لا نظرية ثورية بدون حركة ثورية


جورج حداد
2018 / 10 / 3 - 15:02     

تعتبر مسألة بناء التنظيم الثوري العربي الطليعي الحلقة الرئيسية التي تتمحور حولها حاليا جميع الموضوعات الاساسية لحركة الثورة العربية. فقد حقق الكفاح الوطني الدامي الطويل، منذ الخمسينات، انجازات تحويلية كبرى، منها: الغاء التواجد العسكري الاستعماري المكشوف في الغالبية الساحقة من البلدان العربية، تصفية الملكية في مصر والعراق وليبيا والامامة في اليمن، تصفية الاستعمار الاستيطاني في الجزائر، ضرب الدكتاتورية العسكرية العميلة في سوريا (الشيشكلي) والسودان (عبود)، وغيرها من الانجازات التي تحققت بفضل النضالات والانتفاضات التي شاركت فيها عشرات الملايين من الجماهير الشعبية، من العمال والفلاحين والطلاب والاجنحة البرجوازية الصغيرة والمتوسطة الراديكالية وابناء العشائر والجنود والضباط الوطنيين. وفي هذا المسار الشعبي العربي، طرحت بشدة مسألة الوحدة العربية ومسألة التحويل الاشتراكي للمجتمع العربي.
ومع ان هذه الانجازات نقلت الوطن العربي بأسره الى مرحلة اعلى واصعب واكثر تعقيدا، من مراحل النضال في سبيل التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والوحدة القومية، فإن الطبقات الاستغلالية المحافظة والاكثر رجعية والعميلة والطامحة للتعامل مع الامبريالية، استطاعت ـ في غياب التنظيم الثوري الطليعي العربي ـ ان تتسلل في اغلب الاحيان الى قيادة الحركات العامة، وان تمسك بزمام السلطة، وان تحرف النضال الجماهيري عن خط سيره الحقيقي. وهذا ما مكن الامبريالية واسرائيل والطبقات الرجعية والاستغلالية العربية من الصمود في وجه النهوض الجماهيري العربي، والتكيف مع الظروف الجديدة، وتكييف الكثير من الانجازات المحققة، في الاتجاهات التي تخدم ديمومة وتطوير مصالح اعداء جماهير امتنا.
وقد بدأت ازمة القيادة العربية تظهر، بكل حدتها، منذ الستينات. ومن المظاهر الخارجية للازمة: الخلافات والانشقاقات داخل الاحزاب والحركات الشيوعية والقومية، انهيار الوحدة السورية ـ المصرية، الصراع الذي بلغ حد التذابح احيانا كثيرة في ما بين مختلف الاحزاب والقوى السياسية الجماهيرية... واذا تجاوزنا الجوانب السلبية للصراعات الحزبية والفئوية، نرى ان الازمة بينت بوضوح: اولا، القصور التاريخي للاحزاب الشيوعية العربية التقليدية، عن الاضطلاع بدورها الطليعي المفترض، بسبب "غربتها" عن المسألة القومية وتعاملها السطحي والخارجي، مع الواقع العربي وقضاياه المصيرية. وثانيا، السقوط التاريخي لايديولوجية البرجوازية الليبيرالية والبرجوازية الصغيرة المتذبذبة، التي وقفت سدا في وجه حركة تطور الثورة العربية، وكانت السبب الذاتي المباشر للانحرافات والنكسات، التي توجتها هزيمة حزيران 1967.
امام هذا الوضع، بدأ الانتشار الافقي لافكار الماركسية ـ اللينينية، التي اصبحت اشبه "بموضة"، صارت تقريبا غالبية الاخصام والاطراف المتنازعة "ماركسيين ـ لينينيين"، او على الاقل "اشتراكيين علميين!". وطرحت على نطاق واسع الضرورة التاريخية لمسألة بناء الحزب الطليعي التي كانت تعني، بالنسبة للبعض، التحول الى مثل هذا الحزب.
ولكن امام هامشية الاحزاب الشيوعية العربية في قيادة الحركة الجماهيرية، مقابل مسؤولية البرجوازية الليبيرالية والبرجوازية الصغيرة، في انحراف مسار الكفاح الجماهيري العربي والانتكاسات والمراوحة، وامام ضرورة تبني الفكر الاشتراكي العلمي، طرحت موضوعة بناء الحزب الطليعي وكأنها موضوعة نظرية بحتة، وصارت المسألة في ما بين مجمل الفصائل "الماركسية" القديمة والجديدة، مَن اكثر ماركسية من مَن؟ ومَن يمتلك النظرية "الصحيحة"؟ ووقعت مختلف الفصائل الماركسية في نوع من تقديس النظرية والتقليل من اهمية الحركة النضالية وضرورة الامساك بزمام المبادرة التاريخية فيي قيادة النضال الجماهيري القائم. وادى ذلك الى شرذمة الفصائل الماركسية وتفسيخها. وفي النتيجة الى اتاحة المجال واسعا امام البرجوازية الصغيرة وبرجوازية الدولة للعودة الى قيادة وتوجيه الحركات الجماهيرية، مباشرة ومداورة، واجبار مختلف "الطليعيين" على التجرجر وراءها!
وليس من العجب الان ان يتحول "الطليعيون" الذين امتنعوا في ذلك الوقت عن تحمل مسؤولياتهم النضالية التاريخية عمليا، بحجة اسبقية البناء الحزبي النظري، الى اتباع لليبيرالية والبرجوازية الصغيرة... وان يتحول تقديس النظرية المثالي الى واقعية مبتذلة تقدس التاكتيك والمرحلية والممكنية!!! لانه ليس من العجب ابدا ان تتحول الانتهازية اليسارية الى انتهازية يمينية. فانحرافات الانتهازية يمر بعضها الى بعض دوما. وهذا منطق الاشياء.
والمقالات المنشورة في هذا الكتيب، والعائدة لتلك الفترة، تتضمن اسهاما متواضعا في النقاش آنذاك حول مسألة بناء الحزب والدور الطليعي للماركسيين في الكفاح الجماهيري القائم. ويبين تاريخ الاطراف التي تتناولها هذه المقالات ان النخبوية النظرية المثالية والذيلية العملية الواقعية هما نقطتا بداية ونهاية في خط واحد، توجد احداهما حتما بوجود الاخرى. ويهدف نشر هذه المقالات الان الى كشف الانسجام ـ وليس التناقض ـ بين هذين الانحرافين، والى تبيان الاهمية الآنية لمسألة بناء الحزب الاشتراكي العلمي، الذي لا معنى لوجوده بدون دوره الطليعي، وهي المهمة التي يلقيها الان وراء ظهورهم "نخبويو" الامس ـ ذيليو اليوم.
واذا كان المطلوب بالامس الامساك بالحلقة العملية دون التخلي عن النظرية الطليعية، فإن المطلوب الان هو بلورة الخط الثوري الطليعي ليس فقط دون التخلي عن المواقع الثورية العملية، بل على وجه التحديد من اجل تطوير هذه المواقع الثورية العملية وبلورتها هي ذاتها في تنظيم ثوري طليعي.
(كتب في 10 ـ 12 ـ 1976)