ثورة اكتوبر الاشتراكية وحركات التحرر الوطني

حسين جمعة
2018 / 3 / 25 - 08:37     


عظمة أي انعطافة تاريخية كبرى- سواء أكانت ذات تحولات جذرية شمولية كما هو حال ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى، أو ذات تغيرات حساسة في بعض البنى الاجتماعية والفكرية كما هو شأن بعض الدول العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي، وبعض دول أمريكا اللاتينية في الوقت الحالي- تتجلى في الواقع الثقافي الذي تجترحه وتسير عليه، وتبني عليه مرتكزات وجودها وحضورها في المجتمع الإنساني بأسره، وذلك لأن الثقافة هي الركيزة الأساس لخلق الإمكانيات الهائلة لتطور وعي الإنسان ومواهبه وقدراته في شتى مجالات الحياة، ليستطيع العمل بحرية واندفاع نحو الغايات المرسومة لمجتمعه وتحقيق ذاته كإنسان، بعد أن يتم ابتداع الظروف الملائمة للقاء التاريخي ما بين العمل الجاد والثقافة. وهذا ما توسلت إليه ثورة اكتوبر الظافرة لوعيها بأهمية الثقافة الروحية في رفع سوية الفرد والمجتمع في مجالات الحياة المختلفة، وإعداد الإنسان المتطور متعدد المواهب والهوايات، كتعبير مركَّز لإبداع الشعب بأسره، وعدم اقتصاره على فئة محدودة من البشر.

كان انتصار ثورة اكتوبر أعجوبة هزت البشرية جمعاء، وذلك لوقوعها في بلد ما تزال فيه أدوات الإنتاج الرأسمالي متخلفة، وبقايا مخلفات الإقطاع مستحكمة وآثار العبودية بادية غير خافية، والحرب الكونية مشتعلة، والجبهة الداخلية متشققة، لكن، كان هناك طبقة عاملة ناشئة وحكم مهتريء وملابسات عالمية حافزة، وقيادة تاريخية فذة، استغلت الظرف الزمكاني الدقيق وحسمت المعركة لصالح الجماهير الشعبية، ولو ترددت لحظة واحدة لرافقها الإخفاق وانتهت إلى هزيمة ساحقة؛ مما يشير إلى الأهمية البالغة لإدارة الشأن الثوري، واستغلال الإمكانيات المتاحة والظروف القائمة لتذليل المعوقات والانتصار في أحلك الأوقات.

هذه الثورة المذهلة لم تلد في فراغ أو هبطت من السماء، إنها ابن شرعي للحركات الثورية التي تعاقبت واشتدت قوتها مع اشتداد الظلم الاجتماعي والقهر الفكري، وعتو السلطة وطغيانها، ووقوفها إلى جانب الإقطاعيين والرأسماليين الجدد الذين كانوا يتمتعون بمص دماء الفلاحين وصغار الموظفين والحرفيين الكسبة، والطبقة العاملة الوليدة دون أي رادع قانوني أو أخلاقي، كما هو الحال في منطقتنا العربية في راهن الوقت.

