العثرة الرابعة على الطريق إلى الشيوعية


فؤاد النمري
2018 / 12 / 17 - 20:37     

كي يتعرف المرء على العثرات على الطريق إلى الشيوعية يحسن به أن يعرف من أين جاءت الشيوعية ومن جاء بها .
كان هناك شاب عبقري إسمه كارل ماركس في ثلاثينيات القرن التاسع عشر رفض أن يدرس القانون كما رغب أبوه المحامي وانتقل من جامعة بون إلى جامعة برلين ليدرس الفلسفة في مدرسة هيجل كبير الفلاسفة في العالم آنذاك . في برلين تعرف الشاب كارل على الفيلسوف المناظر لهيجل وهو فيورباخ أستاذ المدرسة المادية نقيض فلسفة هيجل المثالية في الديالكتيك . تلك الظروف الخاصة التي أحاطت بعبقرية استثنائية جداً مكنت الفيلسوف الشاب كارل ماركس من رفض مثالية هيجل ومادية فيورباخ واكتشاف سر الوجود والحقيقة المطلقة وهي القانون العام للحركة في الطبيعة التي من خلالها تتهيأ وتتشكل كل الأشياء والحركات في الطبيعة وهي الحقيقة المطلقة التي تؤكد على أن ليس هنالك حقيقة مطلقة (ثابتة) في الكون فالشيء، أي شيء، ليس هو نفسه في نفس اللحظة . لقد قبر ماركس كل الفلسفات القديمة والجديدة باستثناء البحث في فلسفة المادية الديالكتيكية أو الأجرى القانون العلمي للمادية الديالكتيكية .

كارل ماركس لم يكن فقط وحيد عصره لا بل كل العصور لأنه اكتشف الحقيقة المطلقة في مصائر الأكوان وقبر كل الفلسفات القديمة بل لأن هذا الرجل العبقري بصورة استثنائية قرر وبصورة استثناية جداً أيضاً أن يهب نفسه للحياة وللإنسانية المعذبة وقد كلفه ذلك وحشة المنافي والجوع الدائم له ولعائلته – حتى أنه استحق استنكار وشجب الرئئيس الأميركي جون كنيدي عندما رفض /صحاب شركة الحديد والصلب الإستجابة لبعض مطالب العمال المضربين في العام 63 بعد رحيل ماركس بثمانين عاماً توجه الرئيس كندي للرأسماليين بعامتهم بالقول .. "أنتم يا أولاد الكلبه، لو كنتم أعطيتم كارل ماركس ما تستحقه مقالاته في جرائدكم لوفرتم علينا أخطاراً كبيرة " .
ولما كان النظام الرأسمالي في صدر القرن التاسع عشر في باكورة انطلاقته لحق بالعمال ظلم شديد واستغلال بشع استولى على اهتمام كارل ماركس بحيث قضى هذا العبقري العمر كله يبحث ويحلل في النظام الرأسمالي وكان أن وجده أبشع الأنظمة عبر التاريخ رغم كل غناه، ثم رحل قبل أن يتم بحثه ومع ذلك فالمجلد الأول من كتابه "رأس المال" أُعتبر يحق التحليل الوافي والبارع للنظام الرأسمالي وقد شهد بذلك بابا روما بندكتوس وهو أول بابا يستقيل من كرسي البابوية قبل سنوات .
في العام 1847 انضم ماركس ورفيقه إنجلز إلى عصبة الشيوعيين البلجيك حيث جرى تكليفهما بتقرير وإعلان البيان الشيوعي "المانيفيستو" الذي نادى بالشيوعية منطلقاً من فهم كامل للنظام الرأسمالي والتناقضات الكامنة فيه . ما يُستدل به من المانيفيستو هو أن ما يستدعي المرء لأن يكون شيوعيا هو الفهم الصحيح والكامل للنظام الرأسمالي .

