تحليل عام للحركة الشيوعية المصرية


عادل العمري
2001 / 12 / 30 - 09:37     

                                                                              ( نُشرت عام 1994)
تمهيد:
 
يبدو الكلام عن تحليل عام لما تسمى ب "الحركة الشيوعية المصرية " مستحيلا، نظرا لظاهرة تعدد الكتل والتوجهات داخل هذه الحركة والتى لم تتحد اتحادا تنظيميا حقيقيا قط، باستثناء الحزب الأول المتكون فى 1922-1921 وفى الحقيقة كان تفتت هذه الحركة ظاهرة واضحة، إلا أننا نعتقد – وهذا ما سنوضحه فى هذا المقال – أن "الحركة الشيوعية المصرية" قد حملت من عناصر الوحدة ما هو أكثر جوهرية من عناصر الانقسام، رغم كل الخلافات والصراعات وكثرة المنظمات.
ونهدف فى هذا المقال إلي إبراز الدور العام "للحركة الشيوعية " فى المجتمع المصرى، موقفها العام إزاء النظام الاجتماعي والنظام السياسى القائمين بالإضافة إلى كيفية إدراكها لنفسها وتحديدها لدورها الخاص فى المجتمع، وذلك بغرض الوقوف على تعليل لمسار حركتها وللنتائج النهائية لفاعليتها، وأخيرا تحديد محتواها الكلى.
 
 
أولا:آليات تكون و مسار "الحركة الشيوعية المصرية ككل":
 
