البيان الشيوعي، بعد 170 عامًا - د.سمير أمين


أحمد البلتاجي
2020 / 8 / 12 - 23:52     

1

ما من نصٍ كُتب في منتصف القرن التاسع العشر وحافظَ على تماسكه، كما فعل البيان الشيوعي "المانيفستو" الذي كتبه كارل ماركس وفريدريك إنجلس عام 1848. حتى اليوم، فإن فقراتٍ كاملةً منه توافق الواقع المعاصر بأفضل مما فعلت مع واقع 1848. انطلاقًا من المقدمات التي كانت ملحوظةً بالكاد في عصرهم، رسم ماركس وإنجلس الاستنتاجات التي أكدتها تمامًا تطورات 170 عامًا من التاريخ.

أكان ماركس وإنجلس أنبياءً مُلهَمين، سحرةً قادرين على النظر في بلورةٍ من كريستال، أو أشخاصًا ذوي حدسٍ استثنائيّ؟
لا، لقد أدركوا فحسب، أفضل من أي شخصٍ آخرَ في زمنهم أو زمننا، جوهر ما يحدد الرأسمالية ويميّزها. كرّس ماركس حياته لتعميق هذا التحليل من خلال الاختبار المُزدوج للاقتصاد الجديد مُبتدئًا بنموذج إنجلترا، والسياسات الجديدة بدايةً من نموذج فرنسا.

يمثل كتاب ماركس رأس المال تحليلًا علميًّا صارمًا لنمط الإنتاج الرأسمالي والمجتمع الرأسمالي، وكيف يتمايزان عن التشكيلات السابقة. الجزء الأول يتوغل في قلب المسألة. يوضح مباشرةً ما يعنيه تعميم التبادل السلعي بين حائزي الملكية الخاصة (الظاهرة التي ينفرد بها -في مركزيّتِها- العالم الرأسمالي الحديث، برغم الوجود الأسبق للتبادل السلعي)، وتحديدًا ظهور وهيمنة القيمة والعمل الاجتماعي المُجرَّد. على هذا الأساس، يقودنا ماركس لفهم كيف أن بيع البروليتاري/ة لقوة عمله/ها إلى "مالك النقود" يؤمِّن إنتاج فائض القيمة الذي يستولي عليه الرأسمالي، والذي يمثّل تِباعًا، شرط تراكم رأس المال. لا تحكم هيمنة القيمة إعادة إنتاج النظام الاقتصادي الرأسمالي وحسب، بل أيضًا كل جوانبِ الحياة الاجتماعية والسياسية الحديثة. يشير مفهوم الاغتراب السلعي [فيتيشية السلعة-المترجم] إلى الآلية الأيديولوجيّة التي يتجلّى من خلالها إعادة الإنتاج الاجتماعيّ.
هذه الأدوات الثقافية والسياسية، صُدِّقَ عليها عبر تطور الماركسية، وأظهرت جدواها في التنبؤ السليم بالتطور التاريخي العام للواقع الرأسماليّ.
لم تفلح أية محاولةٍ للتفكير في هذا الواقع من خارج الماركسية -و غالبًا ضدها- في الوصول إلى نتائجَ مشابهة. إن الانتقادات التي وجهها ماركس لأُطر الفكر البرجوازيّ، وخاصةً علمُه الاقتصادي الذي وصفه مُصيبًا بـ"المبتذَل"، هي بكلمةٍ: مُحكَمة. حيث أنه - الاقتصاد البرجوازي- غير قادرٍ على فهمِ ماهيةِ الرأسمالية في واقعها الجوهريّ ، كما أن هذا الفكر المُغترِب لا يمكنه تخيلُ إلى أين تتجهُ المجتمعاتُ الرأسمالية. هل سيتشكّل المستقبل بواسطة ثوارتٍ اشتراكية تُنهي هيمنةَ رأس المال؟ أم سينجح رأس المال في إطالةِ أيامه، فيمهدُ السبيلَ لانحطاطِ المجتمع؟
يتجاهل الفكر البرجوازي هذا السؤال الذي يثيره المانيفستو.

بالفعل، إننا نقرأ في المانيفستو أنّ هنالك «حربًا كانت تنتهي في كل مرةٍ إما بتحولٍ ثوريٍ للمجتمع كله، وإما بهلاكِ كلتا الطبقتين المتصارعتين.». [الاقتباسات من المانيفستو بترجمة د.عصام أمين، وبتعديل بسيط من جانبي-المترجم]

لقد جذبت هذه الجملة اهتمامي لزمنٍ طويل. وانطلاقًا منها، تقدّمت لصياغة قراءةٍ لحركة التاريخ، تركز على مفهوم التطور اللامتكافئ ومختلف العمليات المُمكنة لتحوّلاته الناشئة -على الأرجح- من الأطراف عوضًا عن المراكز. كما قمت بمحاولاتٍ لتوضيح كلٍ من نموذجَيّ الاستجابة للتحديّات: الطريق الثوريّ وطريق الانحطاط.

