حول - الإمبراطوريّة - : الشيوعية الثوريّة أم - الشيوعية - دون ثورة ؟ الفصل الثاني من الكتاب 29 - دفاعا عن الشيوعية الثوريّة و تطويرها - ضد مايكل هاردت ، أنطونيو نغرى، ألان باديو، سلافوج تزتزاك و برنار دى مالو


شادي الشماوي
2018 / 2 / 26 - 13:31     

حول " الإمبراطوريّة " : الشيوعية الثوريّة أم " الشيوعية " دون ثورة ؟

الفصل الثاني من الكتاب 29 - دفاعا عن الشيوعية الثوريّة و تطويرها

ضد مايكل هاردت ، أنطونيو نغرى، ألان باديو، سلافوج تزتزاك و برنار دى مالو


الماويّة : نظريّة و ممارسة
عدد 29 / جانفى 2018
شادي الشماوي

دفاعا عن الشيوعية الثوريّة و تطويرها

ضد مايكل هاردت ، أنطونيو نغرى، ألان باديو، سلافوج تزتزاك و برنار دى مالو

-------------------------------

( ملاحظة : الكتاب متوفّر للتنزيل بنسخة بى دي أف من مكتبة الحوار المتمدّن)
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
المقدمّة :
في العالم الراهن و في أيّامنا هذه ، أكثر من أيّ زمن مضى ، ينبغي على الماركسيّين الحقيقيين و الماركسيّات الحقيقيّات أن لا يكونوا إشتراكيين و إشتراكيّات و إنّما شيوعيين و شيوعيّات فهدف الماركسيّة و غايتها الأسمى ليست إلاّ الشيوعيّة على النطاق العالمي . هدف الشيوعيين و الشيوعيات الحقيقيين و ليس المزيّفين ، متبنّي الشيوعية كعلم الساعين جهدهم لإستخدام هذا العلم لبلوغ الهدف الأسمى : تحقيق المجتمع الشيوعي العالمي الخالى من الطبقات و تحرير الإنسانيّة قاطبة من جميع أصناف الإستغلال و الإضطهاد القومي و الطبقي و الجندري على كوكب الأرض برمّته ؛ و ليس الإشتراكية مفهومة كغاية أسمى بالنسبة لأنواع من الإشتراكيين الديمقراطيين و محرّفى الشيوعيّة فيما هي لا تعدو أن تكون في الواقع رأسماليّة بمساحيق مزوّقة ببعض الإجراءات الإجتماعيّة .
الإشتراكيّة من وجهة النظر الماركسيّة مغايرة لذلك الفهم الإشتراكي الديمقراطي أو التحريفي ؛ إنّما ، وهي وليدة الثورة الإشتراكيّة ، هي مكوّنة من أضلع ثلاث متكاملة كالمثلّث أو الهرم و قاعدتها أنّها أوّلا و قبل كلّ شيء مرحلة إنتقاليّة بين الرأسماليّة و الشيوعيّة كما حدّدها ماركس و شدّد على إبراز ذلك التحديد لينين في " الدولة و الثورة " . و الإشتراكية ثانيا نمط إنتاج له ميزاته و يسعى إلى خدمة مصالح البروليتاريا و أوسع الجماهير الشعبيّة و تجاوز بقايا الرأسماليّة و إرساء أسس المجتمع الشيوعي في البنية الفوقيّة و البنية التحتيّة للمرور إلى تكريس من " كلّ حسب عمله " المميّز للمرحلة الإشتراكية إلى " كلّ حسب حاجياته " كشعار معبّر عن فحوى المجتمع الشيوعي و يسعى طبعا إلى مدّ يد المساعدة للثورة البروليتاريّة العالمية. و الإشتراكية فضلا عن ذلك دولة دكتاتوريّة البروليتاريا أي دولة تحت قيادة البروليتاريا و حزبها الشيوعي الثوري بالتحالف مع الطبقات و الفئات الشعبيّة وهي تمارس الديمقراطية البروليتاريّة أي الديمقراطية فى صفوف الشعب و الدكتاتوريّة ضد أعداء الشعب و الثورة الشيوعية .
ماركسيّا ، الإشتراكيّة إذن مجتمع طبقي إنتقالي بين الرأسماليّة و الشيوعيّة و الشيوعيون و الشيوعيّات الحقيقيّين ليس هدفهم الأسمى الإشتراكية كمجتمع طبقي و إنّما هو تجاوز حتّى هذه الإشتراكية وليدة الثورة الإشتراكية الضرورية و المرغوب فيها ، نحو الشيوعية على الصعيد العالمي . على طول المرحلة الإشراكية الإنتقاليّة ، تظلّ هناك طبقات و يظلّ هناك صراع طبقي يتّخذ شكل صراع بين الطريق الرأسمالي من جهة ( و له قاعدته الماديّة و الفكريّة في المجتمع الإشتراكي ليس هنا مجال الخوض فيها ، و من يرنو لدراسة المسألة فعليه / عليها بكتاب بوب أفاكيان" المساهمات الخالدة لماو تسى تونغ " ، لا سيما الفصل المتعلّق بنظريّة و ممارسة مواصلة الثورة في ظلّ دكتاتوريّة البروليتاريا ، وهو متوفّر بالعربيّة بمكتبة موقع الحوار المتمدّن ، ترجمة شادي الشماوي ) و الطريق الإشتراكي الساعى إلى تخطّى بقايا الرأسماليّة و ما يفرزه المجتمع الإنتقالي في قاعدته الماديّة و الفكرية و محاصرة " الحق البرجوازي " في التوزيع إلى أبعد حدّ ممكن في كلّ مرّة ، و إلى بناء نمط إنتاج بملكيّة و علاقات إنتاج و علاقات توزيع تعالج تدريجيّا لكن بلا هوادة أهمّ التناقضات المولّدة للطبقات و المجتمع الطبقي و نقصد تلك بين العمّال و الفلاّحين و بين الأرياف و المدن و بين العمل الفكري و العمل اليدوي و بين النساء و الرجال .
و بالتالى ، تحتمل الإشتراكية بما هي مرحلة إنتقاليّة مديدة كما تبيّن ذلك التجربة التاريخيّة للثورة البروليتاريّة العالميّة و المجتمعات الإشتراكية لا سيما في الإتّحاد السوفياتي بين 1917 و 1956 و في الصين بين 1949 و 1976 و كما لخّص ذلك ماو تسى تونغ ، إمكانيّتين : التقدّم نحو الشيوعيّة و نقيضها إعادة تركيز الرأسماليّة . لهذا و لما تقدّم أعلاه ولأنّ الإشتراكية دولة طبقيّة و مرحلة إنتقاليّة في حين أنّ الشيوعيّة الهدف الأسمى مجتمع تكون فيه الطبقات و الدول قد إضمحلّت و يطبّق فيه " كلّ حسب حاجياته " تماما و على نطاق عالمي ، ينبغي على الشيوعيين و الشيوعيات الحقيقيين أن لا يكونوا إشتراكيين و إشتراكيات و إنّما ينبغي عليهم أن يكونوا شيوعيين و شيوعيات .
منذ تأسيس علم الشيوعيّة ، في " بيان الحزب الشيوعي " ، نقد مؤسّسو هذا العلم نقدا لاذعا ضروبا مختلفة من " الإشتراكيّة الرجعيّة " ؛ من " الإشتراكيّة الإقطاعيّة " إلى " الإشتراكيّة المحافظة أو البرجوازيّة " مرورا ب " الإشتراكيّة البرجوازيّة الصغيرة ". و أعلنا بلا مراء و لا لفّ و دوران : " إنّ الثورة الشيوعيّة تقطع من الأساس كلّ رابطة مع علاقات الملكيّة التقليديّة ، فلا عجب إذن إن هي قطعت بحزم أيضا ، أثناء تطوّرها ، كلّ رابطة مع الأفكار و الآراء التقليديّة ." و لاحقا ، طوّر ماركس ما أضحى الماويّون منذ عقود عدّة يطلقون عليه " الكلّ الأربعة " كتجسيد واضح و جلي لما تعنيه الثورة الشيوعية :
" هذه الإشتراكية إعلان للثورة المستمرّة ، الدكتاتورية الطبقية للبروليتاريا كنقطة ضروريّة للقضاء على كلّ الإختلافات الطبقيّة ، و للقضاء على كلّ علاقات الإنتاج التى تقوم عليها و للقضاء على كلّ العلاقات الإجتماعيّة التى تتناسب مع علاقات الإنتاج هذه ، و للقضاء على كلّ الأفكار الناجمة عن علاقات الإنتاج هذه ".
( كارل ماركس : " صراع الطبقات فى فرنسا من 1848 إلى 1850" ، ذكر فى الأعمال المختارة لماركس و إنجلز ، المجلّد 2 ، الصفحة 282 ).
و من اليسير على من لا ينظر من ثقب إبرة ، من اليسير على العين الفاحصة الناقدة و التي تتحلّى بالصرامة العلمية في البحث لتشعل شمعا للحقيقة و تفضح ما تظلّله شجرة الكذب أن ترصد أنّه على الصعيد العربي ، عقب خسارة الصين الماويّة كقلعة للثورة البروليتارية العالمية منذ أواسط سبعينات القرن الماضي و خضوعا لضغط الهجوم الإمبريالي - الرجعي على الشيوعية خاصة منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين و تذبذب البرجوازية الصغيرة و تراجع تألّق و توهّج النضالات الثوريّة بقيادة شيوعية و تنامى القوى الفاشيّة ذات المرجعيّة الأصوليّة الدينيّة ، بات الكثير من الشيوعيين سابقا أو الشيوعيين قولا فحسب يحدّدون هويّتهم و غايتهم الأسمى على أنّها الإشتراكية و يحدّدون مرجعيتّهم على أنّها الإشتراكية العلمية أو البلشفيّة . و نظرا لكون مجال هذه المقدّمة لا يسمح بالتوغّل في نقاش تفاصيل و مراجع كلاسيكيّة و غير كلاسيكيّة ، نحيل القرّاء على جدالات شيّقة لناظم الماوي بهذا الصدد على صفحات الحوار المتمدّن و بمكتبته ، لا سيما منها تلك التي وردت في كتابه " نقد ماركسية سلامة كيلة إنطلاقا من شيوعية اليوم، الخلاصة الجديدة للشيوعية " و تحديدا في النقطة السادسة من الفصل الأوّل و عنوانها " خطّان متعارضان في فهم الإشتراكيّة " .
و في نفس السياق ، ينبغي على الشيوعيّين الحقيقيّين و الشيوعيّات الحقيقيّات ألاّ يكونوا ديمقراطيين برجوازيين فيصيروا من خدم الرجعيّة ، إصلاحيين يساعفون في تأبيد الوضع السائد فالديمقراطية البرجوازية في أفضل تجلّياتها في البلدان الإمبريالية أفضت تاريخيّا إلى الفظائع التي إرتكبتها القوى الإمبريالية في بلدانها و عالميّا و لا نظنّ أنّنا في حاجة إلى أمثلة و قرائن لإثبات ذلك فهي متوفّرة للعيان يوميّا ، لا بل كلّ ساعة من كلّ يوم عبر العالم قاطبة . هكذا كانت و لا تزال الديمقراطية البرجوازية في البلدان الإمبريالية فما بالك بها في المستعمرات و المستعمرات الجديدة و أشباه المستعمرات حيث تتّخذ شكل ما يسمّيه البعض ديمقراطية الإستعمار الجديد . و يكفى الإلتفات يمنة و يسرة للتأكّد من تبعاتها على الجماهير الشعبيّة ، هذا طبعا إن لم نكن كالأعمى بعيون أمريكيّة أو عيون برجوازيّة كمبرادوريّة أو حتّى عيون برجوازيّة صغيرة. و عليه من أوكد واجباتنا الشيوعيّة أن نضع حدّا للهراء الخيالي عن " الديمقراطيّة الخالصة " و الشكلانيّة البرجوازيّة.
و لا ينبغي على الشيوعيّين و الشيوعيات الحقيقيين أن يكونوا ديمقراطيين و لا حتّى ديمقراطيين بروليتاريين فالديمقراطية طبقيّة دائما وهي شكل للدولة الطبقيّة التي يرمى المشروع الشيوعي إلى تجاوزها ببلوغ المجتمع الشيوعي الخالى من الطبقات حيث تضمحلّ الدولة كجهاز قمع طبقة أو طبقات لطبقة أو طبقات أخرى و قد أجلى لينين المسألة في مؤلّفه الذى تعرّض لتحريفات و تشويهات جمّة ، " الدولة و الثورة " . و مسألة الدولة مركزيّة في الصراع بين الماركسية الحقيقيّة و الماركسيّة الزائفة ( و غيرها من التيّارات الرجعيّة ) أو التحريفيّة . الديمقراطيّة شأنها شأن الإشتراكية شكل إنتقالي للحكم الطبقي حتّى و إن كانت شعبية أو بروليتاريّة و هي بالتأكيد ليست الغاية الأسمى للشيوعيين و الشيوعيّات و لا يجب أن تحلّ محلّ غايتهم الأسمى ، المجتمع الشيوعي على الصعيد العالمي .
و لزاما على الشيوعيين و الشيوعيات الحقيقيين أن يتركوا الضفّة الإصلاحيّة و ثلّة المثقّفين المنبهرين و المفتونين ب " الديمقراطيّة الخالصة " و الذين ما إنفكّوا يكيلون المدائح المرسلة لها مضلّلين الجماهير الشعبيّة ، و يعبروا إلى الضفّة الأخرى ، ضفّة الشيوعيّة الثوريّة كي يورق و يزهر الشجر و يرسخ علم الشيوعية كسلاح يقود تمكين الشعوب و على رأسها البروليتاريا و حزبها الشيوعي الثوري من صنع التاريخ و كسر الحجر، حجر الإستغلال و الإضطهاد الجاثم على صدر الغالبيّة الغالبة للإنسانيّة و خانق أنفاسها . لا ينبغي أن يغيب الهدف الأسمى الشيوعي عن أنظار الشيوعيات و الشيوعيين و لا لحظة واحدة ، ينبغي أن يكون حاضرا في برنامجهم الأقصى و إستراتيجيّتهم و سياساتهم و أشكال نضالهم و تنظيمهم كما يجب أن تخدم التكتيكات المتوخّات في نهاية المطاف هذا الهدف الأسمى ؛ لا يجب أن يبتلع التكتيك الإستراتيجيا نهائيّا . هدفنا الأسمى الشيوعي هو البوصلة التي إن أضعناها أضعنا الطريق المؤدّية إلى تحرير الإنسانيّة و تدحرجنا عن وعي أو لا وعي إلى الإنخراط في مشاريع إصلاحيّة من هذا الطراز أو ذاك.
و في مقال سابق لنا نشر كمقدّمة لكتابنا الثاني أو للعدد الثاني من " الماويّة : نظريّة و ممارسة " المعنون ب" عالم آخر، أفضل ضروري و ممكن ، عالم شيوعي ... فلنناضل من أجله !!! "( مكتبة الحوار المتمدّن ) ، شرحنا بإقتضاب إعتمادا على أمثلة ملموسة ثمّ لخّصنا كيف أنّ :
" المشاريع القومية و السلفية لم تحدث و لا تحدث قطيعة جذرية مع النظام الإمبريالي العالمي بل هي بدائله ( الأصوليون السلفيون ) أو هي قوى تتحّول تحت الضغط الإمبريالي و تصاعد النضال الشعبي من قوى وطنية إلى قوى برجوازية كمبرادورية تصبح جزءا لا يتجزأ من دولة الإستعمار الجديد فى أشباه المستعمرات . و مرّة أخرى تسطع حقيقة شدّد عليها ماو تسى تونغ منذ 1939 هي أن " الثورة البرجوازية القديمة قد دخلت حقيبة التاريخ . " فقد قال في " حول الديمقراطيّة الجديدة " :
" هنالك نوعين من الثورة العالمية : النوع الأوّل ينتسب إلى الثورة العالمية من النمط البرجوازي أو الرأسمالي . و لقد إنقضى عهده منذ زمن طويل ، إذ إنتهى حين إندلعت الحرب الإمبريالية العالمية الأولى عام 1914 ، و على وجه الدقّة منذ ثورة أكتوبر الروسية 1917 و حينذاك بدأ النوع الثاني ، ألا وهو الثورة العالمية الإشتراكية البروليتارية " .
و بناء على ما تقدّم ، في طيّاته يحمل هذا الكتاب الجديد بمناسبة الذكرى 160( 1848- 2018 ) لصدور " بيان الحزب الشيوعي " عنوانا معبّرا هو " دفاعا عن الشيوعيّة ..." و ليس دفاعا عن الإشتراكيّة سواء كرأسماليّة مقنّعة أم كمرحلة إنتقاليّة بين الرأسماليّة و الشيوعيّة ( أو كإشتراكيّة علميّة في تناقض مع الإشتراكية الطوباويّة ) . و فضلا عن ذلك ، إنطلاقا من العنوان ، لا يتعلّق الأمر بالشيوعيّة كقناع يتقنّع به محرّفو علم الشيوعيّة ، التحريفيّون بشتّى مشاربهم ، في الوقت الذى يفرغونها من مضامينها و أساليبها الثوريّة ليحشوها حشوا بالفعل بأرهاط من الإصلاحيّة و الديمقراطية البرجوازية الإمبريالية أو الإستعماريّة و الشوفينيّة القوميّة.
الماركسيّة أو الشيوعيّة كعلم ثوريّة كما يتبيّن ذلك منذ " بيان الحزب الشيوعي " ذاته فهي مرّة أخرى " تقطع من الأساس كلّ رابطة مع علاقات الملكيّة التقليديّة ، فلا عجب إذن إن هي قطعت بحزم أيضا ، أثناء تطوّرها ، كلّ رابطة مع الأفكار و الآراء التقليديّة ."
و من هنا يفهم لماذا لم نكتف في العنوان بالدفاع فحسب عن الشيوعيّة التي تعرّضت لإفتراءات و تشويهات جمّة على يد الإمبرياليين و الرجعيين و التحريفيين عبر العالم قاطبة ، بل أضفنا إليها نعت الثوريّة . قبل سنوات و عند إلقاء نظرة على بعض صفحات شبكة التواصل الاجتماعي ، إستوقفتنا جملة خطّها على صورة حسابه الفيسبوكي ناشط على الفايسبوك آنذاك لا ننسى فضله في المساهمة في التعريف بمقالاتنا و كتبنا ، ألا وهي جملة " الماركسيّة ثوريّة أو لا تكون " ما يفيد قنصه لحقيقة عميقة غاية العمق ففعلا هي كذلك ؛ الشيوعيّة ثوريّة أو لا تكون ، ثوريّة أو تتحوّل إلى مسخ من الإيديولوجيا المشوّهة التي تنضاف إلى ترسانة الرجعيّة العالميّة في تأبيد النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي و تأبيد إضطهاد و إستغلال الطبقات الشعبيّة المشكّلة لغالبيّة الإنسانيّة و سحقها .
و لأنّ التحريفيّة نقيض للشيوعية الثوريّة وهي كإنحراف يميني بمعنى ما ملازمة للشيوعيّة كعلم ، يترتّب على الشيوعيين و الشيوعيات الحقيقيين مقاتلتها بلا هوادة و إلاّ سقطوا في أحابيلها و أمسوا عن وعي أو عن غير وعي من أعداء الشيوعيّة الثوريّة و خدما للإمبريالية و الرجعيّة بشكل من الأشكال . و يساوى عدم تولّى النهوض بواجب الدفاع عن الشيوعيّة الثوريّة و نقد التحريفيّة الإلتحاق آجلا أم عاجلا و أردنا ذلك أم أبينا ، بأعداء القيام بالثورة الشيوعيّة و تحرير الإنسانيّة و الهدف الأسمى الشيوعية على الصعيد العالمي .
و لم يقف العنوان عند الدفاع عن الشيوعيّة الثوريّة فحسب بل تعدّاه إلى الدفاع عن تطويرها . و هنا نسلّط الضوء على نقيض آخر ملازم أيضا للشيوعيّة كعلم ألا وهو الدغمائيّة أو الجمود العقائدي بما هي إنحراف يساري قد يتحوّل و قد تحوّل في أحيان كثيرة إلى تحريفية أو دغمائيّة تحريفيّة . فهي تنظر إلى الشيوعيّة على أنّها قالب جامد بينما علم الشيوعية ككلّ علم يتطوّر بنقد ذاته و بتطوّر ممارسته و تطبيقه و بالتفاعل مع المستجدّات في شتّى الحقول و بالإكتشافات في مختلف مجالات الإنسانيّة الأخرى . و لطالما صارع الماركسيّون – اللينينيّون – الماويّون في العقود الأخيرة الدغمائيّين من مدعى الشيوعيّة الذين جعلوا من ستالين أيقونة لا تقبل النقد و من تجربة البلاشفة نموذجا لا يطاله إعمال الفكر النقدي و بجرّة قلم ألغوا التجربة الإشتراكية في الصين الماويّة إلخ و كان على رأس هؤلاء الخوجيون بمختلف ألوانهم . و يحنّط الدغمائيّون التحريفيّون الخوجيّون تجربة البروليتاريا العالميّة في الإتّحاد السوفياتي فلا يجرون التقييم الضروري بالتحليل و التلخيص العلميين لإبراز المكاسب و الدفاع عنها دفاعا مبدئيّا و صلبا و مصمّما و كشف الأخطاء و نقدها و فهم منابعها و إنعكاساتها و طرح تجاوزها لإنجاز ما هو أفضل مستقبلا . و بهكذا سلوك يقف هؤلاء الدغمائيّين ضد لينين و ستالين ذاتهما و المنهج الجدلي و تطبيق التقييم العلمي كما يقفون صراحة ضد ما نادى به ماركس عندما صرّح بأنّ الثورات الإشتراكيّة " تنتقد ذاتها على الدوام ، و تقاطع نفسها بصورة متواصلة أثناء سيرها ، و تعود ثانية إلى ما بدا أنّها أنجزته لتبدأ فيه من جديد ، و تسخر من نواقص محاولاتها الأولى و نقاط ضعفها و تفاهاتها بإستقصاء لا رحمة فيه ، و يبدو أنّها تطرح عدوّها أرضا لا لشيء إلاّ ليتمكّن من أن يستمدّ قوّة جديدة من الأرض و ينهض ثانية أمامها وهو أشدّ عتوّا ، و تنكص المرّة تلو المرّة أمام ما تتصف به أهدافها من ضخامة غير واضحة المعالم ، و ذلك إلى أن ينشأ وضع جديد يجعل أي رجوع إلى الوراء مستحيلا و تصرخ الحياة نفسها قائلة بصرامة : هنا الوردة ، فلترقص هنا ! "
( كارل ماركس ، " الثامن عشر من برومير لويس بونابرت " )
و غالبا ما يرفع الدغمائيّون ( و التحريفيّون ) الأخطاء المقترفة لنقص في فهم و تطبيق المنهج المادي الجدلي أو في التجربة أو لظروف تاريخيّة ، إلى مبادئ مناهضة لأهمّ المكاسب التاريخيّة و القطيعة مع الأخطاء و الإضافات والتطويرات الحاسمة للشيوعيّة الثوريّة التي ليس بوسعها كعلم و ككلّ علم إلاّ أن تتطوّر و إلاّ سيتهدّدها الموت و ستعاجلها المنيّة . و في الواقع الموضوعي للصراع الطبقي ، شاهدنا تحوّل الكثير من هؤلا الدغمائيّين إيديولوجيّا من الإنحراف اليساري إلى الإنحراف اليميني أي إلى التحريفيّة و سياسيّا إلى الإصلاحيّة متبنّين بدلا من الشيوعيّة الثوريّة و عمليّا مكرّسين أشخاصا و منظّمات و أحزاب الديمقراطيّة البرجوازيّة و منافحين بشكل أو آخر عن الإمبرياليّة و الرجعيّة و تأبيد الوضع السائد الساحق للطبقات الشعبيّة و مثل هؤلاء مبثوثون في الأقطار العربيّة و عبر العالم بأسره و يمثّلون الخطّ السائد صلب الحركة الشيوعيّة العالميّة .