لا شك أن الماركسية قد أُدخلت إلى مصر من الخارج.  وقد كان دور العناصر الأجنبية بارزا فى العقود الثلاثة الأولى.  واستمر هذا الدور بعد ذلك بشكل غير مباشر، إذ استمر الاعتماد الأيديولوجى على الخارج، بالإضافة إلى دور أقل للإبداع المحلى.
فالمصادر الرئيسية للفكر الاشتراكى فى مصر ظلت دائما مصادر أجنبية.  ولا نقصد أعمال ماركس، فهذه كانت من المصادر الثانوية (!)، بل الشروحات والإضافات والصياغات الأيديولوجية: أعمال لينين وستالين وتروتسكى وماو ، شاملة إبداعات وردود متبادلة فى بلدان أخرى ،بل إن نماذجا أجنبية "للخط السياسى" هى التى قدمت هنا: البلشفية – الماوية – التروتسكية – الجيفارية – الشيوعية الفيتنامية… وغيرها.  ولذلك كانت حركة الترجمة أنشط بما لا يقاس من حركة الكتابة فى حقل الفكر الاشتراكي وبالذات فى مجال الفكر النظرى .  والأدهى من ذلك أن الكتابات النظرية قد سارت فى إطار النزعة أوربية المركز، من تقليد – بدون قصد – لنهج وطريقة تفكير ُكتاب أجانب، إلى نقل مفاهيم تخص الواقع الأوروبي لتطبيقها على الواقع المصرى أو العربى.  وكان الجديد فى الغالب هو نقل آخر مبتكرات الماركسية فى الخارج[1] إلا أن هذه الظاهر تسم أيضا كل الأيديولوجيات التى ظهرت  فى مصر الحديثة، وذلك فى سياق عملية التحديث المستمرة.  وقد وجدت الأيديولوجيات المذكورة ككل استجابة واسعة من قبل الإنتلجينسيا المصرية وانتشرت بدرجات متباينة فى كل مرحلة من مراحل تاريخ مصر الحديث.  ويجدر بالملاحظة أن الماركسية لم تكن واسعة الانتشار أبدا وسط الإنتلجينسيا المصرية فى أية لحظة و إن تركت آثارا لا تمحى فى وعيها العام.
وقد ُأدخلت الماركسية من الخارج أيضا إلى بلدان أخرى، ولكن يختلف الأمر، ففى روسيا مثلا لعب الإبداع المحلى دورا فعالا فى إدماج ما اعُتبر هناك ماركسية بشكل تام فى الثقافة الروسية، بل وتم "ترويس" الماركسية وتجاوز ـ بمعنى غير تاريخى ـ لماركسية ماركس إلى اللينينية ثم الستالينية، ولم تظل هذه أو تلك جسما غريبا داخل الوعى الروسى، بل صارت مندمجة فيه. .  ويمكن أن نقول ان ما أدخل من الخارج إلى روسيا كان بعض عناصر فكر ماركس؛ بعض أفكاره، ولكن كانت اللينينية فالستالينية – فى المحصلة الأخيرة – نتاجا حقيقيا للوعى الروسى وللواقع الروسى الخاص.  وفى روسيا تبنت "الماركسية" غالبية العناصر القيادية العمالية، بل ويمكن أن نقول عموما العمال الأكثر وعيا.  أما فى مصر فقد ظلت الماركسية بالذات، وبشكل يفوق أية أيديولوجية علمانية أخرى غير مندمجه فى الثقافة المحلية بالكامل.
ولنتذكر أن بداية تكوين الانتلجانسيا المصرية الحديثة ، قد تم فى أوربا (بعثات محمد على)، ثم رُبيت بواسطة الأوروبيين فى مصر، وبذلك وُضعت البذرة بواسطة معلمى الغرب.  إلا أن هؤلاء المثقفين المحدثين لم يكونوا مجرد عجينة لينة، بل كانوا أبناء المجتمع المصرى، كما كانت لهم مصالحهم الخاصة فى هذا المجتمع.  ورغم التأثر الكبير بالفكر الغربى، إلا أن طبيعة التكوين الثقافى )القديم ( ومصالح مثقفينا الجدد كانا عاملين مهمين كذلك.  ولكن إذا تذكرنا وضع روسيا نجد ان هناك فارقا مهما عن مصر، ففى الأخيرة لم يتم أبدا تمصير الماركسية، ورغم أنها لم "تستورد" بالكامل كما أشرنا منذ قليل: إلا أنها فى نفس الوقت لم تضع و"تتجاوز" لكى تصبح صالحة كبديل أيديولوجى قوى للإسلام وللأيديولوجيات الأخرى، كما ظل هناك خلل ملحوظ فى العلاقة بين الأفكار المنقولة من الخارج وإمكانيات الواقع المحلى . .  إذ لم تكتف الانتلجينسا المصرية أبدا بما تحتاجه فعليا فقط، بل نقلت من الخارج كذلك ما يرضيها هى بغرض التجاوز السريع لبعض الأفكار والتقاليد والنظم السائدة. .  بدون الاعتماد على عناصر من التراث المحلى نفسه.  فهى لم تقدم الماركسية للمصريين "بلغة" محلية، فحتى الأمثلة والشروحات تمثلت أوضاعا أوروبية: وحتى مبرر وجود الماركسية قدم فى صورة لا تناسب التكوين المصرى الحديث أبدا ؛ فالماركسية ضرورية للبروليتاريا لكى تستولى على السلطة وتقيم الاشتراكية، وهى نشأت أصلا نتيجة نمو البروليتاريا ووعيها بذاتها . .  الخ.
هذا ما يقدم فى مجتمع لم يصبح فيه بعد عمال الصناعة طبقة "لذاتها" ولا حتى طبقة" فى ذاتها" بحق ولا يتطلعون إلي أبعد من زيادة أجورهم قليلا.  بل إن تبرير الإلحاد لم يستند إلى تناقضات الإسلام بل إلى تناقضات الدين فى الغرب. . فالدين "الغربى"-  ان صح التعبير – خطأ ولكن الإسلام لا ُيمس؛ لم تكشف فيه "بذرة فنائه"، وهو الأيديولوجيا الأهم هنا.  كذلك ظلت الألفاظ والمصطلحات والصياغات المستخدمة أوربية أساسا. .  لا تستخدم لغة المجتمع الذى تتعامل معه أو حتى تتجاوزها بالذات، بل تتفاداها وتتعالى عليها.   ويمكن أن نضيف أن عددا كبيرا من القضايا التى طرحها ويطرحها الماركسيون المصريون ُتعد غريبة و لا صلة لها بالتكوين والقضايا المحلية: مثلا قضية الصراع بين البلاشفة والمناشفة قديما، بين ستالين وتروتسكى: تحول الإقطاع إلى الرأسمالية ) فى أوروبا طبعا( ؛  على حساب طرح كثير من القضايا المحلية غير المطروقة كثيرا.  يضاف إلى هذا الميل إلى التحليل الطبقى المبسط للتناقضات والصراعات المحلية التى تتباين طبيعتها مع أوضاع أوروبا: تحليل التاريخ الاجتماعى والسياسى المحلى والصراعات السياسية والاجتماعية المعاصرة فى مصر، رغم وضوح قوة ونفوذ دور روابط الدم والموروثات الفكرية والأيديولوجيا غير المعتاد فى التاريخ "النموذجى" الأوروبى.
الخلاصة أن اللينينية ثم الستالينية فى روسيا قد عبرت تماما عن إمكانيات الواقع المحلى ؛ عن مصالح حقيقية لقوى اجتماعية مؤثرة استفادت من أفكار اليسار الأوروبى.  أما "الشيوعية" المصرية: فرغم الدور المحلى فى الانتقاء والصياغة فإن هذا الدور لم يصل إلى درجة تكييف الأفكار الواردة بالكامل مع الاحتياجات الفعلية لأحد أو بعض الطبقات الاجتماعية.  وهذه قضية ذات مغزى بالغ الأهمية كما سيتضح فى مجرى التحليل.
ونسجل هنا ملاحظة : ان الماركسية التى أدخلت إلى مصر هى أيديولوجيا، جاءت فى طبعتها الستالينية أساسا؛ أيديولوجيا الدولة بصيغها المختلفة، الانتقائية والمعتدلة عموما، تلتها الأيديولوجيا المضادة لنفس الدولة، تحت مسميات عديدة، أهمها التروتسكية: ولكن مع درجة انتشار أقل بكثير.  وقد ظلت قضية المنهج غائبة إلى حد كبير فى مصر، بينما ُمنح اعتبار كبير للنصوص "والتعليمات" النظرية والسياسية للأيديولوجيين الكبار فى الخارج ، ممثلى الدولة البيروقراطية أو أعدائها مما ينافى النزعة النقدية العالية والموضوعية لدى ماركس، ولكن يتلاءم مع العقلية الفقهية السائدة هنا.
وهذا النقل المباشر للأيديولوجيا "الماركسية" الجاهزة أو لعناصر أساسية منها )المنشفية والستالينية بالذات (كنصوص جاهزة أضاف صعوبة خاصة لإمكانية تمصير الماركسية، وبمعنى أفضل كان تعبيرا عن نبذ لا واع منذ البداية لوضع مشروع ثورة أيديولوجية شاملة فى مصر.  ومن الناحية الحرفية استخدمت نصوص لينين وستالين) وأحيانا ماركس (بشكل مباشر وفج فى تبرير الأطروحات السياسية، وانقسم الماركسيون شيعا وأحزابا يدعى كل منها انه الماركسى الحقيقى "ويكفر" الباقين ) وهى نزعة منقوله عن كاوتسكى من خلال لينين بالذات، وأصلها قوى بالطبع فى الثقافة المحلية هنا.  (وقد وجدت الأيديولوجيا الماركسية فى مصر لها أرضا مناسبة؛ وسطا من المثقفين مزدوجى الثقافة، يعيشون فى مجتمع غير معقلن وغير منظم وشمولى إلى هذا الحد أو ذاك.  فلم يكن من الغريب ان يتلقى هؤلاء الماركسية كديانة من نوع جديد؛ بل ويساهمون فى صياغتها بشكل مذهبى تماما.
ورغم كل هذا لم يكن التأثير الخارجى حرا تماما.  فالاستجابة الداخلية كانت مشروطة بطبيعة تكوين الانتلجانسيا الحديثة كما أسلفنا.
وقد أمكن طبعا للبعض الاستفادة من أفكار كل من اليسار واليمين الأوروبيين بالإضافة إلى إسهامات محلية و عربية أخرى فى إنتاج خلطة فكرية رجعية خدمت الطبقة المسيطرة فى مصر لفترة من الزمن) الناصرية.  ( وكانت أقوى بديل قدمته تلك الطبقة قطع الطريق على كل من اليسار والإسلام التقليدى.  إلا أن "الشيوعيين" المصريين لم يمارسوا اللعبة نفسها.  فلم ينتجوا خلطة تعادل اللينينية مثلا)  أو الماوية(. . أو يقدمونها كبديل ثورى قادر على تجاوز الأيديولوجيا السائدة .  ويمكن ان نضيف أيضا ان البناء الاجتماعى بوضعه القائم لم يخلق طلبا فعالا على مثل هذا البديل. .  ان الجماهير نفسها لم تنزع نحو تحقيق هذا المشروع.  وسوف نعود فيما بعد إلى هذه النقطة.
وبرغم الانتقائية والإضافات "المحلية" ظلت الماركسية فى مصر كأية ماركسية أخرى علمانية تماما.