باستنباطي لقوانين المادية التاريخية من التجربةِ العالمية، قدّمت صياغةً بديلة لواحدٍ من الأنماط ما قبل الرأسمالية المتفرِّدة، ألا وهو النمط الخراجيّ، الذي تنزع إليه كل المجتمعات الطبقية. هكذا يعبّر تاريخ الغرب -بناء الإمبراطورية الرومانية وانحلالها، تأسيس أوروبا الإقطاعية، ونهايةً تبلور الدول الاستبدادية في الحقبة الميركنتلية- بطريقةٍ محددة، عن الميل الأساسيّ -المُبرَز في مواضعَ أخرى- نحو البناء المُتقطِّع بدرجةٍ أقّل لدولٍ خراجيةٍ كاملة، والتي تعد الصين المثال الأبرز لها.
النمط العبودي ليس عالميًّا حسب قراءتنا للتاريخ، وكذلك النمط الخراجي والرأسمالي، إنه نمطٌ محدَّدٌ ويظهر ضمن الارتباط الوثيق بمدى تمدد العلاقات السلعية. علاوةً على هذا، فالنمط الإقطاعي هو الشكل البدائيّ غير المكتمل للنمط الخراجي.

هذه الفرضية تعرض تأسيس روما وانحلالها اللاحق كمحاولةٍ غير ناضجة نحو البناء الخراجي. لم يتطلّب مستوى تطور قوى الإنتاج المركزةَ الخراجية على صعيد الإمبراطورية الرومانية. لذا فقد تبع هذه المحاولة الأولى المُخفقة، انتقالٌ إجباري عبر التفتيت الإقطاعي، والذي على أساسه تم استعادة المركزة في إطار الملكيات الاستبدادية الغربية. عندها فقط اقترب نمط الإنتاج في الغرب من النموذج الخراجي الكامل. بالإضافة إلى ذلك، فإنه بدءًا من هذه المرحلة فقط، قد وصل مستوى تطور قوى الإنتاج في الغرب إلى مستوى التطور في النمط الخراجي الكامل للإمبراطورية الصينية. هذه ليست مصادفةً بلا شك.

تخلُّف الغرب، ممثلاً في سقوط روما والتفتيت الإقطاعي، أظهر فائدةً تاريخيةً بالقطع. اتحاد عناصر معينة من النمط الخراجي القديم ومن أنماط المشاعةِ البدائية، ميّز الإقطاعَ ومنح الغربَ مرونته. هذا يفسر السرعة التي اختبرت بها أوروبا المرحلة الخراجية الكاملة، وسرعان ما تجاوزت مستوى تطور قوى الإنتاج في الشرق، التي استحوذت عليه، منتقِلةً إلى الرأسمالية. هذه المرونة والسرعة تتباين مع التطور الجامد والبطيء نسبيًا للأنماط الخراجية الكاملة في الشرق.

الحالة الرومانية-الغربية ليست المثال الوحيد لبناء خراجي مجهَض بالقطع، فبإمكاننا تحديد ثلاث حالاتٍ أخرى على الأقل من نفس النوع، لكلٍ منها ظروفها الخاصة: الحالة البيزنطية-العربية-العثمانية ، الحالة الهندية، والحالة المغولية. في كلٍ من هذه الوقائع، كانت محاولاتُ إقامةِ نظامٍ خراجي للمركزة سابقةً للغاية على متطلبات تطور قوى الإنتاج كيما تكون مؤسسَةً بإحكام. في كل حالةٍ، كانت أنماط المركزة في الأغلب تركيباتً محددة من وسائل الدولة،الوسائل شبه الإقطاعية، والوسائل السلعية. في الدولة الإسلامية، على سبيل المثال، لعبت مركزة السلع الدور الحاسم. كما ولا بد وأن الفشل الهندي المتتابع يرتبط بمضمون الأيديولوجية الهندوسية، التي قارنتها بالكونفوشيوسية. بالنسبة للمركزة في إمبراطورية جنكيز خان، فقد كانت كما نعلم، قصيرة العمر جدًا.

النظام الإمبريالي المعاصر بدوره نظامٌ لمركزة الفائض على الصعيد العالمي.هذه المركزة تعمل عملها على قاعدة القوانين الأساسية للنمط الرأسمالي وشروط تسيُّده على الأنماط ما قبل الرأسمالية في الأطراف التابعة. لقد قمت بصياغة قانون تراكم رأس المال على الصعيد العالميّ كتعبير عن قانون القيمة مُوظّفًا على المستوى العالمي.يتميز النظام الإمبريالي لمركزة القيمة بتسارع التراكم وتطور قوى الإنتاج في مركزالنظام، بينما تكون هذه القوى مقيَّدةً ومشوَّهةً في الأطراف. التنمية والتخلف وجهان لعملةٍ واحدة.

وحدهم الناس من يصنعون تاريخهم. لا الحيواناتُ ولا الجمادُ بمقدورهم التحكم في تطورهم، إنهم خاضعون له. مفهوم البراكسيس [لممارسة التغييرية المُجسَّدة للنظرية-المترجم] ملازمٌ للمجتمع، كتعبيرٍ عن التأليف بين الحتمية وتدخّل الإنسان. العلاقة الجدلية بين البنية الفوقية والبنية التحتية تلازم المجتمع أيضًا، ولا مكافئ لها في الطبيعة. هذه العلاقة ليست أحاديةَ الجانب. البنية الفوقية ليست انعكاسًا مباشرًا لمتطلبات البنية التحتية. لو كان الأمر كذلك، لظَل المجتمع مّغترِبًا على الدوام ولاستحالت معرفة كيف ينجح في تحرير نفسه.

هذا هو السبب الذي دفعنا إلى التفرقة بين نوعين مختلفين كيفيًّا للتحول من نمط إنتاجٍ إلى آخر. إن كان النمط قد تطور بصورةٍ لا واعية، أو بواسطة وعيٍ مُغترِب، وهذا عندما لا تسمح الأيديدولوجيا التي تحكم الطبقات بالتحكّم في عملية التغيير، حينها تظهر العملية وكأنها مطابِقةٌ للتغيّر الطبيعي، وتصبح هذه الأيديولوجيا جزءًا من الطبيعة. لهذا النوع احتفظنا بتعبير "نموذج الانحطاط". على النقيض، إذا ما ألمّت الأيديولوجيا بالأبعاد الحقيقية للتغيّرات المرغوبة في كلِّيَّتِها، حينها فقط يمكننا الحديث عن ثورة.