وكان لا بد من وجود قائد محنك يجمع بين النظر والعمل، ويقود المسيرة المتعثرة بذكاء وحكمة وحزم - هذا القائد الخارق كان فلاديمير إيليتش لينين (أولْيانوف).. شخصية أسطورية ذات إرادة فولاذية وطاقة مذهلة وحيوية لافتة تتزنّر بنظرية ثورية ورؤية ثاقبة ونظرة حادة، ودراية عميقة بالتحولات الاجتماعية والخريطة السياسية والحزبية المتحولة، وبالإيمان الراسخ بتصاعد شأن الطبقة العاملة وانتصارها، والوعي الساطع بمكانة الثقافة والتثقيف في تعزيز وحدتها وترصين صفوفها والنهوض بدورها التاريخي المأمول. وتجلى هذا الوعي مبكّراً في الوثيقة التوجيهية التي كتبها عام 1896، وأكد فيها على ضرورة تطوير مؤهلات العمال وتنعمهم بمكتسبات العلم والفن، التي لن ينالوها وتصبح في متناول الجميع إلا بعد القضاء على الملكية الخاصة، وبعد أن تغدو ثمرات إنتاجية العمل المشترك في صالح الشغيلة يتقاسمها الجميع، وليست حكراً على فئة مخصوصة من الناس دون غيرهم. وهذا النهج ترسخ بعد انتصار ثورة اكتوبر، وأضحى فلسفة لها ولنشطائها والقائمين عليها، وشرعت المراسم الخاصة بتطوير الثقافة وتسيير عجلتها تأخذ طريقها إلى التسريع والتنفيذ، وتدافع العمل على تدشين القيم الروحية والجمالية الجديدة، وبناء أجيال جديدة من المتعلمين والمثقفين الواعين، وتطوير نظام التعليم وإنشاء المدارس والجامعات والمعاهد العلمية ودور السينما والمسرح، وخلق الظروف الملائمة لتنمية جميع حقول العلم والثقافة والفن، وكل ما له علاقة بمصالح الشغيلة والطبقة العاملة من مهمات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وتحصين وعيها ورفع سويتها وملكاتها لتلقي مبدعات الفن والثقافة المختلفة، وذلك بإثراء أحاسيس الفرد لتصبح قوى جوهرية إنسانية فعلية مكافئة لإنسانية الأحاسيس التي تتواءم والطبيعة المؤنسنة، وهذا ما اتصح في برامج حزب لينين ووثائقه وفكره السياسي والاجتماعي، التي تعالت على النظرة الضيقة التي كانت تدعو إلى ثورة في الإنتاج المادي، وفوضى في العمل الذهني – كما عبر عن ذلك كاوتسكي أحد ثوريي ذلك الزمن، وعضو الأممية الثانية في مساجلاته مع لينين، الذي اعتبر أن حل المسائل الثقافية مرتبط بمهمات التحولات الثورية للمجتمع والقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج المادي كعامل رئيس لخلق الظروف الموائمة للتطوير الشمولي المتعدد الوجوه والجوانب للفرد وللشغيلة خاصة والمجتمع عامة.

ومع نجاح ثورة اكتوبر أضحى بناء ثقافة ثورية جديدة ضرورة ملحة لا غنى عنها لقيام مجتمع اشتراكي متجانس، مما تطلب انعطافاً في الحياة الروحية للجماهير الشعبية، التي تحتاج إلى التثقيف المستمر عبر العمل الثقافي المركزي المنظم، لإشادة ثقافة اشتراكية كمكوّن أساس في سيرورة تحولات الحياة الثورية، وإطلاق الطاقات والمواهب والمبادرات الإبداعية الحية، وضرورة الارتقاء بوعي الشعب لتدشين ثقافة اشتراكية جديدة، وفي سبيل ذلك كان لا بد من طرح المسائل الحيوية للثقافة الروحية موضع الاهتمام والعناية التامة، لأن مصائر الثقافة والفن ترتبط بعرى وثيقة بمصير الطبقة العاملة الثورية، وهي جزء لا يتجزأ من القضية العامة للشعب والحزب، الذي كان قد أنشأ عدداً من الصحف قبل الثورة تعنى بالفن والأدب وتخصص أبواباً ومحطات للشأن الثقافي وتثقيف الجماهير الشعبية بعد أن أضحى الحزب لجميع الشغيلة والمستغلَّين والمستضعفين، ومن بين هذه الصحف: «الإيسكرا» و«إلى أمام» و«البروليتاري»، وأهمها جريدة «البرافدا» التي صدرت عام 1912، التي خصصت هامشاً واسعاً لمسائل التربية والتعليم وقضايا العلم والتطور العلمي والإبداع الفني، وبدا هذا واضحاً بمدى الاهتمام بالمسرح وتطويره، من أجل تدشين ثقافة روحية جديدة ومتجددة، وذلك لأن الفن قضية مقدسة لها دلالة تربوية وقوة جذب للجماهير المدعوَّة للإطاحة بالدولة العظمى وإلغاء جميع أشكال استغلال التناقضات القائمة في المجتمع، المبني على استحواذ الأقلية بكل شيء وحرمان البقية من كل شيء؛ بما في ذلك الاستمتاع بمكتسبات العلم والفن التي هي حق كل فرد في المجتمع العادل، وفتح الطريق للجميع للتمتع بالقيم الثقافية العالمية التي حرموا منها، وبقوا في ظلال الفقر والجهل والحرمان، ووقع عبء العمل المأجور. وأضحت قضية التقدم الثقافي والفني من أكبر المهمات التي تواجه الثورة الاشتراكية لما فيه مصلحة المجتمع وبناء أسسه العادلة، وتطوير ملكات الفرد وتنويع مجالات نشاطه العملي وتفعيلها لإحداث التغيير المأمول، والدفع بعجلة سير المجتمع إلى أمام بدون شد تراجعي، وتحقيق متطلبات بناء المجتمع الاشتراكي وتشكيل ثقافته الحرة.

