شيوعيون ومع ذلك يعرضون عن التعرّف على الإتحاد السوفياتي !! (6)


فؤاد النمري
2018 / 9 / 5 - 18:29     

شيوعيون ومع ذلك يعرضون عن التعرّف على الإتحاد السوفياتي !! (6)

الرحلة الخيانية لخروشتشوف وعصابته في الحزب قاربت على نهايتها فكان أن طلب إليه العسكر في أكتوبر 1961 أن يتخذ المؤتمر العام الثاني والعشرون للحزب الشيوعي قراراً يلغي رسمياً دولة دكتاتورية البروليتاريا ويستبدلها ب "دولة الشعب كله" وأن ينتقل الاتحاد السوفياتي إلى إقتصاد السوق، وهو ما يعني أن يستبدل المنتج بقيمة العمل المكتنز فيه، وهذا هو القاعدة الجوهرية في النظام الرأسمالي .
صحيح أن خروشتشوف كان غبياً فوق العادي لكنه لا يعدم أحداً حوله ينبهه إلى أن ماركس كان قد اشترط دولة دكتاتورية البروليتاريا الدولة الوحيدة لعبور مرحلة الإشتراكية وكتب في نقد برنامج غوتا ما يلي ..
Between capitalist and communist society lies the period of the revolutionary transformation of the one into the other.There corresponds to this also a political transition period in which the state can be nothing but the revolutionary dictatorship of the proletariat.
- هناك فترة تحول ثوري من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الشيوعي والبناء السياسي الذي يناسب هذا التحول ليس غير دكتاتورية البروليتاريا الثورية –
لكن لماذا لم يجد ماركس بناء سياسياً مطابقا لعبور مرحلة الإشتراكية غير دولة دكتاتورية البروليتاريا الثورية ؟ قلما يطرح هذا التساؤل للبحث !!
البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة في المجتمع التي تعطي أكثر مما تأخذ . حالما يكتمل شغلها في السلعة الرأسمالية تصبح السلعة غريبة عليها (Alienation) منعدمة حقوقها فيها وفق علاقات الإنتاج الرأسمالية . ولذلك حالما تأخذ البروليتاريا كل السلطة بأيديها تعلن مباشرة إلغاء كل الحقوق المدعى بها قبلئذٍ، يصبح كل الإنتاج مشاعاً وليس لأي طبقة حقوق فيه بما في ذلك البروليتاريا صاحبة السلطة حيث يتم تخصيص كل عوائد الإنتاج لتعظيم قوى الإنتاج وهو الطريق الوحيد للوصول إلى الشيوعية، وهذا أمر ذو طبيعة دكتاتورية . يتحول جميع القادرين على العمل إلى عمال غير مأجورين وحينئذٍ تكون الدولة، دولة البروليتاريا تحديداً، مسؤولة عن معاشهم بشكل مناسب فالأجر الذي كانوا يتقاضونه قبل الإشتراكية كان هو القيمة التبادلية لقوة العمل المبذولة في الإنتاج أما في الإشتراكية فالمعاش الذي يقبضه العامل آخر الأسبوع أم آخر الشهر هو معاش وليس أجراً لا علاقة له مع قوة العمل المبذولة في الإنتاج .
دولة دكتاتورية البروليتاريا تلغي كل الحقوق لكل أفراد المجتمع بما في ذلك حقوق البروليتاريا نفسها والتي لم تعد بروليتاريا بالمعنى الضيق للكلمة لأنها لم تعد مأجورة .