حريٌ بالفكر البرجوازي تجاهل هذا السؤال، كي يمكنه النظر للرأسمالية كنظامٍ عقلانيٍّ أبديّ، كي يتمكن من التفكير في "نهاية التاريخ".

2

على النقيض، شدد ماركس وإنجلس مذّ كتبا المانيفستو،على أن الرأسمالية بمثابة جملة اعتراضية قصيرة في سياق التاريخ الإنساني. على أية حال، لم يتجاوز نمط الإنتاج الرأسمالي في زمنهما حدود إنجلترا، بلجيكا، منطقةً صغيرة من شمال فرنسا، أو الجزءَ الغربيّ من ويستفاليا البروسية. لم يتواجد شيءٌ مماثل في منطقةٍ أخرى من أوروبا. برغم ذلك، تصور ماركس بالفعل أن الثورات الاشتراكية ستقوم "سريعًا" في أوروبا. هذا التوقع واضحٌ في كل سطرٍ من المانيفستو.

لم يعلم ماركس بالطبع، في أي بلدٍ ستبدأ الثورة. هل في إنجلترا، البلدُ الوحيد المتقدم رأسماليًا؟ لا. لم يرى ماركس ذلك ممكنًا إلا إذا حررت البروليتاريا الإنجليزية نفسها من دعمها لاستعمار أيرلندا. هل في فرنسا، الأقل تقدمًا في تطورها الرأسماليّ، والأكثر تقدمًا فيما يخصّ النضج السياسي لشعبها، الموروثُ من ثورتها العظمى؟ ربما، وكوميونة باريس 1871 قد أكدت حدسه. للسبب ذاته، عوّل إنجلس على ألمانيا "المتخلفة": الثورة البروليتارية والثورة البرجوازية في ألمانيا قد يصطدمان معًا. في المانيفتسو، يشيران إلى هذه العلاقة:
«إلى ألمانيا يُوجِّه الشيوعيون اهتمامهم الرئيسي، لأنّ ألمانيا على أعتاب ثورة برجوازية، لأنّها ستـنجز هذا التحول في شروط الحضارة الأوروبية الأكثر تقدمًا، ومع بروليتاريا نامية للغاية، أكثر منها في إنجلترا في القرن السابع عشر، وفي فرنسا في القرن الثامن عشر، لأنّ الثورة البرجوازية الألمانية بالتالي لا يمكنها إلاّ أن تكون استهلالا مباشرا لثورة بروليتارية.».

لم يحدث هذا: فتوحيد بروسيا الرجعية تحت إمرة المحتال التاريخيّ (بِسمارك)، والجبن والضحالة السياسية للبرجوازية الألمانية الوطنية أتاح للقومية الانتصارَ وهمّش الغضب الشعبيّ.
قرب نهاية حياته، وجه ماركس نظره نحو روسيا، التي توقع إمكانية التحاقها بالمسار الثوريّ. كما تشهد مراسلاته مع ڤيرا زاسوليتش.

امتلك ماركس بالتالي حدسًا بأنّ التحول الثوري قد يبدأ من أطراف النظام، "الحلقات الأضعف" بتعبير لينين لاحقًا. لكنه على أية حال، لم يضع في حينه مخططًا لكل الاستنتاجات التي عرضت نفسها في هذا الصدد. كان من الضروريّ انتظارُ تقدم التاريخ إلى القرن العشرين كي نرى مع ف.إ.لينين وماو تسي تونج، تمكُّنَ الشيوعيين من تصور استراتيجيةٍ جديدة، تتسم بـ"بناء الاشتراكية في بلد واحد". هذا تعبير غير مناسب، أفضل صياغةً أطول بدلاً منه:
"التقدم اللامتكافئ على الطريق الطويل للانتقال إلى الاشتراكية، الواقع في عددٍ من البلدان، التي تتحدد استراتيجية الإمبريالية المُهيمِنة ضدها، بالمحاربة الدائمة والسعي إلى عزلها".

الجدال المتصل بالانتقال التاريخي الطويل إلى الاشتراكية في اتجاه الشيوعية، والمنظور العالمي لهذا الحراك، يطرح عددًا من التساؤلات حول تحول البروليتاريا من طبقةٍ في ذاتها إلى طبقةٍ لذاتها، ظروف وتأثيرات العولمة الرأسمالية، ودور الفلاحين في الانتقال الطويل، واختلاف صور الفكر المناهض للرأسمالية.

3

لقد فهم ماركس، أكثر من أيّ شخص، أنّ الرأسمالية تحمل على عاتقها مهمة السيطرة على العالم. كتب هذا في الوقت الذي كانت فيه هذه السيطرة أبعد ما تكون عن الاكتمال. تبصّر بهذا من لحظة مولدها، اكتشاف الأمريكتين، الذي دشّن انتقال ثلاثة قرون من الميركنتلية إلى الرأسمالية النهائية مكتملة التكوين.

كما كتب في المانيفستو: «الصناعة الكبيرة أوجدت السوق العالمية التي مهد لها اكتشاف أمريكا... البرجوازية، باستثمارها السوق العالمية، طبَّعت الإنتاج والاستهلاك، في جميع البلدان، بطابعٍ كوسموبوليتي.».

