الفقر ومخاطر عولمة رأس المال


خليل اندراوس
2018 / 7 / 23 - 01:10     

لمواجهة اللاإنسانية
عندما ارى طفل جائع يبكي او فقير يتوسل ونرى احياء الفقر، والجوع والمرض اقول، كم حقير وغير انساني مجتمع رأس المال الذي ينظر الى دموع الطفل الجائع والمتوسل بابتسامة، ولكن استطيع ان اقول لا شيء مستحيل امام ارادة الفقراء امام ارادة الطبقة العاملة والتي لا بد ان تحدث الثورة الاجتماعية مستقبلا، اما بالنسبة للعالم العربي الذي يعاني من مستويات عالية من الفقر فإني اتذكر اقوال الشاعر احمد مطر حين وصف حكام الخليج بمقولته الرائعة: كل ابناء السمو والمعالي تحتنعالي، فقيل لي عيبا فكررتمقالي، ثم قيل لي عيبا فكررت...


عولمة رأس المال وعصر الامبريالية الحاضر اعلى مراحل الرأسمالية، لم يعزز فقط التطور التكنولوجي والتقني فقط التي تمكنها من زيادة الانتاج والتطور والتقدم، لكنها ادت الى تسريع وتعميق انتشار الفقر والبطالة والمرض وانهيار الثقافات التقليدية. وطبقة رأس المال والشركات العابرة للقارات الجالسين على قمة الفوضى العالمية لديهم من الثروات الضخمة التي تساعدهم على مواجهة الازمات الاقتصادية المتكررة ومواجهة التغييرات الجذرية المستقبلية الآتية لكن الفقراء يفتقدونها.
طبقة رأس المال سواء كانت افرادا ام شركات او مؤسسات حكومية يتحملون مسؤولية الفقر الشديد الناتج عن الجهود المتهورة التي تبذل للدفع باتجاه ليس فقط التطور الاقتصادي السريع، لا بل والمنافسة مهما كان الثمن من اجل زيادة الارباح وتركيز رأس المال. عالمنا المعاصر، المرحلة الامبريالية يعمق اللامساواة الاجتماعية – الاقتصادية وهذا الوضع العالمي المتأزم يفرض على كل سياسي ورجال الاقتصاد وعلماء الاجتماع ان يبحثوا عن العوامل الكامنة وراء ظهور "المعجزات الاقتصادية" في بعض الدول ودراسة التطور غير المتكافئ، في بعض الدول وزيادة الفقر والبطالة في اغلبية الدول النامية الى تسيطر عليها مؤسسات برجوازية كومبرادويه مرتبطة مع طبقة رأس المال العالمي والتي تخلق في بعض الدول طبقات وأحزمة فقر متعددة الثقافات الى جانب جزر من الفخامة والحداثة، وقد رأيت هذا الواقع خلال زيارتي للمكسيك العام الماضي. وهناك من زار دول اخرى مثلا كالهند ووجد هذا الواقع المأساوي ويطرح السؤال كيف استطاعت طبقة الاثرياء طبقة رأس المال قولبة النظام العالمي الحاضر من اجل ان يأخذ امتيازاتهم نحو الذروة الامر الذي ادى الى زيادة المسافات الاقتصادية الاجتماعية التي تفصلهم عن الفقراء.
ويطرح السؤال الم يكن من المفترض ان تفيض الثروة التي انتجتها العولمة والتطور التكنولوجي وتنساب الى حيث الحاجة اليها تزداد بشكل عميق ومتسارع؟ اي الى شرائح الشعوب التي تعاني من الفقر والتهميش، لكن التطورات الاقتصادية والاجتماعية الى الآن في عصرنا الحاضر لا تسير بهذا الشكل فيما عدا الامم التي جرى فيها ثورة صناعية جديدة، مثل دول جنوب شرق آسيا والصين واجزاء من الهند التي تشكل استثناءات كبيرة وهي استثناءات لأنها كبيرة بالتحديد، ففي عالم الاسواق الحرة يكون حجم السوق هو الامر الاهم حتى في دول رأس المال. في دول الرأسمالية المتحكمة في الاقتصاد العالمي تزداد الفوارق بين الاثرياء والفقراء اتساعا، فحتى داخل الولايات المتحدة الفقر يزداد وانخفضت معدلات الاجور ونظام التقاعد مهدد، بالاضافة الى ارتفاع كلفة العناية الصحية بتصاعد مستمر، وهذا التفاوت الطبقي المستمر المتزايد يضع ما يسمى "بالدمقراطية الرأسمالية" تحت المساءلة والبحث والانتقاد ولا بد ان يؤدي الى انتفاضات شعبية طبقية والى ثورات اجتماعية في المستقبل. ونلاحظ في السنوات الاخيرة ان الاجتماعات السنوية التي تعقدها مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، والشركات متعددة القوميات تواجه مظاهرات احتجاج كبيرة بالاضافة الى الكثير من الدراسات والمقالات النقدية في وسائل الاعلام العالمية المختلفة.
