بنطال كارل ماركس


عبدالرزاق دحنون
2018 / 8 / 17 - 09:38     

يحدث هذا كلّ ثانية في شوارع مدن العالم, فتيات وفتيان بالجنز. جنز بأشكال وألوان متنوعة فيها القصير والطويل, الضيق والواسع, المقطع والمرقوع, الرثُّ والخَلق, ما هذا الجنز الأزرق الفاتح الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس؟ الجنز أحد أكثر الملابس شعبية وشيوعاً على كوكب الأرض, وأكثرها إثارة للاهتمام على مرِّ الزمن, إذ يخلق هذا النوع من الملابس ارتباطاً عاطفياً مع مرتديه. نعم, فما إن تبدأ في ارتدائه حتى يظهر أثره في تصرفاتك اليومية, تميل إلى الثقة بقدراتك و الانطلاق في حقول الحياة الفسيحة .
يكتب الأديب السوري الكبير حسيب كيالي-طيَّب الله ثراه في دبي- في سياق قصته "جنز" الواردة ضمن مجوعته القصصية "الحضور في أكثر من مكان" الصادرة في دمشق عام 1979يقول: في الشمال السوري بين مدينة إدلب وبلدة معر تمصرين ضيعة تُسمى "الفوعة" اشتُهرت من بين ما اشتُهرت به من المنتجات الزراعية المعروفة في المنطقة بصناعة يتوارثها الأبناء عن الآباء عن أجداد الأجداد, هي صناعة الخام, إذا قلتَ: خام فوعي, عنيت قماشاً أضرب فيه السكين ترجع عنه. لماذا لا يُفصّلون البناطيل من هذا الخام الرائع ويصنعون منه جنزاً لا يبلى, والقطن من عندنا واليد العاملة المختصة من عندنا؟
نعم يا عمي حسيباً ها هم عمالنا من شمال بلاد الشام يساهمون في صناعة الجنز من هذا الخام هنا على شاطئ بحر إيجة, يعملون من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءاً بقوت يومهم. وأتساءل من يعمل اثنتي عشر ساعة في اليوم لتأمين لقمة عياله؟ قال أحد أصدقاء العمل: والله لو كان أبونا آدم مستلق على سرير من العسل كلّ هذا الوقت لتعب. والأكثر شناعة وفظاعة ورعباً وردية العمل الليلي من الثامنة مساءاً حتى الثامنة صباحاً. نحن في أواخر العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وما يزال رأس المال نهماً جشعاً لا يشبع, يُطلُّ علينا كل صباح بوجهه القبيح. وأسمع صوت رفيقي شيخموس في وردية الليل يهتف من قلب موجوع ويدين كلتا من العمل في بنطلونات الجنز: بس يا جنز, مستعيراً عنوان أول فلم عن عمال غوص اللؤلؤ ومعاناتهم اليومية في مياه الخليج العربي باسم "بس يا بحر" وكُلُّنا في الهوا سوا.
يخطُر في بالي في ضجَّة ليل يُرخي سدوله في فضاء المعمل الذي صار أليفاً بعماله ومديري أقسامه وصباياه –وحتى بآلاته- صديقي كارل ماركس و كتاب "رأس المال". نعم, أتذكر هذا الرجل الذي أطلق هذه الحركة المشاعية التي انتظم فيها ملايين الجياع في شتى القارات, وأدت إلى تحسين جذري في معيشة الكادحين على نطاق كوكب الأرض, وهذا ما سعى إليه من تأليف كتابه المشهور.
ماركس وأنجلز من أولئك الفلاسفة الكبار الذين يتمتعون بقدرة مذهلة على الاستمرار, فقد تكامل مشروعهم المشاعي فكرياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. ويحضرني هنا قول أحد العاملين المخضرمين في أضخم بنك الاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية: كلَّما طال بقائي في "وول ستريت" ازدادت قناعتي أن آراء ماركس وأنجلز الاقتصادية كانت على صواب. وجائزة نوبل تنتظر ذلك الاقتصادي الذي سيجمع الماركسية كلَّها في نموذج متماسك. أنا مُقتنع بالكامل أن طرح ماركس وأنجلز هو أفضل طريقة لرؤية الرأسمالية. ألم يؤمنا يقيناً أن الطريقة التي يعمل بها المجتمع على تنظيم الإنتاج تصوغ في النهاية مواقف الناس ومعتقداتهم؟
أين أنت يا ماركس الآن؟ هل كان بنطال الجنز سيُرضيك لو عشت في أيامنا العجاف هذه؟ لقد صار بنطال الجنز أحد أشهر ألبسة الطبقة العاملة التي سعيت لتحريرها من رتق عبودية رأس المال. و ها نحن: شيخموس, جنكيز, ميخائيل, خورشيد, سُليمان, سُلطانة, آدم, يوسف, موسى, عيسى, أحمد, عبدالرزاق, وعشرات الأسماء السورية الأخرى -التي تعمل في أحد أضخم معامل الجنز في بلاد الأناضول-نلبس الجنز ونعمل في صناعته وننظر في صدور بعضنا البعض فنجد صورتك مطبوعة في قمصاننا بعد مئتين سنة من ميلادك.
وها نحن ندور مع آلات كحت الجنز, يحتاج الجنز إلى مكحتة-وحياتنا تحتاج إلى مكحتة هي الأخرى- والمكحتة لمن لا يعرف هي التي تُعطي لباس الجنز هذه الملمس الطَّري وهذا اللون الفريد الذي لا يظهر بدون الكحت. غسالات عملاقة يتسع حوضها "ستانلس ستيل" لأكثر من مئة بنطال ومئتين وخمسين كيلو من البحص الصناعي, البحصة الواحدة بحجم بحص جبلة بيتون صب الأسطح. هذا البحص مع الماء والمساحيق يعمل على تلطيف خشونة قماش الجنز وقوته. وهناك أقسام أخرى يمر بها الجنز, البخ, الغسيل, السنفرة, الفرز, التجفيف, التنعيم, الكوي, وأشياء أخرى, حتى يستوى قطعة لباس معتبرة تسرّ الناظرين.
نحن عمال من شمال بلاد الشام, حيث كل شيء مرتفع, الروابي, والنهود, والجباه, على حد تعبير الشاعر السوري الشيوعي "صقر عليشي" في واحدة من أجمل قصائده في ديوان "قصائد مشرفة على السهل" . تتأمل وجوهنا, فتجد في عيوننا حزناً لا يكفي قرناً من البكاء لمحو آثاره, هذا الحزن يظهر جلياً في نظرات عيوننا التائهة الكليلة من تعب أيام العمل الطويلة في هذا المدى المفتوح على شبابيك الوطن البعيد, وكأنه الحزن الذي قال فيه الثائر الأرجنتيني المشهور أرنستو تشي جيفارا: "كنتُ أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقاً, لكنني لم أكن أتصور أن يكون وطناً نسكنه, ونتكلم لغته, ونحمل جنسيته" تحول حزننا إلى هوية. فجاء شاعر كوردستان "شيركو بيكه سه" ليقيس أحزاننا فقال: جاء التاريخ وقاس قامته بقامة أحزانكم, كانت أحزانكم أطول. أما من علاج لهذا الأسى الإنساني المقيم يا كارل ماركس؟