و لسوء الحظّ ، نخر مرض الدغمائيّة المناهضة لتطوير علم الثورة البروليتارية العالميّة ، الماركسية – اللينينية – الماويّة ، صفوف حتّى الماويين عالميّا إذ إنبرى منذ سنوات الآن قسم منهم ليوقف تطوّر هذا العلم عند التجربة الماويّة في الصين و يناهض إضافات الشيوعيين الثوريين عبر العالم منذ أواسط السبعينات ، عقب وفاة ماو و حدوث الإنقلاب التحريفي و إستيلاء البرجوازيّة الجديدة على مقاليد الحكم هناك بصعود التحريفيّة إلى السلطة و مضيّها في إعادة تركيز الرأسماليّة هناك . و الأدهى أنّهم لم ينجزوا التقييم العلمي المطلوب ، من منظور شيوعي ثوري ، لتلك التجربة و طفقوا يعلون راية حتّى ما تبيّن بحكم تطوّر الأحداث و الواقع أو بالتحليل العلمي و المبدئي أنّها أخطاء و رفعوها هم أيضا إلى مصاف المبادئ فألحقوا ضررا ما بعده ضرر بالشيوعية الثوريّة ذاتها .
و قد أفرز إنقسام الماويّة على إثنين بروز أشخاص و منظّمات و أحزاب تكتّلت حول الخلاصة الجديدة للشيوعيّة التي صارت معروفة كذلك بالشيوعيّة الجديدة و بوب أفاكيان رئيس الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتحدة الأمريكيّة مهندسها . و بإعتبار نشرنا سابقا لعديد الوثائق المتّصلة بهذه الشيوعية الجديدة و بالصراعات حولها ، نكتفى هنا بالدعوة بإلحاح للإنكباب على دراسة هذه الخلاصة الجديدة للشيوعيّة و الصراع حولها دراسة جدّية فنحن ندرك و نلمس فعلا حقيقة موضوعيّة هي أنّ الشيوعية في مفترق طرق و أنّ الرهان ليس أقلّ من مستقبل الشيوعيّة الثوريّة عالميّا .
و ما نخطّه هنا ليس البتّة مجرد كلام على كلام و قول يحاذى القول و إنّما هو قبل كلّ شيء سواه صدى لحقائق كشف النقاب عنها و أمسك بها كما يمسك بالجمر معلّمو البروليتاريا العالمية منذ عقود و من واجب الشيوعيين و الشيوعيّات إدراكها و إستيعابها و النضال إنطلاقا منها و على أساسها في سبيل تغيير العالم تغييرا شيوعيّا ثوريّا . و حسبنا هنا أن نذكّر بأنّ ماركس بعدُ في " الثامن عشر من برومير لويس بونابرت " قد أعلن أنّه على الثورات القادمة - القرن التاسع عشر قال ، و نحن الآن في القرن الواحد و العشرين ! - أن ترفع النظر و لا تخفضه ، أن ترفعه و تستلهم ليس من الماضي الذى يجب أن تقضي على كلّ " إحترام خرافي " له و إنّما من " المستقبل فحسب ". و في عصرنا هذا ، عصر الإمبرياليّة و الثورة الإشتراكية ، مفاد ذلك ليس تخلّى الشيوعيين و الشيوعيّات عن تراث الحركة الشيوعية العالمية الذى يمثّل المستقبل الذى مني بالهزيمة المؤقّتة في صراعه المرير و حربه المديدة مع الماضى كما ألمح إلى ذلك ماركس في إستشهاد من الإستشهادات أعلاه ، و هذا التراث البروليتاري الثوري ينبغي أن يدرس و أن تستخلص منه الدروس و العبر لإنجاز ما أفضل في قادم الثورات الشيوعية ؛ مفاده هو كما قال ماو تسى تونغ في ما مرّ بنا أنّ الثورات البرجوازيّة القديمة فات أوانها ( الديمقراطية الإشتراكية و الديمقراطيّة البرجوازيّة فات أوانهما فما بالك بالقوميّة و الأصوليّة ! ) و أنّ المستقبل تجسّده الثورة الديمقراطية الجديدة بقيادة البروليتاريا و حزبها الشيوعي الثوري في المستعمرات و المستعمرات الجدية و أشباه المستعمرات كتيّار من تيّاري الثورة البروليتاريّة العالمية و التيّار الآخر هو الثورات الإشتراكية في البلدان الرأسماليّة – الإمبرياليّة .
جاء على لسان ماركس منذ 1852 ، في مؤلَّفه الآنف الذكر ( الصفحة 155 من ، ماركس و إنجلس " مختارات في أربعة أجزاء "، الجزء الأوّل ، الطبعة العربيّة دار التقدّم ، موسكو ) :
" إنّ ثورة القرن التاسع عشر الإجتماعيّة لا يسعها أن تستمدّ أشعارها من الماضي بل من المستقبل فحسب . إنّها لا تستطيع أن تبدأ بتنفيذ مهمّتها قبل أن تقضي على كلّ إحترام خرافي للماضي . لقد كانت الثورات السابقة في حاجة إلى إستعادة ذكريات ما مضى من حوادث تاريخ العالم لكي تخدع نفسها بشأن محتواها هي بالذات ، أمّا ثورة القرن التاسع عشر فيترتّب عليها لكي تستوضح لنفسها محتواها الخاص أن تدع الموتى يدفنون موتاهم ".
و كرّس إنجلز و لينين و ستالين هذا التوجّه الماركسي الشيوعي الثوري الذى أعطى أكله تقدّما لا بل منعرجا عاصفا في تاريخ الإنسانيّة بمكاسبه العظيمة وهي جانبه الرئيسي و بنقائصه و هناته و أخطائه وهي جانبه الثانوي . و صدح ماوتسى تونغ مواصلا السير على خطاهم المبدئيّة بحقيقة ساطعة حمل وزرها على أكتافه و سعى طاقته و رفاقه و رفيقاته من جميع أصقاع العالم ، و ما فتأ يدعو و ما فتئوا يدعون ، إلى تكريسها عمليّا ألا وهي " الماركسية لا بدّ أن تتقدّم ، و لا بدّ أن تتطوّر مع تطوّر التطبيق العملى و لا يمكنها أن تكفّ عن التقدّم . فإذا توقّفت عن التقدّم و ظلّت كما هي فى مكانها جامدة لا تتطوّر فقدت حياتها " .
( ماو تسي تونغ ، " خطاب فى المؤتمر الوطنى للحزب الشيوعي الصيني حول أعمال الدعاية " 12 مارس/ أذار 1957 " مقتطفات من أقوال الرئيس ماو تسى تونغ " ، ص21-22 )
و ينطوى العنوان الفرعي لكتابنا هذا على تحديد دقيق لمن يتمّ الجدال ضدّهم و هم مفكّرون جلّهم أكاديميّون يزعم بعضهم صراحة مناهضة الرأسماليّة و حتّى أحيانا تبنّى الشيوعية و منهم من ناضل في ماضي الأيّام في صفوف الماويين ( مثلا ، ألان باديو الفرنسيّ ) فيما هم يعرضون على القرّاء منظومات أفكار ضارة في جوهرها معادية للشيوعيّة الثوريّة كما يكشف ذلك النقاش العميق و الحيوي لأمّهات أطروحاتهم .
و في مناسبات متفرّقة ، قد تولّى مسؤوليّة خوض هذا الحانب من المعركة الإيديولوجيّة الضروريّة و فضح لبّ هذه الأطروحات المشوّهة للشيوعيّة الثوريّة ، الأطروحات " الشيوعيّة دون ثورة " و الموضوعات الخافضة للنظر و التي لا تمثّل أصلا بديلا للرأسماليّة و لا تستهدف " إلغاء نظام العمل المأجور " و المشوّهة لجوهر الماويّة و المتنكّرة لتطوير علم الشيوعيّة إلخ ، تولّى هذه المسؤوليّة الجسيمة أساسا ( بمعيّة نايى دنيا في الكتاب المفرد لنقد أفكار ألان باديو ) منظّران شيوعيّان معروفان في الأوساط الماوية العالميّة من أنصار الخلاصة الجديدة للشيوعية أو الشيوعيّة الجديدة و هما كلّ من ك. ج. أ. و ريموند لوتا . و الأوّل ، ك. ج. أ، حسب موقع مجلّة " تمايزات " ، مجلّة الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتّحدة الأمريكيّة و رابطها على الأنترنت تعثرون عليه في ثنايا هذا الكتاب ، كاتب يساهم بمقالات عميقة و طويلة نسبيّا بمفرده أو بالتعاون مع غيره في أعداد المجلّة ( ساهم في العدد الأوّل و الثاني و الرابع بمقالات قيّمة ) و قد ترجمنا له و نشرنا مقال خطّه بمعيّة إشاك باران هو " آجيث – صورة لبقايا الماضي " ضمن كتابنا " من ردود أنصر الخلاصة الجديدة للشيوعية على مقال " ضد الأفاكيانيّة " لآجيث ".
أمّا ريموند لوتا فقد أنف لنا ترجمة أعمال له و نشرها و جاء فى التعريف المقتضب به في مقدّمة كتاب " عن بوب أفاكيان و أهمّية الخلاصة الجديدة للشيوعية تحدّث قادة من الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتّحدة الأمريكيّة " :
" أمّا ريموند لوتا فلا شكّ فى أنّ المطّلعين على ما أصدرنا من كتب قد عرفوه لا سيما و قد إنطوى الكتاب 23 على حواره الصحفي المعنون " لا تعرفون ما تعتقدون أنّكم " تعرفون " ... الثورة الشيوعية و الطريق الحقيقي للتحرير : تاريخها و مستقبلنا ". و ريموند لوتا عالم إقتصاد ألّف المقالات فى هذا المجال منذ سبعينات القرن العشرين و مثال ذلك مقال " حول الرؤية المنشفيّة للأزمة : الرأسمالية تعمل فى النهاية " المتوفّر على الرابط التالي :
http://bannedthought.net/USA/RCP/TheCommunist/TheCommunist-RCP-04-Summer-Fall1978.pdf
و ساهم بمقالات فى مجلّة الحركة الأممية الثوريّة " عالم نربحه " منها مثلا :
- " عن ديناميكيّة الإمبريالية و عرقلة التطوّر الإجتماعي "
http://bannedthought.net/International/RIM/AWTW/1985-2/index.htm
- " التمرّد فى الصين : أزمة التحريفية ...أو لماذا كان ماو تسى تونغ على صواب "
http://bannedthought.net/International/RIM/AWTW/1989-14/AWTW-14-ChinaCrisis-
وهو صاحب كتاب " إنهيار أمريكا " ألّفه بمعيّة فرانك شانون و كتاب " و خامسهم ماو " و له مقالات لا تحصى و لا تعدّ عن الإشتراكية والتخطيط و العولمة إلخ و من أهمّ نصوص محاضراته التى نشرنا نصّ محاضرة " الإشتراكية أفضل من الرأسمالية و الشيوعية ستكون أفضل حتى ! " ( " الماوية : نظريّة و ممارسة " عدد 2 - عالم آخر، أفضل ضروري و ممكن ، عالم شيوعي ... فلنناضل من أجله !!! ) . و لأكثر من عقد من الزمن الآن ، صار مشرفا أيضا على مشروع " وضع الأمور فى نصابها " أي الدفاع عن الشيوعية فى وجه الهجمات الرجعيّة والإمبريالية و توضيح الحقائق و المكاسب التاريخية – وهي الرئيسيّة – فى تراث البروليتاريا العالمي و تجاربها الإشتراكية السابقة و نقد بعض الأخطاء متّبعا فى ذلك كما يقول هو نفسه قيادة بوب أفاكيان و مطبّقا ما توصّلت إليه الخلاصة الجديدة للشيوعية . و موقع إنترنت " هذه هي الشيوعية " يشهد بذلك :
www.thisiscommunism.org " .
و متّبعين في عرض النصوص المستقاة من مجلّة " عالم نربحه " مجلّة الحركة الأممية الثوريّة كمنظّمة عالميّة وحّدت إلى 2006 أهمّ الأحزاب و المنظّمات الماويّة في العالم ، أو من مجلّة الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتحدة الأمريكيّة " تمايزات " أو من جريدة هذا الحزب عينه " العامل الثوري " التي صارت منذ 2005 تحمل إسم " الثورة " ، ترتيبا تاريخيّا . و مهّدنا لجدالات هذا المصنّف الجديد الدسمة بفصل أوّل يعاد فيه التذكير بقصّة " بيان الحزب الشيوعي" و نقاطه المحوريّة التي لا تزال تشكّل منارات لمن يتطلّع لإدراك أوجه من جوهر المشروع الشيوعي الثوريّ . و قد شملت النقاشات التي تستدعى لا محالة القراءة و التفحّص بتؤدة و تمعّن و التأملّ مليّا و التحلّى بالفكر النقديّ قضايا إيديولوجيّة منها و سياسيّة عدّة في غاية الأهمّية تتعلّق بالتغيّرات التي طرأت على الواقع الموضوعي و بالتجربة التاريخيّة للحركة الشيوعيّة العالميّة و بماهيّة الماويّة و إنقسامها إلى إثنين و نحو ذلك مثلما يمكن للقرّاء تبيّن هذا حتّى من نظرة أولى على محتويات هذا المصنّف .
و محتويات هذا الكتاب 29 ، أو العدد 29 من " الماويّة : نظريّة و ممارسة " إضافة إلى هذه المقدّمة :
1- الفصل الأوّل : لا يزال " بيان الحزب الشيوعي " صحيحا و خطيرا و أمل الذين لا أمل لهم
-1- قصّة " بيان الحزب الشيوعي "
- منظّمة شيوعيّة جديدة ، بيان شيوعي جديد
سلاح لخوض النضال -
بيان من أجل حركة عالميّة جديدة -
-2- " بيان الحزب الشيوعي " اليوم لا يزال صحيحا و لا يزال خطيرا و لا يزال أمل الذين لا أمل لهم
- وثيقة تغيّر التاريخ
- ماركس بشأن صعود البرجوازية و مهمّتها
- الرأسماليّة اليوم
- عالم مغاير ممكن
- النظرة الشيوعية
- معالم ثلاث لقضيّتنا
- الثورة الثقافيّة تكتسح أرضا جديدة
- إمتلاك أفق تاريخي
2- الفصل الثاني : حول " الإمبراطوريّة " : الشيوعية الثوريّة أم " الشيوعية " دون ثورة ؟
I- الإمبريالية أم " الإمبراطوريّة " ؟
II ـ ما هي الرأسماليّة ؟
- ما الذى يدفع الإمبريالية إلى الأمام ؟
- قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج
- ما الذى يدفع ماذا ؟
- إعادة إحياء نظريّة روزا لكسمبورغ
- سيادة وحيدة ؟
III- التحرّر الوطني و الدولة
- الإمبرياليّة و أنماط الإنتاج ما قبل الرأسماليّة
- التحرّر الوطني ـ لا يزال مهمّة من مهام البروليتاريا
- تواصل أهمّية الفلاّحين و المسألة الزراعيّة
– قانون القيمة و " العمل غير المادي " IV
- تحليل طبقي مضطرب
- أجر مضمون إجتماعيّا
V – الديمقراطية و الفوضويّة و الشيوعيّة
- الديمقراطية و الحكم الطبقي
- إضمحلال الدولة ... في ظلّ الرأسماليّة !
3- الفصل الثالث : ألان باديو و دكتاتورية البروليتاريا أو لماذا يساوى نبذ " إطار الدولة - الحزب " نبذا للثورة
- لماذا تصلح الدولة الإشتراكية وكيف ستضمحلّ و لماذا ينتهى ألان باديو إلى جانب الدولة البرجوازية I
1- ملاحظة سريعة عن الفلسفة
2- ألان باديو لاطبقية الدولة و الشكلانية
- الحزب فى المجتمع الإشتراكي : " غير ملائم " أم وسيلة للتحرير ؟II
1- مرّة أخرى عن روسو و التمثيليّة
2- " الخضوع البيروقراطي اللاطبقي " أم مرّة أخرى ، هل الخطّ هو الحاسم ؟
3- القيادة الشيوعية المؤسساتيّة و تناقض القادة – المقادين و رأي الخلاصة الجديدة بهذا الصدد
4- الفصل الرابع : القدح في الشيوعية و التزلّف للإمبريالية - تزييف سلافوج تزتزاك للحقائق و جلبه العار لنفسه
- تحدّيات حقيقيّة و بدائل حقيقيّة و مسؤوليّات حقيقيّة I
II- يرفض الخوض في الخلاصة الجديدة للشيوعية لبوب أفاكيان بينما يهاجمها هجوما غير مسؤول
III – مناهضة مسعورة للشيوعيّة تلبس قناع التفكير الجديد
IV – موقف تزتزاك المعادي لمناهضة الإمبرياليّة
- خاتمة : تصفية حساب و دعوة إلى نقاش جريئ و صريح V
- ملحق : سلافوج تزتزاك أحمق متعجرف يتسبّب في ضرر كبير
5- الفصل الخامس: فهم الماويّة فهما علميّا و الدفاع عنها بصلابة و تطويرها ، بهدف بلوغ مرحلة جديدة من الشيوعية : أفكار جداليّة حول مقال برنار دى مالو " ما هي الماويّة ؟ "
مفهوم دى مالو للماويّة :
نهاية مرحلة و بداية مرحلة جديدة :
الديمقراطيّة الراديكاليّة أم الشيوعيّة العلميّة :
المساهمات الخالدة لماو تسى تونغ :
الصراع من أجل الدفاع عن ماو تسى تونغ و إرساء أرضيّة مزيد التقدّم :
ماو ( و ماركس ) ك " ديمقراطيّين راديكاليّين " :
الخلط بين الشيوعيّة و الديمقراطيّة :
تجاهل دروس الثورة الثقافيّة البروليتاريّة الكبرى :
الثورة الوطنيّة الديمقراطيّة :
ما معنى القيادة البروليتاريّة ؟
ماركسيّة العالم الثالث ؟
الخطّ الجماهيري :
" الممارسة معيار الحقيقة " :
ملاحظات نهائيّة :
-+++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++-

الفصل الثاني :
حول " الإمبراطوريّة " : الشيوعية الثوريّة أم " الشيوعية " دون ثورة ؟
ك. ج. أي
مجلّة " عالم نربحه " عدد 32 / 2006
http://www.bannedthought.net/International/RIM/AWTW/2006-32/AWTW-32-2006-compressed.pdf

- " الإمبراطوريّة " - مايكل هاردت و أنطونيو نغرى ، منشورات جامعة هارفارد ، كمبريدج ، ماساشوستس2000 .
- " الحشد " - مايكل هاردت و أنطونيو نغرى ، منشورات بنغوين ، نيويورك ، 2004 .
- " نقاش الإمبراطوريّة " – الناشر غوبال بلاكريشنام ، فرسو ، لندن ، 2003.

نادرا ما دحضت تطوّرات الحياة نفسها الأطروحة الجوهريّة لكتاب بسرعة و عمق كبيرين مثلما فعلت مع كتاب أنطونيو نغرى و مايكل هاردت ، " الإمبراطوريّة " ، فبعد كلّ شيء رسم ناغرى و هاردت صورة لعالم فيه تمّ تجاوز الإمبريالية من قبل نظام عالمي جديد ، نظامهما العالمي الجديد الذى يحيلان عليه بكلمة " الإمبراطوريّة " . و لكن لم يمرّ وقت طويل على مباركة نغرى و هاردت لهذا النظام " الإمبراطوري " الجديد حتّى أعادت المظاهر الإمبريالية المعروفة ، و الإمبريالية الأمريكيّة بوجه خاص ، تأكيد ذاتها بشكل شديد و عنيف للغاية . و إثر تفجير حرب العراق الكثير من المقدّمات المنطقيّة ل " الإمبراطوريّة " ، نشر نغرى و هاردت تتمّة تحت عنوان " الحشد " حاولا فيها معالجة بعض قضايا عالم ما بعد 11 سبتمبر ، لكن دون أن يعيدا حقّا تفحّص أطروحاتهما المركزيّة .
لماذا إذن جذب هذان الكتابان جمهورا كبيرا ؟ (1) يزعم نغرى و هاردت أنّهما إكتشفا تغيّرا جوهريّا في المجتمع و لشرح رؤاهما يقيمان مروحة عريضة من الأمثلة ذات المظاهر المختلفة من الحياة الإجتماعيّة و المجتمع الإنساني . و يقولان إنّ المرحلة الجديدة التي يطلقان عليها تسمية " الإمبراطوريّة " مجتمع في مرحلة إنتقاليّة يمضى بعيدا عن النظام الإمبريالي . و بالخصوص ، يتفحّص المؤلّفان شتّى مظاهر ما صار معتبرا دليلا على كيف أنّ العالم يتقدّم نحو الشيوعيّة – نحو إضمحلال الدولة – الأمّة و ستكون الإنسانيّة منظّمة لذاتها و مسيّرة لشؤونها .
و يعبّر المؤلّفان عن مشاعر الملايين بوجود الظروف التي تخوّل للإنسانيّة المضيّ قدما إلى مكان مختلف ، حيث لا يحتاج المجتمع إلى أن يكون منظّما وفق مبادئ رأسماليّة للجشع و القرصنة . و يكثّف هذا في خاتمة كتاب " الحشد " : " بوسعنا بعدُ أن نعترف بأنّ الزمن اليوم منقسم بين حاضر هو بعدُ ميّت و مستقبل بعدُ ينبض حياة . و البون الشاسع بينهما يغدو هائلا ". تعيد إمكانيّة تنظيم مجتمع إنساني على أساس مغاير تماما تأكيد ذاتها بإستمرار ، و هذه الإمكانيّة تجد التعبير عنها ليس في التطلّعات و النضالات السياسيّة فحسب و إنّما أيضا في كلّ مجال من مجالات الحياة الإجتماعيّة ( الفنّ و الثقافة و مناهج البحث العلمي و الفلسفة و هلمّجرّا .) النضال من أجل الشيوعية حقيقي على أنّه ممكن بوعي متفاوت . و قد أشار لينين إلى هذا على أنّه الشيوعيّة تنبثق من آلاف المسام . و لا غرابة نظرا لكون نغرى و هاردت يحاولان التعبير عن هذه النزعة ، في أن يجد عمليهما بعض الصدى .
والمشكل مع هذه الصورة هو أنّ المجتمع ليس بوسعه عفويّا أن يتغيّر من مجتمع اليوم الطبقي إلى مجتمع الغد الشيوعي. أولئك الذين يوجدون راهنا في أعلى هرم المجتمع الإنساني يفعلون و سيفعلون ما بوسعهم بما في ذلك إطلاق حمّام دم جماهيري للحفاظ على النظام الرأسمالي القائم .
و يخفق كتاب " الإمبراطوريّة " في أن يضع في مركز المرحلة الحاجة إلى تحطيم ما يقول إنّه " بعدُ ميّت " – الإمبريالية و الرجعيّة و تمظهراتهما الإيديولوجيّة – تحطيما و قبرا نهائيّا . و ينتهى المؤلّفان غالبا إلى تبرير العالم و مدحه ليس كما يمكن أن يكون لكن كما " نعيشه بعدُ " – و الذى لا يزال في الواقع تعرقله و تميّزه الملكيّة الخاصّة و الإنقسامات الطبقيّة و الفرق بين البلدان المضطهِدة و المضطهَدة و كافة الفظائع و الظلم في النظام الاجتماعي المعاصر . بإختصار ، يريدان شيوعيّة دون صعوبات و تضحيات و لا يريدان يقينيّات ثوريّة . و سنرى لاحقا أنّ نظرة نغرى و هاردت للشيوعية لا تتخطّى حقّا حدود النظام القائم ، و لعلّ هذا هو سبب إستعدادهما لإطلاق صيحة الإنتصار مع أنّ المعركة لم تُخض بعدُ .
سنرى أنّ في جميع المجالات ، نظرة نغرى و هاردت تتّسم بتقديس للعفويّة و إعتقاد بأنّ السيرورات الإجتماعيّة ستؤدّى بحدّ ذاتها إلى نتائج مواتية ، و هكذا يستهينان بدور الشعب كعامل واعي في إعادة توجيه التطوّر الإجتماعي . و بالفعل ، البناء النظري لنغرى و هاردت في حدّ ذاته درسٌ في العفويّة : إنّه يمثّل التذيّل للتيّارات الفكريّة لعديد العقود الأخيرة . و يعانق المؤلّفان بالخصوص كتابات ما بعد الحداثة المتنوّعة و ينهلان كثيرا من مفاهيمها و مفرداتها . و بإستمرار يحيل نغرى وهاردت على العالم المعاصر على أنّه " ما بعد الحداثة " غير أنّهما لا يريدان تصنيف أنفسهما ك" مابعد حداثيين".كتب المؤلّفان أنّه " رغم أنّهم [ يقصدان ما بعد الحداثيّين ـ المرتجم ] بصفة مرتبكة أو غير واعية يشيرون إلى المرور إلى تشكّل الإمبراطوريّة " . و يتّخذ نغرى و هاردت ما يعتبرانه عملا مرتبكا و غير واعي لدى ما بعد الحداثيين أساسا لبناء نظامهما الإيديولوجي .