ورغم هذا التناقض الواضح مع الأيديولوجيا الدينية لم تنشأ الماركسية فى صراع مع هذه أبدا.  وهذه الظاهرة البارزة ترتبط ارتباطا مطلقا بما ذكرنا منذ قليل حول عدم تحقق أى مشروع "لتمصير" الماركسية )إن هذا ُيعد عنصرا مع عناصر الصراع الأيديولوجى ( وما يتضمنه من المحافظة على الغربة الأيديولوجية فى وسط الانتلجينسيا والجماهير غير المتعلمة كذلك.
والمغزى النهائىلهذا كله هو ان دخول الماركسية إلى مصر لم يمثل حلا خاصا لتناقضات الفكر القديم السائد، وبالتالى لم تشهد ساحة الفكر صراعا مكشوفا وحيويا بين الماركسية والإسلام، أو حتى بين الماركسية والأيديولوجيات العلمانية الأخرى ،وعلى العكس خاض الماركسيون صراعا سياسيا قويا ضد التيارات الأخرى، حتى الإسلامية منها، وهذا أمر له مغزاه كما سنرى.
لقد ظل الماركسيون المصريون دائما يتجنبون إثارة الخلاف العميق بين الماركسية والإسلام، وينشرون أفكارهم النظرية فى أوساط محدودة يتميز أفرادها باستعدادهم الذاتى النشط لتلقى الطابع المادى لهذه الأفكار بسهولة وبدون حساسية وبدون نضال فكرى حاد وسطهم.  وقد ظل الموقف الدفاعى يميز العلاقة بين الماركسية فى مصر والأيديولوجيات الأخرى، خاصة الدينية .
وإذا كنا لا نستطيع أن نعزل هذا الميل التوفيقى عن قسوة الدولة ورجال الفكر الرسمى فى مواجهة أية محاولة (حتى فردية للصراع مع الدين أو حتى مع الأيديولوجيا الرسمية ؛الناصرية مثلا.
فمع ذلك كان يمكن أن تؤدى هذه القسوة إلى قسوة مضادة، إلى صراع حاسم إذا وجدت لدى الماركسيون نزعة حقيقية لتحقيق انتصار حاسم على الأيديولوجيات الدينية وتحقيق سيادتهم فى مجال الفكر النظرى.  فلم تكن الحالة الدفاعية المذكورة مجرد معطى غير مبرر، بل ارتبطت تماما بطبيعة الفئات التى تبنت الماركسية منذ البداية.  بل وفى معظم الأحيان كان هذا قرارا واعيا من قبل القيادات الماركسية نفسها.  إذ لم يتخذ القادة الماركسيون صورة مفكرين أو مناضلين أيديولوجيين بالدرجة الأولى، بل طرحوا أنفسهم كمناضلين سياسيين قبل أى شىء آخر.
ويمكننا ان نستنتج من هذه الوضعية ان الماركسية فى مصر لم تطمح – على أيدى منظريها – إلى التحول إلى الأيديولوجيا السائدة، بينما كانت الأهداف العملية) خاصة السياسية منها ( الملحة تتطلب دورا كبيرا منهم.  ولهذا ركز هؤلاء على استخدام أيديولوجيتهم كعنصر لبناء حزب سياسى فعال وهذا ما يفسر قوة النضال السياسى للشيوعيين المصريين بالمقارنة بضعف نضالهم الأيديولوجى، بل واللجوء غالبا إلى تجاهل هجوم رجال الفكر الرسمى والسائد.
نقف الآن أمام تناقض: "فالماركسية"  تقف معادية بشدة – ولكن بالقوة فحسب – لكل ما عداها ولكنها لم تطمح – على أيدى رجالها – إلى إزاحة الفكر السائد.
هذا التناقض يعنى أن الطموحات العملية كانت محدودة . .  ذلك أن الإحجام عن النضال الأيديولوجى يعنى أن الأيديولوجيا لم تستخدم كسلاح استراتيجى.  ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن الأيديولوجيا بوجه عام أداة لتبرير أشياء بخلاف الأفكار فى حد ذاتها فاللينينية – لاشك – قد مثلت تحويرا أيديولوجيا لأفكار ماركس من أجل تبرير سياسة معينة . .  ولكن "الماركسية " المصرية هى أقل من هذا. .  كانت استخداما أيديولوجيا للأيديولوجيا سابقة التجهيز: اللينينية والستالينية وهذه نقطة أدنى من الاستخدام الأيديولوجى للفكر و العلم، ذلك ان هذا الاستخدام كان يعنى التفادى الكامل لتمصير الفكر الماركسى، أى لأدلجته بصيغة ثورية تلائم الواقع المحلى.  وكان البديل، أى استخدام نوع محافظ من الأيديولوجيا "الماركسية" الجاهزة مباشرا ،مع إضافات محلية محدودة، يعنى بالضبط نزوعا داخليا – بغض النظر عن مدى الوعى بذلك – لتخفيف حدة الصراع الاجتماعى أو – بمعنى أصح - حصره فى حدود النظام القائم.  ولأن هذا يتضمن بالطبع إهمال العلم تماما ؛ الأساس الذى أقيمت عليه – شكليا بالطبع – الأيديولوجيات الماركسية كلها.  ومن هنا كان الضعف الشديد للإبداع الفكرى.
هذا الاستخدام المحدود "للماركسية" يحافظ على محدودية انتشارها وقصر هذا الانتشار وسط عدد محدود من المثقفين.  وهذا يعنى ان الانتلجينسيا الماركسية قد تعاملت مع الواقع باعتبارها قوة اجتماعية ذات مصالح ما، لا كمجرد طليعة فكرية أو حتى سياسية لطبقة اجتماعية ما.  ويتأكد هذا إذا لاحظنا انه ليست الطليعة الفكرية للمنظمات الشيوعية المصرية فقط هى التى تتكون من مثقفين، بل وتتكون القواعد "المناضلة" هى الأخرى من مثقفين أيضا بشكل أساسى.  ومن المفترض وفقا للأفكار المعلنة للشيوعيين المصريين ان تكون منظماتهم عمالية، تستلهم أفكار قلة من المثقفين.  والواقع ان هؤلاء "المناضلين" أنفسهم كانوا هم كذلك من المثقفين – بالمعنى الضيق – وفى الحقيقة لا يمكن تصور أن يناضل آلاف الطلاب والشعراء والكتاب منعزلين من أجل عيون الطبقات الأدنى الخاملة والغارقة فى أحلامها ؛نضالاتها المحدودة؛ الاقتصادية.
ونود هنا أن نبرز مسألة هامة: ان الأيديولوجيا الماركسية لم ُتختر لتبرير السياسة:  سواء عمدا أو بلا وعى. .   ف " الاختيار"  كان فى حد ذاته تعبيرا عن مطلب أو طموح : يمكن إضافته للطموحات العملية الأخرى، حيث أن طموحات الانتلجينسيا الحديثة ليست سياسية فقط ، فهناك أيضا أمور أخرى تلائم تكوينها الثقافى أو تكوين بعض أفرادها الأكثر ديناميكية : عادات من نوع معين ، طريقة عقلانية فى التفكير والحساب ، نزعة مادية رافضة بشدة للتراث الدينى، وباختصار طريقة تقدمية بدرجة ما فى التعامل مع التراث ومع المجتمع. .  وربما يفسر هذا جزئيا على الأقل)إذا تذكرنا طبعا عزلة الماركسيين أيديولوجيا وغياب صراع فكرى بينهم وبين الآخرين  ( وجود ظاهرة "الجيتو" بين "الشيوعيين" المصريين، الأشبه بجماعات الفرق الصوفيه والتى تمارس معا "طرقا" معينة فى السلوك وتتبنى قيما تختلف عن القيم السائدة فى المجتمع وتتعالى على الأخير باعتبارها – أى كل منها  – تدرك حقيقة الوجود ، بل والنضال من أجل هذا الجيتو نفسه باعتباره مجتمعا ملائما للتكوين الثقافى لأصحابه، ونعده ضمن ما حققته الإنتلجينسيا الماركسية المصرية لنفسها و انتزعته انتزاعا من المجتمع.  ويجدر أن نسجل ملاحظة ان الجيتو الماركسى لا يتميز بالعزلة التامة عن أو التجاوز النهائى للقيم السائدة ، بل يحمل قدرا لا بأس به منها، أى يتميز هو الآخر بازدواجية القيم ، بالضبط مثلما لم تكن الانتلجينسيا الماركسية المصرية مادية تماما.
إذن كانت التطلعات العملية – كما هى طبيعة الأمور – سابقة منطقيا على الأيديولوجيا.  ولكن لم تكن هذه مجرد أهداف سياسية، فتطلعات الإنتلجينسيا التقدمية هذه لم تتعلق بالنظام السياسى فحسب، بل بالنظام الاجتماعى قبل أى شىء آخر، فالنضال الاقتصادى كان مهما كذلك، وأيضا النضال على صعيد القيم والأخلاق. .  فنبذ الطقوس والعادات القديمة كان فى حد ذاته ضمن تطلعات الإنتلجينسيا اليسارية. .  بما يعنيه ذلك من رغبتها فى إعادة صياغة علاقتها بالمجتمع بما يحفظ لها حقوقا أكثر.
وليس من الغريب أن نسبة ملموسة من الماركسيين المصريين ينتجون الأدب والفن ويمارسون الكتابة والعمل بالصحافة ويهتمون بالعلوم الاجتماعية ) مثقفون بالمعنى الضيق للكلمة . .  ( بحيث أن وجودهم الفعال فى المجتمع كان دوما يفوق نسبتهم العددية من مجموع الانتلجينسيا.  وهذا الميل إلى الأعمال الذهنية الرفيعة يعكس آفاقا أرحب وتكوينات أعقد وأعمق من بقية جماعات الانتلجينسيا.   ومن المؤكد أن الماركسية قد لقيت القبول من قبل عناصر من صفوة الانتلجينسيا مثلما الحال بالنسبة لكل الأيديولوجيات المعقدة ، إلا أن الاختيار فى حد ذاته قد عكس ميولا تقدمية لدى البعض وكان له – أى للاختيار نفسه – تأثيره الخاص كذلك فى الصفوة الماركسية المذكورة. .   فنحن لا نجد الكثير من الفنانين والأدباء داخل التيار الإسلامى مثلا.  ولكن فلنلاحظ أن الإنتاج الثقافى للماركسيين المصريين قد غلب عليه الطابع السياسى – الاجتماعى، لا الأيديولوجى، حتى فى الكتابات النظرية ، مثل "التنويريين " العرب تماما.
ومع ذلك فإن أولوية التطلعات الفعلية على الفكر الخالص لا تبرر فى حد ذاتها – بشكل كامل – الإحجام عن النضال الأيديولوجى على نطاق واسع.  ففى كل مكان تعبر الأيديولوجيا عن احتياجات فعلية أكثر مما تعبر عن حقائق مجردة، فأولوية هذه الحاجات تعنى إنتاج أو تبنى الأيديولوجيا دون العلم . أما الإحجام عن نشر الأيديولوجيا على نطاق واسع فى حالة الماركسيين المصريين فيمكن فهمه على ضوء الطابع المعتدل لطموحات الحركة "الشيوعية" المصرية نفسها؛ غياب مشروع جذرى يتضمن فيما يتضمن" تسييد "الماركسية . .  ولكن هذه الوضعية، أى غلبة السياسة على النضال الأيديولوجى على الصعيد الاجتماعى تعنى أن الأولوية ظلت للأهداف المباشرة ، بمعنى أن التطلعات الجزئية كانت أهم من الأمانى الكلية ، مما يفسر الطابع الإجرائى والحلقى للنضالات "الشيوعية" المصرية.
