الثورة ضد كتاب «رأس المال»


انطونيو غرامشي
2020 / 2 / 27 - 00:16     

* نُشرت في «آفانتي» في ٢٤ كانون الأول / ديسمبر ١٩١٧

الثورة البلشفيّة هي الآن جزء حاسم من الثورة الشاملة للشعب الروسي. لشهرين مضيَا كان الجذريّون هم العناصر النشطة المطلوبة لتأمين عدم ركود الأحداث، وعدم توقّف الاندفاعة نحو المستقبل في حال إتمام تسوية نهائيّة - هي التسوية البرجوازيّة. والآن تسلّمَ هؤلاء الجذريّون الحكم وأنشأوا دكتاتوريّتهم، وهم يؤسّسون إطاراً اشتراكيّاً في إمكان الثورة أن تستقرّ فيه إذا كان لها أن تنمو على نحو منسجم، دون مجابهات رأسيّة، وأن تؤسّس على المكتسبات الضخمة التي سبق أن تحقّقت.

البلاشفة يرفضون كارل ماركس

تتكوّن الثورة البلشفيّة من أيديولوجيّات أكثر منها أحداثاً، (وبالتالي، ففي نهاية المطاف، لسنا نحتاج حقّاً إلى أن نعرف أكثر ممّا نعرف أصلاً). إنّها الثورة ضدّ كتاب «رأس المال» لكارل ماركس. في روسيا، كان «رأس مال» هو كتاب البرجوازيّة أكثر منه كتاب البروليتاريا. إنّه يمثّل البيان النقديّ عن الكيفيّة التي بها يتعيّن أن تتبع الأحداث مساراً محدّداً سلفاً: أي كيف يتعيّن على البرجوازيّة أن تتطوّر في روسيا، وكيف يجب أن تُفتتح حقبةٌ رأسماليّة تترافق مع تأسيس نمطٍ غربيّ من الحضارة، قبل أن يساور البروليتاريا حتى التفكيرُ في شروط انتفاضتها الخاصّة، وفي مطالبها الذاتيّة، وثورتها المميّزة. لقد فجّرت الأحداث الترسيميّة النقديّة التي تحدّد مسار تاريخ روسيا وفق قواعد المادّيّة التاريخيّة. يرفض البلاشفةُ كارل ماركس، وتشهد ممارساتهم ومنجزاتهم السافرة على أنّ قواعد المادّيّة التاريخيّة ليست بذات القدْر من الجمود كما التصوّر السابق والحالي عنها.

ومع ذلك ثمّة حتميّة في تلك الأحداث، وإذا كان البلاشفة يرفضون بعض مقولات «رأس المال» فإنّهم لا ينكرون ما ينطوي عليه من فكر مزخّم. ليس هؤلاء البشر بـ«ماركسيّين». هذا كلّ ما في الأمر. لم يستخدموا أفكار «المعلّم» لتأسيس عقيدة من المقولات الدوغمائيّة التي لا يرقى إليها تساؤل. لقد عاشوا الفكر الماركسيّ - هذا الفكر الخالد، والذي يمثّل استمرار النّزعات المثاليّة الألمانيّة والإيطاليّة، والذي تلوّث في حالة ماركس بعلائق وضعيّة وطبيعويّة. يرى هذا الفكر الذي عاشوه أنّ العامل الحاسم في التاريخ ليس هو الوقائع الاقتصاديّة الخام، إنّما هو الإنسان، هم البشر داخل مجتمعاتهم، البشر في العلاقات المتبادلة بينهم، يتوافقون فيما بينهم، ويطوّرون إرادة اجتماعيّة مشتركة من خلال التواصل (الحضارات)؛ ويتوصّلون إلى إدراك الوقائع الاقتصاديّة والحكم عليها وتكييفها حسب إرادتهم إلى أن تتحوّل تلك الإرادة إلى القوّة الدافعة للاقتصاد، قوّة تصوغ الواقع الموضوعيّ، الذي يعيش ويتحرّك ليصير يشبه تياراً من الحمم البركانيّة المتدفّقة يمكن توجيهها يحسب الوقت والاتّجاه الذي تقرّره إرادة البشر.

