صلابة الفكر و شفافية الروح : حسقيل قوجمان أيقونة الماركسية العراقية (1921- 2018) 3-5


حسين علوان حسين
2019 / 1 / 19 - 00:13     

الحدب الصارم على تعلم كل علم يريد و ضبطه
كرس الفقيد فترة سجنه السياسي الطويل لتعلم كل شيء ممكن في أحلك ظروف التعذيب و القسر و المهانة و سلب الحرية (ضرب الفلقة ، محاولة الاغتيال بالرمي بالرصاص ، كسر الضلع ، الحبس الانفرادي ، الإضرابات عن الطعام) . فدرس بعمق الاقتصاد السياسي و الديالكتيك و المادية التاريخية و البراكسيس الماركسي ؛ اللغات الإنجليزية و الروسية و العبرية و الكردية ؛ علم العروض و الموسيقى و كتابة الشعر ؛ و قرأ و أعاد قراءة كل كتاب ومجلة و جريدة دخل السجون طوال اثني عشر عاماً . و بكلمة أخرى : فقد حوّل حسقيل قوجمان محبَسه إلى مرفق أكاديمي للتعلم الذاتي الدقيق المضبوط ؛ إلى منهل بدلاً من مقبرة . و عبارة "الدقيق المضبوط" مهمة جداً هنا بالنسبة لحامل عقل كبير مثل حسقيل قوجمان الذي لم يقبل كغيره من عديد المتمركسين بالاكتفاء بتلقط قشور و شذرات "تفاحات" العلوم التي يتصدى لتعلمها ؛ بل كان دائب الحفر في أعمق أعماقها لاكتشاف كل مكوناتها المتاحة وصولاً إلى نواتاتها لكي يستخدمها في الوقت المناسب لاستنبات ثمار جديدة هي مؤلفاته الرائعة العديدة المسطرة في الحلقة السابقة . هذا هو العلم المنتج النابع من الوعي الخلاق بطبيعته ، و مميزاته الخاصة ، و قِيَمِه (أي ما يصُح و ما لا يصُح فيه) ، و افتراضاته في تفسير الظاهرات الطبيعية و الاجتماعية التي يتصدى لها . و هو يعترف بفضل الصراع المرير و الناجز لفهد ورفاقه قبل عام 1949 ضد سلطات السجون لإجبارها على تحويل المعتقلات إلى معاهد لتخريج المناضلين . و بفضل هذا ، فقد فرض حسقيل قوجمان نفسه فرضاً - و هو الكادر الشيوعي البسيط - على كل قادة الحزب داخل السجون كمعلم للاقتصاد السياسي و الديالكتيك و المادية التاريخية و مربي و طبيب و فنان و قائد موهوب و مستشار مسموع الرأي رغم الإحن و الفتن و الأنانيات و ضيق الأفق ، بل و حتى المحاربة العلنية بإصدارهم قرار "منعه من التثقيف المنظم" الذي يحز بالنفس ويشي بالمعادن الحقيقية لمن سمحوا لأنفسهم باتخاذه ظلماً و عدواناً على الرفيق و على كل المنظمة الحزبية داخل السجن . و لكونه يعي أهمية النقد و النقد الذاتي ، فقد مارسه على نحو ملازم لكشف كل المحرفين و مدعي الماركسية بلا علم حقيقي .
و بهذه المناسبة ، لا بد من التطرق لواحدة من أعوص معضلات التي واجهتها و ستبقى تواجهها الحركة الشيوعية العالمية : الفهم العميق و الخلاق للماركسية كعلم و ممارسة .
