العثرة الثالثة على الطريق إلى الشيوعية


فؤاد النمري
2018 / 12 / 14 - 20:27     

العثرة الثالثة على الطريق إلى الشيوعية

المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية المنعقد في موسكو في يوليو تموز 1920 اتخذ قراراً في غاية الأهمية يقول .. "على الشيوعيين في المستعمرات أن يساندوا ثورات التحرر الوطني بغض النظر عن قياداتها فيما إذا كانت من البورجوازية أو من الفلاحين" .
قرار الأممية الشيوعية هذا يقول دون لبس أو مواربة - وأعتقد أن القرار كان باقتراح من لينين - أن ثورة التحرر الوطني بقيادة البورجوازية الوطنية على العموم تساهم مساهمة كبرى بجانب البروليتاريا في مراكز الرأسمالية في تقويض النظام الرأسمالي العالمي . ولذلك على الشيوعيين في البلدان المستعمرة والتابعة أن يسندوا البورجوازية الوطنية .
وهكذا أيد الشيوعيون الثورة الشامية بقيادة الشريف حسين، والثورة في مصر بقياد حزب الوفد وعلى رأسه سعد زغلول والثورة في الهند بقيادة حزب المؤتمر وعلى رأسه غاندي ونهرو والثورة في الصين يقيادة حزب الكومنتانغ وعلى رأسه صن يات سن الذي انضم عضو شرف إلى الأممية الشيوعية وخلفه تشان كاي تشك .

أن يصطف الشيوعيون وراء البورجوازية الوطنية في المستعمرات والدول التابعة وفيها يعيش أكثر من 90% من سكان العالم فذلك لا يعني فقط عدم ممارسة الشيوعيين لنهج الصراع الطبقي وهو المحرك الوحيد لعربة التاريخ يقودها الشيوعيون، بل أيضاً طلاقهم للنظرية الماركسية وهي ميزة الشيوعيين الوحيدة .
قبل بضع سنوات قضت الظروف أن أجتمع بالأمين العام السابق للحزب الشيوعي عدة مرات وكان حديثنا ينحصر في تاريخ الاتحاد السوفياتي والنظرية الماركسية . وبعد أن تبيّن لي، وله أيضاً، أنه صفحة بيضاء خالية من أية خطوط ماركسية أو حتى من التاريخ الحقيقي للإتحاد السوفياتي، لم أخجل من أن أتساءل بوجهه قائلاً .. أنت يا رفيق وبمثل هذا الفقر في النظرية الماركسية وتاريخ المشروع اللينيني، ما الذي جعلك الأمين العام للحزب الشيوعي !!؟ فكان جوابه .. نعم لم يكن في برنامج الحزب سوى نقطتين، الأولى هي إلغاء المعاهدة مع بريطانيا، والثانية هي الحريات العامة والديموقراطية . ولا عجب فالنقطتان واردتان في برنامج حزب البورجوازية الوطنية، الحزب الوطني الإشتراكي برئاسة سليمان النابلسي – الحزب الوطني الإشتراكي والحزب الشيوعي تزامن تشكيلهما في مطلع خمسينيات القرن الماضي .
الأمين العام وهو بهذا المستوى المتدني في علم الماركسية فليس لنا أن نتوقع بأن تكون قواعد الحزب أعلى علماً - وبالمناسبة كان يحز في نفسي أن كبار رجال الحزب في السجن (1957 – 65) كانوا يهزؤون من الذين يتحدثون في النظرية الماركسية وينادونهم ساخرين "بالمنظرين!" . لم يكن يرد في ذهني آنذاك أن أولئك القادة كانوا يخشون من أن "المنظرين" سيكشفون خواءهم الفكري .

ذلك ما أدى إلى وجود ملايين الشيوعيين في العالم لكن بلا ماركسية وهو ما يوازي تشكيل جيش عرمرم لكن بدون سلاح على الإطلاق !! كان أخر يوم من عضويتي في الحزب الشيوعي (1951- 65) هو لقائي العاصف مع الأمين العام المساعد طيب الذكر الرفيق فهمي السلفيتي حيث كان موقفي منذ العام 63 ضد النهج التحريفي لخروشتشوف، وأن هذا النهج التحريفي إذا ما استمر سينتهي إلى انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 90 . وكان أن انتهى اجتماعنا العاصف باعتراف الرفيق السلفيتي أن الحزب الشيوعي الأردني قام كجمعية صداقة مع الإتحاد السوفياتي وسيبقى كذلك وأنا بالطبع رفضت ذلك الحزب الموالي لعصابة خروشتشوف ؛ وقد عانيت بسبب ذلك مر المعاناة حتى أنني عندما أطلق سراحي مرة أخرى في 16 حزيران 67 وجدت عائلتي، زوجتي وأطفالي وفراشنا، على قارعة الطريق بلا مأوى .

