200 عام على ميلاد كارل ماركس – مؤسس الشيوعية العلمية


خليل اندراوس
2018 / 6 / 3 - 10:46     


فقر وإبداع
عاش ماركس وعائلته تحت وطأة الفقر المدقع ولولا المساعدة المالية الدائمة المخلصة التي كان يقدمها له ‏انجلز لاستحال على ماركس انجاز كتاب "رأس المال" وحسب، بل كان قد هلك حتما من البؤس، ومن ‏جهة أخرى كانت المذاهب والتيارات السائدة في الاشتراكية البرجوازية الصغيرة والاشتراكية غير ‏البروليتارية بوجه عام تضطر ماركس إلى خوض نضال دائم لا هوادة فيه كما كانت تضطره احيانا للرد ‏على اكثر التهجمات الشخصية جنونا وغباوة، وقد تحاشى ماركس حلقات المهاجرين وانكب على ان ‏يصوغ في جملة من المؤلفات التاريخية نظريته المادية باذلا جهده لدراسة الاقتصاد السياسي على الاخص، ‏وقد نفخ ماركس في هذا العلم روحا ثورية‏



كارل هانريك ماركس فيلسوف الماني واقتصادي وعالم اجتماع ومؤرخ وصحفي واشتراكي ثوري، ولد في الخامس من ايار سنة 1818 في مدينة ترير (بروسيا الرينانية) وكان ابوه محاميا وكان يهوديا، ثم اعتنق البروتستانية في سنة 1824. ولم تكن عائلة ماركس الميسورة والمثقفة عائلة ثورية. وبعد ان اتم ماركس دراسته الثانوية في مدينة ترير دخل جامعة بون، ثم جامعة برلين فدرس الحقوق وبنوع خاص التاريخ والفلسفة.
سنة 1841 انجز دراسته بتقديم اطروحته الجامعية حول فلسفة ابيقور، وما زال ماركس آنذاك متمسكا بآراء هيغل المثالية، وفي برلين انضم إلى حلقة "الهيغليين اليساريين" (برونو باور وغيره) الذين كانوا يحاولون ان يستخلصوا من فلسفة هيغل استنتاجات إلحادية وثورية، عندما تخرج ماركس من الجامعة اقام في مدينة بون حيث كان يأمل بالحصول على منصب استاذ في الجامعة، ولكن السياسة الرجعية التي كانت تسلكها الحكومة حيث اقصت، عام 1832، لودفيغ فورباخ عن منصبه كاستاذ، وعادت في سنة 1836 فرفضت من جديد السماح له بالعمل في الجامعة، ومنعت في سنة 1841 الاستاذ الشاب برونو باور من القاء محاضرات في بون، هذه السياسة الرجعية اضطرت ماركس العدول عن النشاط الجامعي.
في ذلك الوقت، كان تطور افكار الهيغلية اليسارية يجري سريعا جدا في المانيا وكان لودفيغ فورباخ قد اخذ منذ سنة 1836 على الخصوص، يوجه النقد إلى علم اللاهوت ويتجه نحو المادية التي احرزت الغلبة نهائيا عنده في سنة 1841 (كتاب جوهر المسيحية)، وفي سنة 1843 ظهر كتابه "الاحكام الاساسية لفلسفة المستقبل" لقد كتب انجلز فيما بعد حول هذين المؤلَّفين لفورباخ قال: "كان يجب ان يكون الانسان قد تحسس بنفسه الاثر التحريري لهذين الكتابين.. فلقد اصبحنا نحن" (أي الهيغليين اليساريين بمن فيهم ماركس) "دفعة واحدة، من اتباع فورباخ" (فريدريك انجلز "لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية" – المؤلفات – الطبعة الروسية الثانية. المجلد 21 ص 281) وفي ذلك الوقت، اسس البرجوازيون الراديكاليون في رينانيا، الذين كان لهم بعض نقاط التقاء مع الهيغليين اليساريين جريدة معارضة في مدينة كولونيا باسم "الجريدة الرينانية" (التي اخذت تصدر ابتداء من اول كانون الثاني سنة 1842) وقد دعي ماركس وبرونو باور إلى العمل محررين اساسيين فيها وفي تشرين الاول (اكتوبر) سنة 1842 اصبح ماركس رئيس تحريرها، فانتقل من مدينة بون إلى كولونيا وتحت ادارة ماركس اخذ اتجاه الجريدة الدمقراطي الثوري يزداد وضوحا، فعمدت الحكومة في اول الامر إلى اخضاع الجريدة لرقابة ثنائية بل ثلاثية ثم قررت تعطيلها تماما ابتداء من اول كانون الثاني (يناير) سنة 1843، فاضطر ماركس حينئذ للتخلي عن مركزه في تحرير الجريدة، ولكن خروج ماركس لم ينقذ الجريدة اذ انها منعت من الصدور في آذار سنة 1843، ومن اهم المقالات التي نشرها ماركس في "الجريدة الرينانية" يشير انجلز إلى مقال حول اوضاع الفلاحين صانعي الخمور في وادي الموزيل. وقد ادرك ماركس من نشاطه الصحفي ان معلوماته في الاقتصاد السياسي غير كافية فعكف بحماسه على دراسته.
