بماذا كنتُ أشعرُ وأنا منزوٍ في ركنٍ فسيحٍ بمقهى الشيحي، أقرأ -لوكاش- والساعة تشير إلى السادسة صباحًا؟


محمد كشكار
2019 / 1 / 17 - 10:36     

حمام الشط الغربية-الشعبية، الأربعاء 16 جانفي 2019، السادسة صباحًا، المقهى خالٍ إلا من بعض العمال المارين وبعض المتقاعدين القاعدين، يتحدثون ويتناقشون. هم جلوسٌ أمامي ولكنني لم أكن أراهم. أصواتُهم تغزو أذنَيَّ، لم أكن أسمعها. التلفزة الصامتة تبث برامجَ "فرانس 24"، لم أكن أشاهدها. غمرني محتوى الكتاب، ضمني، دثّرني، دفأني، احتواني، شغلني، غطّاني، غشِيني، ودون رافعةٍ بين هواءٍ وفضاءٍ رفعني، وإليه جرّني، ثم أجبرني على أن لا أسمع إلا سواه، ولا أرقص إلا على موسيقاه. صوتٌ قريبٌ قريبٌ منّي، لم أدرِكْه، وصوتٌ بعيدٌ بعيدٌ عنّي أدركني وبالكادِ كنتُ أدرِكه.
هذا الصوتُ الصامتُ كان يهمسُ لي. بماذا كان يهمسُ يا تُرى؟
كان يهمسُ بالتالي: "السحْرُ يحتل مكان الدين الأصلي.. الرقُّ في أثينا حرّر من الشغلِ مرتبةً عليا، الأمر الذي أتاح للمدنية الأثينية أن تنبسطَ (م. ع.: وللرقِّ فوائدٌ كنتُ أجهلُها)..وليس من الصدفة أن الألمان خلال كل القرن 19م - والآن أيضًا - اعتبروا الليبرالية والديمقراطية سلع استيراد.. تحويل الزمن الحر إلى ترويح (Loisir)، متاح، راحة، يُسر، سلوى، لعب.. طُلاّبٌ زعموا أنهم وصلوا، بفضل (LSD)، أقرب إلى الله.. شيوعي يهودي ألماني، يذهب إلى فرنسا، يقاتل في صفوف الأنصار، يسقط في القتال، وسيمون يضع في فمه هذه الكلمات: "لا أريد أن أموت مَيْتَةً يهوديةً"، هذا يعني أن مئات الألوف وملايين من البشر دُفِعوا في أفران الموت دون أن يكونوا شرعوا بأي حركة أو إشارة مقاومة.. سأجعل من حكمةٍ مقتضبةٍ جميلةٍ حقيقيةٍ عاديةٍ وعاميةٍ بقولي أن الطبيعة، التي منها خرج الإنسان إثر مصادفات متنوعة، لا تكون من هذه الوجهة، شيئًا بدونه.. إن اعتبرت السببية (Causalité) والغائية (Téléologie) شكلَين للتعيينية (Déterminisme)، أحدهما إلى جانب الآخر، في استقلال تام.. تحليلٌ بسيطٌ للشغل لا أكثر.. لا الخلق.. في مرحلة أعلى يظهر فيما بعد الحق، وإن كل ترتيب حقوقي هو ترتيب غائي.. ماركس قالها بصواب بالغ أن الداروينية هي تصفية حساب مع الغائية.. من جراء أن تقسيم الشغل - لنقل عند النحل - هو تقسيم للشغل البيولوجي، فإن الجماعة لا يمكن أن تتجدد إلا بيولوجيًّا، ولكن سيطرة الملكة لا يمكن أن تُخْلِي المكانَ هنا لديمقراطيةٍ، إذْ أن انبساطًا اجتماعيًّا متدرّجًا متقدّمًا غير ممكنٍ إلا عند الإنسانِ، حيث تقسيمُ الشغل له طابعٌ اجتماعيٌّ وليس بيولوجيًّا.. نلاحظ أنه لا يوجد كائنٌ حيٌّ واحدٌ تكون فيه أعضاءُ الحركةِ بعدد مفردٍ. الأعدادُ المفردةُ نجدها أيضًا عندنا: لنا أنفٌ واحدٌ وفمٌ واحدٌ. ولكن عندنا قدمين، ولن تجد أي كائن حي عنده ثلاث أو خمس، له قدمان، أربع، ثماني، عشر أقدام، وهكذا دواليك، وهذا يعلل ببساطة بالقوانين الفيزيائية للحركة، التي فرضت هكذا نفسها عند الكائنات الحية.. ولكن البنية العامة لكل مجتمع إنما ولدت، كما يقول ماركس بصواب بالغ، وراء ظهر البشر. هكذا فأشكال حياة البشر، سواء شكل المدينة القديمة cité antique، أو الإقطاعية، أو الرأسمالية، قد أملاها عليهم التطور الاقتصادي.."، لوكاش، 1969.

المصدر: محاورات مع جورج لوكاش، ترجمة إلياس مرقص، دار الطليعة، الطبعة الأولى، بيروت، 1978، 113 صفحة.

إمضاء مواطن العالَم
"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ"،
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو،
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران.

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الخميس 17 جانفي 2019.