كنت سأعذر قيادة الحزب لأنها لا تعلم الأسباب الحقيقية لإلغاء الخطة الخمسية الخامسة بحجة إنتاج الأسلحة حيث كانت المخابرات البريطانية قد خدعتنا لأن نعتقد أن بريطانيا هي التي انتصرث على النازية وهزمت هتلر مع أن بريطانيا لم تواجه ألمانيا إلا في معركة واحدة في بداية الحرب 1940 في دنكرك حيث انهزمت بريطانيا هزيمة نكراء . وأذكر هنا أنني فرحت كثيراً بإلغاء الخطة الخمسية من أجل إنتاج الأسلحة . ولم أكن شديد الإعتراض على الهجوم على ستالين دون أن أعلم أن خطاب خروشتشوف السري لا علاقة للحزب الشيوعي به وليس من أعمال المؤتمر العشرين للحزب . ولم يكن بمقدوري الإعتراض على طرد 7 أعضاء من المكتب السياسي للحزب من مجموع تسعة أعضاء لأنني لم أكن أعلم أن عضو المكتب السياسي لا تجوز مساءلته إلا من قبل محكمة رسمية وعلانية ولم أكن أعلم أن ذلك ما كان ليتم بغير انقلاب عسكري وبعد قرار المكتب السياسي بسحب الثقة من خروشتشوف . كل تلك الأحداث التي كانت تؤشر إلى انقلاب القصر ضد الإشتراكية كان يمكن تغطيتها بأكاذيب في غاية الوقاحة ؛ أما إعلان المؤتمر الثاني والعشرين للحزب عن إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا في العام 61 فذلك لا يمكن تغطيته بأوقح الأكاذيب . فدكتاتورية البروليتاريا هي الدمغة الوحيدة التي تميز اشتراكية ماركس . وفي هذا السياق نتذكر غضب لينين من أن يوصف مشروعه في الخطة الإقتصادية الجديدة (NEP) برأسمالية الدولة فتساءل غاضباً.. كيف لكم أن تصفوا الخطة برأسمالبة الدولة والدولة هي دولة دكتاتورية البروليتاريا !!؟
الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي الذي ألغى دولة دكتاتورية البروليتاريا لم يعد حزبا شيوعيا ولما كان هو مركز الثورة الإشتراكية في العالم والأحزاب الشيوعية الأخرى في العالم إنما هي أطراف، وظيفتها التنسيق مع المركز لتحقيق انتصار الثورة الاشتراكية في العالم، لم تعد شيوعية هي أيضاً حيث تبدأ الشيوعية حصراً(exclusively) بظل دولة دكتاتورية البروليتاريا كما اشترط ماركس في "نقد برنامج غوتا" .
لا يمكن اعتبار الشيوعيين السوفييت الذين وافقوا عل إلغاء الخطة الخمسية الخامسة في سبتمبر ايلول 53 وشيوعيي العالم الذين وافقوا على إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا في أكتوبر61 غير أنهم شيوعيون مفلسون لم يعد لديهم أدنى علاقة بالماركسية اللينينية . لذلك غاب عن هؤلاء المفلسين إنهيار النظام الرأسمالي الإمبريالي في مطالع السبعينيات وبالتالي لم يعد هؤلاء يتبينون معالم الطريق إلى الشيوعية وافترضوا خطأً بالطبع أن الطريق إلى الشيوعية ما زالت معبدة مفتوحة كما رسمها لينين وعبدها ستالين دون اعتبار منهم لعشرات الانقلابات العسكرية الرجعية والفاشية في الدول المستقلة حديثا في الستينيات وقد تجلّت الردة على الإشتراكية في وطن الاشتراكية ومركزها . ودون أن يدركوا انهيار النظام الرأسمالي في مطالع السبعينيات رغم تأكيد ستالين لهذا الانهيار في مؤتمر الحزب التاسع عشر في أكتوبر 52، ورغم اعتراف قادة الدول الرأسملية الخمسة الأغنى في أول مؤتمر قمة لهم في باريس/رامبوييه في نوفمبر 75 بأن إنتاجهم البضاعي لم يعد كافياً لتغطية نقودهم وهو ما يعني انحطاط نظامهم الرأسمالي . وتجرأ نفر من هؤلاء الشيوعيين المفلسين لأن يفاحر بظهور غورباتشوف كمنقذ لمشروعهم الشيوعي حتى القول في نهاية الثمانينيات أن نفاق غورباشوف من أجل الوصول لمركز القيادة كان من حسن حظ البشرية جمعاء – إلى هذا الحد وصل نفاق الشيوعيين المفلسين .