ينبغي أن تكون ماركسيّة القرن الواحد و العشرين منتبهة إلى جميع إكتشافات المجتمع المعاصر و نقاشاته ( بالضبط مثلما كان ماركس و إنجلز يطوّران إيديولوجيا البروليتاريا في القرن التاسع عشر ) . ينبغي على الماركسيّة أن تخوض في ما هو خاطئ و تفكّكه و تنقده و أن تستوعب كلّ مظاهر ما هو صحيح من المصادر الأكثر تنوّعا . لكن نغرى و هاردت يقومان بشيء مغاير تماما . إنّهما يجعلان " إرتباك " ما بعد الحداثة أكثر وعيا و منهجيّة و يحاججان بأنّ الإيديولوجيا الجديدة تتناسب مع التغيّرات الماديّة في طريقة تنظيم المجتمع – الذى يسمّونه " الإمبراطوريّة " .
I- الإمبريالية أم " الإمبراطوريّة " ؟
في هذه اللاقراءة النقديّة لن نسعى إلى التعليق على كلّ المروحة العريضة من المواضيع التي تناولها كتاب " الإمبراطوريّة " بالبحث أو إلى تتبّع إلتواءات المؤلّفان العديدة و المثيرة للتفكير عادة . بالأحرى ، سنسعى إلى التركيز على الأطروحات الأساسيّة " للإمبراطوريّة " . و سنترك لغيرنا الإنكباب على عديد الحجج الفلسفيّة و الثقافيّة في الكتاب إيّاه . و هنا سنتطرّق فقط إلى الحجج التي من غير الممكن تجنّبها في نقاش فهم نغرى و هاردت للنظام الاقتصادي ـ الاجتماعي العالمي المعاصر .
و الأطروحة المركزيّة ل" الإمبراطوريّة " هي أنّ الرأسماليّة ولجت مرحلة جديدة ، أبعد من الإمبرياليّة ، لم يعد فيها التحليل الأساسي للينين للمرحلة الإمبرياليّة صالحا . و بصورة خاصة ، تداعت أهمّية دور الدولة ـ الأمّة تداعيا مهولا ، حسب وجهة نظر المؤلّفان ، " الإمبراطوريّة هي العالم بعدما فرضت الإمبرياليّة تماما العلاقات الرأسماليّة عبر الكوكب ، بكافة مناطقه و جهاته . و قد ربطت سيرورات الإنتاج و الاتصالات معا العالم بأسره على نحو لم يكن من الممكن تصوّره سابقا . و تظهر أشكال جديدة من العمل و عنها تنتج تغيّرات طبقيّة جديدة . و قد شهدت أرياف العالم تغيّرات كبرى . "
الكثير ممّا ذكر أعلاه صحيح طبعا . فقد شهد العالم تغيّرا كبيرا في النصف الثاني من القرن العشرين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية و العقود الثلاثة منذ وفاة ماو تسى تونغ . و منذ إنهيار الإتحاد السوفياتي ( الذى لا يجب أبدا أن ننسى أنّه تحوّل إلى بلد إمبريالي يسير حسب قوانين الإمبريالية شأنه في ذلك شأن كافة البلدان الإمبريالية الأخرى ) ، فسح التنافس بين القوى الرأسماليّة و الإندفاع نحو الحرب ، فسح المجال لنزعة الإمبرياليين نحو شكل من " إتفاق بناء أخوّة لصوصيّة" ( مستعرينين وصفا إستخدمه ماركس في " رأس المال" ) فيه مصالحهم الخاصة و المتناقضة ترتبط في الوقت الحاضر بحاجتهم جميعا إلى الحفاظ على ظروف هذه اللصوصيّة و حمايتها.
و يحاجج المؤلّفان بأنّ " ما كان عادة نزاعا أو تنافسا في صفوف القوى الإمبرياليّة المتعدّدة ، في مظاهر هامة ، قد وقع تعويضه بفكرة قوّة واحدة تهيمن عليهم جميعا ـ تهيكلهم جميعا بطريقة توحيديّة و تتعاطى معهم في ظلّ مفهوم الحق الذى هو تحديدا ما بعد إستعماري و ما بعد إمبريالي . هذه هي حقّا نقطة إنطلاق دراستنا للإمبراطوريّة . مفهوم جديد للحقّ ، أو بالأحرى ، صياغة جديدة للسلطة و رسم جديد لضوابط الإنتاج و أدوات جديدة للقسر تضمن التضييق على الخلافات و تعالجها " (2)، و" الإمبراطوريّة ليست صدى ضعيفا للإمبرياليّة المعاصرة و إنّما هي جوهريّا شكل جديد للحكم " . (3) و يحاجج المؤلّفان أنّه ليس للنظام الإمبريالي الراهن مركزا أو مراكزا . بالنسبة لهما هو نظام يشمل الآن العالم برمّته و " بسلاسة " و يمحو كافة الإختلافات في طريقته . عموما ، لا تعتبر الإمبراطوريّة شكلا أوّليّا من الرأسماليّة يتجاوز الإمبرياليّة فقط ، بل هي كذلك تقدّما تاريخيّا نسبة إلى المرحلة الإمبرياليّة السابقة : " حكمنا أنّ الإمبراطوريّة أقلّ سوءا أو أفضل من الوضع السابق من وجهة نظر الحشد ".(4)
و يدافع المؤلّفان عن أنّ السيادة قد صارت " غير محدّدة في منطقة " . و بهذا يقصدان أنّ نظام الحكم و السيطرة لم يعد رهين تشكيلة قوميّة معيّنة أو نظام دولة معيّن . هنا ، كما في مواقع أخرى ، يأخذان ظواهرا حقيقيّة مثل تصاعد الهجرة و سيولة رأس المال و تطوّر المؤسّسات العالميّة كالأمم المتّحدة إلخ بيد أنّهما لا يقرّان بأنّ هذه المظاهر تنمو في إطار هيكلة عالميّة تهيمن عليها الدول ـ الأمم الإمبرياليّة . " قد يبدو كما لو أنّ الأمم المتّحدة صارت روما جديدة ... [ لكن ] أي مفهوم مناطقي مماثل للمجال الإمبراطوري ، مع ذلك ، تقوّضه بإستمرار المرونة و الحركيّة و عدم الإنحصار في منطقة في جوهر الجهاز الإمبريالي " . (5) إلاّ أنّ ما " يبدو " هو كذلك ، في هذه الحال على الأقلّ ، ما هو موجود . و لنستشهد بأحد مراجعى كتاب المؤلّفان إيّاهما وهو يقول " إنّ الأمم المتّحدة القائمة حاليّا تهدّد طول الوقت بالخروج من صفحات الإمبراطوريّة كالوجه أثناء الكابوس ، و يجب على الدوام قمعه ".(6)
و في حين أنّ المؤلّفان لا يسعيان إلى تقديم الحجّة السخيفة بأنّ الولايات المتّحدة كانت حرّة تماما من الإمبرياليّة ، فإنّهما يحاججان بأنّ الإمبرياليّة " كانت بالأساس ظاهرة أوروبيّة " – في تعارض مع نظرة لينين بأنّ الإمبرياليّة ظهرت أساسا نتيجة سيرورة نموّ و تركّز رأس المال و تحوّله إلى رأس مال إحتكاري . (7) و بطبيعة الحال ، قد إعتبر لينين دائما الولايات المتحدة بلدا إمبرياليّا و لم يسقط أبدا في خطإ المحاججة بذلك لأنّ الولايات المتّحدة كانت تملك أقلّ مستعمرات بكثير و بالتالى هي أقلّ " إمبرياليّة " من بريطانيا أو فرنسا على سبيل المثال . و منذ الحرب العالميّة الثانية ، مُنحت البلدان المستعمَرة سابقا إستقلالا شكليّا غير أنّها ظلّت مستعبدة من قبل النظام الإمبريالي العالمي ، في شكل مستعمرات جديدة . و يعرف الملايين عبر العالم معرفة جيّدة أنّ الإمبرياليّة الأمريكيّة حقيقيّة جدّا و تماما .
برأي نغرى و هاردت ، القوّة المحرّكة لتطوّر الأمم المتّحدة ليست المنطق الرأسمالي ، الإكراه الذى لا هوادة فيه للتوسّع و إعادة الإنتاج على نطاق مشتدّ أبدا . بدلا من ذلك ، يعتقدون أنّ ديناميكيّتها تشرحها المظاهر الخاصة للولايات المتحدة المرتبطة بتاريخ توسّعها غربا عبر شمال القارة الأمريكيّة إنطلاقا من جذورها على الساحل الأطلسي . يحاججان بأنّ " النزعة الديمقراطيّة التوسّعيّة الكامنة في مفهوم شبكة السلطة يجب أن نميّزها عن الأشكال الأخرى من التوسّع المحض و الإمبريالي ". (8)
و يمضى المؤلّفان ليكيلا المديح لإيدييولوجيا وودرو ولسن ، إيديولوجيا السلام العالمي على أنّها إمتداد للمفهوم الدستوري " لشبكة القوّة " و يقارنونه بصفة خاصة بالنزعات " الإمبرياليّة : التي يمثّلها تيودور روزفالت (9) . ما مدى الأهمّية التي يتعيّن علينا إيلاءها إلى الصورة الخاصة التي سعى من خلالها ولسن إلى تجميل مصالح الإمبريالية الأمريكية عند الإلتحاق بالحرب العالمية الأولى ؟ و بالفعل يصدر نغرى و هاردت الكثير من التودّد للولايات المتحدة و يوليان أهمّية كبرى إلى ما يقوله حكّامها عن أنفسهم . و لعلّه يجدر بنا أن نذكّر نغرى و هاردت بأنّ التبرير الديماغوجي الإمبريالي لجرائمها بارد كبرودة الإمبريالية نفسها . و قد حاول البلجيكيّون تبرير إستحواذهم العنيف على الكنغو في أواخر القرن التاسع عشر على أنّه قتال ضد العبوديّة العربيّة ! و إرتأت اليابان تحرير آسيا من حكم الأوروبيين تحت يافطة آسيا للآسيويين إلخ . و يذكّرنا هذا بموقف ماركس القائل بأنّه " فيما يستطيع كلّ بقّال ، في الحياة العاديّة ، أن يميّز جيّدا بين ما يزعم أيّ إمرئ أنّها حقيقة و بين حقيقة هذا المرء الفعليّة ، فإنّ مؤرّخينا لم يكتسبوا بعد هذه البصيرة المبتذلة ، إنّهم يصدّقون مزاعم كلّ عصر عن نفسه ، و الأوهام التي يصنعها عن ذاته. " ( 10)
و بالنسبة لنغرى و هاردت ، المسار المديد للولايات المتّحدة نحو الهيمنة العالميّة ليس شيئا كامنا في النظام الرأسمالي ذاته و ليس بالأساس نفس الذى دفع بريطانيا و فرنسا و ألمانيا أو الإتحاد السوفياتي ، بما أنّ كلّ واحدة من هذه الدول سعت بدورها إلى تركيز إمبراطوريّتها الإمبرياليّة الخاصة. و يسحبنا المؤلّفان إلى لا أرض أبدا فيها لم تعد الإمبريالية الأمريكيّة موجودة ، و فعلا لم توجد قط و كلّيا حيث لم تكن حرب الفتنام حدثا محدّدا لفترة كاملة من العلاقات العالميّة في ستّينات القرن العشرين بل إنحراف و " الفجوة الأخيرة " للإمبرياليّة من النمط الأوروبي إنزلقت إليها نوعا ما الولايات المتّحدة " عندما ضاعت أبعد من ما يمكن عن مشروعها الدستوري الأصلي "(11).
و الإستنتاج هو أنّ " الإمبراطوريّة الآتية ليست أمريكيّة و الولايات المتحدة ليست محورها . و المبدأ الجوهري للإمبراطوريّة مثلما وضّحنا على طول هذا الكتاب هو أنّ قوّتها ليس لها منطقة أو مركز محدّدين " (12) . و زمن هذه القراءة النقديّة ، في 2006، عندما كانت الولايات المتحدة تشنّ هجوما عالميّا متصاعدا ، منذ 11 سبتمبر 2001 ، مثل هذا الوصف يبدو تقريبا سخيفا . و في الواقع ، للنظام العالمي مركز ، أو عمليّا عدّة مراكز ، و ضمنها الولايات المتّحدة هي المهيمنة عموما. أكيد أنّ مؤسّسات عالميّة جديدة قد ظهرت وهي إلى درجة معيّنة تستطيع أن توفّر نوعا من " الحكم" لعالم فيه القوى الإمبريالية المتنوّعة تتعاون و إلى درجة معيّنة " تتوسّط " في النزاعات بين الدول الإمبريالية و الطبقات الحاكمة المحلّية للبلدان التي تتغّذّى على حسابها و تهيمن عليها . لكن بداية ينبغي أن نشير إلى أنّ هذه المؤسّسات لا تمثّل بتاتا إنتقالا إلى عالم دون دول بل بالأحرى هي تخدم صيانة و تقدّم النظام العالمي القائم و علاقات الهيمنة التي نشاهدها حولنا . و فضلا عن ذلك ، سجّلت الأحداث حدود أي من هذه المؤسّسات في تخطّى سيادة الولايات المتحدة ذاتها .
يعير نغرى و هاردت إنتباها كبيرا للأمم المتحدة . و فعلا ، يشرعون في محاججتهما بتحليل أنّ الأمم المتحدّة " ليست هدفا في حدّ ذاتها بل رافعة تاريخيّة حقيقيّة دفعت إلى الأمام الإنتقال إلى نظام عالمي بصورة صحيحة " (13) . و من الأكيد أنّه يمكن قول إنّ العالم يحتاج إلى مؤسّسات يمكن أن تأخذ بعين الإعتبار حاجيات الإنسانيّة ككلّ . و يمكن رؤية هذا في الحاجة إلى إدارة معقولة و حماية الموارد الطبيعيّة كالصيد و التنوّع البيئي أو حتّى الحاجة الأبرز لمنح الموارد الإنسانيّة على أساس الحاجيات مثلما هو الحال عند حدوث الأوبئة أو تخطّى لامساواة ضخمة بين مختلف مناطق العالم . لكن يمكن أن نرى من أمثلة لا تحصى أنّ العالم صار أكثر تفاوتا ولامساواة ، و ليس أقلّ ، و أنّ الموارد المشتركة للبشريّة تتعرّض بصفة متصاعدة إلى الخطر ، على غرار التهديد الحقيقي جدّا لإرتفاع حرارة الكوكب . و المهمّة المركزيّة التي تدّعيها الأمم المتحدة ، مهمّة منع النزاعات المسلّحة بين الدول لم تخفّف من سرعة العدوان و الحرب الإمبرياليين . و بدلا من تمثيل " إنتقال إلى نظام عالمي بصورة صحيحة " في المستقبل ، الأمم المتحدة و مؤسسات شبيهة ركائز هامة في الحفاظ على العالم كما هو و بهذا المعنى ، ليست البتّة إنتقالا إلى المستقبل بل هي حاجز من الحواجز الشاخصة أمام بلوغ ذلك الهدف .
حينما ننظر إلى الواقع الملموس للأمم المتحدة ، نشاهد أنّها ليست مؤسسة تقع فوق علاقات السلطة القائمة حاليّا بين الدول. و لمّا يناقش نغرى و هاردت الأمم المتّحدة كمؤسّسة يتركان جانبا عنصرها الجوهري ألا وهو أنّ خمس دول تملك حقّ الفيتو في مجلس الأمن وهو الجهاز الوحيد في الأمم المتحدة القادر على التصريح ( أو شرعنة بعد فعل ) باللجوء إلى القوّة و الحرب . و علاوة على ذلك ، رأينا أنّه من ضمن العناصر الدائمة الخمسة لمجلس أمن الأمم المتحدة ، ليست جميع حقوق الفيتو متساوية . فحتّى حين عارضت ثلاثة بلدان من هذه البلدان الخمسة حرب الولايات المتحدة ضد العراق ، و حتّى بالرغم من أنّ الأمين العام للأمم المتحدة ، كوفى عنان ، صرّح ( و إن بعد سنتين ) أنّ الحرب ضد العراق كانت حربا " غير قانونيّة " من وجهة نظر ميثاق الأمم المتحدة ، لم تستطع فرنسا و الصين و الإتحاد السوفياتي و لم تمنع الولايات المتحدة و بريطانيا من الذهاب إلى الحرب لوحدهما في الأساس ضد إرادة الغالبيّة العظمى من دول العالم ( حتّى لا نشير إلى عموم معارضة الجماهير في أغلبيّتها في بريطانيا و حركة معارضة كبيرة في الولايات المتحدة عينها ). الأمم المتحدة في آن معا وسيلة لتيسير عمل " أخوّة اللصوصيّة " و أيضا مجالا للخصام بين اللصوص أنفسهم . لكن مثلما أثبتت حرب العراق ، ليس بوسعها إلاّ أن تعكس و ليس بوسعها بطريقة جوهريّة أن تتجاوز أو تتخطّى الواقع الجغرافي ـ السياسي الفعلي للعالم المعاصر .
لقد كُتب " الإمبراطوريّة " في الفترة ما بين حرب الخليج الأولى ( 1991 ، لمّا كان بوش رئيسا للولايات المتحدة ) و حرب الكوسوفو التي بدأت في 1998 ، بكلمات أخرى ، أثناء حقبة حكم كلينتون . و في حين أنّ النزعات الإمبريالية للولايات المتحدة التي ستشكّل لاحقا أساس برنامج بوش الإبن ، كانت بعدُ تتشكّل خلال حقبة كلينتون ، لم تنجز بعدُ" قفزة" حدثت عقب 11 سبتمبر 2001 . و مع ذلك ، حتّى في السنوات الورديّة لتسعينات القرن العشرين يوجد كمّ كبير من الأدلّة ( يوغسلافيا السابقة ، الكنغو إلخ ) تفنّد جدال نغرى و هاردت بأنّ " فكرة السلام في أساس تطوّر الإمبراطوريّة و توسّعها " . (14) و طبعا لا يمكن أن نتوقّع من هذين الكاتبين أن يتنبّآ بالمستقبل ، لكن أيّة نظريّة تدّعى أنّها علميّة و تدّعى أنّها تعكس فعلا العالم كما هو و فهم القوانين المحدّدة لحركته ، مضطرّة إلى مساءلة نفسها إعتمادا على كيف و إلى أيّ مدى يؤيّد تطوّر الأحداث الفعليّة أم يضع موضع السؤال مقدّماتها الكامنة . لذا كان نغرى و هاردت مجبرين في عملهما الأخير " الحشد " على إعادة النظر في أطروحة " الإمبراطوريّة " .
صحيح أنّ في " الحشد " حلّت " حرب أهليّة كونيّة عامة " (15) محلّ الزعم السابق للمؤلّفين بأنّ السلام هو أساس الإمبراطوريّة ؛ إلاّ أنّ نغرى و هاردت لسوء الحظّ يتجنّبان أية مساءلة ذاتيّة حقيقيّة ، لا سيما بشأن المبدأ المؤسّس لنظريّتهما أي تجاوز العصر الإمبريالي بشيء أرقى . في " الحشد " يحاجج المؤلّفان : " ينزع المرء إلى قول على الأقلّ إنّه منذ البدايات الأولى لتسعينات القرن الماضي ، قد قلّلت السياسة الخارجيّة للولايات المتحدة المنطق الإمبريالي و الإمبراطوري ... تتحرّك الولايات المتحدة كقوّة قوميّة وفق خطوط الدول الإمبرياليّة الأوروبيّة المعاصرة . هذا من من ناحية و من الناحية الثانية ، يحمل كلّ عمل عسكري للولايات المتحدة و توجّه سياستها الخارجيّة عامة كذلك بالتوازي منطقا إمبراطوريّا ، يحيل ليس على أيّة مصالح قوميّة محدودة بل على كافة مصالح الإنسانيّة ككلّ ... لا ينبغي أن ننظر ببساطة ، بكلمات أخرى ، إلى الخطاب الإنساني و الكوني للدبلوماسيّة الأمريكيّة و العمليّات العسكريّة كواجهات مصمّمة لإخفاء المنطق الجوهري للمصالح القوميّة . بدلا من ذلك ، ينبغي أن نعترف بها على أنّها فى الوقت نفسه حقّا متساويا : منطقان متنافسان يمضيان عبر جهاز عسكري سياسي واحد . في بعض النزاعات ، مثلما هو الحال في كوسوفو ، يمكن أن يكون المنطق الإمبراطوري الإنساني هو السائد و في أخرى ، مثلما هو الحال في أفغانستان ، المنطق القومي الإمبريالي يبدو في المصاف الأوّل ، بينما مع ذلك في حالات أخرى كالعراق ، يمتزج المنطقان تقريبا بحيث لا يمكن التمييز بينهما . كلا المنطقان ، في أي حال ، يتخلّلان بجرعات مختلفة كلّ هذه النزاعات . " (16)
" لا ينبغي أن نسقط في حبال النقاشات المرهقة حول العولمة والدولة ـ الأمّة كما لو أنّ الإثنين غير منسجمين بالضرورة. عوضا عن ذلك ، محاججتنا هي أنّ الإيديولوجيات القوميّة و الموظّفين و الإداريين القوميين يجدون بشكل متزايد أنّه من أجل بلوغ أهدافهم الإستراتيجيّة لا يقدرون على التحرّك و التفكير بصرامة بمنطق قوميّ دون الأخذ بعين الإعتبار بقيّة العالم . لا تتطلّب إدارة الإمبراطوريّة نكران الإداريين القوميين . هذا من جهة و من الجهة الأخرى ، الإدارة الإمبراطوريّة اليوم تسيّرها بصفة واسعة هياكل و موارد بشريّة من الدول ـ الأمم المهيمنة ". (17)
و هكذا ، نرى أنّ تنازل نغرى و هاردت أمام الواقع : حرب ما بعد 11 سبتمبر على العالم من قبل الولايات المتحدة مدفوعة جزئيّا على الأقلّ ب " منطق إمبريالي " حتّى إن كانت نزاعات أخرى ، مثل الكوسوفو ، بالأساس إنعكاس ل " المنطق الإنساني الإمبراطوري " . و الإدارة " الإمبراطوريّة " ستسيّرها " هياكل و موارد بشريّة من الدول ـ الأمم المهيمنة " . و مرّة أخرى ، نرى إهتمام المؤلّفين غير اللازم بتفسير الطبقة الحاكمة للولايات المتحدة لأعمالها بدلا من التحليل الحقيقي للقوّة المحرّكة وراءها .
إنّ إكتشاف نغرى و هاردت للمصالح المشتركة للقوى الإمبريالية حقّا لا شيء جديد أصلا . و كذلك لم يكن نهائيّا صحيحا أنّ أيّة قوّة إمبريالية لا يمكنها التحرّك " دون الأخذ بعين الإعتبار بقيّة العالم ." تقدرالقوى الإمبرياليّة أن تنظر وهي تنظر إلى وضع الكوكب برمّته ماضيا وحاضرا إلاّ أنّها تواصل القيام بذلك عبر منظار مصالحها الخاصة القوميّة( الإمبريالية ) و ليس من المستوى المجرّد ل " الإمبراطوريّة " الذى يدعو له نغرى و هاردت . و إلى درجة أنّ الإمبرياليين يتحرّكون في إنسجام ، مثلا الإمبريالية دون الأوروبيّين بواسطة الإتحاد الأوروبي ، يعكسون ليس مصالحهم المشتركة في كلّ من تنافسهم مع الولايات المتحدة و منافسين لهم أقلّ أهمّية ( كاليابان ) و كأمم مضطهِدة مهيمنة على معظم بقيّة العالم ( " العالم الثالث " ).
II ـ ما هي الرأسماليّة ؟
ما الذى يدفع الإمبريالية إلى الأمام ؟
من أجل فهم لماذا يتوصّل نغرى و هاردت إلى مثل هذه الصورة الخاطئة جوهريّا عن الجغرافيا ـ السياسيّة اليوم ، من الضروري النظر عن كثب أكثر في كيفيّة فهمهم للرأسماليّة ذاتها . و بينما يقدّم نغرى و هاردت بعض الملاحظات المفيدة بشأن مظاهر المجتمع المعاصر ، يخفقان في فهم الأسس الماديّة الفعليّة للراسماليّة و هكذا يضيعان في متاهات شرح كيف تتطوّر الرأسماليّة و ما الذى يدفع بها إلى الأمام .
