ثورة المجر 1956: خريف الأمل

مايك هاينز
2018 / 10 / 25 - 09:57     


وافَقَ 23 أكتوبر الجاري الذكرى الثانية والستين لثورة المجر عام 1956. اندلعت الثورة ضد السيطرة الاستبدادية للحزب الشيوعي المجري الستاليني الموالي للسوفييت، بزعامة ماتياش راكوشي، الذي عُرِفَ بسياساته الاستبدادية، وفضحت الطابع المعادي للثورة للاتحاد السوفييتي آنذاك.

تثبت الثورة المجرية، كما تثبت جميع الثورات، قدرة الجماهير على تحدي أعتى الديكتاتوريات القمعية مهما بلغت وحشيتها، وأن استمرار سلطات الاستبداد لا يعني على الإطلاق أن زمن الثورات قد ولَّى أو أن الجماهير فقد فَقَدَت إلى الأبد قدرتها على المقاومة. لكن ما تميَّزَت به ثورة المجر عن كثيرٍ من الثورات الأخرى هو قدرة الجماهير على تنظيم نفسها من خلال شبكةٍ من المندوبين المُنتَخَبين انتخابًا مباشرًا من المصانع والجامعات والأحياء، في مجالس ديمقراطية كانت بمثابة أجهزةٍ لتوحيد الحركة الجماهيرية وتنظيمها، وكذلك لتنظيم السيطرة على الإنتاج في المصانع وتسيير شئون الحياة اليومية.

إن تنظيم الجماهير لنفسها، لاسيما بصورةٍ ديمقراطية كهذه، هو أكثر ما تخشاه السلطات الديكتاتورية، وإلا لما كانت موسكو لترسل دباباتها زاحفةً نحو بودابست لقمع الثورة. مُنِيَ ثوار المجر في نهاية المطاف بالهزيمة تحت جنازير الدبابات السوفييتية وقصف نيرانها. ورغم ذلك، حقَّقَت هذه الثورة الوجيزة في أسابيعها المحدودة، من حيث وعي الجماهير وتنظيمهم، ما لم يكن من الممكن أن يحدث في سنين وعقود سابقة. لا تزال هذه الثورة تحجز لنفسها مكانةً مهمة في التاريخ كمصدرٍ لخبراتٍ ودروسٍ ثورية، لعل أحدها هو أن الثورة الجماهيرية تحتاج إلى إعدادٍ صبور وطويل المدى لضمان انتصارها.
———

ربما فضحت ثورة المجر في العام 1956، أكثر من أيِّ حدثٍ آخر، الوجه الحقيقي لما أُطلِقَ عليه “اشتراكية” الكتلة الشرقية والاتحاد السوفييتي. ما بدأ في روسيا عام 1917 كثورةٍ عماليةٍ عميقة، تفسَّخَ في ظلِّ حكم جوزيف ستالين ليتحوَّل إلى نظامٍ إمبريالي يفرض هيمنته بالقوة تحت حماية الدبابات. حين انفجرت الثورة في المجر، في أواخر أكتوبر 1956، كان المطلب الرئيسي في المصانع والشوارع هو اشتراكية حقيقية تنهض من أسفل.

كان ذلك هو العام الذي بدأت فيه الدول التابعة للاتحاد السوفييتي الانفلات من قبضته. في فبراير من العام نفسه، ألقى الزعيم السوفييتي آنذاك، نيكيتا خروتشوف، “الخطاب السري” (1) الذي كَشَفَ فيه جرائم جوزيف ستالين. كان من شأن ذلك أن فَتَحَ الباب أمام المجادلات، وساعَدَ في زعزعة ثقة قادة الكتلة السوفييتية.

انطلقت الاحتجاجات في بادئ الأمر من بولندا، وحين بدا أن القوات الروسية قد تُقدِم على قمعها، نظَّمَ الطلاب المجريون مظاهرةً تضامنية دعمًا لأولئك الساعين للتغيير في بولندا. هذه المظاهرة، التي تجمَّعَت في العاصمة المجرية بودابست في 23 أكتوبر، هي التي حفَّزَت الانتفاضة.