رحب ماركس بهذه العولمة، الظاهرة الجديدة في التاريخ الإنساني.
تشهد بهذا مقاطع عدة من المانيفستو. على سبيل المثال: «البرجوازية حيث ظفرت بالسلطة دمرت كل العلاقات الإقطاعية من كل لون». وكذلك: «البرجوازية أخضعت الريف لسيطرة المدينة. وأنشأت مدنًا ضخمة، وزادت بدرجةٍ هائلة عدد سكان المدن إزاء سكان الريف، منتزعةٍ بذلك قسمٍا كبيرٍا من السكان من سذاجة الحياة الريفية، ومثلما أخضعت الريف للمدينة، والبلدان الهمجية وشبه الهمجية للبلدان المتحضِّرة، أخضعت الشعوب الفلاحية للشعوب البرجوازية، والشرق للغرب.».

الكلمات واضحة. لم يكن ماركس ماضويًّا، متحسِّرًا على الأيام الطيبة الخوالي. لقد عبّر دائمًا عن وجهة نظرٍ حداثية، للدرجة التي يظهر بها كأورومركزي. لقد ذهب بعيدًا في هذا الاتجاه. لكن ألم تكن بربرية العمل المَدينيّ (الحضريّ) مجحفةً بالمثل للبروليتاريا؟ لم يتجاهل ماركس الفقر المَدينيّ الذي صاحب توسع الرأسمالية.

هل قدّر ماركس في المانيفستو بدقةٍ التبعات السياسية لتدمير الفِلاحة في أوروبا نفسها، وبقدرٍ أكبر، في البلدان المُستعمَرة؟ سأعود إلى هذه التساؤلات فيما يتصل مباشرةً بالطبيعة اللامتكافئة للانتشار العالمي للرأسمالية.

لا يزال ماركس وإنجلس في المانيفستو، غير مدركين لأن الانتشار العالمي للرأسمالية لم يكن بالشكل المتجانس الذي تصوروه، والذي يمنح الشرقَ المُحتَل الفرصة للخروج من مأزقه المسدود تاريخيًا، وليغدو الشرق مطابقًا لصورة البلدان الغربية، الأمم "المتحضِّرة" أو البلدان الصناعية.
كانت قلةً من نصوص ماركس قد عرضت استعمار الهند بطريقةٍ مشوبةٍ بالمواساة. لكنّ ماركس غير رأيه فيما بعد. هذه التلميحات، بدلاً من أن تألِّف حِجاجًا مفصَّلاً منهجيًا ، كانت شهادةً على الأثر المدمِّر للغزو الاستعماري. تدريجيًا بات ماركس مدركًا لما أسميه التطور اللامتكافئ، بمعنى آخر، التفسير المنهجيّ للتناقض بين المراكز المُهيمِنة والأطراف الخاضعة، ومعه استحالة "الالتحاق" ضمن إطار العولمة الرأسمالية (الإمبريالية بطبعها) بواسطة أدوات الرأسمالية.

بالنسبة لهذه النقطة، فلو كان "الالتحاق" ممكنًا ضمن العولمة الرأسمالية، حينها لن يكون بوسع أي قوة سياسية، اجتماعية أو أيديولوجية أن تنجح في معارضة ذلك.

حول سؤال "فتح" الصين، يقول ماركس في المانيفستو: «الأسعار الرخيصة لسلعها [أي البرجوازية-المترجم] هي المدفعية الثـقيلة التي تـدك بها الأسوار الصينية كلها، وتـُرغم البرابرة الأكثر حقدًا وتعنتًا تجاه الأجانب على الاستسلام.».

نعلم أن هذا الفتح لم يتم هكذ: كانت مدفعية البحرية البريطانية هي من "فتحت" الصين. غالبًا كانت المنتجات الصينية أقدر على المنافسة من نظيرتها الغربية. نعلم أيضًا أنها لم تكن الصناعة الإنجليزية الأكثرُ تقدمًا هي من سمحت بالسيطرة الناجحة على الهند (مرةً أخرى، كانت المنسوجات الهندية أجود من نظيرتها الإنجليزية). على العكس، فقد كانت السيطرة على الهند (والتدمير المنظَّم للصناعات الهندية) هي من منحت بريطانيا العظمى مكانتها المُهيمِنة على النظام الرأسمالي في القرن التاسع عشر.

على أية حال، فقد تعلم ماركس الناضج كيف يتخلى عن أورومركزيته الشابة. عرف ماركس كيف يعدّل رؤاه، على ضوء تطور العالم.

لهذا ففي 1848، تصور ماركس وإنجلس تَوفُّر إمكانيةٍ قوية لقيام ثورةٍ اشتراكية أو أكثر في أوروبا في عصرهم، مؤكدين على أن الرأسمالية تمثل جملةً اعتراضيةً قصيرة في سياق التاريخ. سرعان ما أكدت الوقائع صحة رأيهم. كانت كوميونة باريس 1871 أول ثورةٍ اشتراكية. مع ذلك، كانت آخر ثورةٍ تُنجَز في بلدٍ رأسماليٍّ متقدم. مع تأسيس الأممية الثانية، لم يفقد أنجلس الأمل في حدوث تطورات ثورية جديدة، في ألمانيا تحديدًا، لكنّ التاريخ خالف توقعاته. على أية حال، ما كان ينبغي لخيانة الأممية الثانية في 1914 أن تفاجأ أحدًا. فوق انحرافهم الإصلاحيّ، كان تحالف الأحزاب العمالية في أنحاء أوروبا حينئذٍ مع السياسة التوسعية، الاستعمارية، والإمبريالية لبرجوزاياتها مؤشرًا على أنه ليس لأحزاب الأممية الثانية ما تقدمه. انتقلت جبهة التحول العالمي إلى الشرق، إلى روسيا في 1917 ثم إلى الصين. قطعًا لم يتوقع ماركس هذا، لكنّ نصوصه المتأخرة تسمح لنا بافتراض أنه لم يكن ليتفاجأ بالثورة الروسية.

