كارل ماركس بعد 200 عام: اقتصادي وثوري في آن!

غسان ديبة
2018 / 5 / 14 - 15:33     




«طالما أن الرأسمالية موجودة، سيُقرأ ماركس كونه مُحلّلها الأكثر ذكاءً. أما إذا انتهت الرأسمالية، فسيتمّ قراءته كأفضل ناقد لها. لذا سواء كنّا نعتقد أنه بعد 200 عام أخرى، أم لا، يمكننا أن نكون متأكدين من أن ماركس سيكون»
برانكو ميلانوفيتش
أمرٌ، ربّما غريب، حصل الأسبوع الماضي، وبالتحديد في 5 أيار، الذي صادف الذكرى المئوية الثانية لميلاد المفكّر الألماني كارل ماركس. كان ماركس في كلّ مكان على الرغم من مرور كلّ هذه الأعوام، وعلى الرغم من أنه في الثلاثين سنة الماضية كان إمّا مُهمّشاً بسبب اعتقاد الأكثرية بانتهاء صلاحية فكره الاقتصادي، على الأقل، وإمّا مُهشّماً بسبب ترابط فكره مع أحداث القرن العشرين والتي تمّ التركيز فيها على «جرائم الشيوعية» ورقم الـ 100 مليون ضحية الذي ساعد «الكتاب الأسود للشيوعية»، السيئ الذكر والمفتقر إلى العلمية، على تعميمها بين الناس، مستغلاً فترة انهيار الاتحاد السوفياتي والإصلاحات في الصين الشعبية ليبثّ إمّا أكاذيب مُفرطة وإمّا تضخيم أحداث كان الشيوعيون أنفسهم في الاتحاد السوفياتي والصين وغيرهما قد انتقدوها من الحقبة الستالينية إلى الثورة الثقافية، أو ساهموا في إنهائها كما حدث في كمبوديا إبان حكم الخمير الحمر.
في ألمانيا، حيث قد يعتقد البعض أنه وبسبب تجربة تقسيم ألمانيا (على الرغم من أن القرار بالتقسيم كان أميركياً) وتجربة الستاسي والجدار الفاصل في برلين، أن هذا البلد سيكون أكثر حساسية تجاه هذه الذكرى. ولكن حصل العكس. الصحف الألمانية كلّها وضعت المناسبة على صفحاتها الأولى ومدينة تراير، مسقط رأس ماركس، كانت على موعد مع إزاحة الستار عن نصب له مهدى من الحكومة الصينية، حيث ألقى رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جونكر خطاباً حول المناسبة. كما أن الكثير من الصحف العالمية التي لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالماركسية كمشروع فكري، وبالتأكيد لا علاقة لها بمشروعها السياسي، تضمّنت مقالات عن الذكرى وعن ماركس، من النيويورك تايمز إلى الإيكونوميست، مروراً بالفاينانشال تايمز تحت عناوين مثل: «لماذا كارل ماركس أكثر راهنية من أي وقت مضى؟» في الفاينانشال تايمز، إلى «ميلاد سعيد كارل ماركس: كنت محقّاً! » في النيويورك تايمز، وصولاً إلى «يا حكّام العالم اقرأوا كارل ماركس!» في الإيكونوميست.
قال أنجلز: كما اكتشف داروين قانون تطوّر الطبيعة، اكتشف ماركس قانون تطوّر التاريخ البشري
مقالة الإيكونوميست حاولت أن تكون كعادتها لاذعة، وطبعاً ناقدة إلى حدّ كبير، لكنّها لم تستطع إلا أن تقول في النهاية «إن ردّة الفعل المضادة للرأسمالية آخذة في التزايد ـــ على الرغم من أنها تأخذ في الغالب شكل غضب شعبوي أكثر منه تضامن بروليتاري. حتى الآن، يثبت الإصلاحيون الليبراليون انهم أدنى مستوى من أسلافهم من حيث فهمهم للأزمة وقدرتهم على إيجاد الحلول لها. وبالتالي عليهم أن يستخدموا الذكرى السنوية الـ 200 لميلاد ماركس ليتعرّفوا إلى الرجل العظيم ـــ ليس فقط لفهم العيوب الخطيرة التي حدّدها بذكاء في النظام، ولكن لتذكير أنفسهم بالكارثة التي تنتظرهم إذا فشلوا في مواجهتها».