بعد فشل تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي حدث ما يمكن تسميته "بثورة الاثرياء" ثورة طبقة رأس المال ضد طبقة العمال وروجت هذه الردة المحافظة الرجعية التي تزعمتها رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر والرئيس الامريكي رونالد ريغان في الثمانينيات من القرن الماضي مقولة ان الاسواق الرأسمالية الحرة، هي مثال مجرد وهي الطريق الوحيد للتطور لأنها محرك المرونة الفردية والحرية، ووقع في هذه الردة المحافظة الرجعية في تلك الفترة غورباتشوف عندما وافق وصدق وعود تاتشر بأنها ستتعاون اقتصاديا مع روسيا وستدعم الاقتصاد الروسي تحت تأثير احد مستشاريه المقربين الذي كان عميلا للمخابرات المركزية الامريكية ال، سي.آي.ايه. وهذه الردة الرجعية لا بل ثورة طبقة رأس المال دفعت الاقتصاد العالمي والنظام السياسي باتجاه قيود اقل وسلطة اكبر للشركات الخاصة والافراد، والشركات العابرة للقارات، وهذا ادى الى انتصار طبقة رأس المال المتحررة من كل القيود والتي تعطي الاولية لحرية السوق وحرية طبقة رأس المال وأدت الى زيادة تركيز رأس المال بأيدي افراد وشركات معدودة، ونتج عن ذلك سيطرة داروينية اقتصادية جديدة تتميز بتركيز رأس المال وبالتركيز على التقنية العالية وتنادي ببقاء الشركات الاسرع في السيطرة على الاسواق العالمية والمحلية، اما الفجوة التاريخية بين الاثرياء، طبقة رأس المال، والفقراء، الطبقة العاملة، فسرعان ما اصبحت اكبر وأكبر.
والدول الرأسمالية المتحكمة في الاقتصاد العالمي احدثت نمو كبير في اقتصادها مما جعلها تبحث عن مصادر واسواق جديدة مما يجعل حدودها الاقتصادية تمتد الى ربط مجموعة من العلاقات الاقتصادية السياسية مع الدول النامية، ولكن الشيء غير المرغوب فيه هو ان هذه الدول الرأسمالية المتطورة على جميع المستويات الفكرية والثقافية والعلمية والسياسية والاقتصادية دخلت في هويات الدول الاخرى وسيطرت على اقتصادها، الا انها حافظت على هويتها الثقافية خاصة وان العولمة لم تقتصر فقط على البعد المالي والاقتصادي بل تعدت ذلك الى بعد حيوي ثقافي متمثل في مجموع التقاليد والمعتقدات والقيم، كما ان العولمة لا تعترف بالحدود الجغرافية لأي بلد بل جعلت من العالم قرية صغيرة، لذلك يستخدم مفهوم العولمة لوصف كل العمليات التي تكتسب بها العلاقات الاجتماعية نوعا من عدم الفصل وتلاشي المسافة حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد – قرية واحدة صغيرة، ويعرف مالكولم واترز مؤلف كتاب العولمة، بأنها "كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد او بدون قصد الى دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد". ولذلك عندما تزداد الفجوة والتفاوت ما بين طبقة رأس المال والطبقة العاملة تكسب هذه الظاهرة طابع عالمي عابر للقارات، وهذا لا بد وان يقوض ويزعزع استقرار هيمنة طبقة رأس المال مستقبلا، على مستوى عالمي وبرفع شعار "يا عمال العالم اتحدوا" عاليا من جديد وبقوة، فالفجوة بين الفقراء والاغنياء في القرن الواحد والعشرين اصبحت اكثر حدة بسبب السياسات التنافسية الهجومية التي اتبعتها طبقة رأس المال والتي ادت الى اضعاف شرعية قواعد الاقتصاد العالمي التي ارسيت بعد الحرب العالمية الثانية وفتحت الابواب امام همجية وبربرية مفاهيم السوق الحرة، واكبر تعبير على ذلك الارباح الهائلة لشركة مايكروسوفت الى استعداد رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلسكوني لتغيير القوانين بهدف الافلات من الادانة ومن اجل توسيع امبراطوريته العالمية، اضافة الى جهود جورج بوش الهادفة الى تغيير الهيكلية الضريبية لصالح الواحد بالمئة الاغنى من سكان الولايات المتحدة.
