المادية التاريخية ورؤية المستقبل(1)


خليل اندراوس
2018 / 3 / 4 - 10:56     



تفاعل معقد
ماركس يبدأ بدراسة المجتمع الانساني من الواقع المادي الذي نعيش فيه هذا هو الذي يحدد واقعنا الحي وليست الافكار التي نؤمن بها هي التي تحدد ذلك، وعلى الرغم من ذلك هناك تفاعل معقد بين الواقع المادي – البناء الاقتصادي التحتي للمجتمع وبين البناء الفوقي من ثقافة وسياسة وايديولوجيات ومؤسسات تبادر بشرح هذا الواقع، او كثير من الاحيان كما يحدث من قبل منظري طبقة رأس المال التعتيم عليه.



تعرف النظرية العامة عن القوى المحركة للتغيير الاجتماعي وقوانينه – التي وضعت على اساس اكتشافات ماركس – باسم المفهوم المادي عن التاريخ، وقد تم التوصل إلى هذا المفهوم بتطبيق النظرة المادية إلى العالم على حل المشكلات الاجتماعية. ولأن ماركس قام بهذا التطبيق فان المادية معه لم تعد مجرد نظرية تستهدف تفسير العالم وانما مرشدا لممارسة تغيير العالم، وبناء مجتمع ليس فيه استغلال انسان لانسان. وللمادية التاريخية في المقام الاول دلالة معاصرة فهي قابلة للتطبيق وهي تؤدي إلى استخلاصات لا عن اسباب احداث الماضي فحسب بل كذلك عن اسباب الاحداث التي تقع الآن وبالتالي عما ينبغي عمله. وعن السياسة التي ينبغي النضال من اجلها لكي تلبي الحاجات الحقيقية للشعب.
فالمادية التاريخية نظرية علمية فلسفية تعنى بدراسة الظواهر الاجتماعية والانسانية في ضوء مبادئ التحليل الماركسي بصورة عامة ومبادئ المادية الجدلية المعنية بظواهر الكون والطبيعة بصورة خاصة، فهي تستمد من المادية الجدلية مبادئها في تحليل الظواهر والوقائع الاجتماعية، اذ تعتمد اعتمادا اساسيا على المقولات الثلاث الاساسية المتمثلة بان عمليات التراكم الكمية تؤدي إلى تغيرات كيفية، وان التناقض بين مكونات الاشياء والظواهر يعد الاساس في حركتها – وما من شيء في الطبيعة والحياة الاجتماعية الا ويحمل في مكوناته قدرا من التناقض ينتج صراعا مستمرا بينها – وان الصراع بين المكونات يؤدي باستمرار إلى ما يعرف بنفي النفي. فكل مرحلة من مراحل التطور تنفي بالضرورة المرحلة السابقة ولا يمكن ان تتعايش المراحل مع بعضها الا لفترات مؤقتة توصف بالتناقض ولا يمكن ان يكون بينها أي وفاق واستقرار.
ان اهم تعبير عن الانقلاب الثوري الذي اجرته الماركسية في الفلسفة هو تحقيق الوحدة العضوية بين المادية والجدلية، فنحن نعرف من تاريخ الفلسفة ان كلا من الجدلية والمادية قد نشأت قبل الماركسية لأمد طويل، لكن مصيبة الفلسفة القديمة تلخصت في ان المادية والجدلية فيها غالبا ما كانت منفصلة عن بعضها البعض فقد كان هيجل جدليا لكنه لم يكن ماديا، وكان فورباخ ماديا لكنه لم يكن جدليا. وقد اقام ماركس وانجلز جسرا على الهوة بين المادية والجدلية وحققا وحدتهما العضوية في نظرة مادية جدلية واحدة موحدة إلى العالم وتلك واحدة من اهم خصائص الفلسفة الماركسية التي تميزها نوعيا عن كل المذاهب الفلسفية السابقة.
ظهور الماركسية يعتبر انقلابا لا بل ثورة عظيمة في النظرات إلى المجتمع فالمادية التاريخية الماركسية هي نتاج تطبيق المنطق الجدلي على التطور التاريخي للمجتمع. كان الفلاسفة قبل ماركس يتحلون بفهم مثالي للتطور الاجتماعي فكانوا يرون ان القوى الدافعة لهذا التطور هي افكار الناس، هي وعيهم ووضع ماركس وانجلز في مقابل الآراء المثالية الفهم المادي للتاريخ، وكانا اول من طرح وحل بطريقة سليمة المسألة الاساسية للفلسفة. مسألة العلاقة بين الفكر والوجود في تطبيقها على المجتمع وأثبتا بصورة لا تدحض انه ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم بل بالعكس ان وجودهم الاجتماعي وفي المقام الاول انتاج القيم المادية هو الذي يحدد وعيهم الاجتماعي، وان تطور المجتمع تحدده اسباب مادية وليس افكار الناس او رغباتهم او نواياهم، ونتيجة لذلك اصبح من الممكن فهم تاريخ المجتمع لا على انه تجميع مشوش للظواهر بل كعملية حتمية ضرورية وخاضعة لقوانين معينة، عملية حلول اساليب ارقى للانتاج محل الاساليب الادنى، وأثبتا ان هذا الاستبدال لا يحدث بصورة عرضية وانما وفقا لقوانين موضوعية مستقلة عن ارادة الانسان ووعيه فالمادية التاريخية هي نتاج تطبيق المنطق الجدلي على التطور التاريخي للمجتمع.
