مدخل إلى الفلسفة الماركسية (3)


غازي الصوراني
2018 / 9 / 23 - 12:11     

22/9/2018

تمهيد:
إن الفلسفة الماركسية هي علم عن قوانين علاقة الوعي بالعالم الموضوعي ، وعن القوانين العامة للحركة في الطبيعة والمجتمع والفكر البشري .إن ظهور الماركسية في أربعينيات القرن التاسع عشر ترافق مع تطور الرأسمالية وتَكَشُّف طبيعتها التناحرية وجوهرها القائم على الاستغلال والقهر كما نشاهده ونلمسه ونعاني منه يومياً عبر همجية وتوحش العولمة الامريكية وحليفها الصهيوني وتوابعها من انظمة الاستبداد والتخلف في بلادنا.
كارل ماركس : ( 1818 – 1883 )مؤسس فلسفة المادية الجدلية والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي ، " ولد في ترييف – بألمانيا ، حيث أنهى الثانوية عام 1835 ، والتحق بجامعة بون ، وبرلين " تأثر بأفكار هيجل وفيورباخ وآدم سميث ، نال درجة الدكتوراه في الفلسفة عن رسالته بعنوان " الاختلاف بين فلسفة ديموقرطيس الطبيعية وفلسفة إبيقور " عام 1841 ، ومن خلال دراسته للاقتصاد السياسي ومشاركته في الأحداث الثورية في المانيا وفرنسا ، اكتشف لأول مره الدور التاريخي للبروليتاريا وتوصل إلى النتيجة القائلة بحتمية الثورة الاجتماعية وضرورة توحيد حركة الطبقة العاملة ، كما وضع نظرية فائض القيمة التي تمثل حجر الزاوية في الاقتصاد السياسي الاشتراكي وتكشف بوضوح عملية الاستغلال الرأسمالي ، أصدر العديد من الأبحاث والكتب أهمها " المخططات الاقتصادية والفلسفية " (1844) و " العائلة المقدسة " (1845) و " الايديولوجيا الألمانية " (1846) و"بؤس الفلسفة " (1847)" و"إطروحات حول فيورباخ " بالتعاون مع زميله " إنجلز " ثم أصدرا معاً " البيان الشيوعي " (1848) " الذي وضع الخطوط العريضة لتصور جديد للعالم ، وهو المادية المتماسكة ونظرية صراع الطبقات والدور الثوري للطبقة العاملة ، وبعد أن وضع عدداً من الكتب الهامة حول الثورة في فرنسا وأوروبا والصراع الطبقي ، أصدر في عام 1867 المجلد الأول لكتابه الرئيسي البالغ الأهمية " رأس المال " والذي تم استكماله فيما بعد على يد رفيقه " فريدريك انجلز" 1885 و 1894 .
إلى جانب كل ذلك ، فقد كان ماركس فيلسوفاً مادياً جدلياً " رفض فهم الفلسفة على إنها علم مطلق ، غريب عن الحياة العملية والنضال ، مؤكداً إن مهمة الفلسفة والفكر الاجتماعي ليست بناء أو إنشاء Construction المستقبل ، ولا وَضَع نظريات تصلح لجميع العصور والدهور ، بل إن مهمتها " النقد الذي لا يرحم لكل ما هو قائم، نقد لا يرحم بمعنيين ، لا يهاب استنتاجاته الذاتية ، ولا يتراجع أمام الاصطدام بالسلطات القائمة ، هكذا طرح ماركس مسألة نفي الفلسفة بمعناها القديم ، " حب الحكمة " أو " علم العلوم " ، إنه ضد عزل الفلسفة عن النشاط العملي ، ولاسيما حركة الكادحين والفقراء التحريرية ، فهو يقول " لاشئ يمنعنا أن نربط ممارستنا بنقد السياسة ، بموقف حزبي معين في السياسة ، أي أن نربط ونقرن نقدنا بالنضال الواقعي .. إن مأثرة فلسفة ماركس تكمن في كونها البرهان الفلسفي والعملي في آن واحد على حتمية التحويل الجذري لمجتمعاتنا نحو الانعتاق والتحرر والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية، رغم كل ما يتبدى اليوم من مظاهر القوة والعدوان للتحالف الامبريالي الصهيوني في بلادنا من ناحية ورغم كل عوامل وأدوات ورموز الهبوط السياسي والتبعية والقهر والتخلف السلفي الرجعي والليبرالي الهابط من ناحية ثانية .
