كارل ماركس ما زال حيَّاً


عبدالرزاق دحنون
2018 / 7 / 17 - 23:53     

محاولة جعل كارل ماركس يتحدث لغة شعبية بسيطة مفهومة للجميع ليست مستحيلة, وأجرؤ على القول بأن المتسول الذي يقف على أرصفة المدن المكتظة بالناس المتخمين ويطالب بحقه: من مال الله. يفهم ماركس -على بساطته وأميته- أكثر منا نحن الذين ندعي فهمه. فأنت تستطيع الآن أن تعكف على قراءته, وستكون سعيداً إذا فهمته, لذلك تعال معي نستعين بعالمة الاقتصاد البريطانية السيدة "نورينا هيرتز" التي عملت بشغف في تشريح جسد النظام الرأسمالي العالمي في القرن الواحد والعشرين ونشرت نتائج هذا التشريح في كتاب حمل عنواناً لافتاً "السيطرة الصامتة, الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية" وقد صرَّحت علناً أنها سعتْ كي يكون هذا الكتاب نصيراً للشعب والديمقراطية والعدل الاجتماعي. وتريد من خلال كتابها هذا أن تمتحن التبرير الأخلاقي لتلك الرأسمالية التي تشجع الحكومات على بيع مواطنيها. وتسعى إلى أن تظهر كيف أن السيطرة الصامتة التي يمارسها أصحاب رأس المال على الحكومات والهيئات الاجتماعية تُعرّض الديمقراطية للخطر.

1

تؤكد أن كتابها لا يراد منه أن يكون ضد اقتصاد رأس المال. إذ من الواضح بأن طريق الرأسمالية يصنع الثروة ويراكمها بين أيدي فئة قليلة من أصحاب رأس المال. وقد عملت التجارة الحرة والأسواق المفتوحة علي إيجاد نمو اقتصادي غير مسبوق استفاد منه معظم سكان العالم, إن لم يكن جميعهم. كما أنها لا تنوي أن تمجد الحكومات, مع قناعتها أن على الدول أن لا تفقد الدور الاجتماعي الذي وجدت من أجله. لاسيما الآن حيث تنطمس الحدود بين النشاط التجاري والحكومة وتنعدم القيادة السياسية ذات الإرادة الصلبة. مما يؤدي إلى اتساع الهوة بين من يملك ومن لا يملك.

2

من جهتي أشكر الكاتبة لأنها استطاعت كسر هذا الصمت ولا أطالبها بما لا تستطيع. فلو ذهبت أبعد من ذلك لنهشتها وسائل الإعلام التي يسيطر عليها أصحاب رأس المال. وهذه السيدة الاقتصادية بريطانية الجنسية وتعرف قواعد اللعبة جيداً. وتدرك جيداً أن كارل ماركس مازال حيَّاً ومنه استمدت أدواتها في تشريح رأس المال. نعم, هذا هو عالم السيطرة الصامتة, العالم صبيحة الألفية الجديدة, حيث أيدي الحكومات مغلولة, و الشركات الكبرى تتحكم بمصائر الدول. ورغم عدم اعتراف الحكومات بهذه السيطرة فإنها تجازف بتحطيم العقد الضمني بين الدولة و المواطن الذي هو أساس المجتمع الديمقراطي. حيث غدا الناس أقل ثقة بالمؤسسات الحكومية الآن مما كانوا علية قبل عقود, و يتجلى هذا في تراجع نسب المقترعين في الانتخابات العامة و قد لا يكون من العجيب أن يدير جمهور الناخبين ظهورهم لسياسات تقليدية حتى في بلدان تعلن بأن الديمقراطية هي واحدة من أعظم إنجازاتها عندما تكون الحكومة فيها -و مهما كانت قناعاتها السياسية- في ضعف مطرد، غير مستعدة أو غير قادرة على أن تتدخل إلى جانب مصالح مواطنيها، وفاقدة - كما يبدو - لأي إحساس بالغاية الأخلاقية من وجودها.