وما أن قامت ثورة اكتوبر حتى ظن بعض المتطرفين من الثوريين أن القضاء على إرث الماضي وتأسيس ثقافة جديدة بدون أي جذور مستمدة من هذا الماضي، مهما كان تراث هذا الماضي؛ هو سياسة الدولة الوليدة، وقد تصرفوا أحياناً انطلاقاً من هذا الفهم المغلوط؛ فتصدى لهم لينين وحزبه الثوري، وأصدرت قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي عدة رسائل تندد بهذه التصرفات وتطالب بوقف هذه الأفعال الفوضوية فوراً، ومن بينها الرسالة المشهورة حول الثقافة البروليتارية، التي وضعت الأسس الحقيقية لتدشين ثقافة نوعية متقدمة مستفيدة من تراث الماضي وحضارته.

ومن حسن التدبير أن حظيت الثقافة على قوميسار من أعاظم رجال الفكر والفن، شخصية ذات حضور متألق، وأصالة فريدة وذكاء حاد ومرونة سلسلة، ونشاط متعدد الوجوه والجوانب، وموهبة عميقة ذات اطلاع واسع ومعارف موسوعية متنوعة.. إنه أناطولي لوناتشارسكي الذي بذل جهوده وحياته لقضية انتصار أفكار الثورة وتدشين ثقافة اشتراكية ذات مضامين إنسانية قصوى، وكان لاحتجاجه على تصرفات بعض مراهقي الثورة دور حاسم في وقف فوضى الاعتداءات على آثار الماضي وتاريخه، وكان يقول عن نفسه: «أنا مثقف بين البلاشفة، وبلشفي بين المثقفين»، وقد بنى له علاقات متينة شخصية واجتماعية زاخرة بالبحث الإبداعي والتخطيط الثقافي، والتقصي الفلسفي والجمالي، وقد وجد دعماً كبيراً من قبل مفجر ثورة اكتوبر الذي كان يقول في حقه: «إنه من طبيعة موهوبة ونادرة.. إنني أحس بضعف تجاهه، أنا كما تعلمون- أحبه، إنه رفيق ممتاز» على الرغم من بعض المتاهات التي وقع فيها لونا تشارسكي في بداية الأمر، وذلك لأن لينين كان يعي بعمق أن تطوير الثقافة قوة ضرورية محركة للتاريخ تحتاج إلى رجال من ذوي الثقافة الشمولية المتنوعة أمثال غوركي ولونا تشارسكي وغيرهما كثيرون، من القادرين على غرس الثقافة الاشتراكية في الحياة اليومية للجماهير الشعبية، وجعلها جزءاً لا يتجزأ من وجودها لترسيخ الشروط اللازمة لبناء عالم جديد، كما ظهر في عدد من مقالات لينين ولا سيما مقالته المعنونة «عن التعاون» التي أكد فيها أن الانتقال إلى الاشتراكية «.. يتطلب انعطافة كاملة، وأفقاً فسيحاً لتطور الجماهير الشعبية الثقافي»، مشيراً إلى أهمية التثقيف الشمولي وجعله مركز الثقل في تنوير الجماهير والرقي بوعيهم، وتطوير قدراتهم الإبداعية الفاعلة، وتمهيد التربة الروحية لنماء الفن الاشتراكي وترسيخ بنيانه وتحصين جدرانه. وهذا ما اتبعه لونا تشارسكي الذي ارتأى أن عقدة مهام التنوير تتلخص في الارتباط العضوي للثقافة الاشتراكية بالمهمات التاريخية للتغيير الثوري لأسس حياة الجماهير الشعبية وتقريبهم من الإبداع التاريخي البنّاء. وهذا ما تعزز في نشاطه الفكري والعملي، وفي تحليلاته وأبحاثه الجمالية والفنية، وفي فهمه لطبيعة الفن وجدواه، وارتباطه بالواقع وبتراث الماضي، ودروب تطوير الثقافة الاشتراكية الجادة.