المادية الجدلية:
لا شك أن الاكتشافات العلمية المذهلة في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، قد أكدت على انتصار وتغلب المفاهيم العلمية المادية الجدلية على كافة المفاهيم الغيبية ، إذ أن العلم الحديث (في علوم الهندسة الوراثية والاستنساخ والجينات والفيزياء والليزر، والهندسة (النانو) والفامتو Famto Second والكومبيوتر وعلوم الفضاء والاتصال...إلخ) أكد على استبدال مفهوم المادة الضيق بمفهومها الديالكتيكي الواسع، بما يكرس مصداقية الفلسفة المادية الجدلية التي تُعرّف المادة بأنها " واقع موضوعي قائم بغض النظر عن الوعي البشري الذي يعكسه" . ان التعريف العلمي للمادة يتضمن ثلاثة جوانب: 1) المادة هي ما يوجد خارج الوعي وبغض النظر عنه. 2) المادة هي ما يُولّد الأحاسيس لدينا؛ وهي ما تعتبر أحاسيسناً ووعيناً على العموم انعكاساً لها.
وهذا يفتح على مسألة هامة هي أن الفكر جزء من الواقع المادي أيضاً. فهو نتاج الإنسان الواعي، أي الإنسان الساعي إلى صوغ واقعه في تصورات وأفكار. والفارق بين الواقع والمادة هو هنا، حيث تخضع المادة لفعل الإنسان ولكن لـ "عقله " أيضاً. هذا الفعل وذاك العقل يسهمان في وعي المادة، وبالتالي، في السيطرة عليها وتطويرها كذلك.
المنهج الديالكتيكي الماركسي:
يتميز هذا المنهج عن المنهج الميتافيزيقي بميزات أربع هي تباعاً:
النظر إلى الطبيعة بوصفها كلاً موحداً ومتماسكاً ترتبط فيه الموضوعات والظاهرات ارتباطاً عضوياً فيما بينها ويشترط بعضها بعضاً.
النظر إلى الطبيعة بوصفها في حالة حركة وتبدل مستمرين، وتجدد ونمو لا ينقطعان إذ ثمة دائماً شيء ما يولد وينموا وآخر ينحل ويزول.
النظر إلى سيرورة النمو بوصفها إنتقالاً من التبدل الكمي الخفي إلى التبدل الجذري الكيفي، والنظر إلى التبدل الكيفي بوصفه تبدلاً ضرورياً يحصل بقفزات ويسير أبداً إلى أمام من القديم إلى الجديد ومن البسيط إلى المركب ومن الأدنى إلى الأعلى.
النظر إلى موضوعات الطبيعة وظاهراتها من زاوية تناقضها الداخلي، أي النظر إلى جانبها السالب وجانبها الموجب، إلى ماضيها ومستقبلها، إلى ما يختفي فيها ويظهر، لأن مضمون النمو الداخلي هو صراع الأضداد ولأن كل شيء يخضع للظروف والزمان والمكان.
أما المادية الفلسفية الماركسية فتنطلق من مبادئ ثلاثة يعارض كل منها مبدأ في المثالية الفلسفية:
المبدأ القائل أن العالم مادي بطبيعته، وأن مختلف ظاهراته ليست سوى أوجه مختلفة من أوجه المادة المتحركة وذلك على عكس المثالية – التي يختصرها هيغل هنا على ما يبدو – التي تنظر إلى العالم بوصفه تجسيداً للفكرة المطلقة أو الروح الكلي – لكن إثبات مادية العالم لا يتوقف هنا، بل يقترن بالقول إن حركة المادة والعالم تحصل بموجب قوانين ضرورية، وهي القوانين التي يثبتها المنهج الديالكتيكي في علاقات الظاهرات وتشارطها.
المبدأ القائل أن العالم المادي هو واقع موضوعي قائم خارج وعينا به وبمعزل عنه. وأن المادة او الكون أو الطبيعة، هي المعطى الأولي في حين ان الوعي أو الفكر هو المعطى الثاني المشتق لانه  نتاج للمادة ولدرجة عليا من درجات تطورها وكمالها.
