في نقد إطراء البورجوازية الليبرالية


نايف سلوم
2019 / 2 / 2 - 11:15     


أنطلق في نقدي التالي من النقطة التي اعتمدها الكاتب محمد سيد رصاص في مقاله «عندما يقوم الشيوعيون ببناء الرأسمالية» ( 24 كانون الثاني 2019) وهي كتاب لينين «خطتا الاشتراكية ــ الديمقراطية في الثورة الديمقراطية»، حيث يدحض لينين فيه آراء يوليوس مارتوف المنشفي وآراء جورج بليخانوف. هذه الآراء التي تريد للبورجوازية الروسية الضعيفة ذات المزاج الإقطاعي الممثّلة بـ «الحزب الدستوري الديمقراطي» (الكاديت) أن تقود الثورة الديمقراطية البورجوازية أو التحوّل الديمقراطي. الصراع الفكريّ هنا يتركّز حول طبيعة القوى الاجتماعية السياسية التي يتوجّب عليها قيادة التحرّك الديمقراطي. أهي البورجوازية ذات المزاج الإقطاعي بقيادة حزب «الكاديت» أم البروليتاريا بقيادة حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي عامة والحزب البلشفي خاصة. وكانت الاشتراكية ــ الديمقراطية الروسية قد ظهرت كتنظيم سياسي تحت اسم حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي سنة 1898 في منسك، في سبق تنظيميّ للبورجوازية يصل إلى سبع سنوات حيث تأسّس «الحزب الدستوري الديمقراطي» (كاديت) كحزب بورجوازي ليبرالي بمزاج إقطاعي على أثر أحداث ثورة 1905 التي قمعها القيصر نقولا الثاني بشدّة، وهذا ذو دلالة تاريخية في روسيا قبل الثورة. ما لبثت الاشتراكية الديمقراطية أن انقسمت سنة 1903 بخصوص الاستراتيجية الاشتراكية الديمقراطية تجاه المهمّات الديمقراطية البورجوازية في الثورة الديمقراطية من جهة، وبخصوص قضايا التنظيم من جهة أخرى. الخلاف حول المسألة الاستراتيجية كان بين لينين وبليخانوف، والخلاف حول الأولى والثانية كان بين لينين ومارتوف. جوهر الخلاف بين لينين وبليخانوف كان يدور بشكل أساسي حول طبيعة القوى الاجتماعية السياسية التي يتوجّب عليها قيادة التحرّك الديمقراطي. بليخانوف قال بقيادة البورجوازية للمهمات الديمقراطية ذات الطابع البورجوازي، وعارضه لينين بالقول بعجز البورجوازية الضعيفة عن قيادة الثورة الديمقراطية نظراً لدخول الرأسمالية في المرحلة الإمبريالية.

