنتاج إلى البلدان التي تكون فيها مستويات الاستهلاك للعمال شديدة التدني و مثلها قيمة قوة العمل) يمثل طريقة ثالثة قائمة بحد ذاتها في زيادة فائض القيمة و التي اكتسبت أهمية خارقة خلال المرحلة اللبرالية الجديدة بعد أن باتت هي القوة المحركة لأضخم التحولات فيها .
إن إعادة اكتشاف هذا الشكل الثالث لفائض القيمة هو الاختراق الذي يقدم المفتاح لإطلاق العنان للمفاهيم الدينامية التي يحتويها كتاب "رأس المال" ، و هو الاختراق الذي حققه "أندي هيجنبوتم" (Andy Higginbottom) في بحثه المعنون "الشكل الثالث لفائض القيمة" المقدم في مؤتمر عام 2009 و الذي يستند على أفكار ماريني ثم يطورها قُدُماً في سلسلة تالية من البحوث و المقالات ذات الإسهامات الجديدة .. ففي بحثه المؤرخ عام 2009 يقول هيجنبوتِم : "يناقش ماركس ثلاث طرق متميزة يستطيع بواسطتها رأس المال أن يزيد في فائض القيمة ، و لكنه لا يسمي إلا اثنين منها : فائض القيمة المطلق و فائض القيمة النسبي . أما الآلية الثالثة المتمثلة بإنقاص الأجور إلى ما هو أدنى من قيمة قوة العمل فإن ماركس يفردها لمجال المنافسة و يضعها خارج نطاق تحليله " .

الاستنتاج – الامبريالية ، الرأسمالية الاحتكارية ، و الاستغلال المفرط
الآن يصبح بإمكاننا أن نجمع بين العنصرين المكونين للرأسمالية – الاحتكار / المنافسة مع الاستغلال / الاستغلال المفرط . رأينا في البداية أن كل رأسمالي يحلم في أن يصبح محتكراً ؛ أما الرأسماليون في فيتنام و كمبوديا و المكسيك و غيرها من الأمم الجنوبية ، فإن أحلامهم تبقى كما هي : مجرد أحلام ، إذ لا خيار لهم سوى الاعتماد حصرياً على استخلاص فائض القيمة من عمالهم المحليين عبر استغلالهم المفرط إلى أقصى حد ممكن ، بل و حتى أشد من ذلك ، و الاعتماد على ما يتبقى لهم بعد أخذ المحتكرين و الامبرياليين في الشمال لحصتهم الأكبر من هذا الاستغلال الفاحش (ملاحظة المترجم : مثال : كلفة إنتاج الفيتنام للآيفون تقل عن 200 دولار للجهاز الواحد ، حيث يترتب على الرأسمالي المحلي الفيتنامي استخلاص حصته من نسبة فائض القيمة مما يتبقى له منها بعد تسديده لأكلاف المواد الأولية و أجور العمال و الطاقة و النقل و الاندثار و الإيجارات و التغليف ، الخ ؛ فيما تبيع شركة آيفون الاحتكارية المالكة لهذه العلامة التجارية نفس هذا الجهاز في كل أسواق العالم بما لا يقل عن 1000 دولار . أي أن نسبة الحصة الدسمة لشركة آيفون الاحتكارية من هذا الاستغلال الفاحش لقوة العمل الفيتنامية تبلغ 500% عن كل جهاز ، و أعداد هذه الأجهزة المنتجة و المباعة شهرياً مليونية !) و للصين أهمية كبرى هنا ، و لكنها ما تزال تشكل استثناءً جزئياً ، و هذا هو سبب مسارها المتقاطع مع القوى الامبريالية المهيمنة ، خصوصاً الولايات المتحدة و اليابان . و من ناحية أخرى ، فإن المحتكرين و الإمبرياليين في الشمال يحتفظون لأنفسهم بخيار مشاركة جزء من ريعهم الاحتكاري و الامبريالي (المتحقق من الاستغلال الفاحش لعمالة الجنوب المتدنية الأجور) مع عمال بلدانهم الشمالية على شكل ضرائب يدفعونها بغية شراء السلام المجتمعي و لتوسيع الأسواق لسلعهم و لتمويل مصروفات دولهم على تعظيم القوة الصلبة و الناعمة التي تدعم هيمنتها على البلدان الخاضعة لها .
و الخلاصة هي أن كلاً من الاندفاع الاحتكاري للرأسماليين ، أي نهمهم للاستحواذ على فائض القيمة على حساب غيرهم من الرأسماليين ، مع شهوتهم التي لا تشبع للعمل الخاضع للاستغلال الفاحش ، يترابطان معاً لتحديد المسار الإمبريالي الغريزي الذي لا يرحم . إن تحولات عصر اللبرالية الجديدة لا تمثل الانكفاءً للإمبريالية ، مثلما يزعم طابور المنكرين للإمبريالية ممن يدعون الولاء للماركسية ، بل هي الذروة التي بلغتها . "