وتقودنا هذه الوضعية نحو الكشف عن حقيقة إضافية؛ فالاستخدام الأيديولوجى للأيديولوجيا لم يهدف إلى أقلمتها مع أهداف سياسية محددة تماما و واضحة، بل كانت عملية أدلجة ،أو بمعنى أصح إعادة أدلجة للستالينية وغيرها تصب فى محورين ، أولهما إضفاء طابع أكثر محافظة عليها ، وذلك تمشيا مع ضيق الأفق السياسى للإنتلجينسيا عالية الثقافة ، وثانيهما إرضاء الحاجات الفكرية الخاصة لهذه الانتجلينسيا.  وهذا العامل الأخير ينطوى على اعتبار خاص للأيديولوجيا فى حد ذاتها، أى بالتحديد بغض النظر عن التطلعات السياسية، "فالإيمان" بأفكار شبه تقدمية أو متجاوزة للتقاليد الشرقية كانت له جاذبية خاصة، مطلوب فى حد ذاته يرضى وضعية Prestige العناصر الأكثر استنارة، وهذا يعنى بوضوح ان السياسة لم تكن هى الهدف النهائى ، بل كانت هناك أيضا قناعة فعلية جزئية بالأيديولوجيا المعدلة: المؤدلجة. .  وهذا ينطوى على استخدام أيديولوجى للسياسة. .  وهذا ما يفسر جزئيا وجود عنصر الجمود والدوجمائية.
هناك إذن لدى الحركة الشيوعية المصرية استخدام سياسى للأيديولوجيا، وهذا مفهوم، واستخدام أيديولوجى للأيديولوجيا )تعديلات تناسب السياسة والرغبة فى تغيير القيم والمبادئ القديمة – فى حدود معينة(، واستخدام أيديولوجى للسياسة.  هذه الخلطة السياسية – الأيديولوجية تفسر لنا اجتماع ظواهر تبدو متناقضة فى حقل السياسة "الشيوعية" المصرية: المرونة إلى حد "الانتهازية" الصريحة.  و"المبدئية" إلى حد الجمود المذهبى.  و فى الحقيقة وجدت المرونة مع الالتزام لدى البلاشفة وغيرهم من التيارات الشيوعية ولكن بقدر ملموس من التماهى المعتمد على وجود أولوية واضحة هى المشروع السياسى العام و الواضح تماما والمعبر عن مصالح محددة تماما لقوى اجتماعية ذات شأن.  أما الانتلجينسيا الماركسية المصرية فقد اضطرت للنضال بنفسها ولنفسها، مدعية لنفسها وللعالم أنها تناضل من اجل الآخرين : العمال والفلاحين.  وقد تبنت أيدلوجيا تتضمن بالضرورة ما يتجاوز قدراتها العملية، وحتى قدرتها على نشرها وسط العمال والفلاحين.
ويتمثل – نظريا – المنحى السياسى الأهم " للحركة الشيوعية المصرية" استنادا إلى الأيديولوجيا الماركسية فى الانحياز – كما أسلفنا – إلى مصالح الطبقات الأدنى، خاصة عمال الصناعة ،على الأقل فيما يختص بمصالحهم الاقتصادية المباشرة، وهذا مما يتسق تماما مع نهج الماركسية حتى فى طبعاتها الرسمية.  و قد كان هذا الأمر غير ملموس فى الحياة السياسية فى مصر الحديثة من قبل، وهى إضافة جديدة أدخلها الماركسيون، إذ خلقوا تيارا سياسيا يرفع شعارات شعبية أو بالأحرى شعبوية، بل ويجبر كل الأحزاب تقريبا على استخدام لغة مشابهة إلى حد ما أو آخر لدى مخاطبة الجماهير.
ورغم تفجر المسألة الوطنية فى مصر تميزت "الحركة الشيوعية" ببرنامجها الاجتماعى.  ورغم أنها اعتبرت المسألة الوطنية هى القضية الأهم إلا أنها لم تقدم فى هذا الصدد ما يميزها كثيرا عن الأحزاب القومية، ولكنها تجاوزت الجميع – ولكن ليس دائما – يسارا فى البرنامج الاجتماعى.  وكان هذا هو السبب الرئيسى وراء تعرضها للاضطهاد من قبل السلطات والعداء من قبل الأحزاب الأخرى.
وقد تضمنت هذه النزعة الاجتماعية محتوى جديدا على الفكر المصرى، تمثل فى إبراز دور الجماهير فى صناعة التاريخ وهى إضافة بالغة الأهمية أدخلتها الماركسية إلى الفكر المصرى.  وقد ترتب على هذه الفكرة تشكل طريقة جديدة لتحليل التاريخ والسياسة، ونظرة جديدة للفن والأدب والأخلاق، ترفع من شأن دور الطبقات الأدنى فى تغيير العالم وبالتالى تضع للعوامل الموضوعية اعتبارا كبيرا وتتبنى نهجا تطوريا – تاريخيا فى التحليل.  وفى هذا الصدد لم تشكل "الحركة الشيوعية المصرية"  مدرسة جديدة فحسب، بل أثرت تأثيرا فعالا فى المدارس الأخرى أيضا.  وقد أدت هذه الإضافة فيما بعد إلى دفع عملية كتابة تاريخ مصر دفعا قويا، وقد ساهم الماركسيون والمؤرخون المتأثرون بالماركسية مساهمة كبيرة فى إعادة كتابة تاريخ مصر الحديث.
رغم تأثير الفكر الاجتماعى – السياسى "للحركة الشيوعية المصرية" فى تيارات أخرى، ظل انتشاره الأساسى قاصرا على الماركسيين المؤدلجين، أى ظل انتشار الفكر السياسى مرتبطا إلى حد كبير بانتشار الأيديولوجيا، وهذا يعد أحد تجليات الاستخدام الأيديولوجى للسياسة.
ومن هنا نجد أنهما قد انتشرا وسط فئات اجتماعية معينة ومحدودة: عناصر أغلبها من الانتلجينسيا، أكثر استنارة بشكل خاص وغير منسجمه مع النظام الاجتماعى القائم ، ومعها قليل من العمال.  فرغم رفع شعارات تعبر عن مصالح الكادحين لم نجد للأفكار الماركسية انتشارا ملموسا وسطهم.
فالصعوبة النظرية والمفاهيم المتجاوزة – نظريا – للبناء الاجتماعى القائم؛ الإلحاد خاصة، والبناء الأيديولوجى غير الملائم للوعى المحلى شكلا ومضمونا. .  لكل هذا لم تجد الأيديولوجيا المذكورة أرضية واسعة وسط الجماهير الأمية فى الريف والمدن، بل وجدت أبناءها الطبيعيين فى أوساط المثقفين والطلاب، الذين لم يسعوا فى الوقت نفسه لتسييد هذه الأفكار.  وهى فى هذه الناحية اختلفت عن مدى ومجال انتشار الماركسية فى روسيا (عمال الصناعة والمثقفون) وحتى فى أوروبا (العمال الأكثر تطورا والمثقفون.  ( فهى فى مصر إذن لم تتمتع بنفوذ قوى وسط الشغيلة ولم تصغ – كما ذكرنا – بحيث تكون متلائمة مع مستوى الوعى العام.
وبرغم هذا لم تعتبر "الحركة الشيوعية المصرية" نفسها أبدا معبرة عن تطلعات قطاع من الانتلجينسيا، بل ظلت ترى فى نفسها طليعة العمال والفلاحين والفقراء عموما. .  عاجزة فى نفس الوقت عن قيادتهم.  ونستطيع أن نخلص إلى أن "الحركة الشيوعية المصرية" قد ضمت عناصر محدودة من الانتلجينسيا، ليست أكثر الفئات تعرضا للاضطهاد المباشر.  ويعبر هذا فى رأينا عن ملائمة الأيديولوجيا الماركسية العقلانية قياسا بالنظريات الأخرى للعناصر التى تميل بوجه عام إلى العقلنة بفضل تجارب أفرادها وظروف تكوينهم الخاصة ولكن فى ظل ظرف فعال يتمثل فى صعود حركات اجتماعية ونضالات تعزز الأفكار التقدمية مما يعد عامل جذب لأعداد إضافية من المثقفين الأكثر استنارة والأكثر رفضا لبنية التخلف، وحافز لهم على استخدام مثل هذه الأفكار فى تعزيز أوضاعهم الاجتمـاعية.  ونلاحظ إن انتشـار الماركسيـة وسط إلانتلجينسيا ظل محدود قياسيا بالأفكار الليبرالية والإسلامية. .  علاوة على أن مجمل القيادات العمالية لم تتطلع أصلا إلى الماركسية وتفرقت بين النضال الاقتصادى والسير خلف الليبراليين، أساسا.
ويمكننا إيجاز ما سبق فيما يأتى:
شكلت الماركسية إضافة من الخارج للثقافة المصرية.  وبرغم ذلك طبعت الانتلجينسيا المحلية بصماتها على هذه الأيديولوجيا التى لا يمكن أبدا اعتبارها – لهذا السبب – مجرد "فكر مستورد".  بل تميزت بطابع مركب من هذه الزاوية، فهى لم تتكون كعنصر من الثقافة المصرية ولم تكن مجرد نتاج لتطورها أو حتى ملتقية مع اتجاه تطورها المنطقى، ومن جهة أخرى أثرت تأثيرا قويا فى كل المثقفين حتى المعادين لها، إلا أنها لم تكن مجرد إضافة بسيطة من الخارج للفكر المصرى.
رغم التناقض النظرى الشديد بين الماركسية والإسلام )وغيره من المذاهب (لم يتطلع الماركسيون المصريون إلى تسييد الأيديولوجيا الماركسية ولم يهتموا اهتماما يذكر بالصراع الأيديولوجى، خصوصا ضد الفكر السائد: الإسلام.  صحيح ان الماركسية لم تسد أيضا فى الغرب، إلا أن الماركسيين خاضوا صراعا فكريا ضاريا فىأوروبا و روسيا بالذات حيث تم تجاوز الأيديولوجيات الكنسية أصلا.
بدلا من تطوير الثقافة المحلية تطويرا جذريا، استخدمت الأيديولوجيا الماركسية كغطاء أيديولوجى للنضال العملى للمنظمات "الشيوعية" بشكل مزدوج؛ إذ وضعت مبدئيا فى خدمة التطلعات والأهداف العملية المحدودة والجزئية ولم تستخدم مع ذلك بشكل فعال فى محاربة الفكر الرجعى مما يعد ضروريا لدفع الصراع الاجتماعى .  كذلك اعتبرت – كهدف فى حد ذاتها – عائقا أمام دفع النضال السياسى فى اتجاه تحقيق أهداف تقدمية محددة وواضحة المعالم. . هذا الازدواج أضفى طابعا غماميا وهلاميا على الكفاح "الشيوعى" فى مصر.
تبنت "الماركسية" عناصر من الانتلجينسيا، كما تركت هذه الأخيرة تأثيرها المباشر ؛الأيديولوجى والسياسى وسط نفس الفئات مع تحقيق بعض النفوذ وسط قطاعات عمالية محدودة وتحويل بعض العمال النابهين إلى مثقفين بالمعنى الضيق ؛ (كتاب وفنانين). .
هذا هو – بكل اختصار – المنطق الداخلى "للحركة الشيوعية المصرية"  بوجه عام
 
