“كرونولوجيا” حسن الصعيب عن تروتسكي

منير زاليم
2018 / 4 / 8 - 14:20     



عودنا المنتسبون إلى ” منظمة إلى الأمام” كلما أفصحوا عن عدائهم العلني لتروتسكي كشخص وكتيار أممي ألا يتجاوزا عبارة واحدة. فقد قال شيخهم أبراهام السرفاتي من خلال مقال له نشر بجريدة أنوال الثقافي ع 10 إن لم تخني الذاكرة بعنوان “الماركسية والمسيحية والثورة في أمريكا اللاتينية “” التصور المغامر لتروتسكي” دون أن يفصح عن تجليات تلك المغامرة مثلما أسهب في مناقشة ما يميز ماركس عن غيره من الفلاسفة.
قد يتساءل القارئ لماذا الاختصار بهذا الشكل؟ يملك أحد قياديي التنظيم، عاش التجربة مع السرفاتي وهو أيضا أحد مؤسسيه، الجواب بكل وضوح وشفافية. فقد كتب في مقال له يحمل عنوان “ازمة اليسار الجديد” باسم مستعار –عبد الكريم الإدريسي- نشر في مجلة “الجسور”ع.3 أكتوبر – ديسمبر 1981 (إنه عبد الفتاح فاكهاني) ما يلي : ” وتبنت الحركة الماركسية[المغربية] أيضا موقف ستالين والحزب الشيوعي الصيني من التروتسكيين باعتبارهم إما عملاء للإمبريالية أو مجموعة من المخربين أو الاباحيين ! هذا الموقف لن يكون له أثر سياسي مباشر لأنه لم يوجد اتجاه تروتسكي يذكر بالمغرب. ولكنه يبين مدى قابلية الحركة الماركسية لهضم أطعمة جاهزة كيفما كان تركيبها. من هو تروتسكي؟ ماهي مواقفه؟ كيف قتل؟ ما هو البعد التاريخي لخلافه مع ستالين؟ هل اطلعنا على مؤلف واحد من مؤلفاته؟ … هذه امور لم يكن ينتبه لها الكثير.”
اتضح بجلاء لماذا إذن لا يتجاوز يساريو المغرب عبارة واحدة عند “الكتابة” عن الاباحيين والمخربين والمناصرين لهتلر… و … و … باختصار شديد الإنسان يعادي ما يجهل.
لكن حسن الصعيب أبى إلا ان يخالف المعهود وكتب في موقع “ريزكار” “الحوار المتمدن” مقالا مطولا كان عبارة عن “كرونولوجيا سياسية” تناول فيها بطريقة ممزوجة بين العداء والجهل أمورا تستدعي توضيحا مع الاشارة إلى أن ذلك يتطلب كتابة مجلدات على غرار ما كتبه إسحق دويتشر.
لا أعتقد انني في حاجة لذلك لأن ما يميز تروتسكي عن غيره من المنظرين الماركسيين الآخرين هو “كتاب الثورة الدائمة”. فمادامت تلك النظرية صمدت امام امتحان التاريخ العسير في الاتحاد السوفياتي اولا مع ثورة 17 فبراير وفي الصين 1925 وفي ألمانيا 1918 لماذا العودة إليها من باب التموجات الفكرية – كما كتب الصعيب-. الأمر أشبه في نظري كمن عاد ليناقش مع مجموعة بورباكي P=3,14.
يدخل كل المعادون لتروتسكي من نافذة خلافه مع لينين. وهي بدعة ابتكرها ستالين ومن سار في فلكه منذ أن ابتلع الترميدور إرث الثورة البلشفية. لكن حتى وإن افترضنا أن خطة لينين وتروتسكي تباعدتا منذ نصف المؤتمر في بروكسيل والنصف الآخر في لندن أين المشكل؟ هل الخلاف مع لينين يعتبر جرما؟ هل الانسحاب من البلاشفة والمناشفة معا يعتبر جرما كذلك؟ للناس فيما يعشقون مذاهب لأن الخلاف لا يفسد للود قضية حتى وإن افترضنا أن تروتسكي تعرض للنقد الشديد من قبل لينين قبل وبعد الثورة كما أشار إلى ذلك كاتب المقال في ريزكار. لكن لماذا لم يشر حسن الصعيب إلى ذلك النقد بدليل في إحدى كتابات لينين ولو في سبيل الإشارة؟ وبدلا من ذلك بدأ يسرد في “تاريخ” تروتسكي الحافل بالنضالات لكنه نسي أن كل ذلك كان رفقة رفيق دربه لينين.