المبدأ القائل إن العالم، وقوانينه، قابل لأن يعرف معرفة كاملة. وإن معرفتنا بقوانينه هي معرفة مقبولة عندما تؤكدها التجربة والممارسة[1].
أيهما أسبق الوعي أم المادة؟
يتضح مما تقدم أن جوهر المسألة الفلسفية يتجلى في السؤال التالي: أيهما أسبق الوعي أم المادة؟
يعتبر السؤال عن أولوية الوعي أو المادة سؤالا مركزيا في الفلسفة ، ولو أردنا ان نصوغه بطريقة سلسة ومبسطة لقلنا : أيهما يسبق الآخر هل يسبق الوعي المادة أم تسبق المادة الوعي؟ في واقع الامر أهمية هذا السؤال تنبع من التركيب الاكثر وضوحا وأهمية وهو : هل يوجد تفكير أو وعي خارج المادة وهل توجد مادة خارج الوعي وبدونه؟
للوهلة الاولى قد نتسرع بوضع إجابات اعتباطية تنزع إلى طبيعة التكوين الذاتي الثقافي لكل منا ، ولذا فنحن نحتاج لشيء من الصبر للحكم على الموضوعة أو اختيار إجابة.
قبل أن نتعرف على الخلاف في جذوره حول أولوية المادة أو الوعي علينا أولا أن نعي مقصود المادة ومقصود الوعي في ضوء دراستنا ونقاشنا وفهمنا للماركسية وفلسفتها، فبالنسبة للمادة هي الموجود المادي بكل ابعاده مستقلا عن الروح ومستغن عنها ، أو المادة هي الوجود الموضوعي القائم بذاته خارج وعينا. أما كيف هي المادة؟ فهذا سؤال يجيبنا عليه العلم عن طبيعة المادة وخواصها....الخ. إذن ما هو الوعي الآن؟يتلخص الوعي فهماً بكونه الإدراك، والإدراك الموضوعي تحديداً ، لأن الإدراك الحسي المباشر ظاهرة توجد لدى الإنسان والحيوان على السواء بينما يتميز الإنسان بإدراك موضوعي يؤهله للتفكير المنطقي أي القدرة على ربط الأسباب بالمسببات ، أو التفكير المنتظم بلغة مهما بلغت درجة بدائية هذه اللغة.
اتخذت المادية إذن كفلسفة موقفا مبدئيا علميا من مسألة أولوية المادة ؛ ذلك أن عمليات الإدراك والتفكير وتكوين الوعي لا يمكن أن تتحقق إلا في بيئة مادية ، وبالتالي فوجود المادة شرط أساسي لا غنى عنه في عملية الوعي ، تدلنا القوانين العلمية الناظمة للوجود المادي على استحالة تكوين وعي بدون مادة ، أي أن الفرض القائل بإمكانية تحقق وعي بدون زمان أو مكان أو حركة فرض غير ممكن التحقق، فالوعي إذن مظهر من مظاهر وجود المادة.
أهمية القول بأولوية المادة:
 إن القول بأولوية المادة معناه رفض كل أطروحات الفلسفة المثالية التي تحاول تفسير العالم والوجود الانساني انطلاقا من ما ورائيات أو أي وعي سبق المادة، وبالتالي فهي دعوة لفهم واقع الانسان ووجوده إنطلاقا من وعي ما هو مادي ، ووعي ما هو مادي إنما يستند للعلم ، فالعلم هو الذي يجيبنا عن ماهية المادة ، وبالتالي فإن الفلسفة المادية إنما تبني مقولاتها كلها منطلقة من الوعي العلمي الذي يكون موضوعه الأساسي الوجود المادي للكون والإنسان والمجتمع، وقد إتخذ ماركس  موقفا أبعد من ذلك عندما طالب بإنتقال الفلسفة من تفسير العالم إلى تغييره ، جوهر هذا الكلام المطالبة بتوظيف القوانين المادية التي تحكم الوجود في تغيير الوجود نفسه ، وبالتالي إخضاع الوجود الموضوعي للإنسان وتمكينه من خلال فهمه المادي للوجود من تغيير هذا الوجود في مصلحته نحو واقع أكثر تطورا.