ثانيا: البناء النظرى- السياسى" للحركة الشيوعية المصرية" : 
 
 
ظل وجود الماركسية فى مصر مرتبطا دائما بوجود سياسى ما، منظم – فى الغالب  – لجماعات من المثقفين أساسا.
وكما ذكرنا من قبل كان الأساس النظرى الذى استخدمته هذه الجماعات كمبرر أيديولوجى قوى لطموحاتها العملية.  وبسبب محدودية الأهداف العملية وبالتالى عدم ضرورة النضال الأيديلوجى الشامل لم يمل الماركسيون المصريون إلى الإنتاج النظرى على نطاق واسع؛ بل احتل الفكر النظرى لديهم أهمية ثانوية بالقياس إلى الفكر السياسى والنشاط العملى، أو على الأقل الأفكار العملية.  ويمكننا القول بأن الغالبية العظمى منهم قد نظرت إلى الفكر النظرى الخالص نظرة تعالى، وهى نظرة ظلت بارزة حتى حدوث التحولات الأخيرة فى شرق أوروبا.  ونظرا إلى محدودية دور الأيديولوجيا وطابعها السياسى، كان الاعتماد على النقل عن المراجع الماركسية قويا للغاية، وبالتالى ظلت ظاهرة احترام النصوص بارزة.  وقد عرف لينين( وماو إلى حد أقل ) أكثر من ماركس، وعرفت الكتابات السياسية لماركس أكثر من كتاباته النظرية، وتمتعت تلك طوال تاريخ "الحركة الشيوعية المصرية" بطلب أعلى بكثير ، كذلك انتشرت الستالينية أكثر من كل ما عداها.  ويمكننا ان نقطع بأن الأفكار النظرية لماركس لم تنتشر وسط "الماركسيين" المؤدلجين جيدا، بل ُعرفت فقط وسط عدد قليل منهم.  ولكن ما تم استيعابه واستخدامه بالفعل هو مذهب يشمل رسميا المادية الجدلية والمادية التاريخية والاقتصاد السياسى "الماركسى" ومكونات أخرى، دون الالتزام بأفكار ماركس نفسها المصنفة تحت هذه العناوين.  وقد أدخلت هذه المكونات جاهزة إلى مصر فى شكل عروض إنجلز، والأهم من ذلك كتابات المفكرين الرسميين السوفيت وكتابات مدرسية أخرى.  وكان الأهم من ذلك لدى الماركسيين طوال العقود السابقة العنصر السياسى من المذهب، متمثلا فى النصوص اللينينية والستالينية أساسا (والماوية والتروتسكية لدى قلة).  ولا شك ان هناك من الماركسيين من هم واسعوا الاطلاع والثقافة، ولكن نحن نتكلم هنا عن الفكر الذى تبنوه بالفعل وليس الذى اطلعوا عليه.  ونقدم هذا الحكم بناء على أعمالهم المنشورة، وهى محدودة، فى المجال النظرى[2].
ومن المفارقات الهامة ان النزعة العملية للماركسيين المصريين ليست عملية بحق، فلم تتمكن المنظمات "الشيوعية" من التغلغل فى صفوف العمال والفلاحين، اللهم إلا فى قطاعات عمالية محدودة.  إذ كان الطابع الأيديولوجى للسياسة بالإضافة إلى الطابع السياسى للإيديولوجيا وتقوقع هذه الأخيرة على نفسها دون محاولة أصحابها اقتحام ساحة الفكر المضاد عوامل حافظت – كما أسلفنا – على انحصار الماركسية وسط عناصر محدودة من المثقفين.
وقد تفاعلت عدة عوامل لتمنح المنظمات "الشيوعية" المصرية قدرات تحريضية كبيرة دون التمتع بقدرات دعائية مماثلة: الأسلحة النظرية القوية، ضعف التغلغل الفعلى وسط العمال والفلاحين، مع الرغبة فى تحقيق أكبر قدر من النفوذ السياسى فى ظل هذه الإشكالية
.  فرغم محدودية الانتشار المباشر كان للشعارات التى أطلقها "الشيوعيون" دوى هائل فى أنحاء البلاد وتأثير ضخم فى كل القوى السياسية وكل الطبقات المدينية.  ولهذا بالذات تميز "الشيوعيون" بقدرة فائقة على تأجيج حدة الحركات الجماهيرية دون أن يتمكنوا من قيادتها أو حتى تفجيرها بوعى وتخطيط؛ بل لعب تحريضهم العفوى وسط المثقفين وبعض العمال وسكان بعض الأحياء الفقيرة هذا الدور[3] لهذا شكلوا قوة ضغط خطرة للغاية رغم ضعفهم المادى الملحوظ.  بل ويمكننا ان نجزم بأن الحركة الجماهيرية قد تجاوزتهم يسارا أكثر من مرة، وكانت أعنف بكثير فى بعض الحالات مما كان يأملون (انتفاضة يناير 1977 حادث نموذجى يبلور حالة "الحركة الشيوعية" تماما سبق وحللها صادق سعد[4].
وفى هذا النشاط العملى كانت القدرة على التحريض دائما تفوق القدرة على الدعاية.  فالنظرة الرومانسية لظاهرة الظلم الاجتماعى الذى يشعر به معظم المثقفين المصريين ، مدعومة بقدرات فكرية كبيرة قد أديا إلى مواقف شديدة التعاطف مع الطبقات الأدنى ومعبرا عنها تعبيرا قويا خلابا، خاصة ان كثير من المثقفين الماركسيين كانوا هم أنفسهم من أبناء هذه الطبقات ، الذين تسللوا إلى صفوف الانتلجينسيا فى السنوات المبكرة للحركة الشيوعية، ثم دخلوها أفواجا فى العصر الناصرى بفضل لجوء الناصرية إلى فتح أبواب الجامعات على مصراعيها لأبناء الفئات الوسطى فى إطار سياسة امتصاص الصراع الاجتماعى.  ولقد لعب هذا التحريض دورا كبيرا فى تفجير كثير من الإضرابات والانتفاضات التى افتقدت للوعى السياسى الناضج فى أغلب الحالات، والتى كان بعضها يتخذ مواقفا غير تقدمية.  فالتحريض لم يكن مسنودا بالدعاية الجماهيرية اللازمة.  وحتى بالنسبة للمنظمات التى اهتمت بالموازنة بين التحريض والدعاية لم تستطع ان تواصل هذا النهج تحت ضغط قواعدها المتمردة والمتعطشة للنضال العملى من جهة وفى إطار منافستها المحتدمة مع المنظمات الماركسية الأخرى من جهة ثانية.  هذا بالإضافة إلى عجزها التكوينى عن القيام بدعاية أيديولوجية مؤثرة على المدى الطويل.
وبالرغم من الخطورة الفادحة التى سببتها طاقة التحريض المذكورة على النظام، كانت فى نفس الوقت عامل ضعف "للحركة الشيوعية المصرية" ، فقد أدت إلى إهدار طاقات كبيرة دون جنى نتائج ملموسة، بل وسقطت النتائج فى معظم الأحيان فى فم المنظمات المعادية للشيوعية.  كذلك أدت إلى الإغراق فى النشاطات اليومية، التحريضية، على حساب الاهتمام بالمخطط النظرى العام) الغائب فى العادة(  لسياسة الحزب، كما ساهمت فى ضعف معدل تطور الكوادر النظرى واستيعابهم لتطورات الواقع السريعة، مما أثر على فعالية التحريض نفسه – رغم قوته – بل وأحيانا ساهمت فى انفضاض الجماهير من حول المنظمات فى مناسبات عديدة ) ذكر لاكور على سبيل المثال ملحوظة: " وكان الشيوعيون مولعين بخلق اضطرابات عامة لأسباب ليست واضحة تماما لمعظم العمال ، وبذلك اضعفوا نفوذهم فى الاتحادات العمالية" يقصد فترة الأربعينات .  وتنطبق الملحوظة نفسها على الحركة الطلابية وحركة العمال فى أوائل السبعينات(.
وحتى المنظمات المحافظة لم تنج أبدا من هذه النزعة، بل لم يتخلص "الشيوعيين" الذين انضموا لتنظيم السلطة الناصرية من هذا الميل.  إذ استمرت غلبة التحريض، ولكن ليس ضد السلطة عموما، بل ضد أجهزة معينة أو سلطات محلية أو مواقف جزئية للسلطة.
ومن المنتظر بالطبع ان تتطلب هذه النزعة العملية مرونة كبيرة وانصياعا لتقلبات الواقع.  إلا أن هذا لم يكن قاعدة ثابتة.  فالأسس الأيديولوجية لم تكن مجرد مبرر ديماجوجى للسياسة.  ورغم ان تعديل الأيديولوجيا كان يجرى أحيانا للتلاؤم مع الوقائع) تبرير الناصرية مثل صارخ من هذا النوع.  ( إلا أنه فى خطوات تكتيكية عديدة كان لابد ان تتم محاولة تعديل الخطط العملية للتلاؤم مع الأيديولوجيا، التى كان لها نفوذها الخاص كذلك.  إذ لم يقع عليها الاختيار بمحض الصدفة، بل بفضل ملاءمتها للتكوين الثقافى للانتلجلنسيا التقدمية بالإضافة إلى ملاءمتها لأفق نضالات الفئة المذكورة.  لذلك لم يكن التخلى عنها من وقت لآخر من الأمور الممكنة ببساطة.
 