الفلسفة الماركسية ترى بالبناء الفوقي للمجتمع هو ناتج عن البناء التحتي، وبالتالي تعتبر البناء الفوقي للمجتمع من اخلاق وثقافة وسياسة ومؤسسات ووعي ناتج عن البناء التحتي الاقتصادي للمجتمع، لذلك نستطيع ان نقول بان موضوع المادية التاريخية هو دراسة المجتمع وتطوره، وخلافا لعلوم المجتمع المحددة تدرس المادية التاريخية اهم قوانين التطور الاجتماعي فبحكم كونها جزءا لا يتجزأ من النظرة الماركسية – اللينينية إلى العالم تقدم المادية التاريخية تفسيرا علميا وماديا جدليا لظواهر الحياة الاجتماعية، وهي تعالج كذلك المسائل العامة الهامة للتطور التاريخي كالعلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي وأهمية الانتاج المادي في حياة الناس وأصل ودور الافكار الاجتماعية والمؤسسات المناسبة لها.
تساعدنا المادية التاريخية في فهم دور الشعوب والافراد في التاريخ وكيف نشأت الطبقات وكيف ظهر كل من الصراع الطبقي والدولة ولماذا تحدث الثورات الاجتماعية وما هي اهميتها بالنسبة للعملية التاريخية، ولدى دراسة المجتمع تصوغ المادية التاريخية ايضا المقولات او المفاهيم المناسبة التي تعكس اكثر جوانب التطور الاجتماعي عمومية وجوهرية، ومن هذه المقولات مثلا "الوجود الاجتماعي"، "الوعي الاجتماعي"، "اسلوب الانتاج"، "البناء التحتي"، و"البناء الفوقى" و"التقدم الاجتماعي" وكثير غيرها. ان قوانين ومقولات المادية التاريخية بمجملها هي التي تعطي الصورة المتجانسة المكتملة عن التطور الاجتماعي. ان المادية التاريخية هي الاساس المنهجي لجميع العلوم الاجتماعية الاخرى.
انها تمكن العلماء – المؤرخين والاقتصاديين وغيرهم – من التضلع بالتشابك المعقد للظواهر الاجتماعية وتحديد مكان واهمية كل منها في الحياة الاجتماعية فبمعرفة الحكم الاساسي للمادية التاريخية القائل بالدور الحاسم للجماهير الشعبية في التطور الاجتماعي يمكن اكتشاف الطابع الحقيقي لهذه الاحداث التاريخية او تلك. ان معرفة قوانين المادية التاريخية لا تمكننا فقط من فهم الظواهر المعقدة للحياة الاجتماعية بل ايضا من التأثير في هذه الحياة وتحويلها لصالح الطبقة العاملة لصالح جماهير الشعب الواسعة، لصالح بناء مجتمع المستقبل "في انتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن ارادتهم، وهي علاقات انتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الانتاجية المادية، ويشكل مجموع علاقات الانتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي يشكل الاساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي قانوني وسياسي وتتمشى معه اشكال اجتماعية، فأسلوب انتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام، ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، انما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم". (مقدمة ماركس عام 1859 لكتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي").
فماركس يبدأ بدراسة المجتمع الانساني من الواقع المادي الذي نعيش فيه هذا هو الذي يحدد واقعنا الحي وليست الافكار التي نؤمن بها هي التي تحدد ذلك، وعلى الرغم من ذلك هناك تفاعل معقد بين الواقع المادي – البناء الاقتصادي التحتي للمجتمع وبين البناء الفوقي من ثقافة وسياسة وايديولوجيات ومؤسسات تبادر بشرح هذا الواقع، او كثير من الاحيان كما يحدث من قبل منظري طبقة رأس المال التعتيم عليه.
يمثل هذا تقدما كبيرا في الطريقة التي ينظر بها للتاريخ فالتاريخ لا يتحرك إلى الامام بفضل عبقرية فرد، ومن خلال فصله عن العلاقات الاجتماعية أي البناء الفوقي للمجتمع، ومن خلال فصله عن البناء التحتي الاقتصادي للمجتمع. فالماركسية حولت هذه الفكرة رأسا على عقب وجلبت الطبقة العاملة إلى ساحة التاريخ فوفقا للمفهوم الماركسي – المادية التاريخية – فان التاريخ يتحرك إلى الامام ليس من خلال افعال الافراد ولكن من خلال الصراع الطبقي. المفهوم المادي للتاريخ يقول بأن الناس يدخلون ضمن سياق الانتاج الذي يقومون به في علاقات محددة ومنفصلة عن رغباتهم تتطابق مع مرحلة بعينها من مراحل تطور قوى الانتاج المادية ومن مجموع علاقات