قبل كلّ شيء ، هناك حاجة إلى إعادة تأكيد أنّه بالرغم من الإختلافات التي لا تزال هامة و القائمة بين شتّى البلدان والمناطق ، هناك نظام إمبريالي عالمي هو عمليّا رأسمالي و في حدّ ذاته لا يزال محكوما بقوانين أساسيّة إكتشفها ماركس و إنجلز . أكيد أنّ العالم قد شهد تغيّرات كبرى منذ عرض ماركس سير الرأسماليّة عرضا منهجيّا للغاية في كتاب " رأس المال ". و لينين ، بوجه خاص ، بيّن كيف أنّ الرأسماليّة قد دخلت مرحلة جديدة هي الرأسماليّة الإحتكاريّة ، أو الإمبرياليّة ، و منذ زمن لينين ، حدثت المزيد من التغيّرات الكبرى و ستواصل الحدوث . لكن ما حقّقه لينين كان تحليل عصر الرأسماليّة على أساس القوانين التي إكتشفها ماركس . و لم يكن هذا نابعا من ولاء ما دغمائي لتعاليم ماركس و إنّما بالأحرى من كون هذه القوانين ، بالمعنى الأساسي ، إستمرّت في حكم كيفيّة تحرّك المجتمع الراسمالي و تطوّره .
إنّه لعمل متميّز أن يتمّ البحث في النظام الاقتصادي المعاصر و إذا ، في مجرى هذه الجهود ، تبيّن أنّ المفاهيم السابقة حتّى مفاهيم عمالقة كماركس و إنجلز غير تامة أو حتّى خاطئة ، فإنّ الذين يقاتلون من أجل تغيير العالم ينبغي بلا تردّد أن يقرّوا بالحقيقة . لكنّنا غير مقتنعين بأنّ " ماركس و إنجلز عصر الأنترنت " ( مثلما يُحال على نغرى و هاردت في الغلاف الخلفي لكتاب " الإمبراطوريّة " ) قد أفلحا حقّا في إكتشاف تفسير أصحّ للمجتمع الرأسمالي و تطوّره . بالعكس ، لقد إنحرفا عن الإطار الأساسي الذى أرساه ماركس و إنجلز ما وضعهما في مأزق و جعلهما مرتبكين .
قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج
في ثنايا كتاب " الإمبراطوريّة " ملاحظة ، إن كانت صحيحة ، سترجّ في أسسه ذاتها الفهم الماركسي للإقتصاد السياسي و ، معه ، فهمنا للسيرورة الثوريّة التي عبرها يتمّ تغيير نظام إجتماعي بنظام آخر إلى أسفل . كتب نغرى و هاردت : " ما بعد الحداثة و المرور إلى الإمبراطوريّة يعنى لقاءا حقيقيّا للمجالات التي عادة ما كانت منعوتة بالقاعدة و البناء الفوقي ... في هذا الإطار ، الإختلافات التي تحدّد الأصناف المحوريّة للإقتصاد السياسي تنزع إلى شيء ضبابي . و يصبح الإنتاج غير متميّز عن إعادة الإنتاج ؛ و تمتزج قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج ..." (18) .
لفهم هذا يترتّب علينا أن نعرض و لو عرضا موجزا ما يقصده الماركسيّون بمصطلحات قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج . تشمل قوى الإنتاج الأرض و الآلات و التقنية و الأهمّ ، الطبقات المنتجة ذاتها و براعتها و إبداعها . و الطريقة التي ينظّم وفقها البشر ليستعملوا قوى الإنتاج هذه و ليوزّعوا إنتاجهم يشار إليها بعلاقات الإنتاج . هنا نتحدّث عن نظام ملكيّة وسائل الإنتاج و تقسيم العمل في المجتمع و الطريقة التي توزّع بها منتوجات المجتمع على مختلف أعضائه . عموما ، تتناسب علاقات الإنتاج مع مستوى قوى الإنتاج و معا يشكّلان القاعدة الإقتصاديّة للمجتمع . مثلا ، في أوروبا القروسطيّة كان النظام الإقطاعي القائم على المالكين العقّاريين و القنانة يتناسب تقريبا مع القدرة على الإنتاج ـ المعرفة و التقنيات و أدوات الإنتاج ـ التي وُجدت زمنها . لم توجد بعدُ قاعدة ماديّة و حاجة إجتماعيّة مناسبة لوجود طبقة عريضة من العمّال " الأحرار " من العلاقة بالأرض و المجبرين على بيع قوّة عملهم إلى الرأسماليين .
و تنهض على كلّ قاعدة إقتصاديّة ( أي قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج ) " بنية فوقيّة " ـ مؤسّسات و ثقافة و أفكار ودولةـ تتناسب مع القاعدة الإقتصاديّة المعطاة و تسمح لها بالمضيّ قدما . و للعودة إلى مثال النظام الإقطاعي الأوروبي ، يمكن أن نلاحظ كيف أنّه ولّد مؤسسات كالكنيسة الكاتوليكيّة التي تتناسب و القاعدة الإقتصاديّة الإقطاعيّة . و عامة ، تشهد قوى الإنتاج تطوّرا تدريجيّا و عبر طفرات تدخل أكثر فأكثر في تناقض حاد مع علاقات الإنتاج . و هذا التناقض الأساسي هو الذى يستدعى الثورة .
كتب ماو تسى تونغ ما معناه أنّه عندما تحتاج الأدوات الحديث ، تفعل ذلك عبر البشر . و ستحدث هذه الثورة بالضرورة في البناء الفوقي و بصفة ملحوظة بواسطة إفتكاك السلطة السياسيّة التي ستسمح لعلاقات الإنتاج الجديدة بالتطوّر و للقاعدة الإقتصاديّة بأن تحقّق قفزة إلى الأمام . بخطوط عريضة جدّا هذا هو ما أنجزته الثورات البرجوازيّة أو الرأسماليّة في الماضى و ما ستنتجه الثورة الشيوعيّة في المستقبل . (19 )
يتجسّد الذكاء اللامع لماركس و إنجلز في كونهما بيّنا حتّى حينما كانت الرأسماليّة في مستوى أدنى كثيرا من التطوّر ، أنّ قوى الإنتاج و نموّ الصناعة العصريّة و العلم و البروليتاريا كانوا يتعرّضون إلى تقييد أو " عرقلة " متزايدين جرّاء الملكيّة الخاصة لوسائل الإنتاج و النظام السلعي الرأسمالي الذى فيه قدرة العامل على الإنتاج تتحوّل هي ذاتها إلى سلعة تشترى و تباع و " تستهلك " ( أي ، تستخدم لإنتاج سلع من خلال الإنتاج الرأسمالي ) . و قد وضع ماركس و إنجلز ذلك على النحو التالى :
" و بهذه الطريقة وحدها سوف يتحرّر كلّ فرد بصورة خاصّة من الحواجز القوميّة و المحلّية المختلفة ، و يصبح على صلة عمليّة بالإنتاج المادي و الفكري للعالم بأسره ؛ و يتمكّن من كسب القدرة على الإستمتاع بإنتاج العالم بأسره في جميع الميادين ( إبداعات الإنسان ). و إنّ التبعيّة العموميّة ، هذا الشكل الطبيعي لتعاون الأفراد على صعيد التاريخ العالمي ، سوف تتحوّل بفعل هذه الثورة الشيوعيّة إلى الإشراف و السيطرة الواعية على هذه القوى التي نشأت عن تأثير البشر ببعضهم بعضا ، لكنّها أرهبت البشر و تحكّمت فيهم حتّى الآن كما لو كانت قوى غريبة عنهم كلّيا ." (20).
و هكذا تمكننا مشاهدة رؤيتين أساسيتين متعارضتين لكيفيّة بلوغ مجتمع شيوعي ، في نهاية المطاف . فبالنسبة لماركس و إنجلز تحقيق الإمكانيّة الإنسانيّة لن تأتى إلاّ عبر الثورة ، عبر تغيير الظروف الإجتماعيّة القائمة . أمّا نغرى و هاردت فيحاججان بطريقة أخرى ، أنّ علاقات الإنتاج ، بعيدا عن أن تعرقل مزيد تطوّر قوى الإنتاج ، هي ذاتها " تندمج " مع قوى الإنتاج . ( و يرتبط هذا بفهم الكاتبان ل " العمل غير المادي " الذى سنعود إليه لاحقا ). و يحاجج نغرى و هاردت أنّه نظرا لأنّ سيرورة العمل تتطلّب تعاون الأشخاص ، لم يعد يوجد أي تمييز مفيد ( أي تناقض ) بين الإنتاج نفسه و طريقة تنظيم المجتمع لإنجاز عمليّة الإنتاج . و يحاججان بأنّ المجتمع العصريّ الذى يسمّيانه " الإمبراطوريّة " منظّم لذاته عبر شبكات واسعة و أخرى صغيرة في بلدان معيّنة و على الصعيد العالمي . لكن التنظيم الذاتي للمجتمع لا يمكن أن يوجد إلاّ في ظلّ الشيوعيّة عندما تكون الإنسانيّة حقّا في موقع يخوّل لها تنظيم نفسها تنظيما واعيا و جماعيّا . إلاّ أنّه ثمّة عراقيل لهذا ، اليوم ، خاصة من جانب علاقات الإنتاج الرأسماليّة الحقيقيّة جدّا و إنجاز الإنتاج في إطار التبادل السلعي و بوجه خاص إستغلال قوّة عمل المنتجين . علاقات الرأسماليّة القائمة تقيّد المجتمع و تشوّهه و تجعله يعرج بالفعل . أجل ، إمكانيّة نوع مغاير من المجتمع تعبّر بإستمرار عن ذاتها ، لكنّها ليست أكثر من إمكانيّة طالما أنّ الرأسماليّة تظلّ دون مساس . و في حين بمستطاع المرء أن يصفّق لنغرى و هاردت لمديحهم لقدرة الإنسانيّة ، يبدو أنّهما ينويان الإكتفاء بظلّ بالح لهذه الإمكانيّة ، فالنزاع بين قوى الإنتاج الضخمة و التي ينبغي أن نتذكّر أنّ أهمّ ما تشتمل عليه الطبقة الثوريّة ذاتها ، و نظام متقادم مستند إلى إستغلال البروليتاريا العالمية ، لم يتبخّر بتاتا . بالعكس ، هذا التناقض بالذات هو الذى يصرخ بان يعالج عبر الثورة البروليتاريّة على الصعيد العالمي .
لقد وُجد نمّو مدهش في القدرات الإنتاجيّة و المعرفة العلميّة . نظرة ماركس و إنجلز للقدرة على تلبية حاجيات الإنسانيّة برمّتها مبرّرة بوضوح . و مع ذلك ، في نفس الوقت ، قد نما البون بين الثروة و الفقر إلى درجة غير مسبوقة في تاريخ الإنسانيّة .لقد إفترض ماركس و إنجلز عصرا من الوفرة العامة المشتركة ، و اليوم تعود إمكانيّة تحقيق ذلك إلى الظهور من كلّ الزوايا . و فقط تحويل وجهة نسبة مائويّة ضئيلة من الموارد الغذائيّة للعالم ستلغى فعلا الجوع و سوء التغذية . كم سيكون بسيطا وضع حدّ لوفاة 50 ألف طفل يوميّا بسبب أمراض الوقاية منها ممكنة و تعزى رئيسيّا إلى شحّ في ماء الشراب ، أو لمعالجة فقدان المسكن كظاهرة مستشرية في ذات ظلّ ناطحات السحاب في نيويورك و لندن و كذلك في بومباي و ساوبولو . عدم القدرة على معالجة حتّى مثل هذه المشاكل البسيطة نسبيّا يعود إلى طريقة تنظيم الإنسانيّة . وعلى ضوء عدم قدرة المجتمع على تنظيم نفسه لتلبية حتّى هذه الحاجيات البسيطة، يحجب الحديث عن" المجتمع كهدف " عن مهمّة الثورة .
ما الذى يدفع ماذا ؟
رفضُ نغرى و هاردت للإقتصاد السياسي الماركسي يمضى اليد في اليد مع عدم قدرة كتاب " الإمبراطوريّة " على شرح لماذا تندفع الرأسماليّة دائما نحو الإنتاج على نطاق أوسع فأوسع . و بوجه خاص ، منافسة رساميل مختلفة هي التي تحكمها جميعا لكي " تتوسّع أو تموت " ، و يولّد هذا سيرورة لولبيّة عبرها ينمّى رأس المال قيمته ، و يتركّز إلتهام المنافسين أو الوحدة معهم و يبحث دائما عن موارد أكبر من العمل لإستغلالها و عن أسواق أكبر لغزوها . لا شيء من هذا يحدث بسلاسة ، طبعا ، و سيرورة لولب المراكمة يجرى عبر " فوضى الإنتاج " و يؤدّى إلى فوضى و أزمات و إضطرابات دوريّة . الإمبريالية أو الرأسماليّة الإحتكاريّة تغيّر لكن لا تنفى هذه السيرورة الجوهريّة. و بالفعل ، عمليّا ، تزيد من حدّة المنافسة بين الرساميل في شكل شركات متعدّدة الجنسيّات عملاقة و قوى إمبرياليّة و تحوّل العالم كلّه إلى مجال منافستها و تشنّ الحروب و منها الحروب العالميّة ، وسيلتها الأخيرة لتحيطم منافسيها و إيجاد ظروف توسيع المراكمة . (22)
هذا الإندفاع المستمرّ و الذى لا هوادة فيه نحو أقصى الربح هو الذى يحرّك الرأسماليّة لإستغلال المزيد فالمزيد من قوّة العمل ( البروليتاريّون ) بطريقة أكثر فأكثر شمولا ، و للتغيير المستمر لكامل السيرورة الإنتاجية و جعلها إجتماعيّة على نطاق واسع ، و هذا السير للنظام الرأسمالي هو الذى يدفع البروليتاريين إلى المقاومة و إنشاء القاعدة الماديّة للثورة . هذه السيرورة الأساسيّة كانت على الدوام معقّدة ومتعدّدة الأوجه وهي حتّى أكثر من ذلك في ظروف القرن الواحد و العشرين. لكن نغرى و هاردت يعكسان هذه الديناميكيّة . نضال البروليتاريا ، في نظرهما ، هو الذى " يدفع " الرأسماليين إلى التحوّل إلى ما يسمّيانه ب " الإمبراطوريّة " .
و يحاجج نغرى وهاردت أنّ " نظريّات المرور إلى الإمبرياليّة و تجاوزها والتي تفضّل النقد النقيّ لديناميكيّة رأس المال، تخاطر بأن تستهين بالقوّة المحرّكة الفعّالية الحقيقيّة التي تدفع تطوّر الرأسماليّة من عمق أعماقها : حركات البروليتاريا و نضالاتها " . ( 23) و بالفعل ليس الخطر إن كنّا نحصر تحليلنا في " نقد نقيّ " بما أنّ الماركسيين الحقيقيين قد إعترفوا على الدوام بأهمّية دراسة و فهم شتّى الظواهر الإجتماعيّة و بالتأكيد نضال البروليتاريا و المضطهَدين هو نهائيّا عامل هام مؤثّر في كيف تتطوّر ديناميكيّة رأس المال بيد أنّنا نؤكّد أنّ الديناميكيّة الداخليّة لرأس المال ذاته هي المحرّكة الرئيسيّة الدافعة له نحو كلّ من التوسّع إلى مجالات جديدة و تشديد الإستغلال حيث يكون موجودا . نظريّة نغرى و هاردت المقلوبة رأسا على عقب تمضى بعيدا إلى درجة المحاججة بأنّ الحفاظ على و تقوية هيمنة الولايات المتحدة في الفترة منذ 1970 " كانت عمليّا مؤيّدة بقوّة عدائيّة لبروليتاريا الولايات المتحدة ... كان على راس المال أن يواجه و يردّ على الإنتاج الجديد لذاتيّة البروليتاريا ". (24)
هذا الضرب من الفهم غير المادي يعكس كذلك عدم قدرة على فهم الأزمة الرأسماليّة . و مثلما يقول ماركس : " الأزمة الرأسماليّة هي وضع يتطلّب من رأس المال أن يشهد تخفيض قيمة عام و بشكل عميق إعادة ترتيب علاقات الإنتاج نتيجة للضغط نزولا الذى تضعه البروليتاريا على نسبة الربح . بعبارات أخرى ، ليست الأزمة الرأسماليّة مجرّد وظيفة للديناميكيّة الخاصة برأس المال بل يتسبّب فيها مباشرة نزاع البروليتاريا " . و هذا يعنى أنّه حسب نغرى و هاردت ، الأزمة الرأسماليّة في الأساس نتيجة نضالات البروليتاريا – وهو ليس أصلا ما " يقوله " لنا ماركس ، رغم أنّه ينبغي الإقرار بأنّ هذا فهم خاطئ منتشر على نطاق واسع في صفوف من يزعمون أنّهم ماركسيّون . في عمله العظيم " ضد دوهرينغ " ، توسّع إنجلز توسّعا معتبرا في دحض نظريّة إعتبار الأزمة أزمة " نقص في الإستهلاك " ، مشيرا إلى انّ نقص استهلاك الجماهير كان مظهرا لكافة أشكال المجتمعات الطبقيّة ، و مع ذلك ، فقط في ظلّ الرأسماليّة تظهر هذه الأزمة . و وصف إنجلز " أزمة فائض الإنتاج " بأنّها إتّساع الإنتاج بنسق أسرع من إتّساع الأسواق . و وضع إنجلز ذلك على النحو التالى : " إنّ قابليّة الإتّساع الهائلة للصناعة الكبيرة ، و التي تبدو قابليّة الإتساع للغازات لعبة أطفال بالمقارنة معها ، إنّما تتجلّى الآن بشكل حاجة لتوسيع هذه الصناعة كيفيّا و كمّيا – وهي حاجة لا تقيم إعتبارا لأيّة مقاومة . و هذه المقاومة يشكّلها الإستهلاك و التسويق و الأسواق لمنتجات الصناعة الكبيرة . أمّا قابليّة الأسواق للإتّساع الأفقي الممتدّ و العامودي المكثّف على حدّ سواء فتحدّدها قوانين مغايرة تماما ، وهي قوانين تفعل فعلها بزخم أقلّ كثيرا . إنّ إتّساع الأسواق لا يمكن أن يجارى إتّساع الإنتاج . و يغدو التصادم أمرا لا مفرّ منه ، و لمّا كان عاجزا عن حلّ النزاع دون أن يفجّر أسلوب الإنتاج الراسمالي نفسه ..." (25)
صحيح أنّ الأزمة الرأسماليّة لا يمكن تقليصها إلى مجرّد عوامل إقتصاديّة فقط ففي عصر الإمبريالية حينما تكون الرأسماليّة مركّزة بالأساس في دول إمبرياليّة ، تلعب عدّة إعتبارات جغرافية ـ سياسيّة دورها في سيرورة المراكمة بما فيها المنافسة بين القوى الإمبريالية و نضالات المقاومة في الأمم المضطهَدَة و نضال البروليتاريا في القلاع الإمبرياليّة ذاتها ـ كلّ هذه العوامل تتداخل و تتشابك . لكن هذا لا يُنكر الفهم المادي الأساسي الذى على قاعدته شيّد ماركس نظريّته و قوانين الرأسماليّة و إكتشف القوانين التي تدفعها نحو الفائض في الإنتاج مثلما يُقدّم ذلك بقوّة الإستشهاد أعلاه بإنجلز . (26) و في حين أنّ السير العملي لمختلف التيّارات معقّد و ملطّف بعدّة عوامل ، لا يزال إلى اليوم صحيحا . (27) و بدلا من ذلك ، يحاجج نغرى و هاردت بطريقة متناقضة ، لإنقاذ الرأسمالية ( أو على الأقلّ المركز الراهن للنظام الرأسمالي ، الولايات المتحدة ).
إعادة إحياء نظريّة روزا لكسمبورغ
يعيد نغرى و هاردت إحياء أطروحات روزا لكسمبورغ حول الإمبرياليّة . فقد حاججت لكسمبورغ بأنّه نظرا لكون البروليتاريا لم تستطع أبدا " شراء " منتوج عملها الخاص ، الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها النظام الرأسمالي الإزدهار هي عبر التجارة مع (" الخارج ") مناطق أو قطاعات غير رأسماليّة تخوّل للنظام الرأسمالي أن يحقّق القيمة (عبر البيع ) المنتجة بإستغلال البروليتاريا في البلدان الإمبريالية. و قد إفترضت أنّ الإمبرياليّة ستبلغ أزمة غير ممكنة التجاوز عندما يحوّل رأس المال العالم قاطبة .
و يحاجج نغرى و هاردت بأنّ الإمبرياليّة قد حقّقت هذا التحوّل العالمي و النتيجة هي مرحلة جديدة كلّيا من الرأسماليّة ، تجاوزت الإمبرياليّة . و يحاججان بأنّ " رأس المال لم يعد ينظر إلى الخارج بل صار بالأحرى ينظر إلى داخل مجاله ، و توسّعه هكذا مكثّف بدلا من أن يكون ممتدّا " (28) و " ما بعد الحداثة سيرورة إقتصاديّة تظهر لمّا تكون التكنولوجيا الميكانيكيّة و الصناعيّة قد توسّعت لتشمل العالم قاطبة ، لمّا تنتهى سيرورة التحديث ، لمّا المستوى الأدنى الشكلي للبيئة غير الرأسماليّة يكون قد بلغ حدوده ". (29) إزاء هذا نقول خاطئ و خاطئ مرّة أخرى .
خاطئ لأنّ الرأسماليّة في كلّ مرحلة من مراحل تطوّرها توسّعت في آن معا بشكل مكثّف و بشكل ممتدّ أي أنّها تواصل التطوّر في قاعدتها القوميّة لتستغلّ بصورة أتمّ و تراكم المزيد و المزيد من رأس المال و تواصل البحث عن مجالات جديدة للهيمنة . و زيادة على ذلك ، ما هو " الخارج " بالنسبة لقوّة رأسماليّة ( أو إمبرياليّة ) يمكن أن يكون تماما " الداخل " بالنسبة لقوّة رأسماليّة ( أو إمبرياليّة ) أخرى مثلما هو الحال عندما تندفع الولايات المتحدة داخل أسواق و مناطق في أفريقيا كانت سابقا تهيمن عليها القوى الإمبرياليّة الأوروبيّة . و خاطئ مرّة أخرى لأنّه بينما قد غيّرت الرأسماليّة بالفعل المزيد و المزيد من العالم اللارأسمالي على صورتها ، ليست هذه السيرورة نهائيّا تامة .