وتصل النزعة العملية إلى قمتها بالفهم الحرفى للسياسة الثورية.  ولم يكن هذا الفهم يشمل كل الأفراد ولكنه شكل ظاهرة وسمت "الحركة الشيوعية المصرية" ككل.  وقد تمثل أول ما تمثل فى الاهتمام المفرط بمسألة التنظيم الحزبى.  إذ أنشئت منظمات لا تحمل – فى أغلب الأحيان – الإمكانية النظرية الضرورية لبناء حزبى من المفترض انه ثورى وسرى ويواجه النظام السياسى ككل.  ومع ذلك كانت عملية إنشاء المنظمات سباقة ومطلوبة بإلحاح بدون الإعداد المناسب وحتى بدون حساب واضح لاحتمالات النجاح والفشل وبدون المقدمات الضرورية لهذه العملية.  وكان هذا مترتبا على النظر للماركسية كمجرد غطاء أيديولوجى للنضال العملى؛ كسلاح أيديولوجى للطبقات الأدنى) رغم انه لم يتم فعليا التعامل معها هكذا قط(، دون النظر بعين الاعتبار إلى دورها الممكن فى تفسير العالم من أجل دفع الاتجاه التاريخى للحركة الاجتماعية، وبالتالى بدون التقدير الكافى للطريقة الملائمة التى يمكن اتباعها لتغيير العالم، بل وفى كل الحالات بدون وضع حدود واضحة للنظرية الماركسية نفسها.  كذلك تمثل هذا الفهم فى غلبة الخلافات التنظيمية على الخلافات الأيديولوجية والسياسية، فالانقسامات تتم بسهولة ويسر والتيارات السياسية تشكل تنظيمات جديدة فورا والعوامل الذاتية والشخصية لعبت دائما دورا مهما فى الانقسامات، وقد مال الكثيرون إلى البدء من جديد دائما على صعيد التنظيم، فمع موجات الفشل المتلاحقة راحت عناصر جديدة أو قديمة تنشئ تنظيمات جديدة.  ولسان حالها يقول ان التنظيم الجديد سوف يتلافى نقاط ضعف التنظيم القديم، كما لو كانت المشكلة تنحصر فى القدرة الحرفية وحدها أو فى الصفات الشخصية للقادة والكوادر.
وبالمنطق نفسه كانت عمليات اندماج المنظمات تتم بدون اتفاق سياسى حقيقى.  ولكن بالاتفاق على الوحدة التنظيمية أساسا وبالاتفاق – فى السياق – على تسوية الخلافات السياسية رسميا، أى صياغة السياسات بطريقة تقبلها كل الأطراف.  بل ولعب المنطق نفسه دورا كبيرا فى انضمام الأفراد إلى التنظيمات، فالاتفاق السياسى ليس هو العامل الحاسم وأنما تدخل عوامل أخرى هامة، منها تقدير الأفراد لاحتمالات نجاح أو فشل التنظيمات وتقديرهم لقوته وتاريخه ولأشياء أخرى من هذا النوع، شاملة قدرة التنظيم على تفجير طاقة أفراد وتكوين "جيتو" اجتماعى – أيديولوجى مناسب.
ومن الظواهر ذات المغزى ان تاريخ"الحركة الشيوعية المصرية" ليس متصلا، فجيل العشرينات لم يورث رايته لجيل الأربعينات، وهذا الأخير لم يورثها لجيل السبعينات) لعبت عناصر من جيل الأربعينات دورا فى بناء تشكيلات السبعينات ولكن على أشلاء الماضى و فى أغلب الحالات ضده بعنف(.  وهذا الانقطاع فى التطور – كما نرى – يرتبط أشد الارتباط بنفس المنطق الحرفى من قبل الأجيال الأحدث وعجز الأجيال الأقدم عن بناء مؤسسة سياسية ذات تقاليد راسخة وقوية وتحمل تصورات قادرة على الاستمرار فى ظل المتغيرات الاجتماعية الجزئية التى شهدتها البلاد.  ويمكننا تفسير هذا بانعدام مخطط عام واضح ومتماسك قابل للتحقيق بالأساليب النضالية المتبعة. .  ومن الملاحظ ان أسباب الانقسامات وآلياتها ومبرراتها وأطروحات المنظمات المختلفة فى السبعينات قد شابهت مثيلاتها فى الأربعينات، مما يعنى ان المنظمات الجديدة لم تكن جديدة بالفعل؛ لم تتجاوز المنظمات الأقدم.  ان انفصال نوبات "الحركة الشيوعية المصرية" هو جزء من ظاهرة تشرزمها. .  معبر إذن عن محدودية أفقها وعدم نضجها[5].
ومن الملفت للنظر ان كافة التنظيمات الماركسية المصرية لم تقم على أساس ديموقراطى ولم يدر فيها الصراع السياسى بطريقة تضمن ظهور وسيادة الأفكار الأكثر تعبيرا عن توجهات الأعضاء وانتصار الرأى الأكثراتساقا مع هدف التنظيم المقرر نظريا.  ولم يكن هذا التوجه يصب لصالح التنظيم أبدا ولا لصالح أهدافه بالطبع، بل كان يخدم بشكل أو بآخر نوازع ذاتية للقادة والعناصر المهيمنة ولم يعبر أبدا عن برمجة حكيمة لآليات عمل المنظمات، بل كان عنصرا مهما لخلق الفوضى والتفسخ التنظيمى.  وتدلنا هذه الظاهرة على ان المنظمات) وأعضاءها (لم تكن تهتم فى المقام الأول بأفكارها وأهدافها السياسية المعلنة، بل لخدمة أهداف غير واضحة تماما للأعضاء.  وتعكس هذه النزعة وما ترتب عليها من ميول تآمرية وشللية عجز المنظمات وأعضائها عن الملائمة بين "نظرياتهم" والإمكانيات الموضوعية للمجتمع القائم بالفعل، فالعنصر المنقول من الخارج فى أفكارهم وتكوينهم النظرى المزدوج قد عرقلا تحقيق الانسجام بين أفكارهم و قضايا المجتمع الفعلية.  وقد راحت المنظمات)أو بقاياها (تدرك هذه الحقيقة، فقط بعد سقوط البيروقراطية السوفيتية.
ومن المفارقات أيضا ان هذا الميل العالى للتنظيم الحزبى قد قابله ضعف شديد فى الميل إلى تنظيم الجماهير، أو بالأحرى العجز عن ذلك.  فمن جهة لم تكن المنظمات الماركسية ملتحمة بالعمال والفلاحين، ومن جهة أخرى فأنها لم تتمكن من إقامة علاقة تفاعل بين مبادرة التنظيم ومبادرة الجماهير التلقائية.  فالعزلة الأيديولوجية والسياسية عن الطبقات الأساسية قد حجبت عن "الشيوعيين" طبيعة وميول هذه الطبقات وأعجزتهم عن استخدام لغة مفهومة وممارسة سياسية واضحة بالنسبة لها.  ومن جهة أخرى لم تمكنهم من مد نفوذهم الفكرى والسياسى بطريقة مباشرة وسط الجماهير غير المتعلمة ودفعها إلى تقبل أساليبهم فى العمل.  هذا الالتقاء كان بالغ الصعوبة دائما تقريبا.  وظلت حالة عدم تفاهم قائمة بين الطرفين دائما، فالجماهير لها منطقها الخاص، بينما للمنظمات تصوراتها الأعقد صياغة والأكثر أدلجة، والأهم من ذلك الغريبة عن تصورات الجماهير غير المتعلمة.  أما مبادرات هذه الأخيرة فكانت ولا زالت إما بالغة العنف؛ أو محافظة وربما رجعية فى بعض الحالات، ومرتبطة – بوجه عام – بالأيديولوجيا والعادات المحافظة.  ولا شك ان هناك نجاحات عديدة جزئية لأفراد المنظمات المذكورة فى تحقيق الالتقاء بالمبادرة الجماهيرية؛ إلا أننا نتكلم هنا عن الاتجاه العام.
 