بخصوص الصين، استنتج ماركس أن ثورةً بورجوازية ستكون على جدول الأعمال. في يناير 1850 كتب ماركس: « رجعيونا الأوروبيون... عندما يصلون أخيرًا إلى سور الصين العظيم... من يدري إذا ما كانوا سيجدونه وقد كُتب عليه الشعار: الجمهورية الصينية، الحرية، المساواة، الإخاء». [شعار الثورة الفرنسية-المترجم]. كومنتانج ثورة 1911 بقيادة صُن يات سِن، تصور ذلك أيضًا كما فعل ماركس، معلنًا الجمهورية (البرجوازية) الصينية. لم ينجح صُن سواء في هزيمة قوى النظام القديم الذي استعاد أمراء الحرب خاصتُه المقاطعات، أو في التخلص من القوى الإمبريالية، خاصةً اليابان. أكد انحراف الكومنتانج بقيادة شيانج كاي شيك صحة سجالات لينين وماو حول أنه ما من متسعٍ لثورةٍ برجوازية حقيقية، فعصرنا هو عصر الثورة الاشتراكية. تمامًا كما كانت ثورة فبراير 1917 في روسيا بلا مستقبلٍ حيث عجزت عن الانتصار على النظام القديم، مما استتبع قيام ثورة أكتوبر، فقد استتبعت الثورة الصينية 1911 قيام ثورة الشيوعيين الماويين، الذين كانوا وحدهم القادرين على تلبية توقعات التحرر، الوطني والاجتماعي معًا.

لذا كانت روسيا، هي "الحلقة الأضعف" في النظام، التي بدأت الثورة الاشتراكية الثانية بعد كوميونة باريس. بيد أن ثورة أكتوبر الروسية لم تحظى بالدعم، بل حوربت من قِبل الحركة العمالية الأوروبية. استخدمت روزا لوكسمبورج تعبيراتٍ حادة للإشارة إلى انحراف الحركة العمالية الأوروبية في هذه الحالة. فأشارت إلى فشلها، خيانتها، و«عدم نضج البروليتاريا الألمانية للاضطلاع بمهامها التاريخية.».

لقد تناولت انسحاب الطبقة العاملة في الغرب المتقدم، حيث تخلَّوا عن تراثهم الثوري، بالتشديد على الآثار المُهلِكة للتوسع الإمبريالي للرأسمالية والفوائد التي جنتها المجتمعات الأمبريالية ككل (وليس فقط برجوازيتها) نتيجةَ موقعها المُهيمِن. لذا فقد رأيت أنه من الضروري أن أكرِّس فصلاً كاملاً في قراءتي للأهمية العالمية لثورة أكتوبر، لتحليل التطور الذي أدى بالطبقات العاملة الأوروبية إلى التنكر لمهامها التاريخية، بتعبير لوكسمبورج. أحيل القارئ إلى الفصل الرابع من كتابي عاشت ثورة أكتوبر 1917.

4

التقدم الثوري على الطريق الطويل للانتقال إلى الاشتراكية أو الشيوعية بلاشك وللأسباب المتقدمة، سينبثق حصريًّا في المجتمعات الطرفية من النظام العالمي، تحديدٍا في البلدان التي تستوعب طليعتها استحالة "الالتحاق" عبر الاندماج في العولمة الرأسمالية، ولذا ينبغي القيام بشيءٍ مختلف، ألا وهو الشروع في انتقالٍ ذو طبيعةٍ اشتراكية. عبّر لينين وماو عن هذه القناعة، معلنين أن عصرنا لم يعد عهد الثورات البرجوازية، بل -من الأن فصاعدًا- هو عهد الثورات الاشتراكية.

هذه الاستنتاج يستدعي آخرًا: الانتقالات الاشتراكية ستحدث بالضرورة في بلدٍ واحد، والذي سيبقى بدوره في عزلةٍ خطيرة خلال الهجوم المضاد من الإمبريالية العالمية. لا بديل لذلك، ولن تكون هناك ثورةٌ عالمية متزامنة.
لذا فإن الأمم والدول المُنخرِطة في هذا الطريق ستواجه تحديًا مزدوجًا: 1- أن تقاوم الحرب الدائمة (حارةً كانت أو باردة) التي ستشنها القوى الإمبريالية. 2-أن ترتبط بالأغلبية الفلاحية في تَقدمها على الطريق الجديد نحو الاشتراكية. لم يكن بإمكان المانيفستو، وبالتالي ماركس وإنجلس، التعليق على هذه التساؤلات، إنها مهمة الماركسيين الأحياء.

تقودني هذه الأفكار إلى تقييم وجهات النظر التي كونها ماركس وإنجلس حول الفلاحين في المانيفستو. يضع ماركس نفسه ضمن زمنه، الذي كان لايزال زمن الثورات البرجوازية غير المكتملة في أوروبا نفسها. في هذا السياق، يقول المانيفستو: «إنّ البروليتاريين في هذا الطور لا يُحاربون أعداءهم، بل أعداء أعدائهم، أي بقايا الحكم الملَكي المُطلق، والملاكين العقاريين... كل انتصارٍ يتحقق على هذا النحو هو انتصار للبرجوازية.».