لم يخف تروتسكي أبدا خلافاته مع لينين لا قبل الثورة ولا بعدها، كما لم يخف كذلك كل التاريخ النضالي المشترك بينهما قبل الاستيلاء على السلطة وبعدها.
أحيل كاتب المقال بموقع الحوار المتمدن أن يقرأ الرسالة التي وجهها لينين من باريس إلى بلخا نوف يوم 02 مارس 1903 أربعة أشهر بعد التحاق تروتسكي بالمجموعة الملتفة حول “الإيسكرا”. سأكتفي بمطلعها علما أن لينين كان يبدل قصاراه ليتمتع تروتسكي بعضوية كاملة داخل السكرتارية. كتب لينين في الرسالة المذكورة: “أدعو مجمل أعضاء هيئة التحرير لقبول عن طريق الاختيار بيرو [يقصد تروتسكي لأن ظروف السرية تفرض أسماء مستعارة] مع نفس الحقوق التي يتمتع بها الأعضاء الآخرون”.
ليس بلخا نوف هو من أجاب على رسالة لينين وإنما مارتوف هو من كتب لأكسلرود في لندن يوم 10 مارس 1903 دائما بصدد انضمام بيرو. لم يخف مارتوف بدوره إعجابه الشديد بالشاب تروتسكي وهذا مقطع من رسالته: “أنا مقتنع بانضمامه [يقصد تروتسكي] على غرار فلاديمير إليتش. له معارف ويعمل بكل قواه لإغنائها. أمنح موافقتي بدون شرط لاقتراح فلاديمير إليتش”.
هل يصح بعد كل هذا الحديث عن النقد الشديد والانفصال عن المناشفة والبلاشفة والمجادلات العميقة مع مختلف التيارات الفكرية والسياسية بدون وضع أي شيء في سياقه بالتدقيق؟
لنبدأ من البداية فلم يخطئ لا لينين ولا مارتوف الرجل فكل ما ذكراه في رسالتيهما ينطبق بالتمام والكمال عليه. ويتمثل سر الحديث عنه في الرسالتين في رغبة كل طرف في الفوز به كورقة انتخابية. لقد انقسم طاقم تحرير “الإيسكرا” إلى مجموعتين متعادلتين فمن جهة الشيوخ: بلخانوف وزاسوليتش وأكسلرود وفي الجهة المقابلة الشباب: لينين و مارتوف وبوترسوف. كان بلخانوف هو من يعادي بالفعل انضمام تروتسكي إلى طاقم الجريدة.
تروم هذه المعطيات التاريخية توضيح أن تروتسكي وجد طاقم الجريدة قد غرق في خلافات نضجت إلى درجة التعفن ولا يمكن لشاب لم يمض إلا اربعة أشهر مع المجموعة ان يفهم كل شيء [الكواليس سيدة الميدان]. لقد أدرك لينين وحده وقبل غيره النهاية السياسية للشيوخ أي من سيسمون فيما بعد بالمناشفة, بينما كان تروتسكي يرى في المجموعة كيانا منسجما إلى الحد الأقصى ولم يعكل ذلك الانسجام إلا صرامة لينين. كان تروتسكي ينظر إلى الأمور من زاوية العاطفة.
تساءل تروتسكي قائلا: “لماذا كان لينين قد ألح إلى درجة عالية على ضرورة ربطي بالقرب من المجموعة أكثر؟” أجاب قائلا: “لم يكن لينين يشك أنني قد أكون إلى جانبه حول النقط الأكثر خطورة” (المصدر حياتي بالفرنسية ص 202)
أجلت مسألة ترميم طاقم تحرير الإيسكرا إلى حين انعقاد المؤتمر، لكن رغم ذلك ألح بعض أعضاء طاقم التحرير على مشاركة تروتسكي كمصوت أمام المعارضة الشديدة لبلخانوف.
يقول الصعيب: “انضم[تروتسكي] إلى الحزب الاشتراكي- الديموقراطي في مؤتمره الثاني… سنة 1903 وعرف أول انشقاق بسبب خلاف حول المادة الأولى من النظام الداخلي”. ولو سلمنا بكلمة انضمام فهذا مجانب للصواب. كيف يمكن أن ينضم عضو إلى حزب غير موجود؟ علاوة على أن المؤتمر يفد إليه المندوبون عن الجهات وليس المنضمون الجدد، ناهيك عن كون البلاشفة آنذاك يعملون في السرية.