تعرف المادية الجدلية في معظم المراجع على النحو التالي:انها قوانين ومبادئ ومقولات تعمل في جانبين ، جانب المعرفة العلمية ( العلوم المختلفة ) ، والجانب الآخر هو الحركة المجتمعية وتطور المجتمع تبعا لهذه القوانين . أي أنها تطبق في العلوم المعرفية وعلم الاجتماع على حد سواء، إذن يمكننا القول، إن المادية الجدلية هي ذلك العلم الفلسفي الذي ينطلق من أولوية المادة مستخدما قوانين الجدل المادي لفهم الوجود وتطوره.طبعا ليس بمقدورنا أن نقف على المعنى المراد في التعريف المتقدم إلا عندما نقف على قوانين الجدل المادي ونفهمها جيدا ، إلا أن الانطلاق من دقة التعريف الذي سنعود لفهمه بدقة أكبر مع فهمنا لقوانين الجدل يوفر لنا مساحة التفاعل الجدلي أيضا مع التعريف نفسه وبالتأكيد سنجد أنفسنا ونحن نعود إليه نعيد صياغته أو فهمه بشكل أكثر نضجا .
المادة وأشكال وجودها[2]:
إن نقطة انطلاق المادية الديالكتيكية هي الإعتراف بالوجود الموضوعي للمادة، للطبيعة، المتطورة، المتحركة، بشكل خالد. لهذا لابد، في البداءة، من دراسة المادة وأشكال وجودها.
- المادة:
يحيط بنا عدد لا حصر له من الكائنات المتباينة أعظم تباين في خصائصها بعضها يحشر في عداد الكائنات الحية. وبعضها لا يتوفر فيه أي دليل على الحياة. بعضها قاس وبعضها طري أو سائل. بعضها متناه في الصغر وخفيف، وبعضها ذو أجسام هائلة وثقيلة جداً. بعض الأجسام مشحونة بالكهرباء، وبعضها غير مشحون بها.... إلخ. كل هذا بمجموعه يشكل ما يدعى بالطبيعة.
ومهما تباينت أجسام الطبيعة وتمايزت عن بعضها، فالخاصة الجامعة بينها هي إنها موجودة خارج وعي الإنسان، واحساسه ونفسه وبشكل مستقل عنه.
ولم ينشـأ الإنسان ووعيه الا في درجة معينة من تطور الطبيعة كنتاج رفيع لها، في حين وجدت الطبيعة ذاتها بشكل خالد، ولم يوجد ولا يمكن أن يوجد أي "وعي ما فوق الإنسان" أو "وعي مطلق"، وعلى هذا فالفلسفة المادية تعلم أن الطبيعة، أن المادة، هي السابقة؛ وأن الروح، أن الوعي هو اللاحق، وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي بالنسبة للفرد وبالنسبة للمجتمع.
إن الفلسفة المادية، إذ تعمم حصيلة التطور التاريخي الطويل تصوغ ، شيئاً فشيئاً، مفهوم المادة العلمي.
يقول لينين: "إن المادة هي مقولة فلسفية للدلالة على الواقع الموضوعي الذي تعرفنا عليه إحساساتنا، الواقع الذي تنسخه هذه الإحساسات وتصوره وتعكسه، ويوجد بشكل مستقل عنها".
في هذا التعريف ينعكس جوهر النظرة المادية عن العالم، وانتصاب المادية ضد المثالية وضد نظرية استحالة المعرفة.
إن آفاقاً لا تحد تتكشف أمام العلم في استقصائه اعماق المادة، مهما صغرت ومهما تعقدت، إن العقل البشري لا يتوقف عن الحدود التي عرفها بل يحاول أن يتعداها ليتعمق في معرفة جوهر المادة وجزئياتها، ذلك أن الحقائق التي عرفناها، يستقر خلفها حقائق أخرى لم نعرفها بعد، وهذه تمهد لاكتشاف حقائق ثالثة وهكذا إلى ما لا نهاية.