العثرة الكبرى التي يتعثر بها الشيوعيون اليوم هي جهلهم المطبق بالنظام الرأسمالي . ويصل بهم السخف إلى الإفتراض أن النظام الرأسمالي كانت له الغلبة على الثورة الإشتراكية وعبرها بعولمية متوحشة ؛ وهذا ليس إلا من حديث السخافة . العكس تماماً هو الصحيح . الثورة البلشفية هي التي عبرت الحدود بعد أن ثبت عملياً أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم خلال الحرب، عبرت الحدود متمثلة بقوى التحرر الوطني التي استطاعت أن تحرر العالم من ربقة الإستعمار فلا تعود المستعمرات أسواقاً مفتوحة لتصريف فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية . فائض الإنتاج هو التجسيد الحقيقي لفائض القيمة، وفائض القيمة هو القلب النابض في النظام الرأسمالي، فكيف يمكن للنظام الرأسمالي أن يحيا بلا قلب !؟ النظام الرأسمالي ولد قومياً ورفع الحواجز الجمركية عالية حول الوطن، وشكل جيشاً قومياً يدافع عن مصالحه داخل الوطن وخارجه . ولد النظام الرأسمالي قوميا ومات قومياً ولذلك فإن العولمة، أي نزوح الشركات الرأسمالية من مراكزها إلى الأطراف وفقدانها لقوميتها، إنما هو تعبير عن تحلل النظام الرأسمالي وانهياره .
في العام 69 ترشح ربتشارد نكسون للرئاسة تحت شعار وقف الحرب في فيتنام وقد بدا أن قلعة الرأسمالية لم تعد قادرة على تغطية حربها في فيتنام مع أنها كانت تغطي حربها في ثلاث قارات في الأربعينيات ويزيد . في العام 71 لم يجد نكسون المال لينفق على الحرب فقرر الخروج من معاهدة "بريتون وودز" التي تستلزم الغطاء الذهبي للنقود – يذكر في هذا المقام أن الولايات المتحدة هي التي دعت إلى عقد هذه المعاهدة في العام 44 لأن هتلر كان ينفق على حروبه ماركات لا غطاء لها وها هي أميركا نفسها تعود في العام 71 تحذو حذو هتلر لتنفق على حربها في فيتنام دولارات لا غطاء لها . أتى نكسون بجورج شولتس وهو خبير مالي لإنقاذ الوضع لكن ثلاث تخفيضات متوالية لقيمة الدولار في عامي 72 و 73 لم توقف الإنهيار وقد تردد في الصحافة الأميركية إرهاصات انهيار النظام الرأسمالي فكان أن اسنبدل نكشون جورج شولتس بوليم سيمون في العام 74 وهو من لديه هوس بالنظام الرأسمالي ولا يمتلك علم جورج شولتس . فكان هذا المهووس أن اسنبدل الإتجار بالبضاعة بالإتجار بالنقود . يذكرني هذا القاصر في علم الإقتصاد يالشيوعيين المفلسين الذين يحاججون اليوم بتغول النظام الرأسمالي وتحوله إلى الرأسمالية المالية . لئن كان إنتاج الخدمات يتم على حساب الإنتاج البضاعي إلا أن الإتجار بالأموال كما في مضاربات البورصة وفي البنوك وشركات التأمين ونوادي حماية البواخر تنعكس في منع الإنتاج البضاعي مباشرة ؛ لئن كانت الخدمات تنتج قيماً معنوية كالأمن والصحة والثقافة فالإتجار بالأموال لا ينتج أدنى قيمة وبالمقابل ينشر اللصوصية .
نفر من الشيوعيين المفلسين وقد فقد كل علاقة له بماركس يدعي أن النظام الرأسمالي يتقدم اليوم بوتائر أسرع منه في السابق وبدلل على ذلك بأن مجمل الإنتاج القومي في الولايات المتحدة يصل إلى عشرين ترليونا في السنة . يفوت هذا المفلس أن هذا المبلغ يضم 16 ترليونا أنفقت على إنتاج الخدمات ولم تعد على الشعب إلا بقيم معنوية وأبقت له 4 ترليون فقط لحفظ الحياة وهي لا تكفي إذ يحتاج الشعب 5 ترليون لحفظ حياته ولذلك تضطر الإدارة الأميركية لاستدانة ترليون دولار كل سنة وهي اليوم مدينة ب 22 ترليون دولار ديونا أجنبية فائدتها السنوية تزيد عن 500 مليار دولار لن تتدبر الإدارة الأميركية توفيرها بعد سنوات قليلة قادمة حين تضطر أميركا إلى أن تعلن فلاسها وتنزل بالعالم كله إذاك كارثة، وأية كارثة !!
في الحقيقة أن تظام الإنتاج في أميركا لا يوفر 4 ترليون كما يفترض بل ربما 2 أو 3 ترليون حيث الإنتاج البضاعي كما أعلن قبل ربع قرن هو 17.5% من مجمل الإنتاج القومي ولعل 5 – 7.5% من هذه النسبة هو من إنتاج الأسلحة وأدوات الحرب التي تهدم الحياة ولا تحفظها وهي ليست من البضاعة .
الدمغة الوحيدة للإمبريالية كما حددها لينين في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" هو تصدير البضائع ورؤوس الأموال، وأميركا الحصن الأخير للنظام الرأسمالي الإمبريالي هي اليوم أكبر مستورد في العالم للبضائع ورؤوس الأموال . فكيف تكون هذه الأمريكا رأسمالية إمبريالية !؟
إفلاس الشيوعيين الذي تجلى منذ خمسينيات القرن الماضى هو أنهم لا يدركون أن النظام الرأسمالي ينحصر في تحويل قوى العمل إلى بضائع حصراً، وليس إلى خدمات لا تنتج غبر قيم معنوية، لا تنتج فائض القيمة وهو القلب النابض للنظام الرأسمالي ولا تراكم رؤوس الأموال .