لقد حضر تروتسكي إلى المؤتمر كمفوض عن اتحاد سيبيريا ومن إحدى النكت الغريبة أن قطارا كان على وشك أن يؤدي بحياته رفقة مندوب تولا الطبيب أوليان وف الشقيق الأصغر للينين في محطة صغيرة بسويسرا. فقد تعمدا انتظار القطار في الجهة المعاكسة لوجهتهما تجنبا لعيون الشرطة السياسية ولما توقف القطار عبرا فوق خطوط السكك للصعود ولولا المسؤول عن المحطة الذي أنذر القطار بالوقوف لوقعت الكارثة.
الكلفة عقوبة 50 فرنك لم يتوفرا عليها ودرس أخلاقي أمام السويسريين. قال تروتسكي عن الحدث : “اكتفى [ المراقب] بعد مدة قصيرة , وهو يراقب التذاكر, بالتعبير أمام المسافرين الآخرين عن احتقاره الشديد للسيدين الذين كانا على وشك جمعهما أشلاء فوق خطوط القطار. لم يكن الشقي يعلم أننا سافرنا من أجل تأسيس الحزب.” (تروتسكي, حياتي ص 205 بالفرنسية).
أما بصدد انشقاق الحزب, فلم تكن الفقرة الأولى من المقررات إلا النقطة التي أفاضت الكأس فمن قبيل التبسيطية اعتبارها سببا في الانشقاق مادام الأعضاء السريون هم من لهم الحق في التصويت. كان الخلاف الحقيقي يتمثل في بناء حزب سري تحكمه صرامة تنظيمية, بينما دافع مارتوف عن تعويم الحزب. دون ان ننسى الاشارة إلى أن خلافات جدية لازالت غير قائمة وإنما فوارق غير محسوسة.
لقد سبق ان اشرت إلى ان الكواليس تلعب دورا فعالا على هامش المؤتمرات لاسيما حينما تنمو تلك الفوارق إلى درجة الخلاف. فقد انعقد لقاء طاقم الإيسكرا براسة تروتسكي على هامش المؤتمر من خلاله تمت القطيعة نهائيا بين الطرفين. قال تروتسكي بهذا الصدد :” هكذا كنت مجبرا على راسة لقاء أعضاء هيئة الإيسكرا حيث تقرر الانشقاق اللاحق بين البلاشفة والمناشفة”. (المرجع المذكور ص 208 ).
لقد فشلت كل محاولات فوز لينين بتروتسكي الشاب. إذ لم يتقبل هذا الأخير بأي حال من الأحوال طرد من يكن لهم التقدير والاحترام, اكسلرود وزاسوليتش, من هيئة تحرير الجريدة. قال بهذا الصدد : ” احتج كل كياني ضد ذلك الطرد للقدماء الذين بلغوا في النهاية قمة الحزب. وأمام ذلك السخط الذي أحسست به تولدت قطيعتي مع لينين في المؤتمر الثاني (نفس المصدر ص210)”
لقد أظهرت الاحداث اللاحقة فيما بعد وباعتراف من تروتسكي نفسه أن لينين كان على صواب في طرد المناشفة بالكمون آنذاك. عبر تروتسكي عن ذلك بالقول” كان سلوكه(يقصد لينين) يبدو لي غير مقبول ولا يغتفر ومنغص , لكنه صحيح من وجهة نظر السياسية وبالتالي ضروري للمنظمة” (نفس الصفحة). 210
تدارك تروتسكي قائلا عن خلافاته مع لينين آنذاك ” في العمق كانت خلافاتنا ذات طبيعة سياسية لن تتجلى إلا في مجال التنظيم.” (نفس المرجع ص210 )
تلك هي البداية, وسيبدو للقارئ أن تروتسكي لم ينضم وإنما كان من المؤسسين لحزب كشف عن النهاية السياسية للمناشفة وبروز خلاف تنظيمي بين لينين وتروتسكي.