ثم أنه لا ينبغي الخلط بين سؤالين اثنين: أولهما هو هل للأجسام الطبيعية كيان خارج وعينا ومستقل عنه؟ وثانيهما: ما هي بنية هذه الأجسام، وما هي العناصر الفيزيائية التي تتكون منها؟ وما هي الصفات الفيزيائية لهذه العناصر؟ السؤال الأول فلسفي ويتعلق بنظرية المعرفة، أما الإجابة على الثاني فمن مهمات العلوم الطبيعية، ولا سيما الفيزياء. بيد أننا حين نؤكد على الفارق بين السؤالين، لا نستطيع الفصل بينهما. إن العلوم الطبيعية تدرس العالم الواقعي والأجسام المختلفة في هذا العالم، كما تدرس بنية هذه الاجسام وخواصها، وارتباط بعضها ببعض، والقانونيات الملازمة لها. بيد أن هذه العلوم لا يمكن وجودها من غير الاعتراف بالواقع الموضوعي للعالم المحيط بنا. ومفهوم المادة هو انعكاس لهذا الواقع الموضوعي. ولهذا فمفهوم المادة، بالمعنى الفلسفي الماركسي، يتمتع بأهمية كبرى بالنسبة إلى العلوم الطبيعية.
إن المفاهيم الأساسية التي أوجدتها العلوم الطبيعية، للدلالة على مواضيع هذه العلوم: كالصغيرة الأولية، والذرة، والجزيء والعنصر الكيماوي والتشكيلة الجيولوجية، والمنظومة الفضائية ....إلخ، إن هذه المفاهيم ترتبط حتماً بمفهوم المادة الفلسفي، ويعبر عنها من خلاله.
لقد لاقى مفهوم المادة هجوماً أعنف من أي هجوم تعرضت له الفلسفة المادية. ولا عجب في ذلك لأن هذا المفهوم هو حجر الزاوية في المفهوم المادي عن العالم، لذا يهاجمه أعداء المادية باستمرار. لقد أكد المثاليون مراراً وتكراراً أن مفهوم المادة الذي يعني الواقع الموضوعي إنما دحض أو شاخ؛ غير أن تطور العلم، ومعطيات ممارسة النشاط العملي أثبتا، بشكل لا يدحض، عكس ما ذهبوا إليه.
كل شيء في تبدل وتغير وذو نهاية. ولكن إذا ما اختفى شيء برز مكانه شيء آخر، بحيث أن أية صُغَيرة مادية لا تختفي من غير أثر، ولا تتحول إلى لا شيء، وبالمقابل فليس هناك من صغيرة مهما كان شأنها، تخلق من لا شيء. وحيث تنتهي حدود أحد الأشياء المادية تبدأ حدود أشياء مادية أخرى. ولا نهاية لهذا التعاقب الذي لا حد له، ولا للتأثير المتبادل بين الأجسام المادية. فالمادة، فالطبيعة خالدة، لا نهاية لها ولا حدود.
ليست المادة شيئاً وحيد الصورة ومن نوعية واحدة. إنها تبرز في أجسام متباينة لا حصر لتباينها، متميزة نوعاً وكماً، وهي تشكل جماعات من الأشياء الأقارب، من حيث خصائصها، وهي ما نسميها بالأنواع المتباينة للمادة.
وهذه الأنواع المتباينة للمادة تتميز بالتعقيد إلى هذا الحد أو ذاك، وهي مواضيع بحث مختلف العلوم من الفيزياء إلى الكيمياء، والبيولوجيا....إلخ. أما الأنواع البسيطة نسبياً منها فهي الصغيريات الأولية كالفوتون، والالكترون، والبوزيترون، والبروتون، والميزون، والأنتي بروتون والنترون والانتي نترون....إلخ.
أما التعقيد الواسع فهو من نصيب الذرات والجزيئات ثم تليها في التعقيد الغازات والسوائل والأجسام الصلبة التي نحتك بها في حياتنا اليومية. وكذلك الأجرام السماوية المختلفة كالكواكب والنجوم والمجموعات النجمية.
وتتميز أجسام الطبيعة العضوية، وخاصة الإنسان، ثمرتها العليا، بدرجة عالية من التعقيد. ويعتبر المجتمع الإنساني موضوعاً مادياً خاصاً تدرس علوم كثيرة جوانبه ومظاهره المختلفة: من هذه العلوم المادية التاريخية، والتاريخ والاقتصاد السياسي، والاحصاء الاقتصادي....إلخ.