وفي سنة 1843 تزوج ماركس في كريزناخ من جيني فون ويستفالن صديقة طفولته التي خطبها وهو ما يزال طالبا، كانت زوجته من عائلة نبيلة رجعية بروسية وكان اخو جيني فون ويستفالن الاكبر وزيرا للداخلية في بروسيا في مرحلة من اشد المراحل اغراقا في الرجعية، وذلك بين سنة 1850 و 1858. وفي سنة 1843 انتقل ماركس إلى باريس ليصدر في الخارج مجلة راديكالية مع ارنولد روغه (عاش ارنولد روغه من سنة 1803 الى سنة 1880 وكان هيغليا يساريا، وسجن من 1825 إلى 1830 وهاجر بعد سنة 1848، وبعد 1866 – 1870 اصبح من انصار بيسمارك ولكن لم يصدر من هذه المجلة المسماة "الحولية الالمانية الفرنسية" سوى العدد الاول اذ اضطرت للتوقف بسبب الصعوبات الناجمة عن توزيعها بصورة سرية في المانيا وبسبب الخلافات مع روغه، وفي المقالات التي نشرتها هذه المجلة برز ماركس ثوريا ينادي "بانتقاد لا هوادة فيه لكل ما هو كائن" بما في ذلك "انتقاد الاسلحة" (كارل ماركس: "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل، المقدمة" ومقال "حول المسألة اليهودية")، ويتوجه إلى الجماهير والى البروليتاريا بعد انهيار الصحيفة، بدأ ماركس بالكتابة للصحيفة الالمانية الراديكالية اليسارية الوحيدة التي لم تكن تخضع للرقابة ومقرها باريس، صقل ماركس وجهات نظره حول الاشتراكية المبنية على افكار الدياليكتيكية لهيغل والمادية لفورباخ وفي نفس الوقت انتقد الليبراليين والاشتراكيين الآخرين الموجودين في اوروبا.
وفي ايلول سنة 1844 جاء فريدريك انجلز إلى باريس لقضاء بضعة ايام فيها فأصبح منذ ذلك الحين الصديق الحميم لماركس، عرض انجلز على ماركس مقالة حديثة النشر حول ظروف الطبقة العاملة في انجلترا في عام 1844 مقنعا ماركس ان الطبقة العاملة سوف تكون فاعلة وأداة ثورة، قرر الاثنان كتابة نقد حول الافكار الفلسفية لصديق ماركس السابق برونو باور وتم نشره عام 1845 بعنوان "العائلة المقدسة"، وقد اسهم كلاهما بأشد الحماسة في الحياة المحمومة للجماعات الثورية التي كانت آنذاك في باريس (وكانت تولي هناك اهمية خاصة لمذهب برودون وقد صفى ماركس حساب هذا المذهب تصفية قاطعة في كتابه "بؤس الفلسفة الذي صدر عام 1847)، وصاغا في غمرة نضالهما الحاد ضد مختلف نظريات الاشتراكية البرجوازية الصغيرة نظرية وتكتيك الاشتراكية البروليتارية الثورية او الشيوعية (الماركسية).
وفي سنة 1845 طرد ماركس من باريس لكونه ثوريا خطرا بناء على طلب الحكومة البروسية، فجاء ماركس إلى بروكسل - بلجيكا بعد طرده من فرنسا، في بروكسل رافق ماركس اشتراكيين آخرين منفيين من جميع انحاء اوروبا بمن فيهم موسي هيس وكارل هينزين وجوزيف ويديمير، قبل ان ينتقل انجلز إلى المدينة منضما اليهم. في ربيع 1847 انتمى ماركس وانجلز إلى جمعية سرية "عصبة الشوعيين" (اول منظمة شيوعية عالمية للبروليتاريا، انشئت على قاعدة العصبة السرية للعادلين في حزيران عام 1847) وقاما بقسط بارز في المؤتمر الثاني لهذه العصبة المنعقد في لندن في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1847، وبناء على تكليف المؤتمر وضع ماركس وانجلز "بيان الحزب الشيوعي" المشهور الذي نشر في شباط سنة 1848. ان هذا الكتاب يعرض بوضوح ودقة عبقريين المفهوم الجديد للعالم، يعرض المادية المتماسكة التي تشمل ايضا ميدان الحياة الاجتماعية والديالكتيك بوصفه المذهب الاوسع والاعمق للتطور ونظرية النضال الطبقي والدور الثوري الذي تضطلع به في التاريخ العالمي البروليتاريا خالقة المجتمع الجديد، المجتمع الشيوعي.
