اليساريّون أفّاقون


فؤاد النمري
2018 / 11 / 23 - 17:48     

اليساريون أفّاقون
ما يؤكد أن اليساريين جميعهم دون استثناء ليسوا إلا أفّاقين هو أنه ليس لديهم أي مبدأ محدد وثابت، وأنا أتحداهم جماعات وأفرادا أن يذكروا ولو مبدأ واحداً مهما كان ضئيلاً وتافها يؤمنون به ويدافعون عنه . لعل بعضهم لا يجد استجابة على هذا التحدي الفاضح سوى الإدعاء بالديموقرطية مبدأً لهم غير أن الديموقراطية قامت في بريطانيا والطبقة الحاكمة يمينية محافظة فالديموقراطية البورجوازية ليست من بضاعة اليساريين .

هل يمثل اليساريون طبقة اجتماعية بعينها ؟
الجواب على هذا السؤال يستلزم البحث عن الطبقة الإجتماعية الأفاقة التي يمثلها هؤلاء الأفاقون . إنها الطبقة البورجوازية الوضيعة (Petty Bourgeoisie) التي لا دور لها في التطور الإجتماعي ولذلك هي على الدوام أفاقة . فهي في النظام الرأسمالي كما في النظام الإشتراكي في حالة مقاومة مستمرة، لكنها مقاومة إلى اللامكان، تقاوم كيلا تتحول إلى بروليتاريا خلافاً لحكم التاريخ، وقد دمغها كارل ماركس وفردريك إنجلز بالرجعية دائما وأبداً، وهي لذلك أيضاً تحمل دمغة الأفاقين.
في هذا السياق نستذكر لينين، وهو من يُستذكر في مختلف المقامات، حيث تنبأ قبل الثورة قائلاً .. غداً عندما يستلم البلاشفة السلطة ستنهال على حزبنا البورجوازية الوضيعة زرافاتٍ ووحدانا مما يوجب على حزبنا إذاك أن يكون صارما معها . ولذلك طالب لينين قيادة الحزب في العام 22 أن تطرد من الحزب 100 ألفاً من الأعضاء المشتبه بشيوعيتهم أي الأفاقين . وفعلاً لم يستطع أن يطرد الحزب أكثر من 20 ألفاً كان منهم زوجة ستالين التي لم تذكر للمحققين من هو زوجها . وإذاما أخذنا جانب لينين في هذا المقام فلنا أن نفترض أنه ما زال في الحزب 80 ألفاً من الأفاقين نجحوا بانتحال شخصية الشيوعي وهو مهنة الأفاقين الرئيسة .

عندما استولى الجيش الأصفر – الأحمر سابقاً – على كامل السلطة السوفياتية حال رحيل ستالين في العام 53 وجد من يدعمه في الحزب من الأفاقين الذين لم ينجح الحزب في التعرف عليهم وطردهم من الحزب في العام 22 من أمثال خروشتشوف وزبانيته . كان من قواعد العمل الشيوعي بموجب النظام اللينيني هو أن يطهر الحزب نفسه إثر كل مؤتمر عام له ويتخلص من الأعضاء المتحدرين من طبقة البورجوازية الوضيعة دون أن يتمكنوا من التطهر من كل آثارها . ذلك ما جرى في العامين 36 – 38 . أما فيما بعد العام 38 وقد بدأ الاتحاد السوفياتي الاستعداد للحرب وحتى نهاية الحرب وإعادة الإعمار وحتى العام 52 تعذر القيام بتطهير الحزب حيث كانت الحرب ضد العدو الوحشي الغادر حرباً وطنية حاربها الجميع بغض النظر عن إنتمائهم الطبقي . ما يلزم التوقف عنده قبل كل مراجعة ونقد للمشروع اللينيني المتمثل بالإتحاد السوفياتي هو أن الهيئة العامة للحزب في المؤتمر العام التاسع عشر في نهاية العام 52 عارضت توجه ستالين في تطهير الحزب بدءاً بإزاحة جميع أعضاء المكتب السياسي وإحالتهم إلى التقاعد وهو ما تسبب باغتيال ستالين بالسم من قبل ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي الذين لم يتطهروا من الخلق البورجوازي الوضيع .
في العام 65 حذرت الحزب الشيوعي الأردني من أن طغمة خروشتشوف في الكرملين هي معادية للإشتراكية وأن اصطفاف الحزب خلفها يجعل من الحزب معادٍ للشيوعية . ولما لم يتنحوا عن طغمة خروشتشوف حتى بعد طرد خروشتشوف ابتعدت عن الحزب وعانيت جرّاء ذلك من الجوع والمهانة .
في النصف الثاني من الثمانينيات بدت وجوه الأفاقين في الأحزاب الشيوعية تطفح بالتفاؤل بقيادة غورباتشوف يرفع راية "البريسترويكا" و "الغلاسنوست" أي إعادة البناء والشفافية ؛ ونشر اليساري المعروف الدكتور فؤاد زكريا مقالاً في جريدة كويتية يستبشر بغورباتشوف وسياساته، وقال فيما قال أن البشرية كانت محظوظة باعتماد غورباتشوف التزلف والنفاق حتى الوصول إلى قمة القيادة، فرددت علية حينذاك في جريدة الرأي الأردنية أقول .. سرعان ما ستندم يا زكريا على ما تقول . وفعلاً لم تمضِ سنوات قليلة حتى انهار الاتحاد السوفياتي بقيادة غورباتشوف .

