ساعتان مع الشيوعي النبيل نبيه رشيدات


عبدالرزاق دحنون
2018 / 8 / 19 - 13:50     

عرفت الطبيب الرائع الرفيق نبيه رشيدات في مكتب الحزب الشيوعي السوري في قلب العاصمة السورية دمشق خريف عام 1989 وكان وقتها عضواً في المكتب السياسي وفي هيئة تحرير "نضال الشعب" الجريدة المركزية الناطقة بلسان حال الحزب. وهو من أهل الأردن على كل حال. وأعتقد أن كلمة عرفت لا تفي بالمراد. فقد خيل لي أنني كنت أعرفه دوماً, فهذا الإنسان المديد القامة, بطلته البهية, يأسر النفس من النظرة الأولى. في بهو المكتب التفت نحوي على عجل ومد يده مُصافحاً بحرارة وودّ, والبسمة لا تُفارق ثغره, ثمَّ قال على مهل: هل أنت صاحب الرسالة المكتوبة على ورق طويل جداً الممتد لأكثر من أربعة أمتار و الموجهة إلى هيئة تحرير نضال الشعب؟ قلتُ: نعم, أنا هو. قال: لابد إذن من جلسة هادئة تليق بتلك المعلقة الشيوعية الطويلة, تعال بصحبتي إلى تلك الغرفة, في جعبتي ساعتان من الوقت حتى نصل إلى نتيجة.
جرى هذا الحديث على الماشي, وحين اختلينا إلى ركن بسيط في الغرفة سألني عن عملي وعن تحصيلي الدراسي وعن اهتماماتي. مما جعلني أنجذب إليه, وولّد في نفسي ميلاً شخصياً إليه, وأحسست من كلماته الأولى صدق الحديث ونزاهة لا تشوبها شائبة إزاء الوقائع, فهو يبدى رأيه بحزم دون لف أو دوران. قلتُ: انتظرت ردك يا رفيق ستة أشهر ولم تُجب على رسالتي! قال ضاحكاً: ها أنا أُجيب الآن, هل يُرضيك ذلك؟
حكاية الرسالة التي عرفتني إلى نبيه رشيدات هي اعتراضي على الأساليب الصحفية التي كانت تعتمدها جريدة نضال الشعب في أدائها تلك الأيام. وقد كنت أحفظ عن ظهر قلب قول لينين:
"يجب بالضرورة وقبل كل شيء آخر إيجاد الصلة الفعلية بين المدن على أساس العمل المشترك المنظم, واني أؤكد بإصرار أن الشروع بإيجاد هذه الصلة الفعلية غير ممكن إلا على أساس الجريدة العامة. يجب أن تصبح هذه الجريدة جزءاً من منفاخ حدادة هائل ينفخ في كل شرارة من شرارات النضال الطبقي والسخط الشعبي ويجعل منها حريقاً عاماً, وحول هذا العمل, الذي يبدو بريئاً جداً وصغيراً جداً يحد ذاته, ولكنه منتظم وعام بكل معنى الكلمة, يتعبأ بصورة منتظمة ويتعلم, جيش دائم من مناضلين مجربين"
أحلام شباب يا سيدي, وقد افتتحت رسالتي بهذه العبارات الطويلة من كتاب لينين المشهور ما العمل؟ وافق الرفيق نبيه رشيدات على مجمل ما جاء في الرسالة, ومن ثم راح يفند لي -بصدق ونزاهة- جميع صعوبات العمل الصحفي وتعقيداته في العاصمة دمشق التي لم أكن أدركها أنا القادم من بلدة ريفية صغيرة يعمل أغلب أهلها بالفلاحة والزراعة في الشمال السوري. وخرجت من عند الرفيق نبيه رشيدات وأنا أدرك ما كنت لا أدركه.
أدركت حينها أن الرفيق نبيه رشيدات من الشخصيات التي تمتد كالجسور على دروب حياتنا. إنهم جسور العقل والروح, جسور تربط بين أجيال البشر وتربط العالم من حيث المسائل الأخلاقية الأساسية للحياة العامة على الأرض, جسور يجري عبرها تراكم القيم والمعارف العلمية والروحية. جسور نمشي عليها كل يوم ونقابل الماضي والحاضر ونبحث عن أجوبة لأعقد قضايا الحياة الاجتماعية والحياة الشخصية ونتعلم الأحلام والحب العظيم ونفرق بين الخير والشر, بين الحق والباطل, وننخرط في النضال ضد أولئك الذين يريدون زعزعة أسس هذه الجسور وغلق مداخلها أمام الناس ويريدون بالتالي بذر الشكوك بيننا وبين قيم الخير فينا. الرفيق نبيه رشيدات من أولئك الذين تجاوزوا زمانهم في نضال حاسم لا هوادة فيه من أجل حرية الإنسان وسعادته, من أجل ترسيخ المثل العليا الجديدة للوجود البشري.