ان طغمة طبقة رأس المال تعمل من اجل زيادة ارباحها وتعمل من اجل دفع مصالح وحقوق الطبقة العاملة والدول النامية الى الوراء وما يسمى بدمقراطية المجتمع الرأسمالي اُفرغ من مضمونه بحكم الاثرياء وتركيز رأس المال، والتركيز الاعلامي لخدمة طبقة رأس المال وتحويل "الفردية" الى ثروة مادية. وهكذا نجحت هذه الثورة "المخصخصة" للعولمة الى حد ان كارثة اقتصادية عالمية هي في طريقها الى التشكل مستقبلا اذا لم تغير طبقة رأس المال سلوكياتها وتبادر الى ايجاد فرص للفقراء لزيادة اكتفائهم الذاتي، ومن المعلوم ان الفقر يقود الى تشكيك اكبر وفوضى وكمثال على ذلك العمر الاقصى المتوقع للفرد الروسي العادي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي واستبداله بالرأسمالية التي هي على علاقة وثيقة مع نخبة المافيا، او هناك مثلا آخر، قضية الفقر المنتشر والبطالة والقلق الاجتماعي في الاقتصاديات "الانتقالية" الموجودة في اوروبا الشرقية، مثل رومانيا التي تعتبر امثلة حية على الوعود الكاذبة التي جاء مع رأسمالية السوق الحرة، ولنأخذ اخيرا اتساع دائرة الفقر في الولايات المتحدة نفسها في مطلع القرن الحادي والعشرين على الرغم من الارتفاع الهائل لمرتبات المدراء التنفيذيين في الشركات المتعددة القوميات. فسيطرة المؤسسات والطبقات والافراد الاغنياء، تستغل وتخلق وتستعبد الفقراء، ففراعنة مصر استخدموا آلاف العبيد من اجل بناء الاهرامات، كذلك بني تاج محل في الهند بأيدي المحرومين الفقراء المتعبين وايضا سيطرة الكنيسة الكاثوليكية القوية على قضايا البشر لقرون عدة، وهي لا تزال تسعى لنشر نفوذها حتى في هذه الايام. اما قياصرة روسيا فقد استغلوا مئات آلاف الفلاحين وتماما مثلما فعلوا مالكو المزارع الامريكان عن طريق العبودية في فترة ما قبل الحرب الاهلية، واتت بعد ذلك سيطرة طبقة رأس المال والشركات العابرة للقارات وبعد ذلك ثروة الاحتكارات النفطية مع ما تمثله من انتقال السيطرة من ايدي شركات النفط المتعددة الجنسيات الى ايدي الافراد المسيطرين في البلاد المنتجة للنفط، كالامير الوليد بن طلال آل سعود وغيره من امراء آل سعود.
منذ نهاية القرن العشرين وحتى الآن جرى تدفق مفاجئ للافراد المفرطين في الثراء ومثل على ذلك بيل غايتس من مايكروسوفت ومايكل ديل من شركة ديل للكومبيوتر وريتشارد غراسو الذي رأس بورصة الاسهم في نيويورك، اما الذين يملكون العقارات الخاصة او يستطيعون الحصول على القروض، والذين يستطيعون الحصول على فرص تعليمية وفرص توظيف فقد تمكنوا جميعهم من استخدام ثورة تقنيات المعلومات من اجل الوصول بامتيازاتهم الاقتصادية الى نقطة الذروة الى حد ان اعدادا هائلة منهم قد اصبحوا من اصحاب المليارات قبل بلوغهم سن الاربعين، وهكذا نرى بان المجتمع الرأسمالي في اعلى مراحل تطوره – الامبريالية – لا ينصف الطبقة العاملة، بل يستكدها ولا يعطيها حقها الواجب والضروري الموضوعي في اغلب الاحيان فيبقى الكثيرون من شرائح الطبقة العاملة فقراء يجاهدون ليكسبوا معيشة كل يوم بيومه. فرغم ان ثروة العالم بلغت مستويات عالية فان نصف البشرية تقريبا لا نصيب لها في كل هذه الثروات، فنحن نعيش في مجتمع رأس مالي تسوده مفاهيم الانانية وهيمنة طبقة رأس المال التي لا يهمها سوى زيادة الارباح على حساب جميع شعوب العالم وما نراه في الفترة الاخيرة هو ضمور وضعف في الاتحادات العمالية الى جانب انتقال السلطة من الحكومات الى الشركات متعددة الجنسيات وحلت حركة الرساميل الخاصة محل حركة المساعدات الحكومية كذلك حلت مراكز نخبة المدراء التنفيذيين محل مراكز وزراء الحكومة الذين يضعون سياسات الدولة. فطبقة رأس المال تعمل بشكل مثابر ومدروس من اجل تقليص عمل الحكومات الى حدود التشريعات وفرض النظام في داخل هذه الدولة الرأسمالية او تلك من اجل حماية مشاريع طبقة رأس المال، والى زيادة الانفاق على التسلح خدمة لشركات صناعة الصلاح والى تحويل الحوافز تجاه اعطاء الحرية الكاملة "للسوق" ولطبقة رأس المال في حين تزداد نسبة الفقراء في عالمنا، وهؤلاء الفقراء يفتقدون المدخول او الاصول اللازمين لتلبية الاحتياجات البشرية الاساسية لعائلاتهم مثل المواد الغذائية، الماء، المسكن، الطاقة، التعليم، والعلاج الطبي.
وعندما ارى طفل جائع يبكي او فقير يتوسل ونرى احياء الفقر، والجوع والمرض اقول، كم حقير وغير انساني مجتمع رأس المال الذي ينظر الى دموع الطفل الجائع والمتوسل بابتسامة، ولكن استطيع ان اقول لا شيء مستحيل امام ارادة الفقراء امام ارادة الطبقة العاملة والتي لا بد ان تحدث الثورة الاجتماعية مستقبلا، اما بالنسبة للعالم العربي الذي يعاني من مستويات عالية من الفقر فإني اتذكر اقوال الشاعر احمد مطر حين وصف حكام الخليج بمقولته الرائعة:
كل ابناء السمو والمعالي تحت
نعالي، فقيل لي عيبا فكررت
مقالي، ثم قيل لي عيبا فكررت
مقالي، فانتبهت الى سوء مقالي
فقدمت اعتذاري لنعالي
الواقع في المجتمع الرأسمالي في عصرنا الحالي هو تراكم المكاسب الاقتصادية في اقصى طرف طبقة رأس المال، وهذا يؤدي الى جعل الطبقة العاملة افقر فأفقر وهذا سيجعل الصراع الطبقي جدليا اعمق واشد. والجدير في القرن الحادي والعشرين المتعلق بالفجوة ما بين الاغنياء والفقراء هو ان هذه الفجوة منهجية بشكل شمولي ولا عجب ايضا ان تبلغ حصة افريقيا من الصادرات والواردات العالمية اقل من اثنين بالمئة، وايضا لنأخذ مثال جهود الحكومة الامريكية غير الاعتيادية من اجل تطبيق قوانين الهجرة على الحدود المكسيكية بطريقة تظهر وكأنها مقصودة، حيث تسمح بمرور أيد عاملة رخيصة تساعد على المحافظة على القدرة التنافسية للاقتصاد الامريكي. وفي عالمنا المعاصر، يعاني مليار ونصف مليار شخص من سكان المدن، من مستويات تلوث هواء اعلى من المستويات التي تنصح بها منظمة الصحة العالمية، كذلك يموت مليون ونصف مليون شخص من ساكني المدن سنويا نتيجة امراض متعلقة بالتلوث، بينما يعاني مليار انسان في العالم من امراض متعلقة بمشاكل في المياه.
لذلك يجب تغيير انماط السلوكيات الجماعية للاغنياء، لطبقة رأس المال من اجل تضييق التباعد بين الفقراء والاغنياء، وهذا لا يمكن ان يحدث بدون نضال مثابر للطبقة العاملة من خلال مؤسسات ونقابات واحزاب عمالية تطرح البدائل الاقتصادية السياسية التقدمية بشكل تراكمي من اجل احداث الثورة الاجتماعية في المستقبل، والا فسوف تصبح الارض مكانا غير مناسبا للعيش للاغنياء وللفقراء.