أدهشت الانتفاضة الجميع، إذ كانت المجر ربما أكثر دول الكتلة الشرقية ستالينيةً خلال الخمسينيات. رزحت البلاد تحت حكم ماتياش راكوشي، الذي تفادى التحدي الذي مثَّله له الإصلاحي إيمري ناجي (2)، بإقالته من مهامه في السلطة. لكن في العام 1956، كانت سلطة راكوشي تخور قواها، ووفقًا للصحفية البريطانية دورا سكارليت، التي كانت آنذاك شيوعيةً مخلصة تعمل في بودابست، فقد كانت المجر “في رحلةٍ إلى الحقيقة”. وبحلول صيف العام نفسه، ساد التوتُّر والتردُّد أروقة النظام رغم قوى القمع الهائلة التي كانت رهن إشارتهم.

انضم عشرات الآلاف من العمال إلى طلاب بودابست المحتجين، وحتى قوات الشرطة بدت متعاطفةً مع الاحتجاجات. انتاب الفزع القيادة المجرية، وبحلول الليل بدأت القوات الروسية في الزحف نحو العاصمة. وبعد أيامٍ عديدة من الاشتباكات العنيفة، انتقلت السلطة إلى إيمري ناجي، الذي كافَحَ من أجل فرض رؤيته الإصلاحية وإقناع موسكو بأنه يستطيع احتواء الاحتجاجات. همَّت القوات الروسية بالانسحاب في نهاية المطاف وبدأت الاحتجاجات في التراجع.

لكن المجر بعد ذلك لم يعد كما كان ذي قبل. كَتَبَ المراسل الشيوعي البريطاني بيتر فراير آنذاك عن الأحداث التي غيَّرت رؤاه إلى الأبد، قائلًا: “لم تكن تلك ثورةً مضادة أشعلها فاشيون ورجعيون (3). كانت انتفاضة الشعب بأسره، شارك فيها أيضًا الشيوعيون من قواعد الحزب، ضد الديكتاتورية البوليسية المدعومة بالقوة العسكرية السوفييتية”.

الجماهير تنظم صفوفها
سرعان ما نشأت مجالس ثورية عبر أرجاء المجر. كَتَبَ فراير عن ذلك: “ظهرت المجالس على الفور من تجمُّعاتٍ للمندوبين المُنتَخَبين من المصانع والجامعات والمناجم ووحدات الجيش. لم تكن هذه المجالس أجهزةً للعصيان الجماهيري فحسب، بل أيضًا هيئاتٍ لحكومةٍ شعبيةٍ ذاتية”.

كانت المجر في أكتوبر ونوفمبر من العام 1956 أشبه بروسيا خلال ثورتيّ 1905 و1917. كانت العاصمة آنذاك، وفقًا لفراير، “مدينةً ثورية مُسلَّحة، شعبًا مُدجَّجًا بالسلاح من أجل الثورة … لتضيف اسمًا جديدًا خالدًا إلى قائمة المدن المناضلة عبر العالم: باريس، بتروجراد، كانتون، مدريد، وارسو -هذا الاسم هو بودابست”.

بمجرد أن بدأت الشرارة الأولى للاحتجاجات، حتى تسارَعَ التجذير السياسي بصورةٍ هائلة. بدا الإصلاحيون، الذين تجرَّأوا على تحدي النظام في ما قبل أكتوبر 1956، مُتردِّدين ومشلولين. كَتَبَ أحد أعضاء اتحاد الشباب آنذاك، قائلًا: “كنَّا في صدارة النضال من أجل الحرية، والآن (حين اندلعت الثورة) صرنا في كومة القمامة”.

