السياسة النفاق (درس متقدم في السياسة) -2


فؤاد النمري
2018 / 5 / 20 - 19:28     

السياسة النفاق (درس متقدم في السياسة) - 2

الغرارة التي ينطلق منها كل النفاق السياسي السائد اليوم تتمثل بإنكار وحدة النظام العالمي وادعاء الإستقلال الجيوسياسي التام للدولة المعنية بذاتها . مختلف الحقائق على الأرض تفضح مثل هذا التغرير وهو ما يستدعي البحث الجاد عن أسبابه وعن تداعياته .
وُلد النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية وكان أول نظام عالمي تعرفه البشرية يحتضن العالم، كل العالم بمختلف أصقاعه . لم يكن النظام الرأسمالي في غرب أوروبا لينمو ويتطور حتى بلوغ مداه العالمي بغير تصريف فائض الإنتاج المتحقق بالضرورة في مراكزه إلى المستعمرات في الأمريكيتين واستراليا وآسيا وأفريقيا . في العام 1914 حين تفجرت الحرب العالمية الأولى، حرب إعادة تقسيم الأسواق، كان 90% من اليابسة موزعاً بين ست دول استعمارية، وهو الدلالة القاطعة على نمو النظام الرأسمالي حتى المدى العالمي .
كان ذلك قبل قرن طويل طافح بالثورات والإنهيارات تمظهرت خلاله عالمية الرأسمالية بالاستعمار وبالحروب الكبرى الدورية لإعادة تقسيم الأسواق . قبل زهاء نصف قرن إختفى النظام الرأسمالي كما اختفى الاستعمار فهل إندثرت وحدة العالم مع اندثار الرأسمالية الإمبريالية ؟
عندما كشف ماركس عن وحدة العالم في حضن النظام الرأسمالي فقد أكّد إذاك أن النظام الرأسمالي هو أول نظام عرفته البشرية يوحد العالم ولن يأتي بعده أي نظام آخر يفك هذه الوحدة . طبعاً لم يدر في خلد ماركس، وما كان يجب أن يدور، أن ينتهي النظام الرأسمالي دون أن يخلفه نظام آخر، وهو النظام الإشتراكي، وإلا فكيف يمكن أن يعيش العالم ويواصل الحياة بلا أي نظام للإنتاج !!؟
نعم، عالم اليوم ومنذ سبعينيات القرن الماضي يعيش دون أي نظام للإنتاج . وعبثاً ينكر سياسيو النفاق من كتبة البورجوازية الوضيعة هذه الحقيقة الثابتة وإلا فكيف يفسرون أن العالم كل العالم لا يستطيع أن يستمر في الحياة يقاوم الإنهيار الكلي دون الإستدانة 2 ترليون دولاراً سنوياً . الولايات المتحدة وحدها وهي الحصن الأخير للنظام الرأسمالي تستدين كل دقيقة مليون دولار وهو ما أكدته السيدة نانسي بيلوزي (Nancy Pelosi) زعيمة الأقلية الديموقراطية في البرلمان الأميركي في خطاب صارخ لها قبل أسبوعين . وثمة دلالة أخرى قاطعة تقطع في أن النظام الرأسمالي كان قد انهار قبل نصف قرن وهي أن القيمة الشرائية لخمسين دولاراً اليوم تساوي فقط القيمة الشرائية لدولار واحد من دولارات 1970 العام الأخير من عمر النظام الرأسالي، الأمر الذي يؤكد أن قوى العمل (Labour Power) في المجتمع الأميركي لم تعد تتحول إلى ثروة أو بضاعة وهي قصراً العملية الرأسمالية، حتى بات كل فرد في أميركا يحمل في رقبته ديناً يتجاوز 60 ألف دولار .

العالم يهرب من الاستحقاق الإشتراكي في فوضى عارمة ومع ذلك لم يفقد وحدته الواحدة التي أكدها ماركس . حتى في الفوضى وافتقاد أي نظام للإنتاج يوحد العالم بقي العالم موحداً . إذ كان أول مؤتمر على مستوى القمة للرأسماليين الخمسة الأغنياء (G 5) المنعقد في رامبوييه في نوفمبر 1975 لتقرير مراسم تشييع النظام الرأسمالي إلى القبر أن قرر أن القيمة (Value) لم تعد في البضاعة وهو القاعدة الأساس في النظام الرأسمالي بل في النقود الصعبة آنذاك للدول الخمسة . مثل هذا القرار اللصوصي السفيه يقول باستبدال الإنتاج البضاعي الذي كان يوحد العالم بحصيلة الدولار ملك العملات الصعبة – رغم أنه كان في السبعينيات أوهى العملات الصعبة .
وبالفعل فبالرغم من أن هذا القرار يتجاهل الواقع الإقتصادي ويناقض المبادئ الأولية لعلم الإقتصاد ويؤسس لسياسة النفاق إلا أن العالم، كل العالم يتحرك باتجاه واحد وهو تحصيل الحصة الكافية من الدولار . الدولار اليوم يوحد العالم بدل البضاعة الرأسمالية . الدولار المعولَم والذي لم يعد نقداً أمريكيا بالرغم من أن أمريكا هي قصراً تطبعه ووزبر حزانتها يوقعه لكن أمريكا لا تملك غطاءه وليست المسؤولة عن الإيفاء بقيمته كما بات معلوماً لدى العامة بل الصين التي تنتج بضاعة تغطي قيمة الدولار وهي القيمة التي تحددها الصين وليس الولايات المتحدة .