ولنلقى نظرة عن كثب على أطروحة نغرى و هاردت . إنّهما لا يحاججان بالتمام أنّه لم تعد توجد أيّة إختلافات بين الدول و إنّما بالأحرى أنّ دلالتها تضمحلّ و السيادة الحقيقيّة قد مرّت إلى إنعدام شكل و " سلاسة " الإمبراطوريّة . و يخصّ الكاتبان الولايات المتحدة بدور متميّز في النظام العالمي لكنّهما ينظران إليه كما لو أنّ هذا مجرّد غطاء يعكس العالم الإمبريالي القديم بينما السيادة الحقيقيّة ( أو القدرة على الحكم ) قد تحوّلت إلى إنعدام شكل " الإمبراطوريّة " الموجودة في كلّ مكان و في لامكان من العالم بأسره في الوقت نفسه . و هنا أيضا لوصف نغرى و هاردت بعض المظاهر الهامة التي " تبدو صحيحة " للقرّاء . فبعض الوظائف التي كانت في السابق مجالا حصريّا خاصا بالدول وقع تكليف المنظّمات العالميّة كمنظّمة التجارة العالميّة بها . و هناك درجة متصاعدة أبدا من الترابط ليس فحسب بين دوائر الإنتاج الرأسمالي بل كذلك في كافة مجالات الثقافة و الحياة الفكريّة . و بالتأكيد أنّ الطبيعة العالميّة للثورة البروليتاريّة فيما هي دائما جوهريّة ، تصرخ الآن بصوت أعلى فأعلى مطالبة بإيلاء مستلزمات السيرورة الثوريّة في بلدان معيّنة الإهتمام الكامل. و بهذا المضمار يشعر عالم الأنترنت بأنّه على بعد سنوات ضوئيّة من معظم القرن العشرين ، فما بالك بزمن ماركس . فهل من الممكن أن يكون العالم الآن أو يمكن أن يصبح أرض ولائم واحدة لرأسمال واحد ، لا يرتبط بمنطقة ؟
لا ، لن يوجد مثل هذا العالم ( و على عكس نغرى و هاردت ، أمضينا وقتا طويلا و عسيرا لرؤية كيف أنّ مثل هذا الكابوس ، إن تحقّق ، سيكون " ليس أكثر سوءا " من النظام الإمبريالي الحالي ) . و ذات المظاهر الأساسيّة لرأس المال التي تدفعه نحو التوسّع تعنى كذلك أنّ رأس المال يمكن أن يوجد فقط في تنافس و نزاع مع رساميل أخرى . و مثلما وضع ذلك ماركس ، رأس المال لا يمكن أن يوجد إلاّ كرساميل متعدّدة . و نزعة رأس المال نحو التمركز ، نحو النموّ أوسع فأوسع و إبتلاع تلك الرساميل التي " تخسر " في معركة المنافسة لا تلغى هذه المنافسة بل عمليّا تشدّد فيها و تضعها على مستوى أعلى حيث مجموعات رأسماليّة كبيرة تتنافس مع بعضها البعض و حشد من الدول برمّتها في خدمتها . هذه الحرب التي لا تنتهى بين الرساميل هي التي تجعل الرأسماليّة غير قادرة على الإكتفاء بأرباحها الراهنة و تدفعها إلى المزيد من إستغلال البروليتاريين و بصفة أتمّ . و حتّى و إن إتّبعنا بعض الهوس التاريخي ، مثل راس المال الوحيد هذا لو وُجد للحظة ، فإنّه بالتأكيد سيتمزّق إربا إربا متباينة . (30)
سيادة وحيدة ؟
لقد إرتبطت السيادة أو قدرة الدولة على الحكم الحرّ من السيطرة الخارجيّة ، بمجال و سكّان خاصين . و من الأكيد أنّ القوى الإمبرياليّة تدوس بإستمرار سيادة الدول و الشعوب الأخرى . في الحقبة الإستعماريّة كان هذا يجرى بالإلحاق الوقح و اللصوصيّ . و في الفترة الأحدث ، إتّخذ عدّة أشكال من العدوان و التدخّل المباشر و غير المباشر . و قد منحت المؤسسات العالميّة نفسها حقّ إملاء المسائل الأساسيّة في السياسة و التي هي عاديّا من مشمولات قوّة سياديّة . وعلى سبيل المثال ، صندوق النقد الدولى بوسعه أن يملي على عديد الدول في أفريقيا تقشّفا صارما في ما هو بعدُ خدمات صحّية و تعليميّة ضئيلة ، و بوسع منظّمة التجارة العالميّة أن تشدّد على أنّ القوانين الجارى بها العمل يجب أن تنسجم مع فهم الولايات المتحدة للملكيّة الفكريّة و هكذا تجعل خارجا عن القانون إنتاج الأدوية الجنيسة و يمكن أن يقال لبلد أيّة أسلحة يسمح له بتطويرها .
و مثلما بإمكان أي مراقب أن يلاحظ ، " إضمحلال السيادة " بالتأكيد مسألة غير متكافئة . و من الواضح الجلي أنّ الولايات المتحدة لا تنوى التفويت و لو قيد أنملة في سيادتها ، و قد صارعت بلا توقّف أي و كلّ الإجراءات التي تحدّ من سيادتها . و مثال ذلك رفضها المساهمة في محكمة جرائم الحرب العالميّة في لاهاي خشية أن يُحاكم يوما ما جلاّدوها هناك . و قد عارضت الولايات المتّحدة بوقاحة و هدوء إتفاقيّة كيوتو الهادفة إلى تقليص إنبعاث الغاز الكربوني ، في جزء خدمة لمصالحها في البقاء أكبر ملوّث في العالم و أيضا لحساسيّة الولايات المتحدة تجاه أي شيء يُشتمّ منه حتّى نوعا من الحدود على سيادتها . لذا فيما وقع إعتراض سبيل سيادة العديد من البلدان و تآكلت سيادات أخرى ، لا ينسحب هذا على اكبر " السيادات " ، سيادة الولايات المتحدة .
لمّا ننظر إلى العالم المعاصر ما نراه عمليّا هو عدم إضمحلال الإمبرياليّة أو عدم ظهور إمبراطوريّة عالميّة وحيدة متجانسة حرّة من النزاع و المنافسة ضمن دول إمبرياليّة لها سيادتها . بالأحرى ، ما نراه هو تعاظم الطابع الاجتماعي للإنتاج على النطاق العالمي ، الذى ينسج بالفعل حتّى أكثر الروابط و العلاقات بين جميع مختلف الفاعلين في سيرورة الإنتاج و في المجتمع الإنساني عامة . لكن هذا المظهر الاجتماعي ذاته يقف في تناقض حاد و عدائي مع العلاقات الرأسماليّة التي لا تزال قائمة ، علاقات الملكيّة و التوزيع و تنظيم الإنتاج ، ما ينعكس في الدور المحوري المستمرّ للدول في فرض هذه العلاقات و الأهمّ ضمن الدول الأقوى ، الإمبرياليّة الأمريكيّة .

III- التحرّر الوطني و الدولة
يؤكّد نغرى و هاردت بصفة صحيحة على ترابط عالم اليوم في سيرورة الإنتاج و في حركة الناس ، و في تبادل الأفكار . و يحاججان ضد النظرة المتجمّدة للعالم التي تنكر القوّة التغييريّة للنظام الرأسمالي . و بينما الإمبريالية بأكبر تأكيد تعيق قوى الإنتاج في البلدان التي تهيمن عليها ، فإنّها تفعل ذلك كجزء من التغيّر المستمرّ لكلّ مجتمع تطاله .
يترتّب على الرأسماليّة العالميّة أن توسّع بإستمرار أسواقها و تحوّل أكثر فأكثر عمل البشر إلى قوّة عمل – شكل خاص من السلع يمكن شراؤه و بيعه . إلاّ أنّ الرأسماليّة ليس بمقدورها و لا تفعل هذا بصورة متكافئة و بالتأكيد ليست متوازنة . يمكن لرأس المال أن يستعمل وهو يستعمل و يدمج و يعزّز مظاهر تخلّف متنوّعة من المجتمع ما قبل الرأسمالي ، حتّى وهو يواصل سيره نحو إستغلال أسواق بأكثر كثافة و تمدّد .
و يشير نغرى و هاردت إشارة صحيحة إلى أنّ " علاقات الإنتاج التي تطوّرت في البلدان المهيمنة لم تتحقّق أبدا بالشكل نفسه في المناطق التابعة في الاقتصاد العالمي " (31)، لكنّهما ما إنفكّا يستخفّان و حتّى يمحوان الإنقسام الجوهري للعالم ، بين أمم مضطهِدة و أمم مضطهَدة . لقد كتبا : " النظريّات الكلاسيكيّة للإمبرياليّة و مناهضة الإمبريالية قد فقدت كلّ قوّة التفسير التي كانت تتمتّع بها " . (32) و بالفعل ، بيّن ماو تسى تونغ بوضوح كبير في تحليله للصين ما قبل الثورة أنّ النظام الإقطاعي السابق جرى تقويضه و تغييره بفعل تدخّل الإمبرياليّة في الصين ، و لهذا نعت النظام القائم وقتها ب " شبه الإقطاعي " . و قد حاجج ، ، أنّ الإمبرياليّة لا تغيّر تماما و كلّيا و " ديمقراطيّا " البلدان التي تتدخّل فيها ، و قد تبيّن أنّ الحال كذلك .
لكن ما تفعله الإمبريالية هو بمعنى ما التحوّل إلى " شيء داخلي " بالنسبة للبلدان التي تهيمن عليها . (33) و يشير نغرى و هاردت بصفة صحيحة إلى تيّار تداخل العالمين الأوّل و الثالث حيث العالم الثالث " يدخل في الأوّل و يركّز نفسه في القلب كغيتو و فافيلا [ مدن الصفيح ] ينتج و يعاد إنتاجه بلا توقّف . و بدوره ، ينتقل العالم الأوّل إلى العالم الثالث في شكل مبادلات بورصة و بنوك و مؤسّسات متعدّدة الجنسيّات و جليديّة ناطحات سحاب المال و القيادة " (34) . واقع التداخل العالمي هذا عادة ما يتمّ تجاهله و أحيانا حتّى يتمّ إنكاره من قبل الذين ينظرون إلى الإمبرياليّة فقط كقوّة خارجيّة تحول دون التطوّر الداخلي للأمّة . و فعلا ، لرأس المال إنعكاسات في منتهى التناقض على البلدان التي يدخلها ـ يمكنه و يجب عليه أن يدمجها في دوائر إنتاج و تبادل عالميّة عموما و بإدماج المزيد و المزيد من مناطق العالم في ديناميكيّته للتوسّع أو الموت ، تغذّى الإمبريالية نموّ هذه البلدان و تطوّرها . لكن مجدّدا ، يحدث هذا في الوقت الذى تواصل فيه و بالفعل تعمّق " الإنقسام " في العالم بين البلدان المضطهِدة و البلدان المضطهَدة .
و ينكر نغرى و هاردت هذه الحقيقة الأساسيّة عندما يصرّحان ، " عبر لامركزيّة الإنتاج و تعزيز السوق العالميّة ، الإنقسامات العالميّة و موجات العمل و رأس المال قد تكسّرت و تضاعفت إلى درجة أنّه لم يعد ممكنا التمييز بين مناطق جغرافيّة ممتدّة كمركز و أطراف ، شمال و جنوب ... و هذا لا يعنى قول إنّ الولايات المتحدة و البرازيل و بريطانيا و الهند هي الآن مناطق متماثلة بمعنى الإنتاج الرأسمالي و التبادل الرأسمالي و إنّما أنّ ما بينها لا توجد إختلافات في الطبيعة بل فقط فى الدرجة ".(35) لذا هنا الملاحظات الصحيحة للكاتبين عن تداخل مختلف المجتمعات ( " بوضوح يندمج الواحد في الآخر " ) تستخدم لمحو أحد أهمّ " الإختلافات في الطبيعة " الموجودة و تحديدا الإختلاف بين الأمم و الدول المضطهِدة و الدول و الأمم المضطهَدَة . و متوقّعين إعتراضات ، يحاجج الكاتبان ضد " أي حنين إلى قوى الدولة ـ الأمّة أو إعادة إحياء أي سياسات تحتفى بالأمّة " (36) . لكن حدود الأمّة و القوميّة يجب أن لا تستعمل للمحاججة ضد المهمّة التي لا تزال حقيقيّة جدّا ، مهمّة تحرير الأمم ( وأساسها لتفجير الصراع الذى يمكن رؤية تصاعده و ليس تقلّصه ، في العالم المعاصر ) .(37)
الإمبرياليّة و أنماط الإنتاج ما قبل الرأسماليّة
و يحاجج نغرى و هاردت أنّه من المستحيل بالنسبة للأمم المضطهَدة أن " تعيد خلق ظروف الماضى و تتطوّر لا مثلما تطوّرت من قبل البلدان الرأسماليّة المهيمنة . و حتّى البلدان المهيمنة الآن مرتبطة بالنظام العالمي ؛ و أفرزت تفاعلات السوق العالمي تفكّكا عاما لجميع الإقتصاديّات . و بصورة متزايدة ، أيّة محاولة للإنعزال أو الإنفصال لن تعني سوى المزيد من نوع الهيمنة العنيفة للنظام العالمي ، و تقلّص إلى إنعدام القوّة و الفقر " .(38 )
هنا مرّة أخرى ، يبدي نغرى و هاردت بعض الملاحظات الصحيحة ثمّ يمضيان بها إلى إستنتاجات لاثوريّة قطعا. أجل ، من الوهم الخطير ( و ليس ثوريّا جدّا بالمناسبة ) تمنّى " إعادة خلق " الظروف التي تطوّرت في ظلّها الرأسماليّة بداية في الغرب . (39) ومع ذلك ، هذا لا يغيّر من واقع بقاء إختلاف نوعي بين الدول الرأسماليّة المتطوّرة و بلدان العالم من المستعمرات الجديدة ، ليس فحسب بمعنى مستوى تطوّرها النسبيّ(40) بل أيضا و خاصة في وجود سوق قوميّة و الصلة بين الصناعة و الفلاحة و شتّى قطاعات ما يصبح إقتصادا قوميّا . و تجاوز هذا البون العملاق و النامى في العالم بين عدد صغير من الدول الثريّة و معظم سكّان العالم يبقى مهمّة عظيمة أمام المجتمع الإنساني ككلّ .
في عالم تهيمن عليه الإمبريالية ، أي بلد أو مجموعة بلدان تنجز ثورة يجب بالضرورة أن ينهض أو تنهض بالنضال الصعب ل " فكّ إرتباط " البلد أو مجموعة البلدان مع النظام الإمبريالي العالمي . هذا أمر ضروري لأسباب عدّة : في حال البلدان المضطهَدة ، وقعت عرقلة تطوّرها و تشويهه و توجيهه إلى دور خاص ( تابع ) يلعبه في النظام الإمبريالي العالمي . و يقتضى تحرير الشعب أن يتمّ القطع الحيوي مع هذا الشكل من السلاسل القوميّة . و بهذا المعنى ، يتناسب التحرّر الوطني مع مصالح الغالبيّة العظمى من الجماهير في البلدان المضطهَدة . و فضلا عن ذلك ، متطلّبات مساعدة الثورة العالميّة و مؤسساتها فوق القوميّة ، مثل صندوق النقد الدولي و البنك العالمي . و يكفى النظر إلى كيف أنّ الإمبرياليّين أزاحوا أو أطاحوا بحتّى أنظمة رجعيّة ، لأسباب متنوّعة ، لم تسر تماما مع برنامج الإمبرياليّة المهيمنة ، لرؤية ما في جعبتهم المخصّصة لنظام ثوريّ حقيقيّ . في حال البلدان الإمبرياليّة كذلك ، تتطلّب ثورة إشتراكيّة حقيقيّة " فكّ الإرتباط " إذا كانت هذه البلدان لتقف في وجه تخريب الدول الإمبريالية المتبقّية و هجماتها و أيضا إعتبارا لأنّه من غير المعقول أن يشيّد مجتمع إشتراكي حقيقيّ على صرح و بإستغلال و إضطهاد أمم أخرى .
هنا يشير نغرى و هاردت إلى مشكل حقيقيّ : سيكون من العسير و العسير جدّا ، بالنسبة لأيّ بلد ، لا سيما بلد هيمنت عليه و إضطهدته الإمبرياليّة أن يتجنّب تقليصه إلى " إنعدام القوّة و الفقر " إن إتّبع طريقا ثوريّا . و بالفعل ، سيكون تخطّى " إنعدام القوّة و الفقر " من أضخم المهام و التحدّيات أمام الثورة . لكن ما هو الإستنتاج الذى نخرج به من كتاب " الإمبراطوريّة " ؟ الإستنتاج هو فقط أنّ الوضع الراهن لا يمكن تجنّبه و أنّه من الأفضل عدم محاولة إنجاز التحرّر الوطني و أنّه إن وُجد أي تحرّر مستقبلي لا يمكن أن يتأتّى إلاّ عندما يتغيّر النظام الرأسمالي العالمي برمّته ( إختيار كلمة " يتغيّر " مقصودة بما أنّ المؤلّفان لا يعتقدان أنّه يمكن أو يحتاج إلى الإطاحة به ) . و بالرغم من تأكيد نغرى و هاردت على أنّ " الإمبراطوريّة " يمكن أن تهاجم من " أيّة نقطة " على الكوكب ، فإنّ مجمل أطروحاتهما تفضى إلى العودة تماما إلى المفهوم الأورومركزي [ المركزيّة الأوروبيّة – المرتجم ] الذى وفقه أيّ تغيير إجتماعي حقيقيّ لا يمكن أن يحدث أوّلا و بصفة حاسمة إلاّ في البلدان المتقدّمة ، وهو ، رغم إعتراضات المؤلّفان ، ما سنواصل تسميته بالإمبرياليّ.
سينهض النضال في البلدان الإمبرياليّة بدور هام جدّا في النضال عبر العالم للمضيّ من عصر من المجتمع الإنسانيّ إلى عصر آخر . لا هو ممكن و لا هو تحرّري أن يفترض سيرورة ثوريّة عالميّة تكون فيها الثورة منحصرة في ما يسمّى بالعالم الثالث و تكون فيها البروليتاريا و الجماهير المضطهَدة في القلاع الإمبرياليّة في أفضل الأحوال سلبيّة نسبيّا كمساندة لسيرورة ثوريّة في الأساس غريبة عنهم .(41) لكن أهمّية التشديد على البعد العالمي الحقيقي للنضال من أجل الشيوعيّة العالميّة و الدور الحيوي الذى يجب أن يضطلع به في كلّ من البلدان المضطهِدة و المضطهَدة لا يجب أبدا أن يشوّه بغية إنكار إمكانيّة الإختراق الثوري في بلد أو مجموعة بلدان ، و هذا بدوره سيحفّز النضال الثوري في كلا النوعين من البلدان . إن كنّا سنقوم بالثورة ، يرجّح أنّ الثورة ستنجز بداية في بلد أو مجموعة بلدان . و حيثما تنتصر الثورة البروليتاريّة ، ستواجه بطريق الحتم عدوانا من قبل ذلك الجزء من العالم الذى لا يزال فيه النظام الإستغلالي القديم مسيطرا .
ما يشير إليه نغرى و هاردت على نحو صحيح هو الحدود الحقيقيّة لسيرورة بناء نظام إقتصادي موازي في العالم الرأسمالي . الواقع البيولوجي أنّ البشر نوع واحد ، إلتحق به في عصرنا ، الواقع الاجتماعي أنّ الإنسانيّة مجموعة متجانسة حتّى و إن ، في الوقت الحاضر ، هي منقسمة إلى طبقات و أمم . و من غير الممكن أن يستطيع الإنتاج و العلم و الثقافة بأي معنى جوهري الإنقسام إلى كتل مختلفة . (42) و لئن كان صحيحا أنّ في عصرنا التاريخي ، وجود الدول الإشتراكيّة محاصرة بعالم إمبريالي سيظلّ قائما على الأرجح كمظهر ، لا يمكن فهم هذا سوى كمرحلة و شكل من النضال بين عالم البروليتاريا و عالم الإمبريالية . و للتعايش السلمي حدود معيّنة : ليس بالإمكان أن يكون بتاتا إستراتيجيا أساسيّة ، فنظام من النظامين في نهاية المطاف سينتصر على الآخر . (43) و لا يعود هذا فقط إلى الطبيعة العدوانيّة للإمبرياليين ( و ليس بالتأكيد إلى إرادة البلدان الإشتراكيّة ) ، بل هو بالأحرى إنعكاس لذات هذا التقسيم للإنسانيّة . و زيادة على ذلك ، لو كان هذا صحيحا دائما بالمعنى الأساسي ـ و قد إعترف به ماركس و إنجلز بندائهما عمّال كافة البلدان إلى الوحدة و القتال من أجل عالم جديد كلّيا ـ فاليوم هذا " المشترك " للإنسانيّة نشعر أنّه ملموس أكثر من طرف قطاعات أوسع من الجماهير عبر العالم . التواصل الحديث و مناهج الإنتاج الحديثة و موجات الهجرة تعنى ، كما يحاجج " الإمبراطوريّة " ، أنّه حتّى في أبعد أركان الأرض ، الناس مترابطون حتّى أكثر بألف طريقة و طريقة . و كذلك صحيح أنّ وجود وسائل الإنتاج الحديثة قد خلق حاجيات جديدة ـ يرغب الناس في المناطق النائية هم بدورهم في الحصول على منتوجات الحياة المعاصرة ، قسطهم من المنتوج المشترك للإنسانيّة ، و الحصول تماما على التعاون العالمي بين الرجال و النساء . و مثلما أشار ماركس ، الفقر نسبيّ مقارنة بالوجود المحدّد إجتماعيّا ـ تاريخيّا للمطالب و الحاجيات . في آخر المطاف ، ستخفق حركة ثوريّة قادرة على سدّ رمق الناس فحسب إن لم تقدر خطوة خطوة على المساعدة على تلبية رغبة الناس في التعلّم و التواصل و النضال في سبيل تغيير جميع مظاهر الحياة الإجتماعيّة . صحيح أنّ الفلاّحين الفقراء و غيرهم ، أولئك الذين ينزعون أكثر من غيرهم نحو الدفع الثوري ، هم عادة أيضا قطاعات الجماهير الأكثر إقصاءا في هذه السيرورة العالميّة . إلاّ أنّ هذا الإقصاء لا يمكن أن يصبح مبدأ و أقلّ من ذلك إستخدام الجهل و الإقصاء كحجر زاوية في بناء مجتمع جديد . أوّلا ، مثل هذه المقاربة ستضيّق على الفور قاعدة مساندى الثورة و تدفع الطبقات الوسطى و المثقّفين الذين نحتاج تعاونهم ، إلى خندق العدوّ . و علاوة على ذلك ، ستجعل مثل هذه المقاربة " الساخرة " لهدف إعداد البروليتاريا للتحكّم في الأرض و تدريب جماهير الشعب على التمكّن بصورة متصاعدة من شؤون الدولة . يمكن لكمبوديا بول بوت أن تخدم كتذكير مفزع بإلى أين يؤدّى مثل هذا النوع من القوميّة . (44)
لهذا ينبغي أن نخوض قتالا مصمّما ل " فكّ إرتباط " البلدان المضطهَدة بالنظام الإمبريالي العالمي ( عبر الثورة الديمقراطيّة الجديدة و الإشتراكيّة ) و قد أثبت التاريخ أنّه من الممكن أن تكون نتيجة هذا شيئا آخر غير " إنعدام القوّة و الفقر " ، على الأقلّ في وضع بلد إشتراكي ممتدّ الأطراف ( أو بلد أصغر في علاقة ببلد أو كتلة إشتراكيّة أوسع ) . و ستواجه ثورة إشتراكية مظفّرة هي الأخرى مشاكلا عويصة أيضا في بناء نظام إقتصادي دون إستغلال البلدان و الشعوب المضطهَدة و دون التشابكات الإقتصاديّة مع شركاء التجارة الإمبريالية السابقين . (45) و مع ذلك ، يشير المؤلّفان إلى حدود حقيقيّة لبناء " إقتصاد موازي " في عالم لا يزال تحت السيطرة الرأسماليّة . بكافة المعانى ، على الدول الإشتراكية أن تكون " قواعد إرتكاز " حقيقيّة للثورة البروليتاريّة العالميّة حيث تكون بعدُ الجماهير بصدد تغيير المجتمع و العمل من أجل بناء مستقبل شيوعي . لكن ينبغي عليها أن لا تبعد عن نظرها دائما واقع أنّ المستقبل الشيوعي غير ممكن الوجود عدا على نطاق عالمي و أنّ الدول الإشتراكيّة مجبرة على خوض قتال ضاري و طويل الأمد مع العالم الإمبريالي بالذات حول مستقبل الإنسانيّة و العالم . و مثل أيّة قاعدة إرتكاز ، مسار حرب ، بقاء الدول الإشتراكية على قيد الحياة و إزدهارها في لا نهاية المطاف في آن معا مرتهن و مرتبط بالتقدّم العام للنضال عبر العالم ضد الرأسماليّة . (46)
يجب رؤية عائق العلاقات الإمبرياليّة أمام التقدّم و التطوّر في علاقة بإمكانية قوى الإنتاج التي أنشاتها الرأسماليّة ـ قوى إنتاج نمت ، يجب التشديد على ذلك ، في ترابط مع نهب البلدان المضطهَدة . و عادة ما يحاجج مدّاحو الإمبرياليّة أنّ شعوب الأمم المضطهَدة يتعيّن أن تشكر الغرب لمهمّته التمدينيّة و التعصيريّة . و بعض الوجوه السياسيّة الرجعيّة في الولايات المتّحدة حاولت حتّى أن تبرّر العبوديّة في الولايات المتحدة بالخطاب عينه ! و في جزء منه ، يمكن الردّ على هذا ، طبعا ، بالإشارة إلى كيف أنّ تطوّر الرأسماليّة في الغرب ، منذ بداياته الأولى وصولا إلى اليوم ، قد كان من ركائزه دائما نهب ما تقدر على نهبه من البلدان و المناطق الأقلّ تطوّرا في العالم . غير أنّ هذا لا يعدو أن يكون نصف ردّ ، و النصف الأقلّ أهمّية في ذلك . و ذات السيرورة من المراكمة و التطوّر التي ساهمت فيها البلدان المضطهَدة بشكل كبير جدّا ، قد ولّدت أيضا العلم و تقنيات الإنتاج و بصورة متزايدة ، طبقة البروليتاريا ذاتها وهو ما يفرز تنظيما مختلفا للمجتمع ممكنا و ضروريّا على الكوكب بأسره . ضد هذه الإمكانيّة التي تصارع للتحوّل إلى واقع تقيم الرأسمالية حواجزا يجب تفحّصها.