كان أن أفلس الشيوعيون في المركز في الاتحاد السوفياتي حين أُعلن إلغاء الخطة الخمسية باسمهم وهم مطأطئو الرأس . وأفلس الشيوعيون في الأطراف بعد أن أُعلن إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا في الاتحاد السوفياتي وهم مطأطئو الرأس أيضاً .
المشكلة الكبرى للثورة الشيوعية اليوم هي إفلاس الشيوعيين العام دون مبرر . مَن تمرد على الثورة الإشتراكية في الاتحاد السوفياتي في الخمسينيات هو البورجوازية الوضيعة بقيادة العسكر . ولما كانت البورجوازية الوضيعة لا تملك دوراً معلوماً في التاريخ وفي تطور الإنسانية فذلك يؤكد أن البورجوازية الوضيعة ورغم كل قدراتها الإستثنائية في المعرفة وفي المناورة غير قادرة ولو بمقدار على إطفاء شعلة الثورة الاشتراكية وهو ما كان لينين قد أكده لدى افتتاحه الاجتماع التأسيسي للأممية الشيوعية في 6 مارس آذار 1919 عندما قال .. " لقد بات انتصار الثورة الإشتراكية في العالم أمراً مضموناً " . فبالرغم من نجاح البورجوازية الوضيعة المتمردة في اختطاف السلطة السوفياتية وما ترتب على ذلك من انقلابات عسكرية فاشية في الدول المستقلة حديثاً إلا أن جبروت الثورة الإشتركية هو ما تسبب بانهيار الرأسمالية الإمبريالية مع بداية السبعبنيات .
جبروت البلشفية ما زال حاضراً في الأرض فلولا هذا الجبروت ما كانت كافة دول العالم لتتحرر وتفك رباطها مع المركز الرأسمالي، وما كان لينهار النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي، وما كانت كافة دول العالم لتعجز عن بناء إقتصاد مستقر قائم على الذات حتى فيما كان يسمى بالنمور الأسيوية مضافاً إليها الصين التي انتهجت بناء إقتصاد تصديري تستورده الولايات المتحدة دون شروط كنهج انتهجته الولايات المتحدة للحد من امتداد الثورة الشيوعية في شرق آسيا الصاخب بالثورة، وهذا اعتراف صريح من العدو الأكبر للثورة الشيوعية بأن الثورة ما زالت فاعلة على الأرض . استنفذت الولايات المتحدة قل قواها في مقاومة الثورة الشيوعية حتى بات دولارها لا يساوي أكثر من سنتين من سنتات 1970 وباتت هي نفسها مفتوحة أمام الثورة الشيوعية أكثر منها في دول شرق آسيا التي قاومت الشيوعية فيها .
الإفلاس الفاضح لعموم الشيوعيين يتأكد في أن جميعهم يعتقدون أن الثورة الشيوعية اللينينية جاءت في غير أوانها وفي غير مكانها ولذلك إنطفأت لسبب أو لغير سبب وكأنها لم تكن . هم يعبرون عن ذلك حتى وهم يحيون ذكراها . لئن كانت الثورة الشيوعية البلشفية ما زالت حية في الأرض كما تؤكدها الحقائق الكبرى الماثلة اليوم فذلك يعني أن هؤلاء الشيوعيين المفلسين ليسوا مفلسين فقط بل هم أعداء الشيوعية بدلالة سياساتهم المعلنة .
يتمظهر أعداء الشيوعية هؤلاء بمظهرين ..
القسم الأعظم منهم ما زال يرفع راية الشيوعية بينما استراتيجيتهم المعلنة لا علاقة لها بالشيوعية حيث هي سياسات إصلاحية مثل المطالبة بالديموقراطية والعدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان . ما يثير الاستهجان والغضب معاً في آن هو أن هؤلاء "الشيوعيين" يعلمون علم اليقين أن آباء الشيوعية جميعهم، ماركس وإنجلز ولينين وستالين، حذروا الشيوعيين من سوءات الإصلاحيين كونهم بالمعنى الأولي لكلمة الإصلاح هو القبول بالحال الماثل والحؤول دون التقدم والتطور الذي هو نهج الشيوعيين.
أما القسم الثاني فهو الذي ما زال يحافظ على شرط لينين على الشيوعيين في المستعمرات والبلدان التابعة في أن يتفرغوا للنضال ضد الإستعمار وإن كان ذلك بالإصطفاف وراء البورجوازية الوطنية في حين لم يعد هناك بورجوازية وطنية ولم يعد هناك استعمار منذ أن أعلنت الأمم المتحدة نهاية الإستعمار في العالم وحلت تبعاً لذلك لجنة تصفية الإستعمار التابعة لها والتي كان خروشتشوف قد طالب بانشائها لدى زيارته للأمم المتحدة في العام 61 .
الشيوعيون المفلسون في الطرفين، سواء أولئك الذين باتوا إصلاحيين أم الذين استمروا مناضلين ضد الإستعمار، هم بالتالي ليسوا إلا مجندين لخدمة البورجوازية الوضيعة وإطالة عمر فوضى الهروب من الإستحقاق الإشتراكي .