عشتار الفصول:111384 . تشابه المكوّنات للشخصية المريضة عقلياً مع اختلاف الأمكنة والأزمنة.


اسحق قومي
2019 / 1 / 12 - 19:44     

عشتار الفصول:111384
قصة ونتيجة .
تشابه المكوّنات للشخصية المريضة عقلياً مع اختلاف الأمكنة والأزمنة.
لستُ أدري ،لماذا تداعت إلى ذهني مجموعة صور ،كانت قد مرت عليّ قبل أن أودع مدينتي الحسكة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
أخي وصديقي الأصغر مني، المهندس الياس قومي سألني فيما إذا كان بنفسي أن أزور قريتنا تل جميلو ،وأُلقي على أرضها وتلها السلام قبل أن أغادر إلى العالم الجديد ، أمريكا.
وافقته وأخبرتُ زوجتي، ووالدتي بأننا في رحلة إلى قريتنا تل جميلو. متخذين سيارة لفرع الإسكان العسكري التي يقودها أخي المهندس.وسيلتنا لذلك . وبعدما مررنا بالمقبرة التي تقع على اليد اليُسرى من الطريق راحت السيارة متجهة إلى الشمال ، والحديث يأخذنا وإذا على مقربة من نزلة الحما كما نُسميها نحن أهل المكان ،هناك رجلاً طويل القامة عريض المنكبين لكنه لايمكن أن يكون إنسانا سويا. فقد زركش رأسه بطاقات ورود ٍ ذابلة ، يبدو كان قد قطفها من على أطراف الطريق ، وملأ حقويه بكلّ أنواع العلب الفارغة ، التي كان فيها مربى المشمش، وصحائف صغيرة لعلب السينالكو وغيره .وقد ثقبها، وعلقها بخيوط ملونة ومجدولة بشكل محكم . كما وجدناه قد رفع (الكلابية) الثوب الصيفي ــ لأهل الجزيرة السورية وريفنا السوري بشكل عام ــ رفعها حتى منتصف فخذيه ،وكان يُغني أغنية حزينة ، طلبت من أخي أن يوقف السيارة لكنه أبى ومررنا على هذه الشخصية ،وأنا أريد أن أمارس مهنتي ،وما درسته ودّرسته من علم نفس وظواهر اجتماعية، وأمراض عقلية، وروحية على هذا الرجل الظاهرة. لكنني سرعان ما وافقت أخي أن يُتابع طريقه لئلا يُصيبنا من هذا الرجل ما يُصيب. ونحن بغنى عن كل معوق يعترض طريقنا إلى قريتنا تل جميلو والعودة منها بسلام.
وعدنا بعدما رأيتُ القرية المهدمة ،وبقايا أطلالها ذكرتني بأيام طفولتي وأول مرة دخلت بها على مدرسة المعارف الصف الأول ومعلمنا خليل جرّاح من قرية المشتاية ، أجل رأيتُ التل الخُرافي يصيح صامتاً بي لماذا تتركني وتُهاجر أيها الطفل ، الرجل؟!!، مقبرة أهلنا في الجهة الشرقية ، صعدنا إليها، وصلينا على قبور ٍ، لم تعد تظهر كما كانت قبل عشرات من السنين ، لكون الهواء والأمطار قد سوتها ، لم نعد نرى الإشارة الحديدية التي كان الفرنسي قد وضعها كأعلى مكان هناك.فقد سرقها الأوغداد ، ها أنا أتذكر كيف كُنا نصعد إلى قمتها ونحن لانزال في يفاعة الطفولة.تنظر للقرية فتجد هناك أطلال بيتنا ، وهناك ربعة المختار فرحان سليم القومي أبو سليم ، وهناك أطلال بيت مؤسس القرية ومختارها وكبيرها المرحوم موسى عدواني، وهناك بيت جدي بحدي أصلاني ، وهناك بيوت القرية من الشرق حيث أطلال بيت ابنة عمتنا خانمي زوجة موسى يوسف ، وأطلال بيت إبراهيم معسعودي وبحدي الفارس وياسو السيدي (الياس خلف) وبيت إبراهيم العكلة وبيت يوسف خزريك واسكندر خزريك وبيت برو الجزعو وبيت الحجي جرجس آسيا وبيت قريبي فرمان عدواني أبو فيصل وبيت حماه بيت عزيز حنتي ( يوسف) وربما تذكرت بيت أمين قومي وبيت خوالي البهيات حيث كانوا قد بنوا في المرة الثانية بعودتهم للقرية بيتا كبيرا واسعا له حوش( فناء كبير وباب يتجه نحو الغرب ) لكنه الآن أطلالاً كبقية بيوت القرية .وهناك غربي بيت إبراهيم العكلة كانت تقع مدرسة القرية التي كانت تابعة للمعارف يومها ، وقد تحولت إلى بقايا أتربة، البئر الذي طالما كُنا نجتمع حوله قبل الغروب لنسقي مواشينا قد تهدم.