التحرّر الوطني ـ لا يزال مهمّة من مهام البروليتاريا
في أحد أكثر مقاطع كتاب" الإمبراطوريّة " نظرة ثاقبة ، و لعلّ ذلك أتى إستباقا للهجمات المتوقّعة بالتأكيد عن إنكار " الأمّة " ، يحاجج المؤلّفان : " الأمّة تقدّميّة تحديدا كخطّ دفاع محصّن ضد قوى خارجيّة أعتى . و مهما بدت هذه الجدران تقدّميّة في الدور الحمائي ضد الهيمنة الخارجيّة ، فإنّها يمكن أن تلعب ببساطة دورا عكسيّا في ما يتعلّق بالداخل الذى تحميه ". (47)
و يشير نقاشهما لقوميّة السود إلى الدور الإيجابي الذى إضطلع به هذا النضال ، فيما ألمحا أيضا إلى أنّ " العناصر التقدّميّة تترافق حتما بظلال رجعيّة ... إخفاء الإختلافات الطبقيّة ، مثلا ؛ أو عندما تعيّن قطاعا من المجتمع ( كالرجال الأفرو أمريكيين ) على أنّهم بالفعل ممثّلو الجميع ..."(48) . " مع " التحرّر " الوطني و بناء الدولة ـ الأمّة ، كافة الأدوار الإضطهاديّة للسيادة المعاصرة تزدهر حتما بقوّة تامة " . " الثورة في البلدان المستعمَرة هكذا تقدّم على طبق إلى البرجوازيّة الجديدة . إنّها ثورة فيفري .(49) و بإمكان المرء قول إنّها ينبغي أن تتبع بأكتوبر . لكن الروزنامة غدت معتوهة : لا يأتي أبدا أكتوبر ، و يغرق الثوريّون في " الواقعيّة " ، و ينتهى التعصير مفقودا في ثنايا تراتبيّة السوق العالميّة ... و تجد البلدان المحرّرة نفسها تابعة في النظام الاقتصادي العالمي ". أو ، مثلما يضعان ذلك لاحقا ، " الدولة هديّة مسمومة للتحرّر الوطني " (50) .
هذا المقتطف أعلاه مناسب كتلخيص لمسار أنّ الغالبيّة العظمى من نضالات " التحرّر الوطني " قد سافرت ، خاصة إن كان المرء يسيء فهم " التحرّر الوطني " على أنّه يتمثّل رئيسيّا في النضال من أجل إستقلال شكليّ . في أفريقيا ، على سبيل المثال ، كامل فترة كنس الإستعمار بداية من خمسينات القرن العشرين ، وقد إنتهت حقّا فقط بتعويض نظام الأبرتايد / الميز العنصري في جنوب أفريقيا سنة 1994 ، قد صاحبتها الإيديولوجيا القوميّة . في عديد هذه النضالات ، سعى تيّار أكثر راديكاليّة لصياغة النضال بمصطلحات ماركسيّة ـ لينينيّة ( و أحيانا حتّى ماويّة ) ، مقدّما أحيانا هذا النوع من نضال " التحرّر الوطني " على أنّه مدخل لمرحلة إشتراكية لاحقة . و في هذه البلدان ، ما توطّد هو نظام برجوازي ، مضطهدا الجماهير الشعبيّة و مرتبطا يدا و ساقا بالنظام الإمبريالي العالمي . و بالفعل ، " لم يأت أكتوبر أبدا " .
لكن هنا مرّة أخرى ، لاحظ الإختلاف بين ما يمكن أن يتصوّره الناس عن أنفسهم ، ونوع الراية التي يرفعون لتبرير أعمالهم من جهة و من الجهة الأخرى العلاقات التي يمثّلها هؤلاء الناس عمليّا . و فعلا ، نلفى مشكلا كبيرا مع تنويعات القوميّة الثوريّة ألا وهو أنّها تخلط بين الماركسيّة و القوميّة و حتما تحجب المسألة المركزيّة في كلّ سيرورة ثوريّة ، حصرا مسألة ما هي الطبقة التي تقود و ما هو نوع المجتمع التي ترمي إلى إنشائه . الفهم الماوي للثورة الديمقراطيةـ البرجوازيّة من الطراز الجديد ، بقيادة البروليتاريا و هدفها ليس إيجاد مجتمع رأسمالي تقوده البرجوازيّة و إنّما فسح المجال أمام مجتمع إشتراكي تقوده البروليتاريا . و ليس بوسع أي نضال من أجل الثورة البروليتاريّة أن يحقّق النصر دون القتال ضد كلّ مظهر من مظاهر اللامساواة و الهيمنة . تمسك البروليتاريا بمهمّة تحرير الأمّة إلاّ أنّها لا ترى قطعا هدفها محدّدا في هذا . و لسخرية الأقدار ، بيّن التاريخ أنّ الذين كان هدفهم مقلصّا في تحرير الأمّة و كانت إيديولوجيّتهم قوميّة جوهريّا غير متساوين في إنجاز المهام الحقيقيّة للتحرّر الوطني . و على سبيل المثال ، سواء تعلّق الأمر برهن كوبا نفسها أوّلا بالقصب السكّري و الآن بالسياحة أو إرتهان الموزنبيق بتصدير العمل المهاجر إلى جنوب أفريقيا ، نلمس أنّ مهمّة تحرير هذه المجموعات من قبضة الإمبرياليّة العالميّة بعيدة عن أن تكون تحقّقت . و يعزى هذا إلى كون أيّة محاولة للتحكّم في سير الاقتصاد الرأسمالي يجب بطريق الحتم أن تتوصّل إلى تسوية ( " الواقعيّة " التي ألمح إليها نغرى و هاردت ) مع النظام الرأسمالي العالمي . و ستخلق هذه الديناميكيّة الإقتصاديّة برجوازيّة حتّى حيث لا توجد واحدة بعدُ ، كما رأينا في البلد خلف البلد .
فقط عندما تكون مهمّة التحرّر الوطني و ما يتبعها من إعادة بناء الأمّة مرتبطة بوضوح و بشكل حيوي بتغيير كامل العالم ، ستوجد إمكانيّة تصميم قوّة تسلك طريقا مغايرا . لكن هذا الطريق المغاير يتطلّب كذلك دولة ، و قيادة المجتمع و القوّة الماديّة لتجاوز المعارضة الداخليّة والخارجيّة لهذا الطريق. وفي الواقع ، تحرير الأمم و تحطيم قبضة الإمبريالية، ببساطة أمر ضروري اليوم كما كان ضروريّا قبل أربعة عقود من الآن . و هذا النضال سينهض بدور هام ، إذا و إلى درجة إرتباطه بإيديولوجيا البروليتاريا و برنامجها و مهمّتها التحريريّة التاريخيّة العالميّة .
و من المفيد تسجيل أنّ في هذا القسم من " الإمبراطوريّة " لم يذكر المؤلّفان حتّى الحال البارز أين نضال التحرّر الوطني قد أدّى فعلا إلى " أكتوبر " ، و نقصد الثورة الإشتراكية وهنا نتحدّث عن الثورة الصينيّة حيث قاد ماو النضال المديد ضد الإقطاعيّة و الإمبريالية و الرأسماليّة البيروقراطيّة ليس كنهاية في حدّ ذاته بل كمدخل ضروري للثورة الإشتراكيّة . و خطر أن تعمى المهمّة الضروريّة للتحرّر الوطني الثوريين عن هدف الشيوعيّة ( مفترضين وجود مثل هذا الهدف في المصاف الأوّل ) (51) ، أن " لا يأتي أكتوبر أبدا " ، خطر حقيقي فعلا غير أنّ الخطر الحقيقي لا يمكن أن يوظّف كتعلّة للإخفاق في إنجاز السفر الضروري و إن كانت تحفّ به المخاطر . يجب على البروليتاريا أن تتجرّأ على المسك بقيادة التحرّر الوطني ، و على توحيد الغالبيّة الغالبة من السكّان بمن فيهم العناصر البرجوازية الوطنيّة ( الواضحين و المتستّرين ) الذين يكون برنامجهم حقّا فقط إرساء نظام برجوازي مستقلّ بينما ترفض التخلّى عن قيادة الثورة لمثل هذه القوى و تتّخذ الإجراءات اللازمة لضمان أن تشارك الجماهير الشعبيّة أكثر فأكثر في إنجاز سيرورة ثوريّة مؤدّية إلى الإشتراكية و في آخر المطاف الشيوعيّة .
لقد رفع ماو تحدّى " فكّ إرتباط " الصين بالعالم الإمبريالي المعادي و شيّد عمليّا مجتمعا إشتراكيّا كان إلى درجة كبيرة " هيكلة إقتصاديّة مستقلّة " عن و ليست تابعة للنظام الإمبريالي أو السوق العالميّة . و في مكان آخر من كتابهما " الإمبراطوريّة " يشير المؤلّفان إلى الصين الماويّة على أنّها أساسا مشروع " تعصير " (52) و في الواقع ، كان الشيوعيون الثوريّون في الصين يشيّدون فعلا منوالا من المجتمع مختلف كلّيا ، تماما نقيض النظام الرأسمالي الذى ظهر في أوروبا و غيرها من الأماكن . و صحيح أنّ الثورة الصينيّة شدّدت تشديدا هاما على إجتثاث بقايا ما قبل الرأسماليّة في الريف و بناء قاعدة صناعيّة و مظاهر أخرى من الحياة العصريّة ؛ إلاّ أنّ ماو لم يُضع البتّة من مجال رؤيته هدف المجتمع الخالى من الطبقات و الدور الديناميكي للشعب في النضال من أجل بلوغ هذا المجتمع ، على عكس التحريفيين ، من صنف دنك سياو بينغ ، صلب الحزب الشيوعي الصيني الذين كانوا بالفعل ينظرون إلى التعصير على انّه غاية في حدّ ذاته و الذين إستولوا على السلطة و إفتكّوها من يد الثوريين عقب وفاة ماو ، تحت يافطة تحقيق " التعصيرات الأربعة " . (53)


تواصل أهمّية الفلاّحين و المسألة الزراعيّة
في كتاب " الحشد " يتطرّق نغرى و هاردت إلى مسألة التغيير الذى يحرّك الرأسماليّة في فلاحة ما يسمّى بالعالم الثالث . و عنوانهما الفرعي " فترة إنحطاط عالم الفلاّحين " يكشف عن أطروحاتهما الأساسيّة ـ إضمحلال الفلاحين الذين يحدّدونهم مفهوميّا ب" أولئك الذين يعملون في أرضهم الخاصة ، و ينتجون قبل كلّ شيء من أجل إستهلاكهم الخاص ، و هم جزئيّا مندمجون و مرتبطون بنظام إقتصادي أوسع أو هم يملكون أو يمكنهم الحصول على الأرض و التجهيزات الضروريين ".(54) طبعا ، بطبقة الفلاّحين محدّدة مفهوميّا على هذا النحو الضيّق ، إستنتاجاتهما لا مفرّ منها .
يحيل المؤلّفان عن حق على أهميّة التحليل الذى أنجزه ماو إعتمادا على التمييز في صفوف الفلاّحين لا سيما إلى فلاّحين فقراء و متوسّطين و أغنياء . و في أثناء الإستقطاب صلب الفلاّحين بين الفقراء و الذين لا يملكون أرضا من جهة ، والأغنياء الذين يوظّفون غيرهم من الجهة الأخرى ، الفلاّحون المتوسّطون هو الذين ينطبق عليهم حقّا مفهوم نغرى و هاردت على أنّهم منتجون مكتفون ذاتيّا ، " لم يضمحلّوا بتاتا في السيرورة " (55). و يشير المؤلّفان إلى " تحوّل تركيز سياسة ماو تجاه الفلاّحين ـ ليس تجاه الفلاحين كما كانوا بل تجاه الفلاحين كما يمكن أن يكونوا ". (56)
لقد حلّل ماو بالفعل أن سير الإمبريالية قد غيّر إلى الأبد وجه الريف الصيني ، خاصة ، التمايز الطبقي في صفوف الفلاّحين . غير أنّه فهم أنّ هذه السيرورة كانت تحدث داخل إطار كانت فيه الإمبريالية الأجنبيّة تمنع الصين من التطوّر كمجتمع رأسمالي تماما ، و بالتالى تحتاج الصين أن تمرّ بثورة ديمقراطية ـ برجوازيّة لكن من طراز جديد ، بقيادة البروليتاريا لتعبّد الطريق للإشتراكيّة . و بالتأكيد لم يكن ماو " فلاّحا ثوريّا " مثلما صوّره التحريفيّون المعاصرون السوفيات أو أنور خوجا . و كما أشار نغرى و هاردت عن صواب : " الإنتصار النهائي لثورة الفلاّحين نهاية الفلاّحين " (57). و طبعا ، أبحر ماو في سيرورة حركة تعاونيّة فلاحيّة في الصين بأفق بعيد المدى هو التقليص خطوة خطوة للإختلافات بين العامل و الفلاّح و المدينة و الريف كجزء من التقدّم الشامل للثورة الإشتراكية . لكن المؤلّفان غضّا النظر عن الخطوة في منتهى الأهمّية ـ و الثوريّة ـ التي قطعتها الصين مع إعادة توزيع الأرض . أجل ، كان الهدف التحويل الإشتراكي للريف الصيني إلاّ أنّ هذا لم يكن ليتطوّر في خطّ مستقيم من التمايز ( أو البلترة الجزئيّة ) لقطاعات عريضة من الفلاّحين من المجتمع القديم . و للمضيّ قدما صوب المستقبل الإشتراكي ، كان من اللازم أوّلا معالجة المشكلة " القديمة " ، مشكلة الأرض بطريقة ثوريّة بتوزيع الأرض على الفلاّحين . و على هذا النحو ، أُطلق حماس الفلاّحين لتمزيق النظام الرجعي الذى كان يستعبدهم لقرون ، و كذلك جرى كسرالعلاقات الإقطاعيّة القديمة في الريف كسرا حيويّا. إلاّ أنّ هذا الإجراء الثوريّ كان سيفا ذا حدّين لأنّه فتح كذلك الباب للرأسماليّة و سيرورة التمايز في صفوف الفلاّحين ، إلى فلاّحين أغنياء و فلاّحين فقراء ، و نتيجته الحتميّة تمركز الأرض بيد فلاّحين أغنياء أو مزارعين رأسماليين و تقلّص البقيّة إلى فلاحين لا يملكون أرضا . ( و بالفعل في السنوات الأولى إثر الإصلاح الزراعي ، كان من الممكن رؤية مثل هذا الاقتصاد الرأسمالي أو الغني يتطوّر بسرعة في الصين ).
و بالنسبة لماو ، لم يكن تكريس " الأرض لمن يفلحها " غاية في حدّ ذاتها ، بل بالأحرى كان خطوة ضروريّة تؤدّى إلى التعاون الطوعي للفلاّحين . و فقط بهذه الطريقة يمكن لحماس الفلاّحين لحركة التعاونيّات أن يُطلق العنان له تماما و يمكن ضمان طبيعتها الطوعيّة . و قد إختلف هذا كثيرا مثلا عن النموذج التحريفي الكوبي الذى جرى ببساطة تحويل عقارات القصب السكّري القديمة إلى مزارع دولة رأسماليّة تحريفيّة جديدة أين فيما تحسّنت بالتأكيد ظروف العمّال الفلاحيين ، في نهاية المطاف ، لم يحصل تغيّر جوهريّ في علاقاتهم العبوديّة المأجورة .
نغرى و هاردت على صواب حينما يقولان إنّ الفلاّحين التقليديين يشهدون تغيّرا ، وهما على خطأ حينما يكتبان كما لو أنّ الحاجة إلى الثورة الزراعيّة قد تبخّرت في عدد كبير من البلدان في آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينيّة . و أكيد أنّه صحيح أنّ في الفترة منذ تحليل ماو للريف الصيني ، قد واصل تدخّل الإمبرياليّة تغييره للعلاقات الطبقيّة الريفيّة في عديد بلدان العالم الثالث . (58) لكن يجب أن يُفهم أنّ هذا لم يحدث بطريقة ذات بُعد واحد : في حين تجعل الرأسماليّة بعض مظاهر العلاقات ما قبل الرأسماليّة تتحلّل فهي كذلك قد تدمج و تعيد توطيد مظاهر أخرى .
ففي الهند مثلا ، في بعض مظاهره نظام الكاست قويّ بالبنجاب وهي منطقة من أكثر المناطق الفلاحيّة في البلاد تطوّرا رأسماليّا ، مثلما هو قويّ في مناطق أكثر تخلّفا بكثير . و في الواقع ، يمكن للفلاحة الرأسماليّة أن تستفيد وهي تستفيد من الممارسات القروسطيّة كالكاست . و واقع أنّ الرأسماليّة تنزع نحو تفكيك الفلاحين ليست الشيء نفسه و قول إنّها قد ألغت وجود الفلاّحين أو ألغت سعي الفلاّحين الفقراء و الذين لا يملكون أرضا ( " أشباه البروليتاريين " ) إلى حلّ برجوازي ، أي ، التحوّل إلى ملاكى أراضى صغار . هناك عدّة نزعات لدى الرأسماليّة تتنازع مع نزعات أخرى ، نزعات مضادة و وقائع جغرافية ـ سياسيّة . و على سبيل المثال ، ينزع رأس المال أيضا إلى دعم السلطة الرجعيّة القائمة و التعويل عليها كما نلاحظ ذلك في دعم الإمبرياليّة للشيوخ الإقطاعيين في الخليج طالما أنّ النفط يضخّ بحرّية ، و يمضى هذا ضد نزعات الرأسماليّة الأخرى نحو إعادة صياغة العالم على صورتها . عموما ، في العالم الثالث ، فقط على أساس الحلّ الديمقراطي ـ البرجوازي لمسألة الأرض ( " الأرض لمن تفلحها " ) من الممكن التقدّم بإتّجاه المستقبل الإشتراكي ـ البروليتاري الحقيقي التي سيعنى فعلا الإلغاء التدريجي للفلاّحين كطبقة . لكن العمل كما لو أنّ الرأسماليّة قد ألغت بعدُ الفلاّحين و تطلّعات الفلاّحين سيكون محاولة لبناء مجتمع جديد على رمال متحرّكة .
في البرازيل اليوم ، نسبة قليلة تساوى 20 بالمائة من الناس تعيش من الفلاحة . لكن يمكن أن نلاحظ أيضا أنّ حركة الذين لا يملكون أرضا أهمّ نضال في البلاد ضد النظام الرجعي و قد جلبت إليها مساندة واسعة من الجماهير في المناطق المدينيّة كذلك . و يشرح نغرى و هاردت هذه المساندة بقول إنّ خصوصيّات الفلاّحين قد إنتشرت في أوساط الجماهير عامة أو " حشد " المنتجين البرازيليين . بيد أنّ هناك تفسير آخر ، أصحّ : لا تزال المسألة الفلاحيّة في البرازيل تركّز و تمثّل نموذجا إلى درجة كبيرة من " الثورة الديمقراطية الجديدة " ضد الإمبريالية و الإقطاعيّة ، التي لم تتحقّق بعدُ في تلك البلاد بمشاركة الغالبيّة العظمى من السكّان و كذلك من لا يملكون أرضا .
IV – قانون القيمة و " العمل غير المادي "
في موقع المركز من أطروحة كتاب " الإمبراطوريّة " و موضوع عاد إلى تناوله كتاب " الحشد " بصورة مطوّلة أكثر ، توجد حجّة أنّ " العمل غير المادي " هو الآن الشكل المحدّد للعمل على كوكب الأرض. يرى المؤلّفان هذا كمسالة نوعيّة، ليس كمّية ، مقترحين مقارنته بدور العمل الصناعي في القرن التاسع عشر ، الذى هو و إن جعل العمل الفلاحي يتضاءل كمّيا ، غدا مميّزا لكامل الحقبة و تغيّر الشكل الذى تجرى به أشكال أخرى للعمل كالفلاحة و الصناعات التقليديّة و يحاججان بأنّ العمل غير المادي اليوم ، بكلمات أخرى ، العمل الذى لا ينتج أشياء ماديّة ، يهيمن و يصبغ الأشكال الأخرى من العمل التي تستمرّ في الوجود ( الصناعيّة و الفلاحيّة ) .
هنا أيضا ، ثمّة سبب للماذا ملاحظات نغرى و هاردت و حججهما " تبدو صحيحة " للكثير من الناس . و فعلا ، إنّه لواقع أنّ مجالا هاما متصاعدا بسرعة من الإنتاج يشمل أشكالا متنوّعة من " العمل غير المادي " ، على غرار إنشاء برامج حواسيب . ليس فقط أنّ هذا المجال عينه هام جدّا في الرأسماليّة المعاصرة ( و نعلم أنّ عددا من أوسع المؤسّسات و أكثرها ديناميكيّة اليوم في هذا الحقل ، مكروسوفت ، هي المثال النموذجي ، لكن تقدّم صناعة الحواسيب لا تؤثّر في نوعيّة العمل في عدّة حقول و الطريقة التي بها يتفاعل الناس في سيرورة الإنتاج . و لهذا أيضا تأثير على العلاقات الطبقيّة . و على سبيل المثال ، عادة ما يحوّل الصحفيّون قصصهم إلى ملفّات حواسيب و هكذا يلغون الحاجة إلى الكتبة التقليديين من الجيل السابق . و يحاجج المؤلّفان كذلك بأنّ صناعة الحواسيب و التقدّم في الاتصالات ( الأنترنت إلخ ) قد أدّيا إلى جعل الإنتاج ينجز وفق " شبكات " – روابط نسبيّا مرنة و رخوة بين الناس و لا تتطلّب مراقبة تراتبيّة صارمة .
المشكل هو أنّ نغرى وهاردت يحاولان إستخدام فهمهم ل " العمل غير المادي " للمحاججة بأنّ ذات مفهوم " تبادل القيمة" لم يعد له أيّ معنى . لقد صاغ ماركس و إنجلز " نظريّة قيمة العمل " لشرح كيف يتمّ تبادل مختلف السلع ـ لماذا ثمن أوقية ذهب أعلى من لتر من الحليب مثلا . بإختصار ، بيّنا أنّ سعر أيّة سلعة معطاة ، بصفة عامة ، سينزع إلى الدوران حول قيمتها التبادليّة التي تمثّل " وقت العمل الضروري إجتماعيّا " الذى إستغرقه إنتاج هذه السلعة . و يحاجج نغرى و هاردت بأنّ العمل غير المادي قد ألغى مفهوم تبادل القيمة على أنّه يمثّل وقت العمل المجمّد . و بالفعل ، يؤدّى بهما فهمهما للعمل غير المادي إلى إستبعاد أعمدة أخرى من الاقتصاد السياسي الماركسي كذلك هي حيويّة لفهم الرأسماليّة اليوم.