شرعت الحكومة ومن اللحظة الأولى لانتصار الثورة، وعلى الرغم من وضع البلاد الاقتصادي المتردي في ظروف الحرب والتدخل الخارجي، في إعادة بناء المؤسسات الثقافية والمحافظة على ما هو مهم وتعظيمه وتجديده، والنهوض بالفن والأخذ بالجديد في جميع مجالاته المتنوعة.. الجديد الذي يخدم تطور الفن وإسعاد الإنسان، كل ما هو جيد ومفيد ورائع، بغض النظر عما كان قديماً أو مستحدثاً. ووقف لينين ولونا تشارسكي وغوركي في وجه دعوات الاتجاه المستقبلي التي تنادي «بتفجير وتدمير وإزاحة الأشكال الفنية القديمة عن وجه الأرض»، ودعوا إلى ضرورة تقريب الفن من الجماهير وترغيبهم به، وأضحى دعم الفن بشتى صوره وأشكاله سياسة متبعة، وليس أمراً عابراً، فازدهرت الفنون وانطلق الأدباء والكتاب مدعومين بكل سبل العيش في بناء ثقافة وطنية وإنسانية، وتدشين حصون أدب اشتراكي وثقافة اشتراكية جديدة، وتوثيق علاقة الشعب بالفن والأدب لإثراء الحياة الروحية والمعنوية لدى سائر فئات الجماهير الشعبية، وإشادة عناصر الجمال التي تفوق كل ما حلمت به البشرية، ولتصبح حمولات الثقافة في متناول الجميع دون استثناء. وهذا ما سعت إليه السلطة الجديدة رغم الحرب الأهلية والعسر الاقتصادي والتدخل الخارجي، ولم تختلق المبررات والمسوغات المتهافتة كي تتنصل من مسؤوليتها في رفع السوية الثقافية والفنية لدى الشعب، وتحفيز العاملين في حقول الفن والأدب بشتى وسائل الدعم المادي والمعنوي لتسيير العجلة ودوران الآلة لتدريب الجماهير وتثقيفها، ورفع مستواها الفكري والمعرفي لتشارك في تسريع بناء الدولة الجديدة؛ فالثورة تعني الثقافة والتثقيف والتنوير، وتعني بالدرجة الأساسية الفن وتطويره والارتقاء به في شتى الحقول والأغراض؛ مما يسعف الفقراء على امتلاك ثقافة الماضي وتشييد وإبداع ثقافة لم يشهدها التاريخ. ومن هذا الإدراك العميق لأهمية الثقافة والفن في حياة المجتمع يشهد عليه المرسوم الذي وقعه لينين حول «الحفاظ على القيم الروحية وآثار الماضي»، الذي أشار إلى أن ضياع أو سرقة القيم الثقافية ستجد الردع الشديد وأغلظ العقوبات وفق القوانين الثورية، وتأسيساً على ذلك جاءت مقالة لونا تشارسكي «السلطة السوفياتية وآثار الماضي»، التي ورد فيها: «نستطيع بثقة وبكل فخر أن نبعد عنا الاتهام، ونقول أننا صنعنا الأعاجيب في مسألة المحافظة على الآثار. طبعاً، أنا لا أريد القول بهذا الكلام، أننا لم نفقد بعض القيم الثقافية الفردية أثناء الثورة الروسية.. لا ينبغي النظر إلى بعض الانتهاكات.. ولكن إلى ما كان يجري في البلاد من إيقاف إجرامي للتطور في مرحلة وحشية بربرية..، الانتهاكات لم تبلغ مستويات عالية، وتم ردعها من قبل قوة الحكومة العمالية/الفلاحية، والمحافظة القوية على ذخائر الشعب».

وقامت الحكومة السوفياتية بإصدار عدد من المراسم الموجهة لتطبيق برنامج صون القيم الثقافية، والعمل على انخراط العمال في الحراك الفني والاستفادة من كنوز الثقافة العالمية، وتوالت المراسم حول تأميم القيم الفنية/التاريخية وحفظها، واعتبار جميع منتجات الأدب والموسيقى والأعمال الفنية ملكاً ميسوراً للجميع، وإشادة المعالم الحضارية لرجالات العلم والفن من سائر أنحاء المعمورة؛ لخدمة الحياة الثقافية وإثرائها. وقد أمر لونا تشارسكي اللجنة الوطنية السوفياتية بتسريع الأمور التالية:
تمويل كونسرفاتور موسكو.
تأميم متحف تريتيا كوفسكي.
منع بيع أعمال الفن أو تهريبها.
إزالة مخلفات أحداث 1917.