لكنّ الثورة البرجوازية منحت الأرض للفلاحين، كما يظهر خصيصًا في الحالة النموذجية لفرنسا. لذا، أضحى الفلاحون في سوادهم الأعظم حلفاءَ للبرجوازية في معسكر المدافعين عن الطابع المقدس للملكية الخاصة، ليصبحوا خصومًا للبروليتاريا.

على أية حال، فإن انتقال مركز ثقل التحول الاشتراكي للعالم، مُرتحلاً من المراكز الإمبريالية المهيمنة إلى الأطراف الخاضعة، يعدِّل جذريًا سؤال الفلاحين. يصبح التقدم الثوري ممكنًا في ظروف المجتمعات، التي بقيِ معظمها من الفلاحين، فقط إذا ما تمكنت الطليعة الاشتراكية من تطبيق استراتيجيات تدمج القطاع الأكبر من الفلاحين في الكتلة المناضلة ضد الرأسمالية الإمبريالية.

5

ماركس وإنجلس لم يعوّلا أبدا، سواء عند كتابتهما المانيفستو أو فيما بعد، على القدرات الثورية العفوية للطبقة العاملة، طالما أن «الأفكار التي سادت عصرًا من العصور، لم تكن قطّ إلاّ أفكار الطبقة السائدة.». لهذا السبب يؤيد العمال، كغيرهم، أيديولوجيا التنافس التي تشكل حجر الأساس لنشاط المجتمع الرأسمالي، وعليه فإن « انتظام البروليتاريين في طبقة، وبالتالي في حزب سياسي، تنسفه مجددًا وفي كل لحظة المزاحمة بين العمال أنفسهم.».

لذا فإن تحول البروليتاريا من طبقةٍ في ذاتها إلى طبقةٍ لذاتها يستلزم التدخل (التوسّط) الفعّال للطليعة الشيوعية: « الشيوعيون عمليًّا هم الفريق الأكثر حزمًا من الأحزاب العمالية في جميع البلدان، والدافع دومًا إلى الأمام، ونظريًا هم متميزون عن سائر جُموع البروليتاريا، بالتبصّر في وضع الحركة البروليتارية، وفي مسيرتها ونتائجها العامّة.».

التأكيد على الدور الحتميّ للطليعة، لا يعني بالنسبة لماركس تحيّزًا للحزب الواحد، .فكما كتب في المانفيستو، « إنّ الشيوعيين ليسوا حزبًا منفصلاً في مواجهة الأحزاب العمالية الأخرى... وهم لا يطرحون مبادئ خاصة يريدون قَولَبَة الحركة البروليتارية بقالبها.».

ولاحقًا، حول مفهومِه عمّا ينبغي أن تكونه الأممية البروليتارية، اعتبرها ماركس ضروريةً لتندمج فيها كل الأحزاب والتيارات الفكرية والعملية التي تستعين بجمهورٍ شعبيٍّ وعماليٍّ حقيقيّ. تضمّنت الأممية الأولى في عضويتها البلانكيين الفرنسيين، اللاساليين الألمان، النقابات الإنجليزية، برودون، الأناركيين، وباكونين. لم يتجنّب ماركس بالطبع النقد، الخشن في الأغلب، للعديد من شركائه. وبإمكاني القول أن حدة هذه السجالات المتصارعة كانت السبب في قصرعمر هذه الأممية. كانت هذه المنظمةُ المدرسةَ الأولى التي تدرب فيها كوادر المستقبل الذين انخرطوا في النضال ضد الرأسمالية.

هنالك ملاحظتين تقودان إلى مسألة دور الحزب والشيوعيين.

الأولى تتعلق بالارتباط بين الحركة الشيوعية والأمة القومية. فيمكننا أن نطالع في المانيفستو: «العمال لا وطن لهم. فلا يمكن أن يُسلب منهم ما لا يملكونه. وبما أنه ينبغي على البروليتاريا أن تستولي، أولا، على السلطة السياسية، وأن تنصّب نفسها طبقةً قومية، وأن تتـقوَّم كأمّة، فإنّها ما تزال وطنيةً، لكن ليس قطعا بالمعنى البرجوازي للكلمة.». و «مع أنّ نضال البروليتاري ضد البرجوازية ليس قوميًّا في محتواه، فإنه يتّخذ في البداية الشكل القوميّ.».

في العالم الرأسمالي لايشارك البروليتاريون في النزعة القومية لبلدانهم: إنهم لا ينتمون إلى الأمة. السبب أنه في عالمٍ برجوازيّ فوظيفة القومية الوحيدة هي منح الشرعيّة، من ناحيةٍ، لاستغلال العمال في البلد المَعنيّ، ومن ناحيةٍ أخرى، لصراع البرجوازية مع منافسيها الأجانب وتحقيق طموحاتها الإمبريالية. على أية حال، فمع انتصار الثورة الاشتركية القادمة، يتغير العالم.

يرتبط ما سبق ذكره، بالمراحل الأولى الطويلة للانتقال إلى الاشتراكية في مجتمعات الأطراف. كما يعبر عن مراعاة التنوع الضروري للمسارات التي تم اتخاذها.
إضافةً، فإن مفهوم الهدف النهائي للشيوعية يكرِّسُ أهمية التنوع القومي للشعوب البروليتارية. لقد صاغ المانيفستو فكرة أن الشيوعية تقوم على تنوع الأفراد، الجماعات، والأمم. التضامن لا يستثني بل يفترض التطور الحر للجميع. الشيوعية هي نقيض الرأسمالية، التي -وعلى خلاف إشادتها بـ"الفردية"- تنتج في الواقع، عبر التنافس، أشباهًا مُهيّئةً من قِبل هيمنةِ رأس المال.