إن الاستراتيجية الجديدة التي طوّرها لينين في «خطتا الاشتراكية ــ الديمقراطية في الثورة الديمقراطية» هي تتمّة لعمل ماركس في «الجريدة الرينانية الجديدة» وفي كتابه «الصراعات الطبقية في فرنسا وتحليل نتائج فشل ثورة 1848 الديمقراطية في فرنسا». ولو درس سيد رصاص كتاب «خطتا الاشتراكية ـــ الديمقراطية..» بإمعان لخرج بهذه النتيجة. إنّ تحليل لينين واستراتيجيته الثورية في كتابه المذكور تسير في نفس خطّ استراتيجية ماركس في «الصراعات الطبقية في فرنسا»، حيث يشير ماركس بوضوح إلى تحوّل صفّ المالكين الصغار بما فيهم الفلاحون إلى صفّ غير المالكين ويقصد البروليتاريا الحديثة. وهذا هو الدرس الكبير الذي استنتجه ماركس من فشل ثورة 1848 الديمقراطية في فرنسا، وهو ما دفع لينين لتطوير استراتيجية تحالف العمّال والفلاحين بقيادة البروليتاريا الثورية.
وكان تروتسكي قد طرح المسألة بحدّة أكبر منذ سنة 1903 – 1904 في كتابيه «الثورة الدائمة» و«نتائج وتوقّعات»، حيث أشار بوضوح إلى ضرورة قيادة البروليتاريا للثورة الديمقراطية البورجوازية. وكان تروتسكي يشكّل وقتها جماعة صغيرة على هامش الصراع البلشفي المنشفي، ولم يلتحق بالبلاشفة حتى ثورة 1917، خاصة أن «موضوعات نيسان» للينين تلاقت بشكل حرفي مع «نتائج وتوقعات» تروتسكي.
وكانت هذه الاستراتيجية البلشفية بخصوص قيادة الاشتراكية ــ الديمقراطية للثورة البورجوازية (الديمقراطية) قد تعمّقت في السنوات 1914-1916 عبر دفاتر لينين الفلسفية (1914-1915) وهي خلاصة منطق هيغل وعبر «دفاتر الإمبريالية» أو ما استنتجه لينين لاحقاً من عجز البورجوازية في العصر الإمبريالي عن قيادة التحرك الديمقراطي ودفعه إلى الأمام خطوات. لقد غدت البورجوازية في هذا العصر الإمبريالي رجعية على طول الخط في الإيديولوجيا والسياسة. إن النتيجة الأكيدة التي توصّل إليها لينين ومن قبله تروتسكي هي عجز حزب «الكاديت» ممثّل البورجوازية الليبرالية ذات المزاج الإقطاعي عن قيادة التحرك الديمقراطي حتى نهايته في العصر الإمبريالي. هذه النتيجة الاستراتيجية هي تتويج لعمل ماركس في «الجريدة الرينانية الجديدة» وفي «الصراعات الطبقية في فرنسا 1848». لقد سار لينين على درب ماركس وبعكس ما يشتهي سيد رصاص، فهو يعرف تماماً ويميّز مرحلتين في النضال الاشتراكي أو مهمتين كبيرتين واحدة ديمقراطية بورجوازية وأخرى اشتراكية ماركسية. ويعرف أنه يتوجّب على الماركسيين إنجاز المهمّتين البورجوازية والاشتراكية. وإنجاز الأولى ضروري لإنجاز الثانية. لكن الخلاف الأساس هو حول طبيعة الطبقة القائدة لهذه الثورة. ومن خلال قراءة مقالة ماو تسي تونغ «في التناقض» (1937) يمكن إدراك أن وضع الفلاحين وسلوكهم ودورهم التاريخي يختلف تماماً مع تغيّر الطبقة التي تقود الثورة البورجوازية. إن تغيّر العنصر المسيطر أو الصفة المسيطرة في البنية الاجتماعية يغيّر من كامل البنية ومن طبيعة عناصرها. يكتب ماو: «وإذا نظرنا إلى عملية الثورة الديمقراطية البورجوازية في الصين التي بدأت بثورة 1911 وجدنا لها أيضاً مراحل خاصة متعدّدة. فالثورة في فترة قيادة البورجوازية لها والثورة في فترة قيادة البروليتاريا لها تتمايزان على الأخص، كمرحلتين تاريخيتين مختلفتين اختلافاً كبيراً ذلك أن القيادة التي مارستها البروليتاريا غيّرت وجه الثورة (البورجوازية) بصورة جذرية، وأدّت إلى ترتيب جديد في العلاقات الطبقية وإلى انطلاق عظيم في ثورة الفلاحين. ومنحت الثورة الموجّهة ضد الإمبريالية والإقطاعية صفة الحزم الذي لا يعرف المهادنة، وجعلت من الممكن الانتقال من الثورة الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية» (مختارات ماو، المجلد الأول، ص 473 - 474 ).
إن نفس الثورة الديمقراطية البورجوازية مع اختلاف القيادة الطبقية لها تغدو مختلفة تاريخياً وبشكل جذريّ. وهذا ما غاب عن مقاربة سيد رصاص في مقاله الأخير فافتعل تلك المواجهة الخرافية بين عمل ماركس واستراتيجيته الثورية وبين استراتيجية لينين التي بدأ بإعدادها وبلورتها اعتباراً من ثورة 1905 في كتابه «خطتا الاشتراكية ــ الديمقراطية في الثورة الديمقراطية» حيث يكتب: «إن الماركسية لا تعلّم البروليتاريا أن تبتعد عن الثورة البورجوازية وتتّخذ منها موقف اللامبالاة، وتترك قيادتها للبورجوازية، بل على العكس، تعلّمها أن تشترك فيها أنشط اشتراك وأقواه، وأن تناضل أشدّ نضال في سبيل الديمقراطية البروليتارية المنسجمة تماماً (في إشارة إلى عدم انسجام الديمقراطية البورجوازية بسبب التفاوت الطبقي واحتكار الثروة) وفي سبيل السير بالثورة إلى النهاية. فنحن لا يسعنا تخطّي نطاق الثورة الروسية الديمقراطي البورجوازي (هذا الكلام قيل سنة قيام ثورة 1905) ولكننا نستطيع توسيعه بمقاييس هائلة. نستطيع ويجب علينا أن نكافح ضمن هذا النطاق في سبيل مصالح البروليتاريا، وفي سبيل حاجاتها المباشرة، وتأمين الظروف التي تتيح إعداد قواها للانتصار المقبل الكلّي» (خطتا الاشتراكية ــ الديمقراطية، مختارات لينين، 2 ص 443 – 444) ويضيف لينين: «ينبغي على البروليتاريا أن تقوم بالانقلاب الديمقراطي إلى النهاية، بأن تضمّ إليها جماهير الفلاحين لسحق مقاومة الأوتوقراطية بالقوة وشلّ تذبذب البورجوازية، وينبغي على البروليتاريا أن تقوم بالانقلاب الاشتراكي بأن تضمّ إليها جماهير العناصر نصف البروليتارية من السكان، لسحق مقاومة البورجوازية بالقوة وشل تذبذب الفلاحين والبورجوازية الصغيرة. تلك هي مهمات البروليتاريا» (خطتا الاشتراكية – الديمقراطية، مختارات، ج2 ص 506). تلك هي مهمات البروليتاريا الديمقراطية البورجوازية والاشتراكية.
هذا الدرس في الديالكتيك والاستراتيجية الثورية، وفي فن قيادة البروليتاريا للفلاحين ودفع الثورة الديمقراطية البورجوازية إلى الأمام قد نكثه ستالين بعد سنة 1928 بعد اعتماده سياسة تصنيع سريعة أدت إلى عطب في الديمقراطية السوفياتية راح ضحيتها ملايين الفلاحين وانحطاط لإنتاجيتهم بفعل الخطأ التاريخي لسياسات التجميع القسري التي اعتمدها ستالين وقد قاد هذا العيب التاريخي في الديمقراطية السوفياتية إلى نتائج مأساوية، حيث تم لاحقاً تصفية معظم القيادات البلشفية القديمة (زينوفييف، كامنييف، بوخارين، وآخرهم تروتسكي الذي اغتيل في المكسيك سنة 1940).