وأعود وأسافر إلى أمريكا. ومن عادتي أنني لا أمر المدينة الكبيرة منهاتن التي تغدو في النهار يومها عشرين مليون نسمة.أجل في جانب تقاطع للشارع 42 ومنطقة الباصات . هناك شخص ألمحه ، الله يشبه ذاك الرجل ، وقفت أنظر إليه ،وأقسم بدأ يُحدق بي ، له من الطول نفس الرجل الذي رأيناه قبل نزول الحما ،بوطننا سورية، وله من المظهر الذي جمع كل فوارغ علب السينالكو والببسي كولا وغيرها، ونفس الخيوط الملونة، ولكنها ليست من الصوف ، بنطاله المقصوص حتى مافوق ركبتيه ،وكان يشرب سيكارته ،ومظهره كمظهر صاحبنا الذي ذكرناه لكم.
لو قلتُ لكم بأنه كان قد مزق قميصا باليا إلى مجموعة قطع تتصل بالأعلى مع بعضها وعلقه على حقويه صدقوني. كما كان قد فعلن صاحبنا شمالي مدينة الحسكة.
وهذا الأمر جعلني أؤكد على أنه ليس المهم أن ترى ظاهرة ما. لكن الأهم هو السؤال التالي.
ماذا تُخلف لديك الظاهرة؟!!
وأية استنتاجات ودراسات تُجريها بعدما تعيش تلك الظاهرة.؟!!
وهنا يستيقظ في ذاكرتي مجموعة مفاهيم، ونظريات ،وآراء كنتُ قد مررت عليها في مطلع السبعينيات من القرن العشرين الماضي، وأنا لا أزال طالباً في جامعة دمشق قسم الدراسات الاجتماعية والفلسفية .ومررتُ على مجموعة الآراء في جانب الأمراض العقلية والنفسية والروحية .فوجدتُ أن تشابه المعاناة ،ومفرداتها ومرور المُصاب بنفس المراحل على الرغم من اختلاف الأماكن .نجد بأن الشخصيات المرضية تتشابه وإن كانت ملايين الكيلومترات تفصل بينهما . وتلك الظاهرة قادتني إلى الإيقان بوحدة الوجود للشخصية الإنسانية ،ومقوماتها وعناصر سلامتها وأمراضها . الذي كنتُ أُؤكده في مناقشاتي مع الدكتور نايف بلوز من أننا لو توصلنا إلى معرفة حقيقية ،وموضوعية ،ودراسة حالة مرضية ،عقلية كانت أم وروحية ما، وعناصر تلك الحالة ومفرداتها وأسبابها .يمكن أن نقول بوجود تشابه بين شخصيتين مريضتين على الرغم من اختلاف الجغرافيا بينهما ، لكن من المؤكد تتشابهان في التجربة ،والمعاناة ولهما نفس الغدد الصم وما تفرزه فتلك الغدد والتشابه بينهما وبين حالتيهما تجعل التقارب بين الشخصيتين تقاربا حقيقيا لاوهمياً .وقد تكونان تعيشان حالة التلبثي التي قال عنها الفيلسوف والكاتب البريطاني كُولن ولسن.
في أنهما تتخاطبان في إنتاج الأفكار التي تتداولها تلك الشخصيتين لكوني رأيت كلا الشخصية السورية والأميركية لهما نفس الرغبة، والهواية، والسلوك ونفس العيون ونظراتها .
أجل نؤكد على تشابه الحالات المرضية في إنتاج شخصيات متشابه.
لقد أطلتُ عليكم ما أردتُ قوله :
الألم الجسدي ، الألم النفسي والروحي، الألم الوطني، الألم الإنساني.يخلق تجربة خاصة، وفريدة لا يستطيع أن يتفهمها سوى من عاشها، إنها تجربة خاصة ،ولكنها تُنتج مدرسة تتلاقى أبجديتها وسلوكيتها مع سياقات الحياة بمعناها العام والخاص.وقد يكون ألماً يفوق القدرة والتحمل فيغدو مرضاً، وقد تراه شخصية أخرى مدرسة تتعلم منه.
الألم حالة طبيعية ،وصحية .إن نحن كُنا على قدر من معرفة ،مكوّنات الحياة، فالحياة ليست فرحاً، وليست اكتفاءً لكلّ ما يسد حاجاتنا ، علينا أن نثق بأن ليس كل مانريده يجب أن يتحقق .وهذا أيضا يعتمد على نوعية التربية الأولى التي تلقيناها في طفولتنا الأولى ،وخاصة السنة الأولى منها حيث رسمت معالم شخصيتنا تلك الفترة.
تشابه الألم يخلق تشابها في طبيعة شخصيتين تباعد بينهما الجغرافيا وتُقرب بينهما المعاناة.
لهما نفس المظهر والمفردات والحركات الجسمية وغيرها.
لكن الذي يربح في هذه التجربة ذاك الذي يملك مقومات الإرادة ولا ييأس من الحالة مهما طالت ، وأول البطولات في الشخصية الإنسانية تكمن في قدرته على تحمل المعاناة والألم سواء أكان جسدي أو نفسي.
اسحق قومي.
شاعر وأديب وباحث سوري مستقل يعيش في ألمانيا.
12/1/2019م