لقد توقّع ماركس ما هو قابل للتوقّع. لكنّه لم يكن بمقدوره أن يتوقّع الحرب الأوروبيّة، والأحرى أنّه لم يكن بمقدوره أن يتوقّع بأنّ الحرب سوف تطول إلى هذا الحدّ أو أنّها سوف تترك الآثار التي تركتها فيها. لم يكن بمقدوره أن يتوقّع أنّه في غضون ثلاث سنوات من العذاب والبؤس العصية على الوصف، سوف تحفّز تلك الحرب الإرادةَ الشعبيّة الجمعيّة في روسيا كما حفزتها. في الأحوال العاديّة، يتطلّب الامر مساراً طويلاً من البثّ التدريجيّ في المجتمع لكي تتكوّن تلك الإرادة، ومروحة واسعة من التجارب الطبقيّة.

البشر كسولون، يحتاجون إلى التنظيم، التنظيم الخارجيّ أوّلاً، في نقابات وروابط ومن ثمّ التنظيم الداخليّ في فكرهم وإرادتهم... إنّهم يحتاجون إلى مواظبة دؤوبة وحوافز خارجيّة متعدّدة. لهذا السبب، في الأحوال العاديّة، تستطيع قواعد المادّيّة التاريخيّة الماركسيّة القبض على الواقع، تقبض عليه وتوضحه. في الأحوال العديدة، تصنع طبقتا المجتمع الصناعيّ التاريخ من خلال صراع طبقيٍّ متزايد الحدّة. فالبروليتاريا شديدة الوعي لفقرها، ولقلقها الدائم، فتضغط على البرجوازيّة لتحسين مستوى معيشتها. إنّها تخوض الصراع وهي تجبر البرجوازيّة على تحسين تقنيّات الإنتاج وتكييفها أكثر فأكثر لتلبية حاجات البروليتاريا الملحّة. والنتيجة مسارٌ رأسي للتحسين، ونحو تسريع وتائر الإنتاج والمزيد من الاستمراريّة في إنتاج السلع لصالح المجتمع. في هذه الاندفاعة يتساقط العديدون على جانبي الطريق، ما يجعل حاجات المستمرّين أكثر إلحاحاً، فإذا الجماهير في حالة تململ لا متناهية وهي تكوّن من خلال هذه الفوضى تنظيماً معيّناً لأفكارها فتزداد وعياً لطاقاتها الذاتيّة، وقدراتها الخاصّة على تحمّل المسؤوليّة الاجتماعيّة، وتصير سيّدة مصيرها.

هذا ما يحصل في الأحوال العاديّة. عندما تتكرّر الأحداث بوتيرة منتظمة إلى حدٍّ ما، عندما يسير التاريخ يسير في حقبات متشابهة، مع أنّها متزايدة التعقيد والثراء من حيث المعنى والقيمة. لكنْ في روسيا، صهرت الحرب إرادة البشر. نتيجة العذابات المتراكمة عبر ثلاث سنوات، تكوّنت لهم إرادة واحدة كأنّما بين ليلة وضحاها. المجاعة داهمة والجوع، والموت من الجوع يمكن أن يقضي على أيّ أحد، قد يسحق عشرات الملايين من البشر ضربةً واحدة. على نحو آليّ في البدء، ثمّ على نحو حيويّ وواع بعد قيام الثورة الأولى، توحّدت الإرادة الشعبيّة.