هذه المقالات الثلاثة، وغيرها الكثير، تؤكّد على أهمية ماركس اليوم. طبعاً، هذا أمر عظيم لمفكّر ولد قبل 200 عام، ومرّت أفكاره بتجربة لا مثيل لها في تاريخ الفكر الإنساني، في أن يتحوّل فكر شخص، مهما علا فكره وكانت درجة ذكائه، إلى أساس نظام سياسي على مدى حوالى قرن كامل، لأكثر من 40% من سكان الأرض. لقد كانت هذه التجربة إمّا كفيلة برفعه إلى مستوى الآلهة، أو نفيه إلى العالم السفلي للشياطين. ولكن لم يحدث ذلك ولا حدث ذاك. لماذا؟ لأن ماركس هو الوحيد في تاريخ الفكر الإنساني الذي كان عالماً وثورياً في الوقت نفسه!
في عام 1986، كتب الاقتصادي الماركسي هاري كليفر مقالاً بعنوان «كارل ماركس: اقتصادي أم ثوري؟» خلص فيه إلى أن ماركس كان ثورياً، وأن أي محاولة لتلخيصه على أنه اقتصادي هو أمر خاطئ. لقد ناقشت كليفر كثيراً حول الموضوع، فكان رأيي دائماً أن المحدّد الأساسي لأهمية ماركس سيكون في النهاية في كونه عالماً وثورياً في الوقت نفسه، فعلى نظرياته أن تواجه العالم وتفسّره عندما تحاول أن تغيّره. في 17 آذار 1883، وقف فريديريك أنجلز ليقول في تأبينه «كما اكتشف داروين قانون تطوّر الطبيعة العضوية، اكتشف ماركس قانون تطوّر التاريخ البشري... ولكن هذا ليس كل شيء. اكتشف ماركس أيضاً قانون الحركة الخاص الذي يحكم نمط الإنتاج الرأسمالي الحالي... لقد ألقى اكتشاف فائض القيمة الضوء فجأة على المعضلة، بينما كان الاقتصاديون البورجوازيون أو النقّاد الأشتراكيون، حتى ذلك الوقت، يتلمّسون طريقهم في الظلام» وأضاف أنجلز «كان العلم بالنسبة إلى ماركس قوة ثورية ديناميكية تاريخية... وكان ماركس قبل كل شيء ثورياً، كانت مهمته الحقيقية في الحياة هي المساهمة في إطاحة المجتمع الرأسمالي ومؤسّسات الدولة التي جلبها إلى الوجود».
لذلك لم يكن ماركس ثورياً طوباوياً، كما تقول الأسطورة المُسيطرة بين الأكثرية الساحقة، أو كما ذكرت الإيكونوميست أنه «كان نبياً جديداً يصف مسيرة الله على الأرض، حيث سقوط الإنسان من النعمة يتجسّد في الرأسمالية، وخلاصه سيتمّ عبر ثورة البروليتاريا ضدّ مستغلّيها وخلق يوتوبيا شيوعية». في هذا الإطار، أصاب كاتب مقالة الفايننشال تايمز، آدم توز، حين كتب «لم يكن ماركس وإنجلز الوحيدين اللذين انتقدا آثار الثورة الصناعية. لكن في حين أن كثيرين من معاصريهم بحثوا عن الخلاص في إقامة مجتمعات طوباوية، ظل الألمانيان صادقين مع تربيتهما على فلسفة هيغل: ليس هناك أي هروب من التاريخ ومن منطقه». هذا ما يميّز كارل ماركس عن غيره من الذين آمنوا بالعدالة الاجتماعية، وحاربوا إلى جانب الفقراء وضدّ الظلم في التاريخ، فماركس وضع التحرّر الإنساني في صلب علم التاريخ وفي الفهم الحقيقي لطبيعة الاقتصاد الرأسمالي وديناميكياته.
إن فهم ماركس من هذه الناحية لربّما كان الأساس في قرار جريدة وول ستريت جورنال (قلعة الفكر الرأسمالي في أميركا والعالم) في عام 1991، وهو أسوأ عام للماركسية سياسياً، أن تنشر سلسلة مقالات حول العقول الثلاثة الكبرى التي طبعت القرن العشرين، ومن المرجّح أن تطبع القرن الواحد والعشرين وهم: سيغموند فرويد وألبرت آينشتاين وكارل ماركس.
ولذلك ومن دون الخوض كثيراً في مفاهيم فلسفة العلوم وعلاقتها بالماركسية (أحيل القارئ إلى مقالة مايكل بورواي «الماركسية كعلم»)، نرى اليوم أن العاملين في وول ستريت يقرأون ماركس كما ذُكر في مقالة مجلة النيويوركر في 1997 حيث استشهد الكاتب بأحد العاملين الذي قال «كلّما أمضيت وقتاً أكثر في وول ستريت، اقتنعت أكثر بأن ماركس كان محقّاً». وبُعيد الأزمة الرأسمالية في 2008 كتب جورج ماغنوس، المستشار الاقتصادي في بنك UBS للاستثمار، مقالاً بعنوان «أعطوا كارل ماركس فرصة لينقذ الاقتصاد العالمي» ذكر فيه «أن الاقتصاد العالمي اليوم لديه شبه غريب بتلك الظروف التي تنبّأ بها ماركس». كما لا يزال «البيان الشيوعي» الكتاب الاقتصادي الأكثر استعمالاً في الجامعات الأميركية بحسب إحصاءات ماركت وتش في 2013. آخر هذه الشواهد الظاهرية، أن ماركس بحسب مقالة نشرت في مجلّة Nature الشهيرة بعنوان «Who is the best scientist of them all?» باستعارة من سؤال الملكة الشريرة في سنو وايت، هو العلامة (scholar) الأكثر تأثيراً في التاريخ، بحسب حسابات كميّة في ما يعرف بمؤشر H.
طبعاً، علميّة ماركس يجب أن لا تشكّل كتاب وصفات لإنقاذ الرأسمالية أو حتى لتحليلها العلمي البحت.
أهمية فكر كارل ماركس أنه رأى في ظهور الرأسمالية الفصل الأخير في دراما صراع الإنسان مع الطبيعة
فالتأثير السياسي والثوري للماركسية أساسي ولا يزال يصدح إلى يومنا هذا. الكثيرون ينسون أنه حتى قبل الثورة البلشفية التي أطلقت الماركسية إلى العالم، كانت أفكار ماركس قد أسّست لقيام أول حزب جماهيري في التاريخ، وهو الحزب الديموقراطي الاجتماعي الألماني، الذي طبع تاريخ ألمانيا (الشرقية والغربية)، وطبع تاريخ أوروبا الغربية حتى يومنا هذا. وأفكار ماركس التي أسّست للإصلاحات في الصين عام 1978، تأخذ اليوم «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية» أسُسها منها، فهي «التي أضاءت الطريق للإنسانية لاكتشافها قانون التاريخ، وبحث الإنسانية عن تحرّرها الذاتي»، كما قال الرئيس الصيني شي جين بينغ الأسبوع الماضي في الاحتفال الذي أقيم في قاعة الشعب الكبرى في بكين.
في 5 أيار، احتفل العالم كلّه بأشكال مختلفة بالذكرى الـ 200 لميلاد كارل ماركس، ليس لأنه كان اقتصادياً كبيراً بالمعنى الضيّق، أصاب هنا وأخطأ هناك، بل لأنه طرح علمياً أكبر الأسئلة التي كانت تعتمل في طيات أكبر تحوّل اقتصادي في تاريخ البشرية، ولأنه رأى في ظهور الرأسمالية ليس فقط أسواقاً وأرباحاً وحتى تثويراً للقوى المُنتجة، بل رأى فيها الفصل الأخير في دراما صراع الإنسان مع الطبيعة ومع نفسه، فكان ماركس ليس فقط اقتصادياً بل ثورياً في آن.