منذ أن اندلعت تلك الثورة وحتى الآن، حاول كثيرون تصويرها على أنها مجرد ثورة ديمقراطية، بينما لم تكن هناك أيُّ إشاراتٍ إلى أن الشعب أراد تحويل النظام المجري من رأسمالية الدولة الستالينية إلى رأسمالية السوق الحرة على النُسُق الغربي. كانت تلك ثورةً تردَّدَت أصداؤها في قرارات اللجان العمالية المختلفة، والصحف والمنشورات الثورية التي كانت تصدر على عجالةٍ لمواكبة التطوُّرات.

كان ذلك ما عبَّر عنه، على سبيل المثال، المنشور الصادر من عمال السكك الحديدية بمدينة جيور، في آتون الثورة: “نقف بحزمٍ ضد إعادة الأراضي إلى الأرستقراطية، أو الصناعة والبنوك إلى الرأسماليين. وفي الوقت نفسه، نقف بحزمٍ ضد عصبة راكوشي الستالينية”. كان العمال المجريون يتلمَّسون طريقًا لرؤيةٍ جديدة لما تبدو عليه الاشتراكية.

قُتِلَ الكثير من عملاء الشرطة السرية المكروهين، وأحيانًا كانوا يُترَكون يتدلون من على المشانق. لكن أعداد هؤلاء تبدو باهتةً للغاية إذا ما قورِنَت بضحايا القوات التي جاءت لفرض “النظام”.

“النظام”
المُذهِل حقًا في ثورة المجر هو النظام الذي فَرَضَه أبناء الثورة على أنفسهم. الكثير من رجال الشرطة كانت مجالس العمال تنقذهم من القتل. في المحال المُتضرِّرة وسط العاصمة بودابست، حسبما كَتَبَ مراسلٌ بولندي، كانت “الأحذية، ولعب الأطفال، وزجاجات النبيذ، وغيرها مكشوفةً أمام الجميع، لكن في مواضعها المثالية. لم تكن ثمة أيدٍ تمتد للاستيلاء عليها”. وتذكر سكارليت أن أحد المحال علَّق لافتةً مكان النافذة مكتوبٌ عليها: “جميع السلع مُؤمَّنةٌ في المخزن. نحن المجريون لا نعرف النهب”. هذا النظام الجديد كان جزءًا من مظاهر الإبداع في هذه الثورة.

بعد الموجة الأولى من القتال، سعى ناجي وغيره من الإصلاحيين داخل الحزب الشيوعي لاستعادة السيطرة، وبدأ ذلك في الحدوث بالفعل في 3 و4 نوفمبر. في ذلك الوقت، التقت مجموعةٌ من الصحفيين البولنديين في فندقٍ ببودابست لمشاركة انطباعاتهم حول جولاتهم في أرجاء المجر، وما اتفقوا عليه هو أن “هذا البلد يدخل مرحلةً من الهدوء، والحكومة قد تأسَّسَت بالفعل مدعومةً بالقوى الثورية”.

كان العمال ليعودوا إلى مصانعهم وماكيناتهم، لكن كان عليهم أيضًا أن يُقرِّروا كيف سيديرون المصانع، وكيف ستكون صلتهم بالحكومة. أما في موسكو، فبعد بعض التردُّد، رأت القيادة الروسية أن هذا تحدٍ خطيرٌ للغاية لسلطتها على المجر. وفي فجر 4 نوفمبر، أرسلت قواتٍ جديدة إلى العاصمة بودابست بالتحديد. وهناك اندلعت موجةٌ أخرى من القتال كانت أكثر دمويةً وتدميرًا في بودابست. كانت الدبابات الروسية، وفقًا لدورا سكارليت، “تُطلِق القذيفة تلو الأخرى على المباني التي تشتبه بها”.

قُتِلَ ما يقرب من 2500 شخص، وأُصيبَ ما يزيد بكثير عن هذا العدد، في موجتين من القتال في الشوارع. وفي غضون أسبوع واحد، كانت الدبابات الروسية قد استأصلت المعارضة من شأفتها، رغم المقاومة البطولية من المدنيين العُزَّل من السلاح تقريبًا.