يقول حسن الصعيب ” وإذا كان تروتسكي يتأسف ويعتبر أخطاءه القاتلة تكمن في عدم التحاقه بالبلشفية, قبل الثورة, فإن اكبر زلاته النظرية والسياسية التي سبقت بيروقراطية ستالين, هي تنظيره لجعل الطبقة العاملة ومعها مجموع الفئات الفلاحية خاضعة لسياسة الدولة بشكل مسبق …”
سيرا دائما على نهج قولة ع. الفتاح فاكهاني الواردة أعلاه, أوهمنا حسن الصعيب أن تروتسكي تأسف على أخطائه القاتلة المتمثلة في عدم التحاقه بالبلشفية قبل الثورة وغير ذلك من الزلات النظرية والسياسية لا ندري هل قبل الثورة أو بعدها, لكن صاحب المقال لم يدل بأي دليل في كتابات تروتسكي حول ذلك التأسف وتلك الزلات, لأنها ببساطة لا توجد بالفعل. لنقرأ ما كتبه تروتسكي بهذا الصدد : ” حين انظر مليا الآن إلى الماضي بمجمله, لم أتأسف على ما حصل. عدت إلى لينين متأخرا بكثير قياسا إلى الآخرين, لكن عدت إليه عبر مساراتي الخاصة , عابرا ومتأملا تجربة الثورة والثورة المضادة والحرب الامبريالية. بفضل تلك الظروف عدت إليه أكثر حزما وجدية من “أتباعه” أولئك الذين يقلدون احيانا المعلم خلال حياته في كلماته وحركاته بطريقة متجاوزة وتحولوا, بعد وفاته, إلى ورثة épigones عاجزين وادوات غير واعية في أيدي قوى الأعداء.”( حياتي ص 212 وما بعدها, باللغة الفرنسية) .
لا أتوخى من هذا المقال العودة إلى النقاش حول الثورة ومن سيكون الفارس والفرس, لأن ذلك حسم سياسيا على ضوء الثورات التي جرت مند 1905 إلى حدود 1925 في مهزلة العلاقة بين الكومنترن والكومنتانغ وكيف كان البلاشفة أيام لينين في حاجة إلى قطع مسافات ضوئية للالتحاق برفيقهم تروتسكي, بقدر ما أروم توضيح بعض النقط وردت في مقال حسن الصعيب.
لقد دخل تروتسكي في صراع مع جناح الأقلية مند سنة 1904 وليس كما كتب صاحب المقال بين 1907 و1914 . قال تروتسكي عن ذلك” كانت سنة 1904 بالنسبة إلي مليئة بالصراعات حول قضايا السياسة والتنظيم مع المجموعة التي تقود المناشفة”. (حياتي ص 214 ). كان موضوع الصراع يدور حول التصدي لتأثير الليبراليين على الجماهير وضرورة توحيد صفوف الاشتراكية- الديموقراطية الروسية وليس كما ورد في المقال “التيار المنشفي الذي نفى موضوعية الدور القيادي للبروليتاريا” .
سيلاحظ القارئ النبيه كيف تبنى لينين أطروحة “الثورة الدائمة” حينما طرح الضرورة الملحة “لانتزاع السلطة من البورجوازية الآن قبل غد ” هذا ما سماه حسن الصعيب ” إنه تحول عظيم ” في مقاله. هل يصح بعد كل هذا الحديث عن الصراع بلا هوادة مع البلاشفة؟
أما عن الجانب العسكري, فلا يمكن مناقشة مهندس للثورة في هذا المجال. لقد كتب تروتسكي عن ذلك في قطاره الحربي . لقن للجيوش البيضاء الامبريالية درسا ما أحوجنا إليه اليوم في سوريا وفي مصر وفي ليبيا وفي العراق و…
أما عن إدانة لينين والأغلبية في الحزب البلشفي لنزعة تروتسكي الحربية كما ورد في المقال فيصدق عليه “البينة على من ادعى”
يبدو لمبتدئ يقرأ مقال حسن الصعيب أن صاحبه يكتب بالفعل كرونولوجيا سياسية عن ثوري روسي, لا يمكن لا لمؤرخ ولا لشاعر أن يقفز عنه حين يتحدث بطريقته الخاصة عن الثورة الروسية, لكن الحقيقة الجلية هي أن كثرة الكلمات المستعملة في المقال من قبيل “كثرة الأعداء” ” يعاديه” ” تهجيره” “النقد الشديد” “النشاط المعادي للحزب” “نفيه” الخ تبين بجلاء تبني صاحب المقال للمقاربة الستالينية في الكتابة- لا أقول التحليل-. هذه المقاربة أجبرته على كتابة أشياء إما متجاوزة سياسية وحسمها الجميع والواقع أيضا أو مجانبة أحيانا للصواب.