                          ********************
رغم الاعتماد على نقل (وإعادة نقل) الأيديولوجيا الماركسية من الخارج أساسا، تم تمصير جزئى للأيديولوجيا المذكورة بما يناسب الرؤى الخاصة بالانتلجينسيا المستنيرة فى مصر.
فرغم النظرة الطبقية المتطرفة (رغم عدم تبلور الطبقات فى مصر) لمعظم الظواهر الاجتماعية وحتى المبالغة فى إبراز الأساس الاجتماعى الطبقى لكثير من الظواهر، أو المبالغة فى كشف عنصر الاستغلال الطبقى وراء كثير منها، لم يصل الأمر بالماركسيين المصريين إلى حد مجابهة الدولة جذريا. .  وهى مسألة أصيلة فى اللينينية( والماوية( التى يتبناها – رسميا – كل الماركسيين المصريين تقريبا.  وقد وجدت هذه النزعة سندا أيديولوجيا لها فى بعض الأفكار الستالينية.  فمن الظواهر اللصيقة "بالحركة الشيوعية المصرية" غياب أفق وخطة عملية من أى نوع للاستيلاء على السلطة وتحقيق الفكرة الشيوعية التقليدية: ديكتاتورية البروليتاريا.  وهذه مسألة جوهرية للغاية فى كل ثورة حسب المنظور اللينينى والذى يعرفه ويقره الماركسيون المصريون بوجه عام.  وبالرغم من رفع بعض المنظمات لشعارات تنادى بإسقاط النظام وإقامة حكومة عمالية. .  الخ لم تقدم أى منها أبدا مخططا عمليا لتحقيق هذا الهدف ولم تكن لسياساتها ولنشاطها العملى ولأساليب تنظيمها لنفسها نصيب فيه  .  بل ان بعض "الراديكاليين" وضعوا ما أسموه قيودا "تكتيكية" أو مراحل أولية سابقة على محاولة إقامة حكم عمالى – فلاحى، والبعض تراجع مباشرة فى أوقات حرجة (مثل موقف "الحزب الشيوعى المصرى" من الكفاح المسلح فى القناة عام 1951) والبديل الذى ُقدم لذلك كان هو تأييد أكثر الاتجاهات راديكالية داخل النظام نفسه: "حزب الوفد" قبل انقلاب 1952 الليبراليين فى الفترة من 1952-1954، الناصرية فيما بعد حتى ضد أجهزتها نفسها   !! "،"البورجوازية الوطنية" ضد السادات.  وحتى لدى يسار المنظمات الماركسية فى السبعينات سادت فكرة إقامة حكومة وطنية ديمقراطية بورجوازية بديلة عن النظام السياسى القائم، دون الإقرار بوجود قوى اجتماعية بورجوازية يمكنها ان تحقق مهاما وطنية –ديمقراطية (إلام إذن تستند هذه الحكومة لا ندرى!).
ومن الأمور الطريفة الناجمة عن فكرة التحالف مع يسار النظام ميل كثير من "الشيوعيين "المصريين فى العصر الناصرى إلى الفصل بين السلطة وأجهزتها أو بين النظام ككل وبعض أجزائه، مع تحميل أوزار قمع المعارضة اليسارية لأجهزة الأمن وإعفاء النظام السياسى من المسؤولية.
وقد طرحت عدة فصائل ماركسية فكرة" الجبهة الشعبية "متجاوزة بذلك فكرة التحالف مع يسار النظام.  إلا أن الممارسة العملية لم تنطو على إصرار فعلى على هذه الخطة الجديدة.  فلم تمنع هذه الأمنية الحزب الشيوعى المصرى فى 1952-  49من تأييد حزب الوفد ابان وزارته الأخيرة ( 1949-1952 )، ثم التحالف معه ضد الضباط بعد انقلاب يوليو 1952.  كذلك لم تمنع يسار السبعينات من الإصرار على إقامة حكومة وطنية ديمقراطية بورجوازية تمهيدا للثورة الاشتراكية فيما بعد.
ومن الناحية الواقعية كانت فكرة الجبهة الشعبية ُأمنية أكثر منها خطة للعمل.  بل وليس من المؤكد ان هذه كانت أمنية حقيقية، فقد ظهرت أفكار من هذا النوع الراديكالى فى فترات الأزمات الاقتصادية أو السياسية الحادة، ولكنها لم ترسخ نظريا أبدا ولم تحظ بقبول واسع من قبل الماركسيين ولم تتمتع بالثبات والاستقرار فترات طويلة.
وعلى العموم لم تتبلور أفكار "الجبهة الشعبية" ومثيلاتها أبدا فى صورة برنامج للعمل، بل ظل "البرنامج الوطنى الديمقراطى" يتمتع بنفوذ طاغ داخل اليسار كله.  كذلك نجد امتداد ذلك الميل لتأييد يسار النظام فى موقف "الحركة الشيوعية المصرية" من مسألة الديمقراطية.  وقد لعبت الحركة دورا فعالا للغاية فى نشر أفكار الديمقراطية الليبرالية: الجمهورية البرلمانية والحقوق الديمقراطية العامة.  ورغم أنها لم تكن سباقة فى هذا الصدد إلا أنها تجاوزت فى دعوتها الديمقراطية الأحزاب الليبرالية نفسها، مثل "الوفد"، وذلك بفضل رغبتها القوية قى تقنين وجودها المرفوض من قبل النظام وأغلبية المعارضة.  وبذلك لعبت الحركة "الشيوعية" دورا مؤثرا فى كل التيارات السياسية المصرية، حتى الإسلامية منها، دافعة حتى هذه الأخيرة إلى محاولة الظهور أحيانا بمظهر عقلانى و ليبرالى.  والجانب الذى يهمنا هنا ليس هو التأثير الديمقراطى "للحركة الشيوعية المصرية" (المجرمة قانونا)، بل حدود دعوتها الديمقراطية؛ الليبرالية البورجوازية: الحريات العامة، حق الإضراب، حق الاقتراع السرى المباشر ، الجمهورية البرلمانية.  ومن التناقضات التى اتسمت بها تلك الحركة قناعتها النظرية الراسخة بزيف هذه الديمقراطية البورجوازية) يتسق مع هذا تبريرها للناصرية وللستالينية دون ان "تتورط" فى إدانة الأخيرة إلا مؤخرا).  وعدا استثناءات قليلة جدا لم تقدم الحركة "الشيوعية"  أفكارها البروليتارية للجماهير ولا حتى لجمهور المثقفين إلا عابرا.
وقد شهدت أحداث انتفاضة 1919 محاولات لإقامة شكل الديمقراطية الشعبية: السوفيتات فى أربع مناطق على الأقل .  إلا أن هذه المحاولات لم تترك أثرا فى وعى اليسار الماركسى، الذى واكب الثورة ونما بعدها مباشرة [6] ولا حتى فى إنتاجه الأدبى والفنى الضخم: وهى محاولات تستحق كل اعتبار) أنا شخصيا أتصور ان عدم تقديم عمل فنى كبير عن "جمهورية زفتى" من قبل الفنانين الماركسيين – وهم كثيرون – يعد أمرا ذا مغزى، خاصة ان إمكانيات هؤلاء ليست ضعيفة(.
إذن ظلت أطروحات "الحركة الشيوعية المصرية" معتدلة إزاء قضية السلطة.  ويمتد هذا الاعتدال حتى إلى البرنامج الاجتماعى نفسه، فرغم الدور الملموس للماركسيين المصريين فى إثارة القضايا الاجتماعية وطرح قضية الفقر بشدة، لم يكن أفق هذه الأطروحات ينطوى على تغيير فورى للنظام الاجتماعى القائم بشكل جذرى.  فلم يعتد الرأى العام الماركسى فى مصر ان ينظر إلى النظام الاجتماعى القائم كعدو حاضر، وكان – على العكس – معاديا إلى حد كبير للنظام السياسى فى أغلب الوقت ، خاصة فى الفترة الناصرية المبكرة ثم فى عهد السادات.  وكانت أقصى الطموحات المقدمة قبل 1961 تتضمن إجراء بعض التعديلات داخل الإطار البورجوازى النظرى، بما يضمن تقديم بعض المكاسب للفقراء.  أما الإصلاحات الاجتماعية الناصرية فقد تجاوزت الاطروحات الاجتماعية للمنظمات الماركسية وقتها.
وقد ساهمت هذه الوضعية فى هضم الناصرية "للحركة الشيوعية المصرية" وإجبارها على احترام النظام القائم و"اكتشاف  "إمكانيات ثورية داخله ، باستثناء القلة.  وقد ظلت الناصرية بالغة التأثير على وعى الماركسيين الصريين حتى الآن باعتبارها – من قبلهم – مرحلة ثورية فى تاريخ البلاد، رغم دورها البارز فى تثبيت النظام الاجتماعى وإعادة إنتاج التخلف[7] .
وبالرغم من عداء الحركة" الشيوعية" فى أغلب تاريخها للنظام السياسى المصرى القائم لم تطمح – كما ذكرنا من قبل – إلى الاستيلاء على السلطة.  إذ ظلت تناضل بإصرار لانتزاع اعتراف النظام السياسى بشرعية وجودها فى المعارضة.  وقد دعت فى فترات عديدة إلى إسقاط النظام السياسى دون ان تقدم مشروعا لنظام سياسى تقوده هى.  وكانت أقصى طموحاتها بهذا الخصوص هى إقامة نظام ديمقراطى بورجوازى يستوعب المعارضة اليسارية الموجودة.
ومن الملاحظ كذلك ان فكرة الثورة الوطنية الديمقراطية السائدة فى صفوف الماركسيين المصريين والمتضمنة كذلك فى أطروحات تدعو للثورة الاشتراكية لم تطرح بالمنطق اللينينى، أى بقيادة البروليتاريا، مما يعنى تجنب قيادة الشيوعيين لها ) باعتبار ان الحزب الشيوعى يمثل البروليتاريا، من الناحية النظرية على الأقل( . أى تجنب طرح فكرة استيلاء الحزب الشيوعى على السلطة.
ومن المؤكد ان كافة التنظيمات قد أعلنت فى برامجها عن ضرورة قيادة البروليتاريا للثورة القادمة إلا أن التصور الفعلى للعملية الثورية لم يتضمن هذه الفكرة أبدا فالسلطة الثورية المرتقبة ليست مجالس العمال والفلاحين) أى الديكتاتورية الديمقراطية لدى البلاشفة الروس) ولا الديمقراطية الجديدة لدى ماو، بل نظام برلمانى؛ فى أفضل الحالات: الجمهورية الديمقراطية.
ولم تكن الدعاية الاشتراكية معلنة وسافرة من قبل "الشيوعيين" إلا فى الفترة من 1922- 1924، من 1965-1971 ، حين تحالف فى الحالة الأخيرة فريق من المثقفين الماركسيين مع النظام الناصرى رافعين شعاراته.
ولا شك ان جماعات يسارية راديكالية قد ظهرت من حين لآخر، إلا أنها كانت دائما ضعيفة للغاية وهامشية فى الحياة السياسية المصرية، بل وكانت تختفى أو تندمج فى الكتلة الأساسية للحركة" الشيوعية" (مثال حدتو ت. ث.  فى الأربعينات، وأغلب التروتسكيين فى الثمانينات).
ونلاحظ أن الاتجاه الماركسى لم يكن هو دائما أقصى اليسار على الساحة المصرية بالنسبة للقضية الوطنية والقضية الاجتماعية.  فقد كانت مثلا دعاية حزب "مصر الفتاة" فى الفترة من 1949 – 1952 أكثر راديكالية، اعتمادا على برنامج حزبى يقف فى أقصى اليسار كذلك استطاعت الناصرية أن تتجاوز اليسار الماركسى فى 61-1964 على صعيد الدعاية الرسمية على الأقل وعلى صعيد البرنامج الاجتماعى.  وفى الأربعينات وجدنا بعد العناصر الإسلامية يتجاوز "الشيوعيين" يسارا فى القضية الاجتماعية (سيد قطب مثلا).
وبالطبع لم تكن الحركة الجماهيرية فى المدن محصورة فى إطار برامج الأحزاب اليسارية دائما، وفى حالات معينة تجاوزتها يسارا فى كل من الشعارات الاجتماعية والممارسة.  ومن أبرز الأمثلة على ذلك انتفاضات 1952-1945، متضمنة النشاط المسلح فى 1951 والذى لم تشارك فيه بشكل منظم أية جماعات "شيوعية" كذلك انتفاضات الفلاحين بعد انقلاب 1952 ضد كبار الملاك، وانتفاضة 19- 18يناير 1977 التى أدانت كل المنظمات اليسارية عنفها علنا.  وان إدانة التخريب والعنف ومهاجمتهما بعدوانية قد ترافق دائما مع اتهام السلطة بأحداث بعض عمليات التخريب، ورغم صحة هذا فإنه لا ينفى أبدا عنف وشراسة الانتفاضة الشعبية ودورها الرئيسى فى "التخريب" ولا ينفى أيضا الطابع الدفاعى والعفوى لهذه الانتفاضة ومثيلاتها، الثورية مع ذلك.  وقد ترددت كثيرا ادانات ماركسية لأعمال الإرهاب والاغتيال السياسى. .  ولم يشهد تاريخ مصر قط اية منظمة ماركسية مسلحة) اللهم إلا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى محاولة ضعيفة للغاية وغير جادة قتلت فى مهدها ولم تتكرر(.
ومن الأمور ذات الدلالة أن الجماعات الماركسية قد دعت الجماهير دائما إلى الإقبال على صناديق الاقتراع ودعمت عملية انتخاب أعضاء البرلمان ، استنادا – نظريا – إلى موقف البلاشفة الروس من الانتخابات البرلمانية.  ولم يكن النظام البرلمانى موضع نقد أو هجوم إلا من حيث ضعفه فى مصر.  بل و فسر الماركسيون إحجام الجماهير المدينية عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع بتخلف وعيها، رغم ان هذا الإحجام كان يتزايد طوال الفترة من 1950 حتى الآن، وتنحصر ممارسة حق الاقتراع تدريجيا بين أكثر العناصر تخلفا، فى الريف خاصة.  ولم تجر أبدا أية محاولة من قبل الماركسيين للاستفادة من هذه المقاطعة السلبية ، كما لم تطرح أبدا فكرة إقامة نظام للإدارة الذاتية.  وربما تعد الفكرة الأخيرة قافزة على إمكانيات الواقع الاجتماعى – السياسى المحلى، إلا أن أى بديل آخر يتجاوز النظام القائم لم يطرح أيضا.  ويأتى الاستثناء الوحيد بين جماعات أقصى اليسار من التروتسكيين ، الذين طرحوا فكرة الجمعية التأسيسية وشعار السوفيتات .  إلا أن التروتسكيين لم يتجاوزوا بقية المنظمات، لم يمصروا الماركسية، بل شكلوا تيار أكثر غربة فى الساحة السياسية وبالتالى أكثر عزلة، ولذلك كان تأثيرهم السياسى أقل من الجميع.  و قد تميزوا بإخلاصهم الأشد للأفكار الراديكالية للينين وتروتسكى ولكن دون استيعاب بدرجة تفوق الآخرين لخصوصية مصر، واختلافها الكبير عن روسيا القيصرية.  كما اهتموا أكثر ما اهتموا بطرح قضايا خلافية قديمة ، أى ما يعتبرونه نضالا ضد الستالينية، ولذلك كانوا كذلك اقل انخراطا فى النشاط العملى من بقية الفرق فكان حقل نضالهم الأساسى هو الأيديولوجيا، ولكن ضد الستالينية لا ضد الإسلام.
 