العسكر ليسوا أقل غباء من خروشتشوف فهم لم يفرضوا على خروشتشوف إلغاء دكتاتورية البروليتاريا وحسب بل أرغموه أيضا على إنكار النظام الإشتراكي والإنتقال إلى اقتصاد السوق . أن يتحول الاقتصاد الإشتراكي إلى اقتصاد السوق فذلك يعني انتفاء كل قيمة للأسلحة التي تشكل العمود الرئيسي لقوة العسكر وجبروتهم الطاغي . ظل نداء إقتصاد السوق الذي نادى به خروشتشوف في المؤتمر الثاني والعشرون للحزب في العام 61 معلقاً في الهواء حيث أن النظام الرأسمالي وهو إقتصاد السوق في الجوهر كان قد مضى عصره وانقضى عندما قضى البلاشفة على الثورة البورجزازية المضادة في العام 1918 – 19 .
حاول رئيس المخابرات السوفياتية يوري أندروبوف حال خلافته لبريجينيف في الأمانة العامة للحزب في نوفمبر 82 تطبيق اقتصاد السوق بالقوة فرفع أسعار المواد التموينية لأول مرة في تاريخ الاتحاد السوفياتي بدل أن كان يتم خفضها في نهاية كل خطة خمسية، وبدأ ملاحقة العمال الهاربين من المصانع وإعادتهم إلى العمل بالقوة غير أن رجل المخابرات أندروبوف لم يكن يدرك أن العمال في دولة دكتاتورية البروليتاريا كانوا يشتغلون تطوعاً دون أجر ولن يتبرعوا بالعمل في مصانع تنتج للسوق ولغير العمال . وكيف يمكن تقرير سعر السلعة بينما العمل المختزن في السلعة هو عمل تطوعي لا قيمة تبادلية له ؟ ما كان رئيس المخابرات ليواجه غير الفشل . لن يقوم في روسيا الإقتصاد الرأسمالي مدى الحياة منذ أن تمكن البلاشفة من سحق ثورة البورجوازية الدينامية المضادة .

فيما بعد المؤتمر الثاني والعشرين في العام 61 وقد ذهب خروشتشوف بعيداً في الخيانة وألغى دكتاتورية البروليتارية وهي العلامة الفارقة للإشتراكية، كما أنذر بأنه سيحول "علاقات الإنتاج " الإشتراكية إلى علاقات إنتاج رأسمالية تتمثل باقتصاد السوق، فطن خروشتشوف الغبي أنه وصل إلى نهاية طريق الخيانة ولن يعود للعسكر حاجة به وسيلقوا به قريباً في سلة الزبالة . إذاك ظن هذا الغبي أن بإمكانه أن يعود القهقرى فبدأ يذكّر من حوله بأنه ما زال اشتراكيا ولا ينكر دور ستالين الكبير في بناء الإشتراكية . في مثل هذه الحالة يتوجب القول لهذا الغبي .. "في الصيف ضيعت اللبن !" .

في أكتوبر 1964 بينما كان خروشتشوف يتفقد حقول الذرة في الجنوب وهي الزراعة التي نقلها عن أميركا من أجل إثراء طبقة الفلاحين، استعادة لشعار بوخارين في العام 1925 منادياً .. "أيها الفلاحون اغتنوا بأنفسكم" – بالرغم من أن خروشتشوف نفسه عمل على إعادة الإعتبار لكل خونة الحزب ما عدا تروتسكي وبوخارين – أستدعي على عجل لحضور إجتماع طارئ للمكتب السياسي . عاد في الحال إلى موسكو متسائلاً عن حقيقة هذا الاجتماع الطارئ وتوجه في الحال إلى مكتب الحزب ليجد هناك ضباط المخابرات وليس أعضاء المكتب . خيّره قائد الضباط بين الاستقالة أو رصاصة في دماغة كما يقتضي الأمر إليه . طبعاً لم يكن خيار الخائن نيكيتا خروشتشوف سوى الاستقالة . وقع كتاب الإستقالة وانصرف إلى بيته .
ظهر خونة كثيرون بين الصفوف القيادية في الحزب الشيوعي السوفياتي لكن بحجم هذا الخائن وبمثل أثره لم يكن أحد منهم . لم يكن سبب ذلك هو مهارة هثل هذا الغبي في الخيانة بل لأنه قبل لنفسه أن يسلم قيادة الحزب الشيوعي للعسكر الذين هم من طلائع الطبقة البورجوازية الوضيعة وصادف أن يكونوا قوة عظمى في البلاد إثر الحرب الوطنية ضد النازية واغتيال ستالين من قبل رفاقه في قيادة الحزب وكان القوة التي لا يمكن تجاوزها في أمور الوطن السوفييتي .