كان اشتراط لينين على الشيوعيين في المستعمرات والبلدان التابعة الاصطفاف على العموم وراء البورجوازية الوطنية في نضالها للتحرر الوطني ليس من أجل تحرير البورجوازية من ربقة الإمبريالية وتنميتها بالتالي على النمط الرأسمالي وتحل محل الاستعماريين في استغلال شعبها بوسائل بدائية وأكثر بشاعة، وهو ما لا يمكن أن يكون قد ورد في خاطر لينين بل كان ذلك لأن ثورة التحرر الوطني ستأخذ دوراً كبيرا في مساعدة الثورة الإشتراكية في تحطيم النظام الرأسمالي في العالم . وحدث أن كانت حسابات لينين صحيحة كما كانت دائماً . فبعد أن برهن الإتحاد السوفياتي أنه العملاق الوحيد على الأرض (Giant) كما وصفه تشيرتشل في نيسان ابريل 43 إنطلقت قوى التحرر الوطني في مختلف قارات الأرض في العام 46 وحتى العام 72 حين أعلنت الأمم المتحدة نهاية الاستعمار في العالم وانسدت بذلك مصارف فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية فكان اتهيارها الذي أقرّ به قادة الدول الرأسمالية الكبرى في اجتماعهم في باريس/رامبوييه في 16 نوفبر 75 .
ما يثير الاستهجان والغضب هو أن الشيوعيين الذين تحقق انهيار النظام الرأسمالي بفضل نضالهم الصعب والمرير لم يصدقوا الإنهيار ولم يقروا به . إعلان رامبوييه الذي وقعه قادة الدول الرأسمالية الخمس الكبرى يقر بانهيار النظام الرأسمالي والشيوعيون يعترضون على الإقرار . !! فأي مهزلة هي هذه المهزلة !!؟
لينين كان أن طالب الشيوعيين في المستعمرات والبلدان التابعة أن يقصروا نضالهم على التحرر من الاستعمار وذلك لأنه رأى أن الدور الوحيد الذي يمكن أن يقوم به الشيوعيون في المستعمرات في مساعدة الثورة الإشتراكية على الإنتصار في العالم هو النضال ضد الإستعمار ؛ لكن لماذا اليوم النضال ضد الاستعمار وليس هناك ثورة اشتراكية !؟
مجرد المحاولة للإجابة على هذا السؤال الفيصل تنفي كل حس شبوعي لدى أولئك الذين لم يقروا بعد بانهيار النظام الرأسمالي .