الانتاج هذه يتكون التركيب الاقتصادي للمجتمع، الاساس الراسخ الذي يقوم عليه البناء القانوني والسياسي والثقافي والاخلاقي للمجتمع والذي تترافق معه انماط محددة من الوعي الاجتماعي ويؤثر شكل الانتاج في مجمل العمليات الاجتماعية والسياسية والروحية. فليس وعي الناس هو الذي يقرر شكل وجودهم وطبيعته، انما وجودهم الاجتماعي هو الذي يقرر ويحدد اشكال وعيهم ومستوياته. فالظروف الاجتماعية المتماثلة التي تحيط بمجموعة من الافراد وبالمجتمع تسهم في ايجاد مشاعر وافكار وسياسات متماثلة فيما بينهم وفي المجتمع. ويشير ماركس في فلسفة نقد القانون عند هيغل إلى انه ما ان تؤمن الجماهير بالنظرية وهي نتاج الوعي حتى تصبح قوة مادية توجه سلوكهم وممارساتهم.
وأيا كان سير التاريخ فإن الناس يصنعونه على النحو التالي: "كل فرد يقصد اهدافه الموضوعية عن وعي وادراك، اما النتيجة العامة لهذه الكثرة من المساعي التي تعمل في اتجاهات مختلفة، وتأثيراتها المتنوعة في العالم الخارجي فهي التاريخ بالضبط". انجلز (لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية (صفحة 49) – ماركس انجلز مختارات.
وعلى الرغم من التحليلات الواسعة لدور الافكار والنظريات في عملية التغيير، فان ذلك لا يعتمد على استقلالها انما ينطلق من ارتباطها بالشروط الموضوعية المعطاة أي بشروط الواقع، ففعالية الافكار لا تخرج عن طبيعة الشروط التي ولدتها انما تخضع لها تمام الخضوع. وما ينطبق في التحليل المادي التاريخي على مفهوم الوعي الاجتماعي يندرج بدوره على دراسة الشخصية، فالانسان دائما ابن زمانه ومجتمعه وطبقته. فيتحدد جوهر الشخصية ويتضح تمام الوضوح بالمجتمع الذي تعيش فيه، ولما كانت مراحل التطور تتمايز فيما بينها بالشروط الاقتصادية والاجتماعية السائدة فيها فمن الطبيعي ان تكون هناك اشكال متباينة للشخصية وليس شكلا واحدا ففي مرحلة المشاعية البدائية لم يكن الانسان بحسب تعبير ماركس قد انفصل عن الطبيعة ولم يكن يعي ذاته الا عضوا في جماعة معينة، وكان ذلك مرتبطا بتخلف قوى الانتاج وبدائيتها.
ولكن مع تقدم قوى الانتاج وفي شروط التقسيم الاجتماعي للعمل والملكية الخاصة لوسائل الانتاج برز التباعد بين المصالح الشخصية وظهرت اشكال الصراع الطبقي وبدأ الناس يدركون انفسهم شخصيات فنشأت الشخصية الطبقية بما يتوافق وطبيعة تلك المرحلة.
وبهذا النمط تأخذ المادية التاريخية بدراسة مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي من مرحلة المشاعية البدائية التي لم تعرف فيها البشرية أي شكل من اشكال التملك، إلى مرحلة العبودية التي انتشرت فيها مظاهر تملك البشر بعضهم لبعض، ومرحلة الاقطاعية التي سادت فيها ملكية الارض مع تقدم نسبي في حرية الانسان بالمقارنة مع المرحلة السابقة ونتيجة تطور قوى الانتاج الامر الذي استوجب ظهور علاقات انتاجية جديدة. واخيرا مرحلة التطور الرأسمالي التي انتشرت فيها اشكال جديدة من التملك لوسائل الانتاج مع تطور اكبر في مجالات العلم والتكنولوجيا وتبشر المادية التاريخية بالمرحلة الشيوعية التي تعد آخر مرحلة من مراحل تطور البشرية التي تحمل في ثناياها مظاهر الصراع والتناقض لتصبح بعد ذلك خالية من أي تناقض داخلي.
وفي النهاية لقد نشأت الفلسفة الماركسية كسلاح فكري للطبقة العاملة في نضالها ضد طبقة رأس المال ضد البرجوازية وتوافق الدفاع الثابت عن مصالح الطبقة العاملة مع الموضوعية العلمية للفلسفة الماركسية هو الخاصية الاهم لحزبية الفلسفة الماركسية اللينينية.
كتب انجلز في كتابه "لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية ما يلي: "فبقدر ما يتقدم العلم ببسالة واقدام، بقدر ما يجد نفسه متفقا مع مصالح وأهداف العمال. ان الاتجاه الجديد الذي وجد في تاريخ تطور العمل المفتاح لفهم كل تاريخ المجتمع، قد خاطب منذ البدء الطبقة العاملة بالدرجة الاولى ووجد من جانبها ذلك العطف الذي لم يبحث عنه ولم ينتظره عند العلم الرسمي".(يتبع)





مراجع/

- اصول الفلسفة الماركسية – جورج بوليتزر
- مدخل إلى المادية الجدلية – موريس كورنفورت
- اسس المعارف الفلسفية – افاناسيف
- فريدريك انجلز – اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة