الاحتكارات المالية وسلطتها المطلقة

سمير أمين
2020 / 7 / 8 - 22:24     

2018
لا تسيطر الاحتكارات على الحياة الاقتصادية فى بلدان الثالوث فحسب، وإنما تحتكر كذلك السلطة السياسية بما يخدم مصالحها، حيث تدين لها الأحزاب السياسية (من اليمين واليسار). ويعتبر هذا الوضع، حالياً وفى المستقبل المنظور، «شرعياً» رغم ما يعنيه ذلك من تهوين من قيمة الديمقراطية. ولن يتأثر هذا الوضع إلى أن تظهر، فى مستقبل ما، «جبهات معادية للمديرين الأثرياء» (البلوتوقراط) وتضع على أجندتها إلغاء الإدارة الخاصة للاحتكارات وإشراكها فى أشكال معقدة ومتطورة صراحة.

وتمارس الاحتكارات المعممة نفوذها فى التخوم بطرائق مختلفة تماماً. فرغم أن نقل المصانع والتشغيل من الباطن قد أعطى الاحتكارات بعض القدرة للتدخل مباشرة فى الحياة الاقتصادية للبلدان المختلفة، ولكنها تبقى بلداناً مستقلة تسيطر عليها الطبقات المحلية الحاكمة، وعلى الاحتكارات المعممة أن تتعامل من خلالها. وهناك عدد كبير من الصيغ التى تحكم هذه العلاقات، ابتداء من الخضوع المباشر للطبقات الحاكمة فى البلدان التى تحولت للكومبرادورية (أى أُعيد استعمارها)، خاصة فى البلدان المهمشة من التخوم (فى إفريقيا وغيرها)، إلى المفاوضات الصعبة أحياناً (مع ضرورة عمل تنازلات متبادلة) مع الطبقات الحاكمة خاصة فى البلدان االبازغةب وأهمها الصين.

وهناك كذلك احتكارات معممة فى بلدان الجنوب، وهى شركات القطاع العام الكبرى فى بلدان الاشتراكية كما هى فى الواقع (فى الصين طبعاً كما فى الاتحاد السوفيتى السابق وكذلك بحجم أقل فى كوبا وفيتنام). وكذلك كان الحال فى الهند والبرازيل وغيرهما من بلدان الجنوب الرأسمالى. وبعض هذه الاحتكارات كان لها وضع عام أو شبه عام، وبعضها قطاع خاص. ومع تعمق العولمة، بدأت بعض هذه الاحتكارات (عامة وخاصة) فى التوسع خارج حدودها وفى اتباع وسائل احتكارات الثالوث، ولكن توسع احتكارات الجنوب خارج حدودها بقى، وسيبقى لوقت طويل، هامشياً بالنسبة لتوسع احتكارات الشمال. وفضلاً عن ذلك فاحتكارات الجنوب لم تستولِ على السلطة السياسية فى بلدانها لمصلحتها المنفردة. وفى الصين ما زالت الطبقة السياسية الحاكمة فى دولة الحزب تسيطر على قلب السلطة. وفى روسيا أعاد مُركب الاحتكارات العامة/ الخاصة السلطة مرة أخرى للدولة التى كانت قد فقدتها لبعض الوقت بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. وفى الهند والبرازيل وغيرهما من بلدان الجنوب، فإن سلطة الاحتكارات ليست منفردة، وتبقى السلطة بين أيدى مجموعات قائدة متسعة تشمل البرجوازية الوطنية، والطبقات المتوسطة، وملاك الأبعديات الشاسعة، وأغنياء الفلاحين.

وتجعل هذه الأوضاع المختلفة من الضرورى عدم الخلط بين وضع الدولة فى بلدان الثالوث (حيث تعمل الدولة للمصلحة المنفردة للاحتكارات وحيث مازالت تحتفظ بالشرعية) وبين الدولة فى التخوم. فهذه الأخيرة لم تتمتع أبداً بشرعية دولة المراكز، ومن الممكن أن تفقد القليل من الشرعية الذى تملكه. فمن يسيطرون على السلطة ضعفاء ويتعرضون لأخطار الصراع الاجتماعى والسياسى.

ولا شك فى أن الفرض المستمد من النظرة الخطية المراحل التطور (التى قدمها روستوف فى عام 1960) والتى تقول إن هذا التعرض للخطر عابر وقابل للزوال مع نمو الرأسمالية المحلية المندمجة فى العولمة، غير صحيح حتى بالنسبة للبلدان البازغة. ولكن الفكر والاقتصاد الشائعين لايملكان القدرة الثقافية لفهم استحالة «اللحاق» فى داخل النظام، وأن الفجوة بين المراكز والتخوم لن تختفى تدريجياً.

والاحتكارات المعممة والسلطات التى تخدمها فى بلدان الثالوث مهتمة أساساً بالخروج من الأزمة المالية وإعادة النظام إلى ما كان عليه. وهناك من الأسباب ما يدل على أن هذه العودة، وهى ليست مستحيلة وإن كانت أصعب كثيراً مما تبدو، لن تكون مستدامة لأنها تعنى الرجوع إلى التوسع المالى الأمر الجوهرى للاحتكارات المعممة لأنه وسيلتها لانتزاع الريع الاحتكارى لمصلحتها الخاصة. ولذلك فهناك احتمال لحدوث انهيار آخر أكثر دوياً من انهيار عام 2008. وعلى أى حال، فإن إعادة النظام بهدف السماح للاحتكارات بالعودة إلى التوسع فى نشاطاتها سيعنى التوسع فى عملية التراكم عن طريق استنزاف شعوب الجنوب (عن طريق الاستحواذ على مواردها الطبيعية بما فيها الأراضى الزراعية). ولن يتغلب الخطاب البيئى عن «التنمية المستدامة» على منطق توسع الاحتكارات الذى يبدو أنه يستحوذ ظاهرياً على هذا الخطاب كما نراه بالفعل. وستكون الضحية الأساسية لهذه الإعادة هى أمم الجنوب سواء فى البلدان البازغة أو غيرها.

وهكذا فالصراعات بين الشمال والجنوب مرشحة للتفاقم فى المستقبل، وبذلك يكون رد الجنوب على هذه التحديات محورياً فى تحدى النظام العولمى بأكمله. وهذا لن يعنى التشكيك مباشرة فى الرأسمالية، ولكنه بالتأكيد يعنى التشكيك فى شرعية العولمة التى توجهها الاحتكارات المعممة المسيطرة.

ويجب أن يركز رد الجنوب على تسليح شعوبها ودولها فى مواجهة عدوان احتكارات الثالوث، وتسهيل «فك الارتباط» مع النظام المعولم الحالى وتدعيم أشكال بديلة من التعاون المتعدد الأطراف جنوب/ جنوب.

ولا شك فى أن تحدى وضع الملكية الخاصة للاحتكارات المعممة من جانب شعوب الشمال ذاتها (أى قيام الجبهة المعادية للبلوتوقراط) هدف استراتيجى مطلق من أجل تحرير العمال والشعوب. ولكن هذا الهدف لم ينضج سياسياً بعد، وليس من المنتظر تحقيقه فى المستقبل القريب، ولكن فى الوقت الحالى، من المنتظر أن تحتل الصراعات بين الشمال والجنوب مركز الصدارة على المسرح.