العسكر الذين أطاحوا بخروشتشوف إنتدبوا رفيق بريجينيف في مركز الأمين العام للحزب وهو من كان يعرف سر قوة خروشتشوف وهو سطوة العسكر على مختلف أمور الاتحاد السوفياتي . جهد بريجينيف في تعميد ولائه للعسكر فنشط في تسويق مبيعات الأسلحة وهي العمود الرئيسي لسلطة العسكر حتى وصل مبيعات الأسلحة في سنة واحدة إلى عشر مليارات دولار . كان بريجينيف يعي أنه إنما جاء به العسكر ليكمل طريق خروشتشوف في الخيانة . ليونيد بريجينيف الذي كان شيوعياً ماركسياً شديد الحماس للشيوعية حينما أنتخب مرشحا لعضوية المكتب السياس في آخر مؤتمر بلشفي للحزب الشيوعي 1952 إنقلب إلى مسوّق سلاح بعد أن تحول الإتحاد السوفياتي من مصنع للإشتراكية إلى مصنع للسلاح . في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في هلسنكي في يوليو تموز 1975 توجه الشيوعي المفلس ليونيد بريجينيف إلى الرأسماليين المفلسين الأربعة جيرالد فورد الرئيس الأمريكي وهارولد ويلسون رئيس ورزراء بريطانيا وفاليري جيسكار ديستان الرئيس الفرنسي وهلموت شميدت مستشار ألمانيا يستعطفهم الإلتقاء في منتصف الطريق كيلا يخسر كلانا !! مثل هذا الإستعطاف يستحضر مباشرة تحدي ستالين لتشكيل حلف شمال الأطلسي في العام 49 حين قال .. " لن نحاربكم لكننا سنهزمكم في المنافسة السلمية " وهو ما يعني أن الدول الغربية مجتمعة ليست بمستوى الإتحاد السوفيتي لتحاربة كما أثبتت الحرب العالمية الثانية وبرز الاتحاد السوفياتي الدولة الأقوى في الحرب وبمثل ذلك سيكون الدولة الأقوى في الإنتاج السلمي .
مات بريجينيف في كمد في العام 82 وقد نفّس عن بعض كمده في المؤتمر السادس والعشرين للحزب في السنة السابقة عندما قال .. القيم المثلى التي عهدناها سابقاً في المجتمع الإشتراكي لم تعد موجودة لأسفنا البالغ .
بعد رحيل بريجينيف حزمت نفسها الطغمة العسكرية وقررت تعميد جنرال عسكري كأمين عام للحزب لأول مرة في تاريخ الحزب الشيوعي وهو مدير المخابرات الجنرال يوري أندروبوف كيما يمحو كل تلاوين الإشتراكية صراحة ودون لف ودوران . فبدأ الجنرال برفع أسعار كافة المواد الإستهلاكية دون أن يلغي العمل التطوعي الإشتراكي وهو ليس في مصلحة العسكر . كان العمال قد بدأوا يهربون من المعامل فجند أندروبوف الشرطة لملاحقة العمال الهاربين وإعادتهم بالقوة للعمل بالسخرة . فشل أندروبوف بالكلى قبل أن يفشل في تحقيق أهدافه وتوفي في العام 84 .
خلف يوري أندروبوف قسطنطين تشيرنينكو وكان على حافة قبره وقضى بعد سنة من ولايته فعقبه ميخائيل غورباتشوف . غورباتشوف لم يكن شيوعياً على الإطلاق وقد اعترف هو نفسه بذلك . ما يلزم التأكيد عليه في هذا المقام هو أنه لم يتواجد شيوعي واحد في قيادة الحزب منذ الإنقلاب العسكري على الحزب في 29 يونيو جزيران 57 وطرد سبعة أعضاء من المكتب السياسي من أصل 11 عضواً وكان العضو الأخير غير الشيوعي ميخائيل غورباتشوف الذي بادل الاتحاد السوفياتي براتب تقاعدي مجزٍ . تاريخ الإتحاد السوفياتي بعد رحيل ستالين يدل بكل جلاء وتبعاً لقرائن الوقائع والأحداث أن من استلم السلطة بعد اغتيال ستالين لم يكن هو الحزب أو رفاقه الذين اغتالوه كما خططوا بل هو الجيش بقيادة المخابرات (KGB ) .

"إنتهى"