إنهار الإتحاد السوفياتي على أيدي "الشيوعيين" الأفّاقين في العام 91 بعد عام واحد فقط مما تنبأت في العام 63 وكان من الطبيعي أن يتوب الشيوعيون الأفّاقون عن تأفّقهم، غير أن ما حدث هو العكس تماماً فكان أن ازدادوا تأفقاً وسموا أنفسهم "يساريين" ؛ لئن كان الشيوعي ملتزما، ظاهرياً على الأقل، بمبادئ الماركسية المعلومة فاليساري طليق الفكر واللسان ولا يلتزم بأية مبادئ، ومحور التأفق لديه واسع الحدين يمينا وشمالاً ؛ مبدؤهم الوحيد هو التأفق، التأفق الوقح الذي لا يحده أفق ثابت . هم في الأصل لم يسموا أنفسهم باليساريين إلا ليتخلصوا من إسار الماركسية المحكم . يتقوّلون بالديموقراطية والعدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان ولدى فحص هذ التقولات يتبين أن جميعها ليست ذات معنى محدد وثابت . هي أقوال لا يتقولها إلا أفاقون .
في العام 94 كما أتذكر جيداً زارني أحد قادة الحزب الشيوعي وكان أكثر الساخطين عليّ في الحزب منذ انفصالي في العام 65، زارني بعد قراءة كتابي "أزمة الإشتراكية وانهيار الرأسمالية " الصادر في العام 92، زارني ليقول لي .. " يحق لك يا رفيق أن تبصق في وجوهنا !! " ؛ رفضت قوله بغضب، ليس لأن قائد الحزب ومؤسسه فؤاد نصار له فضل كبير على كل الشيوعيين في الأردن وكان إذاك تحت التراب وكذلك مساعده فهمي السلفيتي بالرغم من أن علاقتي بالحزب انتهت عبر مشادة عاصفة معه إلا أنه كان يعترف لرفاقه بأن فؤاد النمري شيوعي حقيقي . كنت وما زلت أحترم هذين القائدين الشيوعيين بالرغم من أنهما سمحا لعصابة خروشتشوف بتضليلهما لكنهما لم يعلنا نفسيهما يساريين، حيث الشيوعي يسترشد بمنارة الماركسية دون انحراف إلى اليمين أو اليسار كما أكد لينين في المؤتمر العام العاشر للحزب في العام 21 .

أولئك اليساريون الذين ليس لهم تاريخ في مسيرة الشيوعية، ليس للشيوعيين أن يقرعوهم أو يبصقوا في وجوهم بالرغم من أنهم ليسوا أقل تأفقاً من الذين لهم تاريخ طويل في مسيرة الشيوعية وانقلبوا اليوم بعد انهيار المشروع اللينيني إلى يساريين أفاقين فما كسبوا إلا العار والشنار .