رغم إسهاب كاتب المقال في هذه الكلمات, فتر وتسكي لم يعلن أبدا عن القطيعة النهائية مع مجمل اوساط الاشتراكية- الديموقراطية العالمية وظل يتحرك حينما عاد إلى روسيا سريا قبل سنة 1905 داخل أوساط البلاشفة والمناشفة معا : قصة فراره إلى فنلندا بعد اعتقال زوجته وعلاقاته مع أحد البلاشفة المرموقين , المهندس الشاب كراسين, مثال واضح أيضا.
ما لا يمكن أن يخفيه صاحب المقال ومن يسير في فلكه هو أن تروتسكي, بعد وفاة لينين, وجد نفسه في مستنقع آسن. ذلك ما كشفت عنه وصية لينين- تنحية ستالين من الكتابة العامة للحزب- لكن و يا للأسف ظلت الوصية علبة بنذور عجز الجميع عن فتحها. وبدلا من ذلك, تخندق من سماهم حسن الصعيب برفاق تروتسكي في معسكر ستالين. لقد أخطأوا الرجل والمرمى معا. وما اعتبارهم برفاق تروتسكي بعد وفاة لينين إلا خدعة لتبرير إبادتهم إما عن طريق محاكمات موسكو الشهيرة أو متابعتهم من طرف الكيبيو خارج الاتحاد السوفيتي. إن كان صاحب المقال يراوده الشك في تنصل تروتسكي من كل الاتهامات التي رافقت افتراءات فيتشنسكي اتجاه الأشخاص الذين أتى على ذكرهم, فما عليه إلا الاطلاع على الخلاصات التي خرجت بها لجنة ديوي بصدد تلك المحاكمات.
لقد نفي تروتسكي بالفعل إلى مختلف البلدان وهو ما سماه بنفسه “عالم بلا تأشيرة” . إذ رفضت كل البلدان الديموقراطية المزيفة في الغرب استقباله حتى ميتا, حيث طالب التروتسكيون الأمريكيون بعد اغتياله نقله لأمريكا, لكن البنتاغون رفض ذلك. إن ذلك النفي وتلك العزلة وذلك النبذ هي خدمة جليلة قدمها الفاشي ستالين للرأسمالية العالمية للقضاء بشكل نهائي على ديكتاتورية البروليتارية في القارة العجوز حسب تعبير تروتسكي.
قال حسن صعيب ” لم يتوقف الأمر عند حدود اضطهاده, بل بلغ مستوى حالة تراجيدية إنسانية, لما تعرض وابنه لعملية اغتيال مقيتة لا تغتفر…” إن انطلقنا من قولة الفاكهاني فالأمر لا يعدو مسألة التشفي, وإن تجاوزناها فالقولة رحيمة على ستالين لأن آل تروتسكي بمجملهم اغتالهم ستالين ولم ينج منهم إلا ثلاثة : زوجته نتاليا سيدوفا وحفيده الذي عاش معه في المكسيك بعد انتحار أمه زينا.
نود في الختام أن نشير إلى أن مناقشة تراث تروتسكي, تستدعي تتبع الأحداث من يانوفكا ( مسقط رأسه) إلى كويوواكان موقع اغتياله. لا يفوتنا أن نشيد بالعمل الجبار الذي قام به المؤرخ المقتدر إسحق دويتشر في ثلاثيته وبما قام به الكاتب جوليان كوركين في تتبع عملية اغتياله من أ إلى يائها – مع العلم انه لم يكن تروتسكيا – وما قام به ايضا رفيقه فيكتور سيرج – الذي لم يكن بدوره بلشفيا مند البداية – وما قام به أيضا الروائي الكوبي ليوناردو باديرا حين صادف منفذ عملية الاغتيال في أحد شواطئ كوبا. لقد قام العميل ميركادير بالمستحيل للاتصال بالكاتب. طبعا لقد فرضت عليه المراقبة اللصيقة من جانب ورثة ستالين إلى ان لفظ انفاسه الأخيرة في أحد مستشفيات كوبا بمرض سرطان الحنجرة، رغم ذلك نجح في القيام بخدمة وضحت كثيرا من الأمور. دون أن ننسى كتاب “الماركسية والحزب” لبول لوبلان ونورمان كيراس.
هؤلاء الناس توخوا الموضوعية خلال تناول شخصية تاريخية ساهمت في تنفيذ أعظم ثورة اشتراكية في تاريخ البشرية. ولن ينجح من ينتسبون إلى الماركسية في المغرب في التحلي بالموضوعية إلا إذا تخلصوا من حواجز إيديولوجية ومن نرجسية تمنعهم من قول أمور تبدو بديهية للجميع. وعند الدعوة إلى هذه الموضوعية أختتم مقالي.