و يحاجج نغرى و هاردت بأنّ عديد مجالات الإنتاج غير المادي لا يمكن أن تتمّ إلاّ كجزء من سيرورة جماعيّة لا نستطيع تقليصها إلى مجرّد نشاط إستغلال قوّة العمل و يحاجج نغرى و هاردت بأنّ سيرورة العمل لا تتطلّب رأسمال " لتدبّر الإنتاج " : " اليوم يتّخذ الإنتاج و الثروة و خلق الفائض الاجتماعي شكل تفاعل تعاوني من خلال شبكات لغويّة و تواصليّة و حسّية مؤثّرة . و في التعبير عن طاقاته الخلاّقة الخاصة ، هكذا يبدو أنّ العمل غير المادي يوفّر إمكانيّة نوع من العفويّة و الشيوعيّة الأساسيّة " (60) . و يسترسلان : " أساس الفهم الكلاسيكي المعاصر للملكيّة الخاصة يتحلّل هكذا إلى درجة معيّنة في نمط إنتاج ما بعد الحداثة " (61) أو كما يؤكّدان في " الحشد " ، " قدراتنا التجديديّة و الخلاّقة أكبر دائما من عملنا المنتج ـ المنتج ، أي ، رأس المال . عند هذه النقطة ، يمكننا أن نعترف بأنّ هذا الإنتاج البيوسياسي من ناحية غير ممكن قياسه لأنّه لا يمكن تقديره في كمّيات قارة من الوقت ؛ و من ناحية ثانية ، هو دائما مفرط مقارنة بالقيمة التي يمكن أن يستخرجها منه رأس المال لأنّ رأس المال ليس بوسعه القبض على كلّ ما في الحياة . لهذا علينا أن نعيد النظر في فهم ماركس للعلاقة بين العمل و القيمة في الإنتاج الرأسمالي ". ( 62)
و لنلقى نظرة مرّة أخرى على مسألة اللغة لنسلّط الضوء على ما يحاجج من أجله نغرى و هاردت . صحيح أنّ تطوّر اللغة يعنى كافة المجتمع و أنّ هذا لا نستطيع تقليصه إلى إنتاج هو تطبيق مباشر لقوّة العمل المشتراة و المنظّمة من قبل الطبقة الرأسمالية ، ولا هي عبر شراء و بيع السلع و قوّة العمل لكن ب " تملّك ما هو مشترك " . (63) اللغة ذاتها ليست سلعة ، لا " قيمة " لها بالمعنى الماركسي ، أو بتحديد أدقّ ، لا " قيمة تبادليّة " لها . و طبعا ، اللغة واحدة من الأصول الأهمّ و المتطوّرة بإستمرار في المجتمع لكن مثلما يقرّ بذلك بطريقة صحيحة هذان الكاتبان ، لا تتطوّر بالأساس عبر العلاقات السلعيّة ، عبر بيع و شراء السلع ، بما في ذلك قوّة العمل ذاتها . لقد وُجدت اللغة طالما وُجد البشر و حتّى بعد مدّة طويلة من قبر الإنتاج السلعي و القيمة التبادليّة سيواصل الناس تطوير اللغة و الأدب . لكن حينما يتمّ تطوير لغة داخل المجتمع الرأسمالي ، هذا المظهر المركزي للمجتمع الإنساني ليس بوسعه أن ينأى بنفسه عن كامل البيئة الإجتماعيّة للإنتاج السلعي الذى يتخلّل المجتمع بأسره . و عندما تتحوّل اللغة إلى سلعة ـ على سبيل المثال ، عندما ترفع القدرة على تكلّم الأنجليزيّة من مستوى تبادل قيمة قوّة عمل شخص ( أي أجره ) ، عندما تزدهر معاهد اللغة الأنجليزيّة من المستوى الأوسط كلّ كمصدر ربح و وسيلة للتمييز الطبقي في عدّة بلدان ، عندما يجرى تبادل مناجد أو أعمال ثقافيّة و فنّية تنظّم تطوّرات اللغة التي أنتجتها الجماهير ، بساحة السوق ، تصبح هذه المنتوجات الاجتماعية بالفعل سلعا تمتلك فرديّا ، تشترى و تباع و يشملها قانون القيمة . إنّ الآليّة التي من خلالها تستغلّ الرأسماليّة ليست سوى نظام الإنتاج السلعي : خارج هذا الإطار من الشراء و البيع ، ليس للحديث عن الإستغلال الرأسمالي أي معنى علمي حقيقي .
و يبيّن الاهتمام الكبير للإمبرياليين ب " حقوق الملكيّة الفكريّة " أنّ " ظلّ " العلاقات البرجوازيّة يجب أن يمزّقه الوعي و العمل القويّ للبروليتاريا و أنّ هذه العلاقات لن تتحلّل ببساطة عفويّا إلى الفضاء الألكتروني . و تبرز عبثيّة الملكيّة الفرديّة بحدّة أشدّ مثل سيرورة الإنتاج عينها ، حتّى مقيّدة و موجّهة من قبل الرأسماليّة ، لا تتطلّب تفاعلا ناميا أبدا بين الناس و الأفكار في مجتمع معيّن و عبر العالم ، كما يحاجج كتاب " الإمبراطوريّة " بقوّة . لهذا من الأهمّية بمكان بالنسبة للرأسماليّين أن يتملّكوا و يعدّلوا و يوجّهوا ؛ " يتاجروا " في الفهم و التطوّر الذى تتقدّم به صفوف الجماهير .
و في إنتاج برامج الحواسيب ، من الصحيح كما يشير إلى ذلك المؤلّفان ، أنّ التفاعل المباشر و غير المباشر للفاعلين الذين لا عدّ لهم و لا حصر هو مرتكزات البناء التي عليها تخلق المنتوجات . و هذا بديهي بوجه خاص في حركة " المنبع المفتوح " التي تحيل على جهود مهندسي الحواسيب و غيرهم للقتال من أجل أن توجد كلّ شفرة منابع برامج الحواسيب في المجال العام و لا تكون موضوع حقوق فكريّة . و حتّى أو ربّما خصوصا ، ثروة تجربة مستعملى برامج الحواسيب و شكاويهم و الحلول التي يجدونها للفيروسات و هكذا ، جميعها تغدو جزءا من السيرورة الجماعيّة التي تدخل ضمن إنتاج برامج الحواسيب . و ينتبه نغرى و هاردت إلى هذه " الشيوعيّة العفويّة " لكن ما يبيّن بالأساس هو أنّ ظلّ الرأسماليّة يخنق قدرة الناس على الإنتاج و أنّه مهما كانت القنوات عفويّة و خلاّقة و شبكات الناس تخلق لإنجاز الإنتاج و التجريب و البحث العلميّين ، ستنجز عموما تحت جناح الرأسماليّين ، أو هناك خطر خنقها تماما .
في عالم اليوم ، وحدهم الرأسماليّون في موقع يخوّل لهم تغيير منتوجات عمل الناس و مبادرتهم إلى منتج قابل للبيع ، و طالما أنّ الرأسماليّة موجودة ، فإنّ المنتوجات التي لا يمكن أن تكون مربحة في بيعها لن يتمّ إنتاجها . و مثلا ، إحدى أكبر جرائم الرأسماليّة هي مدى قلّة توجيه موارد العالم بإتّجاه الوقاية من الملاريا و علاجها ، وهي مرض يقتل الملايين سنويّا ، في حين أنّ بليارات الدولارات قد أنفقت للبحث عن الفيغرا و تسويقها . والفيغرا دواء باهض الثمن للزيادة في قدرة الأداء الجنسي لدى الرجال . و طالما أنّ نظام الربح يواصل هيمنته على المجتمع ، فإنّ هذه الأنواع من الإستعمال السيء لإستثمار الموارد البشريّة لا مناص منها و إقتراح مخارج لتلبية الحاجيات الاجتماعية الحقيقيّة لن تطبّق .
الرأسماليّة بالتأكيد لصوصيّة لكنّها نوع خاص من اللصوصيّة ، نمط إنتاج خاص . و نمط الإنتاج هذا يعنى ، أجل ، تأجير أصناف متباينة من الناس ( " راس مال متغيّر " ) و تنظيم جهودهم و مصادرة نتاج العمل الجماعي . و يتحدّد " تبادل قيمة " هذه السلع التى يتمحور حولها سعر بيعها الراهن ، بالفعل أساسا بقانون القيمة ، بكمّية " وقت العمل الضروري إجتماعيّا " الذى ينطوى عليه منتوجهم ، أو إن أردنا صياغة ذلك بكلمات أخرى ، لنأخذ بعين الإعتبار الحجّة العقلانيّة لنغرى و هاردت بأنّ الكثير ممّا ينتهى في المنتوج الرأسمالي ليست نتيجة مباشرة للإستثمار الرأسمالي ، يمكننا أن نقول إنّ القيمة التبادليّة تشمل أيضا ذلك الكمّ من وقت العمل الضروري إجتماعيّا الذى يمضى في التملّك و الخصخصة و المنهجة و التعبأة في القوارير و تسويق المنتوج يوجد خارج العلاقات الرأسماليّة مفسّرة بالمعنى الأكثر صرامة .
و لنضرب مثالا على ذلك . يُتباول الماء في مجتمع جبلي ليس كسلعة تشترى و تباع فالماء هناك متوفّر للإستهلاك فقط ، لا يملك قيمة تبادليّة بل قيمة إستعماليّة و حسب . و إن أقامت مؤسّسة رأسماليّة مصنعا لتعبأة قوارير بهذا الماء النقيّ و باعته إلى سكّان المدن ، ستتحدّد القيمة التبادليّة للماء بتكليف إقامة المصنع و قوّة العمل المستخدمة في سيرورة تعبأة القوارير و النقل و تكاليف إضافيّة أخرى مثل الإدارة و الإشهار فقط . لذا مجرّد تناول الماء الذى لا قيمة تبادليّة له يتحوّل إلى سلعة يفعل فيها قانون القيمة فعله . و لماذا لا يستطيع سكّان المدن ببساطة أن ينظّموا أنفسهم و إخوانهم و أخواتهم القاطنين بالجبال لتوزيع الماء النقيّ إلى الذين يحتاجون إليه ؟ الإجابة البسيطة هي الرأسماليّة ـ يملك الرأسماليّون و يتحكّمون في نقل و توزيع المرافق و هم وحدهم الذين يملكون الرأسمال الضروري لبناء مصنع تعبأة قوارير و وحدهم يستطيعون حشد قوّة العمل الضروريّة لإنجاز كامل السيرورة و التحكّم فيها . لذا ، حتّى إن كان للجميع " حقّ متساوي " في مياه الجبال ، يمكننا مشاهدة أنّ الطبقة الرأسماليّة وحدها بمستطاعها التمتّع بهذا الحقّ . و للمضيّ بهذا خطوة أخرى ، إذا كان بعض الرجال و النساء من ذوى النوايا الحسنة تجمّعوا لتشكيل نوع من التزويد بالمياه التعاوني ، لن يتمكّنوا من النجاح في هذا المشروع إلاّ بالدرجة التي يصبحون فيها هم أنفسهم رأسماليّون ، و أيّة جهود يبذلونها لتجاهل أو تجاوز قانون القيمة مثلا بتقديم الماء إلى الفقراء و المحتاجين ، ستُحطّمها " اليد الخفيّة " للسوق الراسماليّة السيّئة السمعة . و بالفعل ، الجهود التعاونيّة المتكرّرة في البلد بعد الآخر قد بيّنت أنّ الخيار الوحيد هو الإلتحاق بالمجموعة أو السحق .
و لننظر بشكل أعمق في منتجى برامج الحواسيب لدى نغرى و هاردت و حجّتهما بانّ " القيمة " تنتج و يقع تملّكها حتّى و إن كانت القيمة التبادليّة قد ألغيت بما أنّ هذا الإضمحلال المزعوم للقيمة التبادليّة هو الذى يقع في موقع القلب من إعادة تحديدهم للإستغلال الرأسمالي . لكن شفرة المنبع المستعمل في برمجة الحواسيب مهما كانت لامعة و مهما كانت مفيدة ، لا يمكنها أن تصنع ربحا للرأسمالي إلاّ إذا و متى تحوّلت إلى سلعة قابلة للتسويق ، أي شيء يتمّ تبادله مقابل مال ، سواء بواسطة مؤسّسة مشروع رأسماليّة أم عملاق برامج حواسيب . و في الواقع يحدث هذا كلّ يوم . و الجدير بالملاحظة هو أنّه حتّى إن عارضت مكروسوفت و بعض عمالقة برامج الحواسيب الآخرين بشراسة حركة " المنبع المفتوح " ( لجعل شفرة المنبع متوفّرة مجانا للجمهور ) ، فإنّ مجموعات رأسماليّة كبرى أخرى ، مثل حواسيب سان ، و جدت طرقا لتحقيق أرباح ضخمة بالضبط عبر " تملّك " العمل الخلاّق للآخرين . و ليس بإمكان هذه المنتوجات أن تخرج عن سير الرأسماليّة و سوقها ؛ عامة ، إن لم تجد مؤسسة طريقة للربح المباشر أو غير المباشر من هذا المنتج ، حتّى أكثر التطبيقات فائدة يرجّح وضعها على الرفّ و نسيانها . و من الأكيد أنّ نغرى و هاردت على صواب بلفتهم الإنتباه إلى واقع أنّ قسما هاما و متزايدا من الاقتصاد العالمي يبيع خدمات و ليس سلعا . لكن أهمّ شيء نشدّد عليه هو أنّ الخدمات كذلك ، لا مهرب لها من قانون القيمة ؛ إنّها تتبادل ( تباع ) بثمن يعكس تلك الكمّية من وقت العمل الضروري إجتماعيّا (64 ) لإنتاجها . و دون خبرة و معرفة إستعمالها( والتي هي غالبا محتكرة و منظّمة و مباعة من قبل الطبقة الرأسماليّة ) شفرة المنبع لا معنى لها و ثرثرة وهي متوفّرة بمساواة أكبر للجماهير من " الحقّ المتساوي " للجميع في قضاء عطلهم على الريفيارا الفرنسية .
ومن الصحيح أنّ التعاون الخلاّق أكثر يحدث عبر " الشبكات " غير الرسميّة ( مثلا ، مجموعات النقاش على الأنترنت ) لكن غير صحيح أنّ هذه الشبكات نوعا ما تتخلّص من الواقع الإجتماعي للملكيّة الخاصة و التملّك الخاص ، أو تقسيم العمل في المجتمع الرأسمالي . نغرى و هاردت غير قادرين على رؤية يد رأس المال تعزف السنفونيّة حتّى و إن إعتقد بعض الموسيقيين أنّهم يتبعون ميولهم العفويّة لا غير . " المركز " موجود بالفعل و إستقلاليّة العاملين مطبّقة في و موجّهة في النهاية من قبل النظام الرأسمالي و طبقة رأسماليّة تسير بدرجة كبيرة حسب " قانون القيمة " الذى يريد هذان الكاتبان تحديده خارج الوجود .
و يرفض الكاتبان صراحة أيّ تمييز متواصل بين القيمة الإستعماليّة و القيمة التبادليّة لكن قانون القيمة ما إنفكّ لا محالة يحكم المجتمع الرأسمالي و يحدّد الأسعار و الأجور و الأرباح و الإستثمارات إلخ من خلال آليّة معقّدة خصّها ماركس بثلاثة مجلّدات من كتابه " رأس المال " لتوضيح جوانبها . و بالفعل ، هذا التناقض الذى إكتشفه ماركس على مستوى السلعة و الذى رسمه بعد ذلك عبر دراسته للإقتصاد الرأسمالي ، يحتلّ إلى درجة كبيرة موقع القلب من كامل الرؤية العالمية لماركس و مقاربته و ماديّته . قد يكون المرء تمنّى أن تكون هذه " الإكتشافات " ذات الأهمّية الكبرى – إضمحلال التمايز بين القيمة الإستعماليّة و القيمة التبادليّة و بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج – قد قُدّمت بصفة منهجيّة و تمّت المحاججة من أجلها و ليس فحسب تأكيدها . لقد أخفق نغرى و هاردت في توفير تفسير لكيف يسير النظام الرأسمالي دون تعديل قانون القيمة و ما يوفّر للنظام إنسجامه و يحدّد حركته .
و فعلا ، بينما برزت مظاهر هامة ، القوانين الأساسيّة للرأسماليّة التي نبعت من الإنتاج السلعي و تحويل العامل نفسه أو العاملة نفسها إلى سلعة لم يقع تجاوزها . و من الأكيد أنّه ليس دائما الحال أنّ التجديد التقني هو النتيجة المباشرة لتنظيم رأس المال للعمل و البحث . بل الحال هو أنّه طالما أنّ الرأسماليّة تسود المجتمع ، سيوجّه إبداع الإنسانيّة و يرتبط بحاجيات رأس المال و إلى درجة كبيرة ، يقمع حينما لا تتمّ تلبية هذه الحاجيات . و مجدّدا ، ما نراه متناغما مع و تطوّرا أبعد للوضع الأساسي الذى حلّله لينين في كتابه " الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية " هو التالى : الظروف الماديّة للإشتراكية و الشيوعية يوفّرها حتّى أكثر سير الرأسماليّة ذاتها بما في ذلك و حتّى خاصة بنموّها إلى مرحلة الرأسمالية الإحتكاريّة ، الإمبريالية ، لكن القدرة الإنتاجيّة للمجتمع تدخل حتّى بصفة أحدّ في نزاع مع طريقة تنظيم الرأسمالية للمجتمع و علاقات الإنتاج التي تمثّل " قيدا " ، كابحا لقدرة البشريّة على الإنتاج و تغيير العالم . لكلّ أوقية من " الطاقة الإبداعيّة " التي كشفتها الرأسماليّة المعاصرة التي يودّ نغرى و هاردت تسميتها بالإمبراطوريّة ، فإنّ قدرا كبيرا جدّا من مثل هذه الطاقة يجرى خنقه . و ليس المشكل ، كما يحاجج المؤلّفان ، " إعادة النظر في مفهوم ماركس للعلاقة بين العمل و القيمة في الإنتاج الرأسمالي " ؛ و إنّما مهمّة المجتمع الإنساني هي تخطّى العصر الذى يظلّ فيه الإنتاج السلعي مهيمنا و تقلّص فيه ذات قدرة الإنسانية على الإنتاج إلى سلعة ( قوّة عمل ).
تحليل طبقي مضطرب
عند نقطة محدّدة من كتاب " الحشد " يصرّح نغرى و هاردت بمزيد من التفاصيل بشأن من يتحرّكون في مجال " الإنتاج غير المادي ": ضمن أشياء أخرى ، " مقدّمو الأطعمة و الباعة و مهندسو الحواسيب و الأساتذة و عمّال الصحّة ". (66) و هنا تأتى إلى ذهننا نقطتان : أوّلا ، النقطة البديهيّة هي أنّهما يمحوان الإختلاف بين البروليتاريا و الطبقات الوسطى ( عمّال سلسلة همبورغر ماك دونالد الذين يعملون مقابل الأجر الأدنى يوضعون في نفس صنف مهندسي الحواسيب الذين يمثّلون فئة لها إمتيازاتها في جميع البلدان ). هذا الصنف من التحليل الطبقي ليس جديدا . فعوامل مثل مستوى الدخل و الدور في التقسيم الاجتماعي للعمل يجرى فسخها . و على سبيل المثال ، لا شيء أكثر تراتبيّة من المستشفى الغربي المعاصر . و ليس فقط أنّ مستويات الدخل متباينة بشكل كبير و بشكل لا يتصوّر بين المنظّفين و جرّاحي الدماغ بل إنّ الإختلافات بين العمل اليدوي و العمل الفكري ، بين الذين يقرّورن و الذين ينفّذون الأوامر ، صارخة للغاية . و من وجهة نظر التحليل الطبقي ، هناك قيمة ضئيلة لخلط جميع موظّفى المستشفى معا في صنف واحد من " عمّال الصحّة " . إن كانت لدينا فكرة واضحة عن من يمكن بالأحرى أن يكون القوّة المحرّكة للثورة و ما هي السياسات التي ينبغي تبنّيها لضمان دعم أو حياد قوى أخرى ، و لتشخيص أين يمكن أن نتوقّع مقاومة و معارضة عنيدتين و ما هي التغييرات اللازمة لأجل القضاء على الطبقات و بلوغ مجتمع خالي من الطبقات ، من الضروري أن يكون لدينا تحليل طبقي دقيق .
و كلّ تحليل طبقي يجب أن يستمرّ في إيلاء أهمّية كبرى للإنقسام الذى حلّله لينين في صفوف جماهير البروليتاريا و الأرستقراطيّة العمّاليّة . ( الأرستقراطية العمّاليّة فئة من البروليتاريا " تلقّت رشوة " من الأرباح الضخمة التي يقدر الإمبرياليّون على إستخلاصها من البروليتاريا و الجماهير في البلدان المضطهَدَة ). و يزعم نغرى و هاردت أنّ في فترة " تداعى الإمبرياليّات " التي يؤرخوان لها منذ 1970 ، " الإمتيازات " الإمبريالية لأيّة طبقة عاملة قوميّة قد بدأت بالإندثار " . (67) و حتّى دراسة بدائيّة للمجتمع الإمبريالي المعاصر تبيّن أنّ مثل هذه الإمتيازات موجودة فعلا و أنّ هذه الرشوة تؤثّر على فئات كاملة من السكّان و ليس على مجرّد حفنة منهم و أنّه مأخوذة ككلّ هذه الفئات تخدم كقاعدة إجتماعيّة للإمبريالية و الرجعية . أمّا بالنسبة للأساتذة و الأطبّاء فإنّ ظروف عملهم و حياتهم ( دورهم في تقسيم العمل و حصّتهم من التوزيع ) تجعلهم أكثر جزءا من طبقة أو طبقات وسطى متباينة بصرف النظر عن عدد النقابات التي يمكن أن تكون لهم . نغرى و هاردت على حقّ في حديثهما عن ضرب من " الإلتقاء " بين نضال البروليتاريا في الغرب و أولئك في البلدان المضطهَدة ، وهو ما حدث في تمرّدات ستّينات القرن العشرين و سبعيناته ؛ و في نقدهما للنظريّات " العالم ثالثيّة " التي تقول " إنّ التناقض الأوّلى و العداء الأوّلى في النظام الرأسمالي العالمي هو بين رأس مال العالم الأوّل و عمل العالم الثالث . و إمكانيّة الثورة هكذا تكمن مباشرة و حصريّا في العالم الثالث ". (68) لكن بناء الوحدة العالميّة الحقيقيّة للبروليتاريا لا يمكن أن يتمّ بتجاهل البون الشاسع في العالم بين البلدان المضطهِدة و البلدان المضطهَدة أو رفض رؤية أنّ هذا الواقع قد أثّر في الهيكلة الطبقيّة للبلدان الإمبريالية .
و بدلا من تجريد البروليتاريا [ أو نزع ماديّتها – المترجم ] – تحويلها إلى " حشد " لاطبقي – يجب أن ننظر في ما إذا كانت الظواهر العمليّة التي يصفها المؤلّفان بشأن ظهور العمل غير المادي تعكس بلترة أو بلترة جزئيّة لصناعات الخدمات و حتّى بعض الأشغال ذات إمتيازات كبرى . مثلا ، أضحت سلسلة مطاعم ماك دونالد الأمريكيّة شبكة واسعة من المصانع الصغيرة المنتجة للهمبورغر على نطاق صناعي بالتقنيات الأكثر حداثة ، و في عدّة بلدان غربيّة أمسى الإستهلاك الجماهيري للأكلات السريعة محوري في بقاء قوّة العمل على قيد الحياة أو لوضع ذلك بكلمات إقتصاديّة ، إعادة إنتاج قوّة العمل ( ما يفضل المؤلّفان تسميته ب " الإنتاج البيولوجي " )(69) . و أولئك العاملون في الماك دونالد يشتركون في القليل مع المحاسبين و يشتركون أكثر في الكثير مع عمّال المصانع ذات خطّ تركيب ، بما في ذلك في طغيان رئيس العمل و زمن الساعة .
كتب المؤلّفان : " عالميّة الإبداع الإنساني ، و خلاصة الحرّية و الرغبة و العمل الحيّ ، هي أنّها تحدث في لامكان من علاقات الإنتاج ما بعد الحداثة . الإمبراطوريّة هي لامكان الإنتاج العالمي حيث يجرى إستغلال العمل " . (70) و " علاقات الإنتاج ما بعد الحداثة " هكذا نلفيها في كلّ مكان و في لامكان . و لدعم حجّتهما ، ينبّهان إلى أنّ مثل ممارسات العمل هذه كالساعات المرنة و إلى واقع أنّ العديد من الذين ينخرطون في " العمل غير المادي " يحملون عملهم معهم إلى منازلهم ، إن صحّ القول . و على سبيل المثال ، بوسع مستشار إشهار أن يفكّر في شعار جديد في أي وقت من اليوم أو الليل . أو لننظر في كيف أنّ نموّ الأنترنت قد جعل ممكنا توزيع الكثير من عمل الكتابة على أناس يشتغلون في منازلهم أو حتّى في الجانب الآخر من العالم .