الوعي يختزل المراحل

وضعت الدعاية الاشتراكيّة الشعبَ الروسي على صلة بتجارب البروليتاريا في سائر البلدان. فبمقدور الدعاية الاشتراكيّة أن تحْيي تاريخ البروليتاريا على نحو دراميّ في لحظة: نضالاتها ضدّ الرأسماليّة، السلسلة الطويلة من الجهود المطلوبة لتحريرها كليّاً من قيود العبوديّة، وقد زادتها بشاعة، ولتمكينها من تكوين وعيٍ جديدٍ ولأن تشهد الآن على عالم سيأتي. هي الدعاية الاشتراكيّة التي كوّنت إرادة الشعب الروسي. فلماذا ينتظرون لكي يتكرّر تاريخ إنكلترا في روسيا، وللبرجوازيّة أن تنهض، وللصراع الطبقيّ أن يبدأ، وللوعي الطبقيّ أن يتكوّن وللكارثة النهائيّة للرأسماليّة أن تصيبهم، في نهاية الأمر؟ إنّ الشعب الروسيّ - أو على الأقلّ أقليّة من الشعب الروسي - قد سبق لها أن مرّت بتلك التجارب في الفكر، وتجاوزتها. وإنّها ستستخدمها الآن لتفرض نفسها تماماً مثلما ستستخدم التجربةَ الرأسماليّة الغربيّة لكي ترقى بسرعة إلى مستوى الإنتاج الذي بلغه العالم الغربي. بعبارات رأسماليّة، أميركا الشماليّة أكثر تطوّراً من إنكلترا، الآن الأنغلو - ساكسون في أميركا الشماليّة انطلقوا من المستوى الذي بلغته إنكلترا بعد مسار تطوّر طويل. والآن، البروليتاريا الروسيّة، المتعلّمة في مدرسة الاشتراكيّة، ستبدأ تاريخها انطلاقاً من أرقى مستوى بلغتْه إنكلترا في أيّامنا هذه. ولأنّها مضطرّة أن تبدأ من الصفر، فالبروليتاريا ستبدأ من حيث توصّل الآخرون إلى الكمال، فتندفع بالتالي لتحقيق ذلك المستوى من النضج الاقتصاديّ الذي اعتبره ماركس شرطاً ضروريّاً للتشريك.

إنّ الثوريّين سيخلقون بأنفسهم الشروط المطلوبة لتحقيق كامل هدفهم. وإنّهم سيخلقون ذلك بأسرع ممّا حقّقته الرأسماليّة. والانتقادات الموجّهة إلى نواقص النظام الرأسماليّ وإلى هدره الثروات، يمكن توجيهها اليوم على يد الثوريّين من أجل تحسين أدائهم، وتحاشي الهدر وعدم الوقوع ضحيّة العذاب. ولنفترض أنّ نظاماً برجوازيّاً قد قام [في روسيا] لكان عليه أن يرث ظروف الفقر والعذاب ذاتها. إنّ الرأسماليّة غير قادرة على أن تحقّق في روسيا فوراً ما لا يقدر التشريك على تحقيقه. والحقيقة أنّها ستحقق أقّل من ذلك لأنّها ستواجهها فوراً بروليتاريا متذمّرة ومشاغبة، بروليتاريا لم تعدْ قادرة على احتمال أن يسومها الآخرون العذاب والحرمان اللذين يحملهما التفكّك الاقتصاديّ. لذلك، في الظروف البشريّة المطلقة، قيام الاشتراكيّة في روسيا له ما يبرّره. والمصاعب التي تنتظر الروس بعد إحلال السلام، سوف تكون محتملة إذا شعر البروليتاريّون بأنّهم مسيطرون على أقدارهم ويدركون أنّهم بجهودهم يستطيعون التخفيف من تلك المصاعب بأسرع وقت ممكن.

لدى المرء الانطباع أنّ الجذريّين في هذه اللحظات هم التعبير العفويّ عن حاجة بيولوجيّة - اضطرّوا إلى أن يتسلّموا الحكم في روسيا ليحولوا دون أن يصير الشعب الروسيّ ضحيّة كارثة فظيعة، وليشعر الشعب الروسيّ، وقد آلى على نفسه بذل الجهود الجبّارة المطلوبة من أجل نهضته، بأنّ أنياب الذئب الجائع باتت أقلّ حدّة، وكي لا تصير روسيا مرعى قطعان شاسعاً من الوحوش الكاسرة يمزّق بعضها بعضاً إرباً إرَباً.