بهذا الصدد سأقتبس ما كتبته مؤخرًا في كتابي عاشت ثورة أكتوبر 1917:
«إنّ دعم أو رفض السيادة الوطنية يؤدي إلى سوء فهمٍ بالغٍ طالما بقيَ المضمون الطبقيّ للاستراتيجية في نطاق عمل السيادة غير محددٍ. لطالما رأت التكتلات الاجتماعية المُهيمِنة داخل المجتمعات الرأسمالية في السيادةَ الوطنية أداةً لتعزيز مصالحها الطبقية، أي الاستغلال الرأسمالي للعمل المحليّ مع توطيدِ موقعها في النظام العالمي. اليوم، في سياق النظام الليبرالي العالمي المُهيمَن عليه بواسطة الاحتكارات المالية للثلاثي (الولايات المتحدة الأمريكية، أوروبا، اليابان)، فالسيادة الوطنية هي الأداة التي تتيح للطبقات الحاكمة الحفاظَ على مواقعها التنافسية في النظام العالميّ. تقدم حكومة الولايات المتحدة المثال الأوضح لهذه الممارسة الراسخة: تُحمَل السيادةُ على أنها الحماية الاستثنائية لرأس المال الاحتكاري الأمريكيّ، ولهذا الغرض يُمنح القانون الأمريكي أولويةً على القانون العالميّ. هذه كانت ممارسةَ القوى الإمبريالية الأوروبية في الماضي أيضًا، وظلت ممارسةَ الدول الأوروبية الكبرى في الاتحاد الأوروبي.».

آخذين هذا بالاعتبار، يدرك المرء لما كان الخطاب القوميّ المُشيِد بفضائل السيادة، والمُعمِّي على المصالح الطبقية التي تعمل السيادة على خدمتها، مرفوضًا دومًا من قبل هؤلاء الذين يدافعون عن الطبقات الكادحة.

مع هذا، فعلينا ألا نختزل الدفاع عن السيادة إلى صيغة القومية البرجوازية. الدفاع عن السيادة ليس أقلّ من حاسمٍ لحماية البديل الشعبيّ على الطريق الطويل نحو الاشتراكية. حتى أنه يشكل شرطًا لا مفر منه للتقدم في هذا الاتجاه. والسبب أن النظام العالمي (وكذلك النظام الأوروبي شبه العالمي) لن يتحول أبدا من أعلى بواسطة القرارات الجماعية للطبقات الحاكمة. التقدم من هذه الناحية،هو دائمًا محصلةُ التطور اللامتكافئ للنضالات بين بلدٍ وآخر. إن تحول النظام العالمي (أو النظام الفرعي للاتحاد الأوروبي) هو محصلة هذه التغيرات التي تنشط ضمن إطار البلدان المتنوِّعة، والتي بدورها -البلدان- تعدِّل التوازن العالميّ للقوى بينها. الدولة-الأمة تظل الإطار الوحيد لانتشار النضالات الحاسمة التي تحوِّل العالم في النهاية.

تمتلك شعوب الأطراف، المُستقطَبة بطبيعتها، تجربةً طويلةً مع القومية الإيجابية التقدمية، التي هي ضد الأمبريالية، وترفض النظام العالمي المفروض من قِبل المراكز، ولهذا فإنها ضد الرأسمالية بصورةٍ كامنة. أقول فقط "بصورةٍ كامنة" لأن القومية قد تُوحي بوهم إمكانية تأسيس نظامٍ رأسمالي قومي قادر على الالتحاق بالقوميات الرأسمالية التي تحكم المراكز. . بمعنى آخر، تصبح القومية في الأطراف تقدميةً بشرط بقائها ضد الإمبريالية، مُصارِعةً للنظام الليبرالي العالمي. أيّ قومية أخرى (وهي في هذه الحالة مجرد واجهة) تقبل بالنظام العالمي، تكون أداةً للطبقات الحاكمة المحلية تهدف للمشاركة في استغلال شعوبها، وفي النهاية استغلال الشركاء الأضعف، عاملةً كقوى شبه إمبريالية.

الخلط بين هذين المفهومين المتضادين للسيادة الوطنية ، وبالتالي رفض أيّ قومية، يقضي على إمكانية الخروج من النظام الليبرالي العالمي. للأسف يقع اليسار غالبّا -في أوروربا وغيرها- ضحيةً هذا الخلط.
تتعلق النقطة الثانية بتقسيم الطبقات الكادحة، برغم تبسيط المجتمع المرتبط بتقدم الرأسمالية، مثارةً في المانيفستو على النحو التالي: «عصرنا، عصر البرجوازية، يتميز بتبسيطه التناحراتِ الطبقية. فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين كبيرين متعاديين، إلى طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرةً: البرجوازية والبروليتاريا.».

هذه الحركة المزدوجة - تعميم الوضع البروليتاري مع تقسيم عالم الكادحين- باديةٌ للعيان اليومِ أكثر مما كانت عليه في 1848، حيث كانت ظاهرةً بالكاد.

لقد شهدنا خلال القرن العشرين الممتد، حتى وقتنا هذا، تعميمًا غير مسبوقٍ للظرف البروليتاري. اليوم، في المراكز الرأسماالية خُفِّض السكان كلهم تقريبًا إلى مرتبةِ موظفينَ يبيعون قوة عملهم. وفي الأطراف، انخرط الفلاحون أكثر مما كان في الشبكات التجارية، مما أنهى وضعهم كمنتِجين مستقِلين، وجعلهم متعاقدين من الباطن خاضعين، ومخُفَّضين في الواقع إلى مرتبة بائعي قوةِ عملهم.

