ما زال العالم يعيش عصر الثورة الإشتراكية - 9


فؤاد النمري
2018 / 7 / 31 - 18:25     

ما زال العالم يعيش عصر الثورة الإشتراكية – 9

لا مناص أمام الشيوعيين اليوم من أن يعترفوا بأنهم لم يعودوا يمتلكون استراتيجية وتاكتيكا محددين ومعلومين مثلما امتلكت أحزاب الأممية الشيوعية . وما يزيد في حالة ضياع الأحزاب الشيوعية القائمة اليوم هو أنها لا تعلم السبب الأساس لهذا الضياع .
لو طلب لهذه الأحزاب أن تحدد سبباً لهذا الضياع لسمّى معظمها انهيار الاتحاد السوفياتي غير أن الضياع سبق انهيار الاتحاد السوفياتي بل إن الانهيار نفسه كان بفعل الضياع خاصة وأن عدداً من الأحزاب الشيوعية عارضت بقوة سياسات الحزب الشيوعي السوفياتي ؛ وقد تجلّى الضياع في خطاب بريجينيف في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في هلسنكي 1975 وهو يستعطف قادة الدول الإمبريالية "الإلتقاء في منتصف الطريق كيلا يخسر كلانا" وقد بات الهم الرئيسي لقيادة الثورة الإشتراكية العالمية هو ألا يلحق الخسران بالإمبريالية العالمية !!!
وقد يدعي بعض الشيوعيين أن حالة الضياع كانت النتيجة المباشرة لحل الأممية الشيوعية في العام 1943 كيما يهدئ ستالين من روع حلفائه بريطانيا وأميركا من خطر الشيوعية . صحيح أن ستالين كان قد أخذ يتبنى سياسة التعايش السلمي مع الدول الإمبريالية لكن ليس ليؤمن مصالح الإمبريالية كما تعهد بريجينيف في مؤتمر هلسنكي بل لأن انتصار الثورة الشيوعية كما أشارت وقائع الحرب بات وشيكا ومن خلال المنافسة السلمية بعيداً عن الحرب كما كان ستالين قد أكد ذلك في تصريحه عام 49 رداً على تشكيل حلف شمال الأطلسي . الإمبريالية العالمية باتت تنتظر الحماية من قبل الشيوعيين . هكذا رسم الجبروت السوفياتي في الحرب طريق انتصار الثورة الشيوعية عريضاً وسهلاً ولم تعد الأممية الشيوعية لتغير خطاً في الطريق إلى الشيوعية، وكان حل الأممية من باب التأكيد على سهولة الطريق إلى الشيوعية .
كل من أدرك الجبروت السوفياتي في الحرب، وقد تجاوز كل المعايير التي عهدتها البشر ية من قبل، لا بدّ وأن يتحقق من أن انتقال العالم إلى مرحلة الإشتراكية بات بعد الحرب قاب قوسين أو أدنى . هذا ما عناه القرار الهام جداً الذي اتخذه مؤتمر الحزب العام التاسع عشر بحضور ستالين في أكتوبر 1952 والذي يقول .. "سينهار النظام الإمبريالي في وقت قريب" . كما أن الخطة الخمسية الخامسة التي أقرها ذلك المؤتمر كانت ستنقل المجتمع السوفياتي إلى الوقوف على أعتاب مرحلة الشيوعية في العام 1955 وإلى رفاهية لم تعرفها البشرية حتى اليوم كما تشير أرقامها المنشورة .

ما يستحق الإستهجان لا بل الشجب والإدانة هو أن عامة اىلشيوعيين لا بل جميبعهم يرتضون بحالة الضياع والاستنكاف عن الشيوعية وتبني السياسات البورجوازية الإصلاحية مثل الديموقراطية البورجوازية والتعددية وتداول السلطة والعدالة الإجتماعية المزعومة دون أن يتكلف أحدهم البحث عن أسباب الضياع أو حتى البحث في أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي !! كيف لأدعياء الشيوعية هؤلاء أن يتجاهلوا أهم معالم الحركة الشيوعية مثل جبروت الاتحاد السوفياتي في الحرب وتداعياته وكأنه غيمة صيف مرت دون إمطار، ثم المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفياتي، حزب لينين وستالين، وهو آخر مؤتمر يعقده الشيوعيون البلاشفة بحضور ستالين في أكتوبر 52، ثم دعوة ستالين لتغيير كامل قيادة الحزب وانتخاب 12 عضوا مستجدا في المكتب السياسي توطئة لذلك وإلغاء انتخابهم صبيحة وفاة ستالين، ثم الخطة الخمسية التي كانت ستنقل الاتحاد السوفياتي إلى عتبة الشيوعية وإلغائها في سبتمبر ايلول 53، وقرار المؤتمر بخصوص انهيار الإمبريالية في وقت قريب، ثم خطاب خروشتشوف الشخصي يجرّم ستالين 56 وقد تبرأ منه خر وشتشوف في خطابه يفتتح مؤتمر الحزب 59 – الشيوعيون المنحرفون يمعنون في استذكار خطاب خروشتشوف الشخصي وليس الحزبي ضد ستالين ولا يستذكرون ولو لمرة واحدة خطاب خروشتشوف الرسمي والحزبي يتبرأ من اتهام ستالين - ثم طرد سبعة أعضاء من المكتب السياسي للحزب من مجموع 9 أعضاء وهو أعلى سلطة في الدولة بموجب انقلاب عسكري قام به المارشال جوكوف في يونيو حزيران 57 وذلك لأنهم سحبوا الثقة من خروشتشوف الذي رفض التنحي عن قيادة الدولة، ثم إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا في مؤتمر الحزب 61 وهي الدمغة الفارقة للإشتراكية كما أكد ماركس واستبدالها ب "دولة الشعب كله" وهي الدولة التي سداتها البورجوازية، وبصلافة البورجوازي الوضيع طلب خروشتشوف إقرار الإستقلال المالي للمؤسسة الإنتاجية واعتماد المرابحة في تبادل المنتوجات وهذا هو جوهر النظام الرأسمالي .