ككل علم آخر ، تتطلب الماركسية القدرة على الفهم الدقيق و قوة الملاحظة و المحاججة المنطقية ، و بالطبع : الشك وصولاً لليقين الخلاق . و لما كانت كل المعرفة العلمية لا يتم تحقيقها إلا ضمن نطاق المجتمع الأكبر ، لذا فإن انتاجها و نشرها و تطورها و مقبوليتها تخضع للمؤثرات الاجتماعية القائمة كالسياسة و الاقتصاد و الدين و الفلسفة و طبيعة توازن كل القوى الفاعلة المفعول فيه ، علاوة على الرغبة الفعلية في التعلم و سعة الأفق وتفتح الذهن . كما أن أولوياتها العلمية خاضعة كلياً لتوجهات التغير المجتمعي و لأولوياته . و بسبب الطبيعة الاجتماعية للماركسية نجد أنها سرعان ما تحولت إلى ظاهرة عالمية لها خزينها المعرفي و تطلعاتها المؤثرة . كل هذا يقتضي وعي جوهر جدل المعرفة بها عبر التمييز الصحيح بين ما هو الثابت و ما هو المتغير فيها ؛ بين الأسس و الأركان و الأبواب و الشبابيك و البراويز و ما هو غريب عنها . و في تحصيل كل علم يشتغل جدل الصراع بين الذاتية و الموضوعية على الدوام ، لذا نجد أن حالات الاختلاف في تفسير المعطيات و البيانات و الوقائع الاقتصاجتماسية كثيرة رغم أن الماركسية تستوجب توخي الموضوعية في تحليلها و تفسيرها بلا تحيز . و لكن هذا شأن ليس يسير المنال لكون عقل الماركسي ليس صفحة فارغة ، بل هو صفحة تتزاحم بداخلها المعارف السابقة و المعتقدات النظرية و التجارب و التفضيلات الشخصية و الخلفيات الثقافية و التخصصات و التوقعات و التوجهات التي تؤثر كل واحدة منها على كيفية و مدى وعيه لها ؛ أو حياده عنها ليتحول إلى تحريفي رهيب مثل بيرنشتاين أو هابرماس ، على سبيل المثال ، لا الحصر .
أما في شرقنا الحزين ، فحدث عن المتمركسين الجوف ممن تسنموا أرفع المراكز القيادية في الحزب الشيوعي العراقي و كل الأحزاب الشيوعية العربية و لا حرج . أحدهم يؤمن بأن للشيوعي كل الحق في إنكار امكانية حصول حالة انعدام الجاذبية ، و ثانٍ يعترف بكونه لا يفهم شيئاً في الماركسية ، و ثالث يتمسخر على فكرة "وجود الديالكتيك" في مراكمة الطحين ، و رابع يطالب رفيقه الحزبي بتغيير دينه ، و خامس يطلب من رفيقه عدم زيارة مقر الحزب مجدداً حفاضاً على سمعة الحزب (كذا) ، و سادس يتخذ من التمييز العنصري و الديني و القومي منهجاً ، و جلمَ هرّا . و لقد فضح حسقيل قوجمان جهلهم المطبق هذا في "ذكرياته عن السجون العراقية" أتم فضيحة ، و نِعْم ما فعل ، فأنعم و أكرم به من صنديد عنيد . ثم أكمل مشواره هذا على صفحات الحوار المتمدن الأغر ، هذا المنبر الحر الذي يتسع صدره للجميع ، حتى لمن لا يمكنه مطلقاً أن يفهم بكون رأس المال ليس هو النقود مطلقاً بل هو مفهوم نظري مجرد ، هو قيمة أساسها قوة العمل و هي الأخرى مفهوم نظري بحت ؛ و لكنه لا يستحي من الجهر بأن الرأسمالية قد ماتت رغم جهله المطبق بماهية رأس المال أصلاً ، و يتبجح بكونه "صاحب نظرية" ! و لذلك ، لا نجد سوى أقل القليل من الدراسات الماركسية الحقيقية و المؤثرة التي ألفها رؤساء الأحزاب الشيوعية العربية مثل مؤلفات فهد و الشبيبي و شهدي عطية . و عندما يغيب الوعي العميق الخلاق بالنظرية عند القائد السياسي ، يغيب الوعي بالواقع و بمتطلباته في رسم السياسات و الممارسات النضالية الصحيحة على الصعيدين الستراتيجي و التكتيكي ، ناهيك عن استشراف آفاقه ؛ فتحصل الانكسارات تترى و كل واحدة أفضع من سابقتها . و هذه هي واحدة من أكبر مآسي الحركة الشيوعية العربية .
يتبع ، لطفاً .