تتلازم هذه الحركة مع عمليات الإفقار، الفرد «يغدو مُدقعًا، والعَوَز يزداد بسرعةٍ تفوق سرعة نُمو السكان والثروة.». كانت أطروحة الإفقار، مع استعادتها بتوسُّعٍ في رأس المال، محلّ انتقاداتٍ ساخرةً من قِبل الاقتصاديين المبتذلين. مع ذلك،فعلى مستوى النظام الرأسمالي العالمي -المستوى الوحيد الذي يمنح منظورًا كاملاً لتحليل الواقع- هذا الإفقار جليٌّ وحقيقيّ أكثر مما تصور ماركس. على أنه، بالتوازي مع ذلك، نجحت القوى الرأسمالية في تحجيم الخطر الذي يمثله تعميم البَلتَرة (proletarianization)، بوضع استراتيجيات منظَّمة تهدف إلى تقسيم الطبقات الكادحة على جميع المستويات، وطنيًا وعالميًا.

6

القسم الثالث من المانيفستو، المعنون "الأدب الاشتراكي والشيوعي"، قد يبدو للقارئ المعاصر أنه ينتمي للماضي كليةً. يقدم لنا ماركس وإنجلس هنا تعليقاتٍ تخص شخصياتٍ تاريخية وإنتاجَها الثقافي المُنتمي لزمنها.منسيةً منذ زمن، تبدو هذه التساؤلات اليومَ وكأنها محصورةٌ باهتمام المؤرشِفين.

على أية حال، فأنا مأخوذٌ بالتشابهات المتصلة بالحركات والخطابات الأحدث، وبالأحرى المعاصرة. استنكر ماركس الإصلاحيين بمختلف أشكالهم، الذين لم يفهموا شيئًا من منطق انتشار الرأسمالية. هل اختفى هؤلاء من المشهد؟ استنكر ماركس هؤلاء الذين أدانوا أخطاء الرأسمالية، لكنهم « في الممارسة السياسية يشتركون في جميع التدابير القمعية ضد الطبقة العاملة.».هل يختلف فاشيو القرن العشرين وفاشيو اليوم، أو الحركات الدينية المزعومة (الإخوان المسلمون، المتعصبون الهندوس والبوذيون) عنهم في شيء؟

الانتقادات التي وجهها ماركس لمنافسي الماركسية وأيديولوجياتهم، وجهوده لتحديد الأوساط الاجتماعية التي كان هؤلاء متحدِّثوها الرسميون.،لا تقتضي بالنسبة لماركس أو لنا بالضرورة، أنّ الحركات المناهضة للرأسمالية لا ينبغي أن تتنوع مصادرها المُلهِمة. أحيل القارئ إلى بعض كتاباتي الحديثة حول هذا الموضوع، المعبِّرة من منظور إعادة تأسيس أممية جديدة كشرطٍ لفعالية النضالات الجماهيرية وتكوينِ رؤىً حول المستقبل.

7

سأختتم ببعض كلماتٍ تعقيبًا على قراءتي للمانيفستو.

المانيفستو هو ترنيمةٌ لمجدِ الحداثةِ الرأسمالية، والديناميّةِ التي تحثُّها، بلا نظيرٍ على مدى تاريخ الحضارة الطويل. لكنه في الآن ذاته، الإيماءة الأخيرة قبل رحيل نظامِ، ليست حياتُهُ إلا عصراً للفوضى، كما علِمَ ماركس ونبّهنا دومًا. العقلانية التاريخية للرأسمالية لا تتعدى إنتاجَها، في بُرهةٍ من الزمن، لكافة الشروط -المادية، السياسية، الأيديولوجية، والأخلاقية- التي ستُفضي إلى إلغاءها.

لقد عبرتُ دائمًا عن وجهة النظر تلك، التي أعتقد أنها وجهة نظر ماركس، منذ المانيفستو وحتى الفترة الأولى من الأممية الثانية التي عاشها إنجلس. التحليل الذي قدمته يتعلق بالنمو الطويل للرأسمالية -عشرة قرون- ومساهمات مناطق العالم المختلفة في هذا النضج (الصين، الشرق الإسلامي، المدن الإيطالية، وأوروبا الأطلنطية)، ذُروَتها القصيرة (القرن التاسع عشر)، ونهايةً اضمحلالها الطويل الذي يبرز في أزمتين نظاميّتين مُمتدتين (الأولى من 1890 إلى 1945، والثانية من1975 حتى وقتنا هذا). هذا التحليل يهدف إلى تعميق ما لبث عند ماركس حدسًا. نُبِذت هذه الرؤية لمكانة الرأسمالية في التاريخ، من قِبل التيارات الإصلاحية في ماركسية الأممية الثانية ثم تطورت خارجها. تم استبدالها برؤيةِ أنّ الرأسمالية ستنجز مهامها فقط عندما تنجح في مُجانسة الكوكب وفقًا لنموذج مراكزها المتقدمة. ضد وجهة نظر التطور المُعولَم للرأسمالية، اللاواقعية ببساطة حيث أن الرأسمالية استقطابيةٌ بطبيعتها، قدّمنا رؤيتنا للتحول العالميّ عبر العمليات الثورية، أي رفض الانصياعِ لتقلُّبات انحطاطِ الحضارة المميتة.

سمير أمين
(1 أكتوبر، 2018)

المصدر: https://monthlyreview.org/2018/10/01/the-communist-manifesto-170-years-later/