انهار النظام الاشتراكي في الخمسينيات، وليس في التسعينيات كما درج قول العامة، وانهار النظام الرأسمالي في السبعينيات ولم يقم بعدئذٍ أي نظام للإنتاج في أي من أقطار العالم . ما يسود اليوم سواء في العالم الاشتراكي سابقاً أم العالم الرأسمالي سابقاً أيضاً هو فوضى الإنتاج وهي فوضى الهروب من الإستحقاق الإشتراكي .
سياسيو النفاق يؤكدون انهيار النظا الإشتراكي لكنهم ينفون بقوة انهيار النظام الرأسمالي وذلك ليس لأنهم ينتصرون للنظام الرأسمالي بينما هم في الحقيقة أعداء له، بل ولو كانوا من أنصاره لظلوا سياسيين حقاً ولما انحرفوا إلى النفاق السياسي . ينكرون انهيار النظام الرأسالي لأنهم لو اعترفوا به لتوجب عليهم بعدئذٍ أن يحددوا صنف نظام الإنتاج القائم اليوم في العالم . ولما كان هو الفوضى وليس النظام فالأولى بهم أن يلوذوا بالصمت ما أمكن وإلا فالتستر بستارة الرأسمالية هو الملاذ الأخير - وحيّي على النفاق !!
النفاق السياسي يتجسد اليوم بإنكار وحدة النظام في العالم رغم الحقيقة الصادمة لساسة البورجوازية الوضيعة المنافقين والتي تؤكد أنه مع كل مليون تستدينه أمريكا في كل دقيقة ينحط مستوى حياة الشعوب في مختلف بلدان العالم بنفس النسبة حيث مختلف العملات في العالم مرتبطة بقيمة الدولار بعد أن ألغى اللصوص الأغنياء الخمسة (G 5) 1975 أسواق الصرف الحرة . فالريال مثلا ليس مستقلاً تجري مبادلته في سوق الصرف الحرة حيث كلما هبطت قيمة الدولار ارتفعت قيمة الريال لكنها اليوم تهبط بنفس النسبة .
ينكر الساسة المنافقون الوحدة الإقتصادية للعالم التي لا فكاك منها واعتبار بلدهم المعني ناجز الاستقلال سياسياً واقتصادياً وليس ذلك إلا ليبنوا قصوراً في الهواء . القصور في الهواء تغوي الجماهير مؤملة بمستقبل زاهر دون أن ترى عيانياً أن البورجوازية الوضيعة لن تصل إلا لمستقبل خَرِب . كل السياسات التي تتبناها أو تبشر بها البورجوازية الوضيعة ليست إلا نفاقاً يستر عورتها والتي في غفلة من التاريخ قفزت إلى سدة السلطة رغم كونها طبقة طفيلية تؤمن معاشها على حساب المنتجين الحقيقيين، على حساب العمال أولاً والرأسماليين ثانياً . القانون الأساس في علم السياسة يقول أن الطبقة التي لا تنتج لا تحكم .
نحن الشيوعيين البلاشفة نواجه البورجوازية الوضيعة منذ أكتوبر 1917 ونعترف بأنها هزمتنا في العام 1953 ساعدها في ذلك ما خلفه العدوان النازي على الإتحاد السوفياتي من خلخلة طبقية في المجتمع السوفياتي لكن انتصارها لن يستمر طالما أنها لا تنتج إلا الفقر وانتهت لأن تعتاش في روسيا على تصدير المواد الخام فلا يتجاوز مجمل انتاجها إنتاج البرتغال التي عدد سكانها أقل من عشر سكان روسيا .
التناقض الذي يحكم بالموت السريع على طبقة البورجوازية الوضيعة في الحكم هو أن نموها يتحقق فقط على حساب الطبقة العاملة، وعندما لا يعود في عمال العالم دماء فائضة تلغ البورجوازية الوضيعة فيها ستلفظ روحها خلال سويعات قليلة وسيتحرر العالم مرة واحدة وإلى الأبد