 ثالثا : التوجه العام ل"الحركة الشيوعية المصرية":
 
من السمات المميزة لفكر "الشيوعية المصرية" – كما ذكرنا من قبل – اعتماده على الإمداد الأيديولوجى الخارجى، بدلا من الاعتماد أساسا على الإبداع المحلى" بل ان الإبداع الخاص قد استوحى النزعة أوربية المركز Eurocenterism ، فتعامل مع الواقع المحلى كمجرد تنويع ما Variety من "النموذج" الأوروبى.  وكان معنى هذا إهمال خصوصية البناء الاجتماعى – الاقتصادى المصرى.  وكانت العناصر المحلية هى ما يخص الظروف الذاتية "للحركة الشيوعية المصرية" وموازين القوى السياسية التى تعمل فى إطارها، وكذلك الطموحات الفعلية لمنظماتها المكونة من عناصر مثقفة (أساسا، بالإضافة طبعا إلى رصد الوقائع المباشرة.
وقد تمثلت مختلف التيارات الماركسية المصرية حالة المجتمع المصرى بطرق متباينة. .  ولكن اشتركت هذه التمثلات جميعا فى منطقها العام.  فمصر مجتمع كان إقطاعيا، ينتقل أو انتقل بالفعل أو لم ينتقل بالكامل الى الرأسمالية، و"البورجوازية المصرية" حققت إذن فترة صعود تاريخى لابد أن يتلوه أو تلاه بالفعل هبوط تاريخى ، وبالتالى تصبح الثورة الاشتراكية مطروحة بعد ان تستنفذ المرحلة البورجوازية.  وعلى أساس هذا المعتقد (أو النموذج الأوروبى) جرى تفسير كل تاريخ مصر الحديث.  فحلقات الثورة البورجوازية ترجع إلى عهد الحركة العرابية وتقسيم الطبقات يتم بنفس الطريقة الأوروبية: إقطاع – رأسمالية صناعية – رأسمالية زراعية – بروليتاريا – حثالة بروليتاريا. .  الخ. .  هكذا دون النظر بعين الاعتبار لفئات هامة للغاية، مثل الفئات المهشمة ذات الوزن الكبير، وتلك التى تنتمى – نظريا – لأكثر من طبقة "أوروبية" واحدة، و طبيعة الإقطاع الشرقى و "الرأسمالية" التجارية التى ليست رأسمالية بحق، ورجال الصناعة المعرقلين لنمو الصناعة. .  كذلك الدور الخاص والفريد والمؤثر للنخبة البيروقراطية وكبار رجال السياسة ، فوق هذا كله الوضع الخاص للانتلجينسيا المصرية.  وفى النهاية يتم بناء تصور نظرى لا ينسجم إطلاقا مع الوقائع الفعلية ، منها الضعف الشديد لعمال الصناعة وقلة عددهم) عكس تخيلات أغلب الماركسيين المصريين(، والطابع الرجعى "للطبقة" المسيطرة ككل) والتى لا يمكن اعتبارها طبقة حقيقية أبدا (، خصوصا رجال الصناعة، وعجزها عن إنجاز أية مهام من الطراز البورجوازى – الأوروبى.  ولم يتم بشكل جدى تحديد ما للمفاهيم الاجتماعية – الاقتصادية الماركسية فى علاقتها بالواقع المحلى . .  بل إن القضية الوطنية قد عوملت بمنطق "أوروبى" أيضا ؛ كمجرد قضية استقلال سياسى أو فى أفضل الأحوال اقتصادى مباشر. .  إذ غابت إلى حد كبير قضية التبعية و لم توضع فى الاعتبار أثناء دراسة تطور مصر الحديثة. .  بل نجد أن الكلام عن اضمحلال الإقطاع و التراكم البدائى لرأس المال ونشوء الرأسمالية وصعودها وهبوطها يتم ببساطة متناهية وكأن هذه اللوحة مجهزة من قبل. .  ثم يفاجأ الجميع بتحولات "غريبة" ومفاجئة: "خيانة" (!) الوفد، الاشتراكية الناصرية، الانفتاح الساداتى. .  الحركة الطلابية . .  انتفاضة يناير 1977. .  ويبدو الأمر غير مفهوم أو مرتبط بعوامل عرضية أو شخصية دون اكتشاف العنصر الثابت وراء التحولات، أى طبيعة البناء الاجتماعى نفسه وخصوصيته.
وقد ساهم فى عدم استيعاب الخصوصية عدم الاحتكاك بين الماركسية والأيديولوجيا المحلية، خاصة الإسلام ، فظلت الماركسية غريبة حتى على جمهور المثقفين، تستخدم لغة غير مألوفة وحتى غير مفهومة ، ومن الخصوصيات التى أهملت بهذا الصدد أن الأيديولوجيا القديمة هنا لم تزح بواسطة أيديولوجيا بورجوازية عقلانية كما حدث فى أوروبا، بل تكون مركب من العقل والدين (أسس هذا الاتجاه محمد عبده).  ومع ذلك لم يفكر الماركسيون المصريون فى قيادة عملية التنوير بأنفسهم على نطاق المجتمع كله وهذا مما يفسر انحصار الماركسية وسط أقلية من المثقفين الأكثر تأثرا بالفكر الأوروبى والأكثر استنارة بالتالى قياسيا ببقية العناصر.  هكذا إذن. .  تفاعلت عدة عناصر مترتبة على بعضها:
- الإحجام عن النضال ضد الأيديولوجيا القديمة والحاق الهزيمة بها .
-عدم استيعاب الأيديولوجيا المحلية.
-عدم تحقيق الانتشار وسط الطبقات الشعبية الأساسية.
وقد أدى هذا التفاعل إلى عجز النخبة الماركسية عن وضع تصور عملى لتجاوز الواقع القائم.  فلا تملك القدرة المادية: نفوذ جماهيرى واسع.  ولا استيعاب للواقع المادى المحلى.  لذلك تميزت باعتدال "أوروبى" خاص لا يتناسب ظاهريا مع حالة بلد متخلف (عكس الشيوعية الصينية والفيتنامية التى كانت متطرفة فى عدائها للنظام الاجتماعى رغم تأثير الفكر الستالينى المعتدل فى هذين البلدين أيضا).  ومع وجود أمان ما فى إسقاط النظام القائم، لم تصل هذه الأمانى إلى حد وضع هدف ومشروع عملى لتنفيذ ذلك.
لقد تشكلت إنتلجينسيا ضخمة العدد وعالية الكفاءة فى إطار عملية التحديث ، وكان من الطبيعى ان تسعى لإيجاد موضع قدم مناسب لها داخل هذا المجتمع المحدث.  وقد سعت بقدر ما استطاعت أن تستخدم الصراع الاجتماعى وان تحفز حتى انتفاضات الكادحين ضد النظام. .  ولكنها لم تصل أبدا فى عدائها للسلطة وللنظام الاجتماعى إلى حد القطيعة ولم تصل أيضا فى تحريضها ودعايتها وسط الجماهير إلى حد شديد الراديكالية.  فالانتلجينسيا لم تفتقد المزايا الاجتماعية لكى تتولى بنفسها شحن الجماهير بالثورة أو النيابة عنها فى ممارسة العنف الثورى.  وفى نفس الوقت لم تنجح محاولات بعض القادة الماركسين الراديكاليين فى نشر أفكارهم على نطاق ملموس وسط الطبقات الأدنى، وحتى بين عموم المثقفين ذلك أن المزاج السياسى لدى هذه القوى كان – بوجه عام – محافظ – باستثناء فترات زمنية قصيرة للغابة.
فى كل البلدان أدخلت الماركسية على أيدى المثقفين. .  ليس هذا شيئا فريدا فى مصر.  وفى روسيا والصين استطاعت الانتلجينسيا ان تستخدم حركة الشعب فى إسقاط النظام الاجتماعى كله لحسابها الخاص بالدرجة الأولى، إذ تشكلت من الانتلجينسيا بؤرة الطبقة البيروقراطية الجديدة.  أما فى مصر فلم تسر الأمور على هذا النحو.  ويمكننا ان نرصد عنصرين شكلا هذه الظاهرة:
أولا : تدل الأيديولوجيا الماركسية التى استقبلت وانتشرت على الطابع المحافظ للانتلجينسيا المستنيرة نفسها.  ومن المؤكد أن بعض الرواد قد حاول نشر ماركسية ذات محتوى ثورى، وقد شهد تاريخ "الحركة الشيوعية المصرية" محاولات راديكالية للغاية، ولكنها ظلت محدودة تماما ولم يكتب لها النجاح ولا الا استمرار فترات طويلة.  ذلك ان جمهور المثقفين قد حدد طلبه: ووضع حدودا لثورته وتقبل بالتالى أفكارا معتدلة، منتقيا أيديولوجيا "ماركسية" تتلاءم مع تطلعاته المحدودة.
ثانيا: لا شك ان محاولات قد جرت للارتباط بالجماهير بشكل فعال ،خاصة حزب1921 – 1922 ، وحدتو.  وقد وجدنا مدى الانتشار الجماهيرى مرتبطا – بوجه عام – باعتدال المنظمات اليسارية.  ذلك ان الجماهير نفسها لم تشكل طلبا فعالا على الأفكار والشعارات اليسارية الراديكالية.  بل ظلت أكثر محافظة من المثقفين ،عدا لحظات الانفجار ، فحتى الماركسية المعتدلة للغاية لم تحقق انتشارا واسعا وسط السكان.
لذلك ظلت الماركسية محصورة فعليا فى أوساط المثقفين والعناصر المستنيرة )وهى قلة ضئيلة (من عمال الصناعة.  ولم تتطلع هذه النخبة إلى أكثر من تحسين أوضاعها فى البناء الاجتماعى القائم، وقد ضغطت بقدر ما استطاعت من أجل تحقيق هذا الهدف.  وقد علمتها التجارب ان محاولات إسقاط النظام التى دعت إليها قيادات قليلة العدد من المثقفين لا تجد آذانا صاغية وسط الجماهير المحافظة فى مجملها.  وقد تكونت هذه القناعة – غير المدَركة مع ذلك – منذ العشرينات، بل ولعبت المنظمات المحافظة بعد ذلك دورا فى محاربة المحاولات الثورية التى ظهرت من حين لآخر على يد فرد أو قلة من الأفراد.
كانت "الحركة الشيوعية المصرية" إذن أحد أهم تمثلات المثقفين الأكثر استنارة: أقصى نتاج للتحديث فى مصر.  وقد نجحت هذه فى تحقيق و انتزاع كثير من المكاسب، وقد بلغ هؤلاء قمة نضالهم فى  1952- 1945ولعبوا دورا مهما فى إسقاط النظام السياسى السابق على الناصرية دون ان ينعموا بالثمرة كلها، ولكنهم حصلوا على مكاسب ملموسة رغم ذلك، ورغم تعرض الأكثر أدلجة منهم للتعذيب فى السجون على أيدى الناصريين.
ومن الملفت للنظر ان مصر المتخلفة قد أنجبت يسارا يشبه – من حيث الشكل على الأقل – الشيوعية الأوروبية، عكس حال شرق آسيا وكوبا. .  ذلك ان مصر المتخلفة أوروبية من زاوية معينة؛إذ  نجحت الدولة فى تطبيق سياسة رشوة طويلة المدى للطبقات الأدنى، ابتداء من تشغيل أبناء الفئات الوسطى بالجملة، حتى تقديم دعم للسلع الأساسية وتوزيع الأراضى ثم فتح الجامعات على مصراعيها وتقديم الامتيازات لعمال الصناعة. .  بالإضافة الى خبرة الدولة العريقة فى ترويض الفئات الوسطى المتمردة واحتوائها.  باختصار حققت الدولة درجة من التأمين للطبقات الأدنى) دون الجماهير المهشمة قليلة الأهمية السياسية المباشرة(.
وفى النهاية يمكننا أن نتوصل إلى استنتاج عام بخصوص تشخيص "الحركة الشيوعية المصرية".  ولنلخص أطروحتنا ككل:
1- استخدمت الأيديولوجيا الماركسية فى مصر كغطاء أيديولوجى لتطلعات ونزعات تنويرية وتقدمية لدى بعض عناصر الانتلجينسيا.
2- لم تتمكن هذه الانتلجينسيا ولم تطمع جديا فى قيادات الطبقات الأدنى حتى النهاية، بل لم تتجاوز أحلامها أكثر من إعادة الاندماج فى النظام القائم بشروط افضل.
3- استخدمت شعارات تجذب الفئات الأدنى كما لعبت دورا فى تأجيج الصراع الاجتماعى، حاصلة بذلك لنفسها على فرصة لتحسين أوضاعها الاجتماعية.
                      **********************
لقد وصفنا تلك الحركة فى مقالنا هذا بالشيوعية لسبب وحيد هو انه تم التعارف عليها بهذا الاسم.  ولكن مضمونها الحقيقى كما حللناه ينفى عنها هذه الصفة تماما، فقد أطلقت على نفسها اسم الشيوعية دون ان تكون كذلك بالفعل.  فلا هى حركة بروليتارية ولا هى تهدف الى قلب النظام الاجتماعى القائم فى اتجاه الاشتراكية ولم تهدف حتى إلى إقامة جهاز دولة بروليتارى يقود التحولات اللاحقة؛ الفكرة الجوهرية فى اللينينية.  وهى أخيرا قد لجأت إلى أيديولوجيا ماركسية تحولت فيها أفكار ماركس ونظرياته إلى مذهب مغلق، وذلك فى إطار عملية أدلجة لأفكارها وتقوية دعايتها وسط الطبقات الأدنى وإرهاب النظام سياسيا وفكريا علاوة على كون استبدال الماركسية بالإسلام يمثل هدفا فى حد ذاته لهؤلاء المثقفين باعتبار الماركسية كفكر ملائمة أكثر لتكوينهم الثقافى العام.
ولم تتخذ محاولات الانتلجانسيا المستنيرة لتحسين أوضاعها الاجتماعية شكل تكوين منظمات ماركسية فقط، بك ظهرت هذه بجانب توجهات أخرى.  فقد تبنت نفس قطاعات المثقفين الأفكار الإسلامية وكذلك الناصرية وغيرها للغرض نفسه ،بل ولجا مثقفون ماركسيون – بعضهم كبار – إلى دمج الناصرية بالماركسية.  وفى السنوات الأخيرة لجأ البعض إلى خيار" سلفى تنويرى "كبديل عن الماركسية التى لم تعد السلاح الأفضل فى ظل التغيرات الدولية الجديدة.  وليس من الصدف ان نجد جحافل من المثقفين – كثير منهم من أصول ماركسية و ناصرية – تستخدم لغة دينية تبدو معقلنة وتتسق بالتالى مع ثقافتهم الحديثة، بل نجد من يحاول أن يقدم الإسلام نفسه فى صورة علمانية.
وهناك مسألة أخيرة: لقد شهدت مصر الحديثة حركات عمالية معارضة دون ان تصير شيوعية بحال من الأحوال، بل ظلت دائما أسيرة للإطار الاقتصادى أو فى افضل الأحوال تابعة ومندمجة تماما فى حركة المثقفين المسماة بالشيوعية.  وقد ساهم بعض العمال فى بناء المنظمات "الشيوعية" المصرية إلا أن المساهمة الأكبر والقيادة بل والسيادة المطلقة كانت دائما للمثقفين.  ولا نقصد فى القيادة العليا للمنظمات فحسب، بل فى جسمها الرئيسى، فالكتلة الأكبر والأهم كانت دائما تتكون من طلاب وخريجى مدارس وجامعات.  ومما لا يمكن إنكاره ان هؤلاء الماركسيين قد لعبوا دورا قياديا فى تطوير الفن والأدب والثقافة المصرية بوجه عام ولهم بصمات واضحة فى كل مجالات العمل الفكرى.  ونضيف كذلك دورهم فى تشجيع الحركة العمالية وتربيتها، إلا أن ما نؤكد عليه هو ان هذه الأخيرة لم تشكل تيارا شيوعيا؛ يناضل من اجل إقامة نظام سياسى عمالى ونظام اجتماعى اشتراكى، وإنما ظلت الحركة العمالية المصرية حركة اقتصادية أساسا ولم يتجاوز عنصرها السياسى طموحات ملهميها المثقفين.
 
                              *******************
 
 


[1] لا شك أن هناك محاولات محدودة للإبداع المحلى  منها محاولة أحمد صادق سعد الذى بذل  مجهودا ضخما لوضع نظرية خاصة بالتاريخ الاجتماعى لمصر  رغم تأثره فى رأينا بالنزعة الأوربية المركز.
 
[2] من الأمثلة الصارخة ابراهيم عامر وهو من الماركسيين  واسعى  الاطلاع والمؤدلجين تماما ، قدم تحليلا لعلاقات الإنتاج فى الزراعة المصرية قبل 1952 باسم الأرض والفلاح هو أبعد ما يكون عن مفاهيم ماركس بخصوص نمط الإنتاج الرأسمالى
 
  [3] من أبرز الأمثلة دور الحزب الشيوعى المصرى المكون من مثقفين أساسا،  معظمهم أجانب فى تفجير                إضرابات  عمالية واسعة عامى 1923 و1924
 
         [4] نحو استراتيجية اشتراكية جديدة (2) الراية العربية  الكتاب الثانى سبتمبر 1986
 
          [5]  نقصد بعدم النضج عموما هنا ليس قلة الخبرة وضعف المهارات بل ضعف البنية ككل وعدم
          قدرتها على التفاعل مع الواقع الفعلى ،فالخيار الأيديولوجى لم يعبر بحق عن خط سياسى مقرر
        سلفا كما لم يكن هذا الخيار ذو طابع دراسى علمى بل كان اختيارا أيديولوجيا سياسيا منذ البداية
        فالأفكار فى حد  ذاتها رغم طابعها الأيديولوجى  جزء من السياسة العامة للحركة الشيوعية المصرية
        والتى تبرر هى نفسها أزمة جماعات الانتليجنسيا الأكثر استنارة. 
 
       [6] من الأمور الموحية والطريفة أن الحزب الشيوعى المصرى1922 ضمن نقطة فى برنامجه تتعلق                    بإقامة  مجالس فلاحين دون أن يقر نفس الحق للعمال !! وقد وضع برنامجه  الفلاحى بناء على تعليمات
       الأممية الثالثة.                       
 
         [7] تناولنا بالتفصيل العلاقة بين الناصرية والشيوعية فى دراستنا:"الناصرية فى الثورة المضادة" ( منشورة
           على نفس ال web .