3

لا عجب إذا كان مواطنيها يتجاهلون صناديق الاقتراع و البرلمان نفسه كوسيلة لتسجيل مطالبهم و احتجاجاتهم و أصبحوا يزدادون بعداً عن الأحزاب السياسية وأكثر نقداً للمؤسسات السياسية, ولم يحدث مثل هذا الانصراف عن السياسة منذ تطور حق الانتخاب للجميع. إن الحكومات التي حاربت في الأمس من أجل الأرض والوطن صارت تناضل الآن بشكل عام من أجل مؤشرات السوق, وغدت إحدى الوظائف الأولى لهذه الحكومات إيجاد بيئة يمكن أن تزدهر فيها الشركات وتجتذبها. وأصبح دور الشعب, إلى حد كبير, توفير البنية التحتية التي تحتاج إليها هذه الشركات وبأقل تكلفة. ولم يشهد التاريخ الحديث مثل هذه الهوة التي تفصل بين الفقراء والأغنياء, ولا مثل هذه الأعداد من المستبعدين, أو الذين لا نصير لهم. وتتجاهل الحكومات مواطن الضعف في هذه الرأسمالية التي تُسهم في إفقار قسم كبير من الناس وتدفع بهم نحو البؤس والفاقة. وهذه الحكومات يزداد عجزها عن معالجة نتائج أنظمتها بسبب إجراءات السياسة التي تطبقها.

4

ويستمر الصدام وبمستويات شتى بين الشعب وبين السلطة دون أن يحسم لصالح أحد الطرفين. وفي مجرى الصراع تصعد إلى السلطة في مدد متفاوتة شخصيات تتسم بجنوح الحاكم المستبد في التعامل مع الشعب وطريقة استخدام الصلاحيات. إن الحداثة الغربية لم تستطع حتى الآن وبعد مرور ثلاثة قرون أن تستوعب ثورة التنوير في الفكر الأوروبي التي سبقت الثورة الفرنسية. وهذه الثورة لم تكن إلا صدى واحد من الأصداء التي كان ينتظر أن تتركها كتابات فولتير وروسو وغيرهم من منوّري القرن الثامن عشر. ألا ترى من يحكم العالم اليوم ؟ هل هم تلاميذ روسو وفولتير أم أحفاد شارلمان وريتشارد قلب الأسد؟

5

إننا نقف اليوم, تقول الكاتبة, في مفترق طرق حرج. فإن لم نعمل شيئاً, وإذا لم نتحد السيطرة الصامتة, وإذا لم نمتحن نظام اعتقادنا, وإذا لم نعترف بذنبنا في خلق نظام العالم الجديد هذا, فإن كل شيء سيذهب هباء. إن الوصول إلى عالم أفضل شيء ممكن, عالم مساواة أكثر وعدالة أوفر وديمقراطية أوسع. إن أولئك الذين حرموا من الحقوق الانتخابية الحقيقية نتيجة سيطرة أهل الثروة والجاه على مقاعد البرلمان واستخدامها من أجل مصالحهم الخاصة وبالتالي فقد البرلمان دوره الحقيقي الذي وجد من أجله. وإن أولئك الذين آثروا أن يتحدثوا نيابة عن المحرومين فقدوا ثقة الشعب نتيجة فسادهم. وبالتالي سنحتاج إلى وضع آليات جديدة لمساعدة الناس على محاربة الظلم كجزء من أعادة بناء أوسع للمؤسسات التي تمثلهم. ويجب إعطاء جميع الناس أينما كانوا في الريف أو المدن الحقوق الأساسية من أجل حياة كريمة. يجب ضمان حقوق العمال والفلاحين كالصحة والسلامة والرعاية الاجتماعية في العمل, وألا يطرد العامل من عمله أو يستغنى عنه دون مكافأة كافية ليعيش حياته عزيزاً في مجتمعه.