وعندما انفجرت ثورة شباط 1848، طرد ماركس من بلجيكا فعاد إلى باريس ليتركها بعد ثورة آذار ويعود إلى المانيا ليقيم في مدينة كولونيا، حيث صدرت من اول حزيران 1848 إلى 19 ايار سنة 1849 "الجريدة الرينانية الجديدة"، التي كان ماركس رئيس تحريرها، وقد اثبت مجرى الاحداث الثورية في 1848 – 1849 كما اثبتت فيما بعد جميع الحركات البروليتارية والدمقراطية في جميع بلدان العالم صحة النظرية الجديدة على نحو ساطع.
في بادئ الامر اقدمت الثورة المضادة المنتصرة على احالة ماركس إلى القضاء فبرِّئ في 9 شباط سنة 1849 ثم نفته من المانيا في 16 ايار عام 1849 فانتقل اولا إلى باريس حيث طرد منها ايضا بعد مظاهرة 13 حزيران 1849 (مظاهرة نظمها حزب البرجوازية الصغيرة ("الجبل") احتجاجا على انتهاك الرئيس واكثرية الجمعية التشريعية للاوضاع الدستورية التي اقامتها ثورة عام 1848، فرقت الحكومة المظاهرة)، ثم ذهب إلى لندن حيث عاش حتى آخر ايامه وعلى الرغم من ان بريطانيا انكرت مواطنته الا انه ظل فيها حتى وفاته.
ان ظروف حياة المهاجر هذه كانت مضنية إلى اقصى حد فقد عاش ماركس وعائلته تحت وطأة الفقر المدقع ولولا المساعدة المالية الدائمة المخلصة التي كان يقدمها له انجلز لاستحال على ماركس انجاز كتاب "رأس المال" وحسب، بل كان قد هلك حتما من البؤس، ومن جهة أخرى كانت المذاهب والتيارات السائدة في الاشتراكية البرجوازية الصغيرة والاشتراكية غير البروليتارية بوجه عام تضطر ماركس إلى خوض نضال دائم لا هوادة فيه كما كانت تضطره احيانا للرد على اكثر التهجمات الشخصية جنونا وغباوة، وقد تحاشى ماركس حلقات المهاجرين وانكب على ان يصوغ في جملة من المؤلفات التاريخية نظريته المادية باذلا جهده لدراسة الاقتصاد السياسي على الاخص، وقد نفخ ماركس في هذا العلم روحا ثورية في مؤلفيه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي (1859) و"رأس المال" المجلد الاول (1867)، في تلك الفترة واصل العمل كصحفي وكمراسل فترة 10 سنوات لصحيفة نيويورك ديلي تريبيون لكنه لم يستطع تأمين تكاليف المعيشة فكان انجلز يدعمه إلى حد كبير كما قلنا سالفا، واصبح ماركس يركز بشكل متزايد على الرأسمالية والنظرية الاقتصادية، وقد امضى بقية حياته في كتابة وتنقيح المجلدات التي لم تتم، تم تجميع المجلدين المتبقيين من رأس المال ونشرهما بعد وفاته من قبل انجلز، ثم جاءت مرحلة انتعاش النشاط في الحركات الدمقراطية في اواخر العقد السادس وفي العقد السابع فدفعت ماركس من جديد إلى النشاط العملي ففي سنة 1864 تأسست في لندن الاممية الاولى المشهورة "جميعة الشغيلة العالمية" وكان ماركس روحها، كما كان ايضا واضع ندائها الاول (المقصود "البيان التأسيسي لجمعية الشغيلة العالمية)، وعدد كبير من المقررات والتصريحات والبيانات. ان ماركس بجمعه شمل الحركة العمالية في مختلف البلدان، وسعيه إلى توجيه شتى اشكال الاشتراكية غير البروليتاريا السابقة للماركسية في طريق النشاط المشترك قد صاغ تكتيكا وحيدا لنضال الطبقة العاملة البروليتاري في مختلف البلدان.