الضياع الذي يتوه فيه الشيوعيون اليوم له سبب واحد وحيد وهو عدم توقفهم أمام تلك الأحداث التي تفوق أهميتها أهمية ثورة أكتوبر وذلك لأنها تلغيها . كيف لا تلغيها وماركس يؤكد أن عبور الإشتراكية يتم فقط في ظل دولة دكتاتورية البروليتاريا في حين رعاع خروشتشوف يلغون دولة دكتاتورية البروليتاريا في مؤتمر الحزب الثاني والعشرين 61 وهو ما يعني بموجب ماركس أنه لم يعد هناك اشتراكية في الإتحاد السوفياتي فيما بعد ذلك المؤتمر الذي كرّس العداء للشيوعية – وكنت في العام 63 قد أكدت انهيار الإتحاد السوفياتي في العام 90 استناداً لقرارات ذلك المؤتمر – وما يستوجب ذكره في هذا السياق هو رد لينين على أولئك الذين اعتبروا الخطة الاقتصادية الجديدة (النيب) إن هي إلا رأسمالية الدولة فاستهجن لينين ذلك متسائلاً .. كيف تكون رأسمالية الدولة والدولة السوفياتية هي دولة دكتاتورية البروليتاريا !؟

السؤال الفيصل الذي يقطع في هذا الموضوع، موضوع ضياع مختلف الأحزاب الشيوعية الماثلة اليوم، هو .. لماذا كنت في العام 1963 على قناعة تامة بأن عصابة خروشتشوف في قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي هي عصابة معادية للشيوعية، وهو ما عدت أؤكده للأمين العام المساعد للحزب الشيوعي الأردني في مايو أيار 1965 وتركت الحزب لذات السبب، بينما أحد غيري من الشيوعيين لم يرَ ما رأيت !؟ الحزب الشيوعي الأردني ظل يكتب في مطبوعاته عبارة "دولة الشعب كله" وهو ما يعني موافقته على إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا واستبدالها بلدولة تمثل العمال والبورجوازية الوضيعة كما يشير الإسم، أي الإقلاع عن سياسة "محو الطبقات" التي هي التعريف اللينيني لمبدأ الإشتراكية – دولة الشعب كله تعني أن الدولة القائمة هي دولة كل الطبقات وهو ما ينافي المفهوم الماركسي للدولة بالإضافة إلى أنه يعني وقف الصراع الطبقي الذي أعلن خروشتشوف في نفس الموتمر بكل وقاحة الإقلاع عنه – كيلا يسر الأعداء !! – كما فسر ذلك القائد للثورة الإشتراكية العالمية !!
ليس لدي تعليل لموقف الشيوعيين آنذاك من تحريفات خروشتشوف المناقضة بكل وضوح لمبادئ الشيوعية الأساسية سوى افتراضين لا ثالث لهما ..
أولهما هو إلتزام الشيوعيين المبدأي والأساسي بوحدة الثورة الشيوعية في العالم مع أن خروشتشوف كان أول من انتهك تلك الوحدة بعدائه المفضوح للحزب الشيوعي الصيني واعتذاره لتيتو حليف أميركا وتركيا في حلف البلقان المعادي للإتحاد السوفياتي . كما أن خروشتشوف كان أول من تخلى عن الروح الثورية للثورة الشيوعية العالمية حين بشر بلالإنتقال إلى الإشتراكية بدون ثورة وعن طريق الانتخابات البرلمانية .
وثانيهما هو الميل الغريزي للإنتصار للطرف الأقوى في الصراع . كان الإتحاد السوفياتي الطرف الأقوى في العام 1956 لكن ليس في العام 61 رغم أنه كان منذ العام 53 قد حول كل الصناعات إلى صناعات عسكرية . في العام 61 خضعت السفن السوفياتية المتجهة إلى كوبا لأن يعلوها المارينز من عسكر أميركا للتفتيش في أعالي البحار بموافقة خروشتشوف وكان ذلك أول إنتهاك للسيادة السوفياتية تحدث في التاريخ . كما أن خروشتشوف كان قد أقلع عن الصراع ضد الغرب الرأسمالي حيث في مؤتمر الحزب الحادي والعشرين 59 قد أرسى خطاً فاصلاً بين الثورة الاشتراكية وثورة التحرر الوطني المواجهة للإمبريالية مباشرة ووجه انتقاداً شديداً لقيادة الحزب على توجيهها إنذارا قاطعاً لدول العدوان الثلاثي على مصر 56 وإنذار أميركا وبريطانيا وسحب قواتهما من لبنان والأردن 58، وهي ذات السياسة التي لم تعارض العدوان على مصر 67 بل وبدا أنها شاركت في العدوان، وذات السياسة التي جعلت بريجينيف يستعطف قادة الدول الإمبريالية في هلسنكي 75 "لملاقاته في منتصف الطريق كيلا يخسر كلانا" .

منذ أكثر من ربع قرن وأنا أكتب عن خيانة الحزب الشيوعي السوفياتي للثورة الشيوعية أؤكدها بوقائع تاريخية لا سبيل لنكرانها دون أن أجد أحدا من الشيوعيين يراجع ويتراجع، بل إن أحداً منهم نطق بصلافة الغيّ يقول .. "أنا لا يهمني ما حدث في الخمسينيات في الاتحاد السوفياتي" – ولنا مثال من هؤلاء الشيوعيين !!!

(يتبع)