- الحركة شكل لوجود المادة[3]:
المادية الجدلية لا تحصر تعدد أشكال الحركة في شكل واحد منها، ميكانيكي، مثلاً أو أي شكل واحد آخر، بل تربط الحركة بالتغير، بتطور الاجسام، بمولد الجديد واندثار القديم ، لا توجد المادة إلا في حركة وهكذا فإن الحركة شكل من أشكال وجود المادة وهي خاصية ملازمة لها. "إن الحركة هي أسلوب لوجود المادة . ولم توجد في أي مكان مادة دون حركة ولا يمكن أن توجد".
- الحركة مطلقة والسكون نسبي:
حركة المادة مطلقة وابدية ، وخلافاً لكون الحركة مطلقة فإن السكون نسبي. ولكنه لا يجوز تصوره حالة جامدة متحجرة. فالجسم لا يمكن أن يكون ساكناً إلا بالنسبة لجسم آخر، لكنه بالضرورة يشترك في الحركة العامة للمادة. وفوق ذلك فحتى حين يكون الجسم في حالة سكون فإن عمليات فيزيائية أو كيميائية أو عمليات أخرى تجري فيه طيلة الوقت.
فإن حركة المادة ابدية مطلقة ، في حين أن السكون وقتي نسبي، أنه مجرد لحظة من لحظات الحركة.
ذلك إن كل ما يولد الأحاسيس لدينا مادي، ولكن ليس كل الظواهر المادية تولد لدينا أحاسيس: فالأشعة ما فوق البنفسجية والعمليات الجارية وسط الشمس وعدد لا يحصى من الظواهر الأخرى ليس بمقدورنا أن نحس بها. وبالرغم من كل أهمية السمتين الثانية والثالثة للمادة فالأمر الرئيسي الذي يميز المادي عن غير المادي هو وجوده خارج الوعي.
إن هذا الفهم للمادة يتسم بأهمية كبرى في الوقت الحاضر وتؤكده كلياً الاكتشافات العلمية الحديثة والمعاصرة. وعلى ضوء التصورات العلمية الحديثة يمكن أن نشير إلى المجموعات التالية لأشكال حركة المادة[4]:
الأشكال الميكانيكية: وهي تنقل الأجسام مكانياً بالنسبة إلى بعضها البعض.
الأشكال الفيزيائية: وهي التغيرات في الواقع المكاني والسرعة والكتلة والطاقة والشحنة الكهربائية ودرجة الحرارة والحجم وغير ذلك من صفات الأشياء المادية، وهي أيضاً، مجموعة أشكال الحركة التي تدرسها الفيزياء كالعمليات الحرارية والكهرطيسية بما فيها الظواهر الضوئية والتجاذب المتبادل وكافة العمليات التي تجري داخل الذرة وداخل النواة.
الأشكال الكيميائية: وهي تحول بعض المواد إلى بعضها الآخر، وتكوين تراكيب الذرات وإعادة تكوينها (اتحادها وانفصالها).
الأشكال البيولوجية: وهي كافة التغيرات أو الحركة في الحياة العضوية.
الأشكال الاجتماعية: وهي التغيرات الجارية موضوعياً في المجتمع البشري وحدهُ والملازمة له دون غيره، أو هي العمليات الاجتماعية (التناقضات والصراعات الطبقية ...إلخ) وتاريخ المجتمع الإنساني.
إن أي شكل من أشكال الحركة المذكورة أعلاه إنما هو موجود موضوعياً بعض النظر عن وعي البشر، وهو يمثل عملية مادية. أما حركة أحاسيسنا وأمزجتنا وأفكارنا فهي موجودة في أذهان البشر فقط. وبديهي أن الأحاسيس والأفكار لا يمكن أن توجد بدون حاملها المادي، نعني الدماغ.

[1]  الموسوعة الفلسفية العربية - معهد الإنماء العربي -  المجلد الثاني–  الطبعة الأولى –ص1193-1194.
[2]  المصدر : المادية الديالكتيكية – مجموعة من المفكرين السوفييت – ترجمة فؤاد مرعي/ عدنان جاموس/ بدر الدين السباعي  ...دار الجماهير –دمشق – 1973 – ط3 – ص74.
[3] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية –  دار التقدم – موسكو – 1979 – ص42
[4]  المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية – مجموعة من المؤلفين – دار التقدم – موسكو – 1975- ص82.