مجالس العمال
في الأسابيع اللاحقة، فرَّ 200 ألف مجري، من إجمالي 10 مليون مواطن هم سُكَّان المجر، خارج البلاد. لكن الثورة لم تكن قد وضعت أوزارها بعد، بل صارت مجالس العمال أثقل وزنًا من ذي قبل. عَقَدَ الروس صفقةً مع الشيوعي المجري يانوش كادار، وبناءً على هذه الصفقة صار كادار قائدًا جديدًا للحزب الشيوعي، إذ استبدل إيمري ناجي، وبال ماليتار، الذي كان يحاول إنشاء جيش مجري جديد. ولاحقًا، حوكِم ناجي وماليتار وآخرون وأُعدَموا.

لم يكن كادار يجلب إلا المزيد من الدبابات الروسية من أجل المزيد من القمع، لكن الروس والدُمى المجرية التي تحكَّموا فيها واجهوا مقاومةً في كلِّ مكان. كانت مجالس العمال رغم القمع تسيطر على المصانع، واستمر النضال حتى ديسمبر. كانت السلع الأساسية تُنتَج تحت سيطرة مجالس العمال، ودشَّنَ العمال المجريون واحدًا من أعظم الإضرابات العامة وأكثر استدامةً في تاريخ العالم.

كان ذلك شكلًا من أشكال ازدواجية السلطة، لكن الصعوبة التي واجهها قادة مجالس العمال هي أنهم كانوا -عمليًا- يناضلون في بلدٍ مُحتَل يرزح تحت الأحكام العرفية. وعلى الرغم من أنهم حاولوا بناء الروابط بينهم وتطوير تنظيم، بدأ نظام كادار في تطويق مجالس العمال ومحاصرة قياداته.

حلَّت النهاية في ديسمبر ويناير باعتقالاتٍ واسعة النطاق ومذابح جديدة للعمال المحتجين. كان العدد الأكبر من المُعتَقَلين -أولئك الذين كان من نصيبهم أحكام السجن الأطول مدةً بعد كبار القادة- هم قادة مجالس عمال المجر. ذلك النظام الذي بُنِيَ على الكذب، لم يكن من الممكن الحفاظ عليه قائمًا إلا بالقوة الغاشمة. لكن الكذبة الأكبر لهذا النظام كانت أن النظام الذي ترعرع في روسيا، والذي فُرِضَ بالقوة في المجر، كان نظامًا “اشتراكيًا”، وأنه لم يكن ثمة بديلٌ له سوى رأسمالية السوق الحرة الغربية.

ناضَلَ العمال المجريون في 1956 وضحى كثيرٌ منهم بحياته من أجل عالمٍ مختلف. في القلب من هذا العالم المأمول كانت فكرة مجالس العمال التي تبني سلطةً جديدةً من أسفل. بعد عقودٍ من هذه الثورة، جاءت موجة ثورات 1989 لتطيح أنظمةً كانت عارًا على اسم الاشتراكية. وحتى بعد مرور كل تلك العقود، لا تزال ثورة المجر تحمل دروسًا ومعانٍ صالحةً لعقودٍ أخرى.

هوامش:
(1) كان ذلك تقريرًا سياسيًا قدَّمَه خروتشوف أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي في فبراير 1956، حمل عنوان “عن عبادة الشخص وعواقبها”، وعُرِف باسم “الخطاب السري” الذي جرى تسريبه في ما بعد بوقتٍ قصير – المترجم.
(2) أُعدِمَ في 18 يونيو 1958 – المترجم.
(3) الدعاية السوفييتية التي سعت وقتذاك لتشويه ثورة المجر تركَّزَت حول اتهام المتظاهرين بالفاشية والرجعية، وفي مصادر أخرى اتهام قادة الاحتجاجات بالعمالة للاستخبارات المركزية الأمريكية – المترجم.

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة العامل الاشتراكي البريطانية.