وعلى إثر ذلك قامت السلطات بمنع ترحيل إحدى لوحات الفن الإيطالي إلى الخارج لبيعها، واعتبرتها ملكاً للجمهورية السوفياتية، ووضعها في أحد المتاحف السوفياتية، وأصدرت مرسوماً يقضي «بمنع نقل المواد ذات الدلالة التاريخية والفنية أو بيعها في الخارج»، ومن ثم شملت مراسم المنع والتأميم عدداً واسعاً من الأعمال الخاصة والعامة، ووضعها تحت تصرف الدولة وتيسير الاستمتاع بها للجمهور الواسع. وانطلاقاً من الاحترام الرفيع لآثار الأديب الروسي الأعظم ليف تولستوي جرى تأميم بيته في موسكو وتحويله إلى متحف عام، ونشر أعماله الإبداعية التي استغرقت زمناً طويلاً، وجاءت في تسعين مجلداً. وثمة قصص مهمة حول هذه الشأن، منها الأمر بتسليم المسلمين مخطوط مصحف عثمان» الذي كان محفوظاً في المكتبة الحكومية العامة، ونقل الكنوز التاريخية الوطنية الاكرانية إلى كييف، وإعادة ممتلكات بولندية إلى وارسو وغير ذلك من مبادرات لا تصدر إلا عن دولة ذات وجه أممي فعلي، ونزعة إنسانية شمولية واضحة.

وأوعز قائد الثورة بإشادة تماثيل وأنصاب لكبار الكتاب والمفكرين في شتى أرجاء الدولة الوليدة، وتجميل المباني والشوارع ورفع اللافتات الملفتة والمحفزة؛ وفي سبيل هذا الغرض جرى استدعاء عدد من المعماريين والنحاتين والأدباء من ذوي الخبرة لتدشين قيم ثقافية سامية. وتأسيساً على هذا الفهم طرح مكسيم غوركي مسألة شق طرق للارتقاء بالفن الاشتراكي، والحاجة الحيوية للإحاطة الإبداعية بكنوز الثقافة الفنية الإنسانية، وتقنية بناها وإعلاء شأنها، وذلك لانخراط الجماهير الشعبية في الشأن الثقافي واستيعاب ثقافة الماضي وفنونه وآدابه، والعمل على إنشاء فن اشتراكي موصول بالتراث ومتطلع إلى المستقبل. وهذا تطلب تأسيس المكتبات العامة وإنشاء دار نشر حكومية، واعتبار جميع الأعمال الفنية ومبدعات الموسيقا والمعمار الفني والمنحوتات وغيرها في ميسور الجميع.

وجرى إلى جانب الاحتفاء بأعمال تولستوي وضع نصب نَصفي للمفكر الروسي الكبير الكسندر غيرتسن، وتأميم المنزل الذي ولد فيه، وإنشاء مكتبة متخصصة بأعماله مفتوحة أمام الجميع، والاحتفاء بذكرى ولادته وموته. والأغرب من ذلك أن دعا لينين إلى إصدار أعمال باكونين، الذي كان يعتبر من المفكرين الفوضويين، ووجدت هذه الفكرة اعتراضاً من الكثيرين بحجة أن الأولوية لنشر أعمال ماركس؛ مما حدا بلينين بالقول أن الأمرين لا يتعارضان، وظهرت مؤلفات باكونين مع أن الوضع الاقتصادي كان مأزوماً، ولم تختلق المبررات الواهية لعدم القيام بهذا الأمر، كما يحدث في كثير من بلدان العالم.



واحتذاءً بلينين الذي بيّن أن القيم الكلاسيكية ليست تراثاً ميتاً، وإنما هي قوة فاعلة ومؤثرة، تثرى التجربة الحياتية، ويستمد - منها المجتمع وسائل حل مسائل الحاضر المهمة- قام غوركي بوضع خطة تذكارية لافتة لإصدار تاريخ «الأدب العالمي» بعدة لغات عالمية، وشرع في تطبيقه وتنفيذه، وصدرت آخر طبعة موسعة لهذا المصنف الضخم في ثمانينات القرن الماضي في تسعة مجلدات ضخمة. آلية نشر المؤلفات والأعمال الكاملة للأدباء الروس والعالميين لم تتوقف، وكانت تباع بأسعار زهيدة جداً، ويستطيع الفرد في ألمانيا مثلاً أن يقتني أعمال كبار أدباء بلاده وباللغة الألمانية في موسكو، بأثمان تقل بعشر مرات عنها في وطنه الأم. وشرعت الدولة في إنشاء المسارح ودور السينما والمعارض العامة في كل زاوية من الدولة، مشرعة لجميع الزوار والمشاهدين معظمها مجاناً، وبعضها بمبالغ لا تذكر. إلى جانب ذلك وفرت الدولة لكل فرد فرصة التعليم المجاني في كل مراحله، والاستشفاء المجاني والسكن بأجور لا تتجاوز نسبة بسيطة جداً من دخله، وأمنت له العمل الملائم لقدراته وسبل العيش البسيطة، لكن الكريمة لكي يبدع ويبني وطنه الاشتراكي، وقضت على استغلال عرقه ودمه والولوغ فيها لإرواء ظمأ فئة محدودة من الناس للبذخ والترفيه وإزجاء الوقت في السياحة والاستجمام ومضاجعة الراحة والدَّعة والاسترسال في الرثاء والرخاء الدائم والمستديم، وترك غالبية الشعب في شقاء مستمر ودائم.وأخرجت الثورة شعوباً بأكملها من ظلام العصور الوسطى إلى مصاف الدول المتقدمة وواجهت الإمبريالية العالمية واستطاعت أن تلجم شهوتها في الهيمنة في شتى أرجاء المعمورة.

لقد اعتبرت ثورة اكتوبر مهمة التحول الثوري للمجتمع عاملاً أساسياً في خلق الظروف الملائمة لتطور كل فرد من أفراد المجتمع، وكل عامل في مصنع أو مزارع في حقل أو ضيعة، كي تؤتي الثقافة ثمارها، ويستطيع الشغيلة في إعادة بناء العالم على أسس أكثر عدلاً واستقراراً،، واستبعاد كل أشكال التفرقة والفوارق الطبقية الهائلة بين شرائح المجتمع الإنساني.

سارت ثورة اكتوبر على طريق تحرير الإنسان من القيود التي تحد من تقدمه وازدهار أعماله، وفي مسيرتها الميمونة أنجبت الآلاف من رجال الفكر والفن والأدب والعلم في سائر مجالات الحياة المتشعبة، وكان أبناؤها أول من حلّق حول الكرة الأرضية وأول من حوّم حولها، وتبارى العلماء الذين أنجبتهم ثورة أكتوبر من أبناء الفلاحين والعمال مع علماء البلدان الرأسمالية العالمية وتفوقوا في كثير من المجالات، وذلك لأن توزيع الخيرات المادية عمَّ الجميع بدون استثناء.

وعملت ثورة أكتوبر على توسيع القاعدة المادية/التقنية للثقافة وعلى امتدادها الجغرافي ليشمل سائر الأطراف ومكونات المجتمع، وعلى مضاعفة نشر الكتب والمجلات والجرائد وإطلاق المحطات الإذاعية والتلفزيونية، وإنشاء المؤسسات الثقافية، وذلك لإرواء ظمأ المتلقي وشحنه بالقيم الروحية وامتلائه الثقافية والمعرفي بما يخدم تلبية حاجات معظم الجماهير الشعبية.

ومع خفوت نجم ثورة اكتوبر في أواخر ثمانينات القرن العشرين كان هناك في الاتحاد السوفياتي أكثر من 360 ألف مكتبة بشتى تنوعاتها، تحتوي على حوالي خمسة مليارات نسخة، وحوالي 1300 متحف يزورها في السنة أكثر من 140مليون شخص، وكذلك ما يقارب 600 مسرح، وإلى 140 ألف قصر وبيت للثقافة وغيرها من النوادي والمؤسسات الأخرى، منها أكثر من 80 بالمئة تعمل في الأرياف والضواحي وأكناف المدن.

وهكذا تحققت أحلام وتنبؤات محفز ثورة أكتوبر ومفجرها فلاديمير لينين، الذي كتب قبل اندلاع الثورة بكثير أن: «ما من أي معيقات تقنية تقف أمام استخدام جميع المواطنين لكنوز العلم والفن التي كانت تتمركز لقرون في عدد محدود من المدن الكبرى، وانتشارها بالتساوي بشكل أو بآخر في شتى أرجاء البلاد»، وكذلك: «الارتقاء بالفئات الدنيا إلى مستوى الإبداع التاريخي».