دور الفرد في تقسيم العمل في المجتمع و حصّته من توزيع الإنتاج الاجتماعي ( أي دخله ) سيكون لهما تأثير كبير على العلاقات العمليّة التي تمثّلها حقّا مثل هذه الأنواع من الأوضاع و كيف أنّ الشخص يرتئى ذلك . و قد يطرأ شكّ صغير في أنّ ساعات عمل ضارب على الآلة الكاتبة يوميّا يفترض إدخال مادة متكرّرة إلى حاسوب ، سيدرك بسهولة تماما الإختلاف بين الزمن المقضّى في العمل من أجل رأس المال و ساعات ترفيهه أو ترفيهها . و لن يشاطر نغرى و هاردت إستخلاص أنّ " الوحدة الزمنيّة للعمل كمقياس أساسي للقيمة لم يعد لها معنى اليوم ". (71) عدم إدراك الفرق بين وقت الإستغلال و الحياة نفسها ، لسوء الحظّ ، إمتياز تتمتّع به فئة قليلة من الذين يمنحهم موقعهم في التقسيم الاجتماعي للعمل مسؤوليّة الإبداع و الإشتغال بالأفكار و تطوير ثقافة و ما إلى ذلك . صحيح أنّ الظروف الماديّة قد وُجدت حيث إستعارة ماركس عن الإنسان الشيوعي المستقبلي الذى سيقسّم يومه بين العمل المنتج و القراءة و الصيد للمتعة ، قد تبدو في المتناول تماما . و مع ذلك ، هذه الإمكانية العالقة جدّا ،لا يمكن أن تتحقّق أبدا بالنسبة للجماهير الشعبيّة في ظلّ الرأسماليّة و إنّما فقط بإجتثاث و تحطيم قوانين الرأسماليّة التي أعلن نغرى و هاردت أنّها لم تعد مختلّة نوعا ما قبل نضج ذلك .
أجر مضمون إجتماعيّا
إستنتاج الكاتبان و رؤيتهما غير الثوريّة في نهاية المطاف تتكشّف في نقاشهما للنضال من أجل " أجر إجتماعي " . من الصحيح أيضا أنّ أعدادا كبيرة من الناس في المجتمع تساهم في إنتاج القيمة دون الحصول على علاقة أجر مباشرة مع الرأسمالي . و المنظّرات النسويّات التقدّميّات قد شدّدن لمدّة طويلة على أن تنشأة الأطفال مثلا تلعب دورا مركزيّا في إعادة إنتاج الطبقات الشغّيلة وهو بالتالى شكل من العمل غير مدفوع الأجر . و كذلك ، في عدد من البلدان على النطاق الضيّق ، يُوفّر الإنتاج اللارأسمالي إعالة أسرة ( و بالتالى إعادة إنتاج ) العامل جاعلا من الممكن للمشغّل الرأسمالي أن يدفع أقلّ من القيمة العمليّة لقوّة العمل التي يشتريها . (72) هذه الحقيقة عينها لا تُنكر السير الأساسي للرأسماليّة . بالأحرى هي تبيّن أنّه عندما تهيمن الرأسماليّة على مجتمع ، فإنّ العلاقات الأخرى تخضع لها و تتشكّل وفقها . و حلّ هذا لا يكون إلاّ إلغاء الرأسماليّة ذاتها .
و يستمرّ نغرى و هاردت الذين يقلّصان البروليتاريا إلى العمّال الصناعيين في الجدال و يستبعدان بالخصوص الفقراء و المعطّلين عن العمل . و يحاججان بأنّ كلّ الجماهير تشملها سيرورة إنتاج القيمة ، سواء إشتغلت أم لم تشتغل ( " التقسيم الإجتماعي بين العاملين و المعطّلين عن العمل يمسى شيئا غير واضح " (73) ) . و هناك قدر كبير من الحقيقة في ملاحظات المؤلّفان ونقدهما للنقابات( وموقفها الأخير إزاء الفقراء وكذلك إزاء الجماهير " جنوب الكوكب " ).
و يندّد مقطع هام من كتاب " الإمبراطوريّة " بما يسّميه نغرى و هاردت " التيّار المهيمن للتقليد الماركسي الذى كان عادة يكره الفقراء ، تحديدا لكونهم " أحرار كالعصافير " ، لكونهم يمانعون إنضباط المصنع و الإنضباط الضروري لبناء الإشتراكيّة " (74) . و في الواقع ، صحيح أنّ التيّارات التحريفيّة و الإشتراكية – الديمقراطية في " التقليد الماركسي " إقترفت إنحرافات من هذا القبيل . وليام زاد فستار ، قائد من الحزب الشيوعي للولايات المتحدة الأمريكيّة ، طوال الكثير من تاريخه في بداياته ، ندّد بعمّال الصناعة في العالم (IWW) على أنّهم يعتمدون على فئة عمّاليّة " غير مستقرّة ".(75) و بالرغم من كوننا لا نشاطر تقديس نغرى و هاردت القريبين من الفوضويّة النقابيّة لعمّال الصناعة في العالم ، واقع أنّ نقابة عمّال الصناعة في العالم نهضت بدور هام في بناء فئة ثوريّة من البروليتاريا في الولايات المتحدة أثناء فترة ما قبل و ما بعد الحرب العالمية الأولى و التنظيم الذى أنشأته في صفوف عمّال النسيج ، و عمّال المزارع المهاجرين قد نهض بدور أكثر ثوريّة من النقابات الضيّقة الفكر التي عوّلت كثيرا جدّا على فوستار . لكن رؤية أنّ للبروليتاريا شأن في إستقرار النظام الرأسمالي لا يمكن أن توضع على عتبة ماركس و إنجلز أنفسهما هما اللذان وصفا بروليتاريا مجتثّة من صناعة أو بلد و تعتصرها آلة الربح الرأسماليّة فقط طالما هي مربحة للطبقة الرأسمالية . و قد شدّد ماركس و إنجلز على أنّ الطبقة العاملة " لم يكن لها ما تخسره سوى قيودها ". و وصف إنجلز للطبقة العاملة في أنجلترا لا يلتقى قط مع وجهة نظر العامل الأرستقراطي التي تهيمن على " حركة العمّال " هنا .
إنّ الاقتصاد السياسي لنغرى و هاردت يجبرهما على المطلب البرنامجي الذى يعدّونه ثوريّا جدّا ، مطلب " أجر مضمون للجميع ". بعض النسويّات و حسب منطق مشابه لمنطق نغرى و هاردت قد رفعن مطالبا بدفع الطبقة العاملة لأجر مقابل الشؤون المنزليّة . و عمليّا ، هذه الأصناف من المطالب هي في آن معا طوباويّة و إصلاحيّة بعمق ، هي طوباويّة لأنّه طالما أنّ قانون القيمة لا يزال يتحكّم في المجتمع ، و الحال كذلك مهما سعى نغرى و هاردت إلى إنكارها ، من غير الممكن ضمان أجر حياة كريمة خارج ظروف الإنتاج السلعي . وهي إصلاحيّة لأنّ مثل هذه المطالب لا تتحدّى النظام الرأسمالي . في عدّة بلدان أوروبيّة توجد مثل هذه الضمانة للدخل ( رغم أنّها في ظروف فقر معشّش) و الجميع بإستثناء هام للمهاجرين " غير القانونيين " مؤهّلون للتمتّع بها . و بإمكان الرأسماليّة أن تواصل السير مع " الدخل المضمون " ، و عندما يواجه الرأسماليّون إنهيارا في عدد السكّان يعملون حتّى أحيانا على دفع حوافز ماليّة ذات دلالة للنساء كي تعود إلى دورهنّ التقليدي ك " مربّيات أطفال " . (76)
و يخفق كاتبانا في الإقرار بانّه طالما وُجدت الرأسماليّة و طالما أنّ قوّة العمل ذاتها سلعة يتمّ تبادلها بواسطة المال ، أي ، تشترى و تباع ، فإنّ قوّة العمل نفسها ستتحدّد بقانون القيمة . لهذا الإصلاحيّون الإشتراكيّون الديمقراطيّون ، عندما يمسكون بمقاليد النظام الرأسمالي ، ليس بوسعهم إلاّ القيام بالقليل غير " إدارة " السير السلس للرأسماليّة و ديناميكية الرأسماليّة نفسها ستعاقب كلّ من ينحرف عن إملاءاتها و قوانينها ستعيد تأكيد نفسها بإستقلال عن إرادة أي كان . (77) ليس بإمكان الجماهير أن تتحرّر طالما وُجدت الرأسماليّة و بدلا من تركيز طاقة الناس على هدف طوباوي و إصلاحي ل " أجر عالمي " ، يجب علينا أن نعيد إحياء و نرفع عاليا نداء ماركس المثير ل " إلغاء نظام العمل المأجور " ذاته عوض الشعار الإصلاحي ل " أجر يوم عمل عادل مقابل يوم عمل عادل " (78) . لقد دعا ماركس إلى تخطّى كامل العصر الرأسمالي الذى فيه لا يمكن للبشر سوى التفاعل عبر شراء السلع و بيعها و تقلّص قدرة الجماهير على الإنتاج في حدّ ذاتها إلى سلعة تشترى و يستعملها الرأسماليّون . ليس نغرى و هاردت وحدهما – عدد كبير من " الماركسيين " أنفسهم قد أضاعوا من مجال نظرهم النظرة الثوريّة لهذا الواقع و مدى راديكاليّة القطيعة التي تمثّلها مقارنة بالعالم الذى نعيش فيه .
V – الديمقراطية و الفوضويّة و الشيوعيّة
يصرّح نغرى و هاردت بأنّ " المهمّة هي إكتشاف طريقة مشتركة تشمل الرجال والنساء و العماّل و المهاجرين و الفقراء و كافة عناصر الحشد لإدارة إرث الإنسانيّة و توجيه الإنتاج المستقبلي للغذاء و السلع الماديّة و المعرفة و الإعلام و كلّ الأشكال الأخرى من الثروة " . (79) صحيح و صيغة جيّدة . و مع ذلك ، نشكّ في أنّ الكثير من القرّاء قد يجدون إجتياح نغرى و هاردت غير متناسق مع بالأحرى النطاق الضيّق للحلول السياسيّة التي يقترحانها . فأوّلا و قبل كلّ شيء ، يلغيان الوسيلة المحوريّة لمعالجة مشاكل المجتمع ، تحديدا الثورة . و في عصرنا هذا ، ليس بوسع هذا إلاّ أن يعني ثورة في مصلحة الغالبيّة العظمى بقيادة البروليتاريا لإفتكاك مقاليد المجتمع و تركيز دولتها الخاصة و إستخدامها لخلق خطوة خطوة الظروف الماديّة و الإيديولوجيّة التي ستكون فيها الإنسانيّة ككلّ قادرة على " إدارة إرث الإنسانيّة و توجيه الإنتاج المستقبلي ".
المسألة السياسيّة المركزيّة في التمييز بين الشيوعيّة الثوريّة و شتّى البرامج السياسيّة كانت دائما مسألة الدولة . و ليس مفاجأ أنّه في فهم الدولة برنامج نغرى و هاردت غير الثوري في جوهره يظهر ذلك . و يحظى " مشروع دستور " الولايات المتّحدة بمديح عاطفي في كلّ من " الإمبراطوريّة " و " الحشد ". و مقترحاتهما لنظام عالمي تنعكس في الإنبهار بمحكمة الجرائم الدوليّة " التي هي أكثر من أيّة مؤسّسة أخرى تشير إلى إمكانيّة نظام عدالة عالمي يخدم صيانة حقوق الجميع بصورة متساوية " أو في مساعدة الإتّحاد الأوروبي الذى يعتبر بخاصة نموذجا " لدستور عالمي جديد " (80). و لعلّ قرّاءنا سيحتاجون إلى القليل للإقتناع بالطبيعة اللاثوريّة لمقترحات نغرى و هاردت السياسيّة . لكن من أجل فهم أفضل للماذا يبدو هذان المؤلّفان غير قادرين على تخطّى الإقتراحات المحتشمة لتعديل المؤسّسات العالميّة القائمة ، من الضروري النظر عن كثب أكثر في ما هي نظرتهم حقّا للشيوعيّة .
الديمقراطية و الحكم الطبقي
رأينا معالجة " الإمبراطوريّة " ل " العمل غير المادي " و إعتباره أنّ الوجود المتشابه ل " شبكات " الأشخاص الممتدّين عبر الكوكب بأسره و تلمّس كلّ المجالات الهامة من النشاط الإنساني ، يكشف " نزعة عفويّة نحو الشيوعيّة ". و في مقاطع أخرى ، يحيل الكاتبان على شبكات فيها عقد لا تحصى لكنّها دون مركز . (81) نظرتهما للمجتمع الشيوعي المستقبلي هي أنّ الجماهير نوعا ما ستحكم نفسها بنفسها دون واسطة أيّة مؤسّسات مركزيّة . و يرتبط هذا جدّا بفهمهما السياسي المعروض في كتاب " الإمبراطوريّة " و حتّى أكثر في كتاب " الحشد " ، و تحديده ل " حكم الجميع من قبل الجميع " الذى يستعيره الكاتبان من ثورات القرن الثامن عشر .
يقع خارج نطاق هذا المقال التعمّق فى أساس الفهم الماركسي للديمقراطية و الدولة الذى يدافع عن أنّ أيّة دولة تقوم على حكم ( دكتاتوريّة ) طبقة ضد طبقة أخرى و بالتالى أنّ " حكم الجميع من قبل الجميع " خدعة تحجب الطبيعة الطبقيّة الحقيقيّة لدولة الديمقراطيّة – البرجوازيّة . (82)
و في مقطع من كتاب " الحشد " و عنوانه الفرعي معبّر ، " العودة إلى القرن الثامن عشر " ( بما يعنى عصر الإيديولوجيّون الأصليّون للنظام السياسي للديمقراطية ) ، يعترف المؤلّفان بأنّ الديمقراطيّة التي يروّج لها توماس جيفرسن و جامس ماديسون( قادة مفاتيح في الثورة الأمريكيّة و مؤسّسان من مؤسّسى النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكيّة ) تقلّص " الجميع " إلى المالكين البيض الذكور . و يرى نغرى و هاردت كلّ " الثورات المعاصرة " مجرّد إمتداد ل " الجميع " ليشمل فئات أوسع فأوسع من السكّان . و بينما من الصحيح أنّ الديمقراطيّة البرجوازيّة قد تطوّرت كي تمنح اليوم النساء و غير المالكين من الرجال حقّ الإقتراع أيضا ، فإنّ الواقع الطبقي للدولة البرجوازيّة يظلّ بالأساس نفسه . و يخلط نغرى و هاردت بين الثورة البرجوازيّة و الثورة الإشتراكيّة حين يكتبان : " يمكن للمرء أن يقرأ تاريخ الثورات المعاصرة بوصفه أعرجا وغير متكافئ لكن مع ذلك قد حقّق تقدّما حقيقيّا بإتّجاه تكريس المبدأ المطلق للديمقراطية ".(83)
هناك إختلاف جوهري بين الثورات التي قادتها البرجوازية مثل الثورات الفرنسيّة و الأمريكيّة و الثورات التي قادتها البروليتاريا – كمونة باريس ، الثورة الروسيّة و الثورة الصينيّة . برفض الإقرار بهذا الفرق يسقط نغرى و هاردت في ذات الخطأ الذى إقترفه الإشتراكيّون – الديمقراطيّون و التحريفيّون طوال 150 سنة . لقد شدّد ماركس على أنّ كافة " الثورات السابقة "( يقصد البرجوازيّة أو " الثورات المعاصرة " حسب عبارات نغرى و هاردت ) لم تفعل سوى تحسين الدولة ، فيما من الضروري تحطيمها . و إنجلز بصفة خاصة دعا قرّاءه إلى النظر في كمونة باريس إذا أرادوا أن يشاهدوا " دكتاتوريّة البروليتارية " وهي تطبّق . لكن التحريفيين و الإشتراكيين – الديمقراطيين قد شدّدوا على إعتبار الثورة الإشتراكية إستمرارا للثورة البرجوازية ، ماحين بجرّة قلم الفرق في المضمون الطبقي . فهدف الثورة البروليتاريّة ليس " إستمرارا " للديمقراطيّة بل بالأحرى" تجاوز الديمقراطيّة ، أي ، إضمحلال الدولة ذاتها " (84).
و هذا " الفهم المطلق للديمقراطيّة مرتبط بتقديس نغرى و هاردت ل " الشيوعيّة العفويّة " في شبكات العمل غير المادي . " الأغلبيّة العظمى لتفاعلاتنا السياسيّة و الإقتصاديّة و الحسّية المؤثّرة و اللغويّة و الإنتاجيّة قائمة دائما على العلاقات الديمقراطيّة ... السيرورات المدنيّة للتبادل الديمقراطي و التواصل و التعاون الذين نطوّرهم و نغيّرهم كلّ يوم .(85) هذا حقّا تشوّش ذهني لا يساعف على كشف الأساس الكامن في تفكيرهم . أوّلا ، " التبادل الديمقراطي " المشار إليه أعلاه ، لا سيما حين نتحدّث عن " التفاعلات الإقتصاديّة و التفاعلات الإنتاجية "، لا يعنى حقّا شيئا آخر عدا التبادل الحرّ للسلع . و بكلمات أخرى ، في ظلّ الرأسماليّة ، يجرى بإستمرار و بعفويّة شراء و بيع السلع و الخدمات في " السوق الحرّة " المقدّسة . و نغرى و هاردت غير قادرين على رؤية أبعد من مجتمع مستند إلى مبدأ التبادل الحرّ و بدلا من ذلك يجعلان من هذا " التبادل الديمقراطي " مثلا أعلى و غاية إجتماعية أسمى . لهذا بلا شكّ يستشهدان بسبينوزا و يشاطرانه الرأي المدافع عن " أشكال أخرى من الحكم تشويهات أو تحديدات للمجتمع الإنساني في حين أنّ الديمقراطيّة هي تحقّقها الطبيعي" (86) .
في الواقع ، فلسفة نغرى و هاردت السياسيّة تحدّد بصورة أفضل على أنّها فوضويّة أو شيوعيّة – فوضويّة . لم يقطع حقّا مع فكرة الإقتصاديين و الفلاسفة البرجوازيين القائلة بأنّه إذا إتّبع كلّ شخص مصالحه أو مصالحها الفرديّة الخاصة ، من خلال هذه المصالح المتنافسة و المتنازعة ستنتصر في نهاية المطاف المصالح الجماعيّة للمجتمع . و لا شكّ في أنّ نغرى و هاردت سيعارضان بشدّة أيّ إقتراح بأنّ الشبكات التي يصفانها هي بالفعل تتدبّر أمرها " اليد الخفيّة " للسوق ، و مع ذلك ، كما رأينا آنفا ، هذا هو الحال إلى حدّ كبير .
و يقترح نغرى و هاردت أنّه ينبغي على المجتمع الإنساني أن يمسك بإدارة إرثه الخاص و يوجّه الإنتاج المستقبلي ، لكنّهما يفقدان تماما البوصلة في ما يتعلّق بكيف يمكن تحقيق هذا و على أيّ أساس يمكن أن يقع مثل هذا التعديل . الإعتقاد بأنّ المجتمع سينظّم نفسه عفويّا يساوى إنكار التغيير الهائل اللازم إن كان على المجتمع أن يتجاوز السلع التي تباع و تشترى ( و الواقع المحوري أنّه في ظلّ الرأسماليّة قوّة العمل نفسها تصبح سلعة تباع و تشترى ). و هذا لأنّ " الشيوعيّة العفويّة " المرفوعة إلى مثل أعلى لدى نغرى و هاردت ليست في الحقيقة غير مجرّد إنعكاس نظريّ لموقع طبقيّ للمنتج الصغير للسلع ( بما فيهم منتجو السلع " غير الماديّة " المحوريّين في تحليل نغرى و هاردت ). و بكلمات أخرى ، يبدو للمنتج الصغير أو البرجوازيّة الصغيرة أنّ مشاكل العالم لا يمكن معالجتها " إلاّ إذا " وقع إلغاء القيود و الموانع أمام التبادل المتساوى للقيم المتساوية " ( كإمتيازات الإحتكارات أو إمتيازات خاصة ). و التعبير السياسي لهذا هو " المفهوم المطلق للديمقراطية " المشار إليه سابقا لدى نغرى و هاردت . فقد حكما بأنّ تبادل القيمة صنف مطلق ، لكن الواقع هو أنّه لا وجود لأساس آخر ، لآليّة تعديل أخرى ، قد تحكم التبادل بين الأفراد و القطاعات الإقتصاديّة و " الشبكات " و كامل البلدان بإستثناء تبادل القيمة طالما أنّ الإنتاج السلعي مهيمن . و في نهاية المطاف رفضهما الإقرار بتواصل الدور التعديلي لقانون القيمة يعنى الإنحناء إلى الأسفل أمامه و التخلّى عن المهمّة التاريخيّة العالميّة لتجاوز قانون القيمة الذى سيتحقّق ليس عبر التطوّر العفويّ للرأسماليّة ، بل عبر النضال للإطاحة به .
و بالتأكيد أنّ تغييرا ثوريّا في النظام الاقتصادي – الاجتماعي سيتطلّب الإطاحة بقانون القيمة من أعالى موقع تحكّمه و خطوة خطوة تغيير الظروف المادية و الإجتماعيّة التي تحول دون إلغائه إلغاءا كلّيا . و على سبيل المثال ، في الصين الثوريّة في ظلّ ماو تسى تونغ ، كانت القيمة الإستعماليّة و ليست القيمة التبادليّة ، هي التي تقرّر في الأساس إلى أين توجّه إستثمارات الدولة . إن كان مصنع ينتج موادا صيدليّة أو مستحضرات التجميل لم يكن يتحدّ على قاعدة أرباح الإستثمار كما هو الحال في المجتمع الرأسمالي ( و مثلما هو الحال في صين اليوم ، بالمناسبة ) . و حتّى في هذه المجالات كتوزيع الدخل حيث قانون القيمة كان مهيمنا ، كانت خطوات هامة تتّخذ لتحديده مثلا ، بإبقاء معاليم السكن منخفضة جدّا ، أخفض من قيمتها التبادليّة الفعليّة . لكن القدرة على تقييد فعل قانون القيمة أتى على وجه الضبط من واقع وجود الدولة البروليتارية التي إستطاعت و خطّطت عن وعي الاقتصاد ، آخذة بالضرورة بعين النظر قانون القيمة ، مع عدم السماح له بأن يُملي أشياءا و يكون الحكم الأعلى . دون مثل هذه المراقبة الواعية للجهاز الإنتاجي ، إن سُمح للأمور بإتّباع مسارها العفوي ، فإنّ " اليد الخفيّة " لقانون القيمة ستتدبّر أمر " شبكات " المنتجين و كلّ المظاهر الفظيعة للرأسماليّة ستعود – مع دولة برجوازيّة – لتفرض هذه الفظائع .
و لا شكّ في صحّة أنّ مراقبة الدولة وحدها لا تعنى بأيّ حال ضمان أنّ مجتمعا سيتغيّر حقّا في إتّجاه إشتراكي . يمكن للدولة نفسها أن تصبح فارضة و منظّمة لقانون القيمة ، كما رأينا في المثال السابق لدور الدولة الكوبيّة في الحفاظ على إنتاج السكّر كمحور للإقتصاد الوطني . و الدولة التحريفيّة الرأسماليّة في الإتّحاد السوفياتي و بلدان أخرى من الكتلة الشرقيّة السابقة أثبتت بالملموس أنّ مجرّد ملكيّة الدولة ليست ضمانا لأيّ شيء ثوريّ . و لا يمكننا أن نوافق على النقد الإشتراكي الديمقراطي لنغرى و هاردت الذين يوبّخانهما على السقوط فى أحابيل رؤية الدولة كأداة ضروريّة ل " الإصلاح " و بها يعنى هذا النقد الدولة البرجوازية القائمة . (87)
إضمحلال الدولة ... في ظلّ الرأسماليّة !
لطالما دافع الماركسيون عن أنّ المجتمع الشيوعي المستقبلي سينشأ عن " إضمحلال الدولة " حينما يكون قد تمّ تجاوز الظروف المتطلّبة لوجود مثل هذه الدولة ، أي المجتمع الطبقي . و المساهمة الخاصة لنغرى و هاردت هي إقتراح أنّ إضمحلال الدولة يمكن أن يحدث ...فى ظلّ الرأسماليّة ! لم تعد هناك أيّة حاجة أو أساس لممارسة البروليتاريا لسلطة الدولة .
في نقاشهما للبلدان المضطهَدَة ، حاجج نغرى و هاردت بأنّه بوسع الجماهير ، في أفضل الأحوال ، أن تأمل في إصلاح متواضع لظروفها بفضل تحالف بين القوى التقدّميّة في البلدان المتقدّمة و إصلاح الحكومات كحكومة لولا دا سلفا في البرازيل . و حتّى حين يتحدّث نغرى و هاردت عن القوى الثوريّة ، نقطتهما المرجعيّة المستمرّة هي الجيش الزباتي للتحرّر الوطني المعروف أكثر ب" الزاباتستاس " ، في المكسيك . يدرك المؤلّفان إدراكا صحيحا الإختلاف بين مشروع الزاباتستاس و المشاريع الثوريّة التي يقودها الماركسيّون – اللينينيّون- الماويّون الآن و قادوها في الماضي . و يذكّران بطريقة مستحسنة بأنّه بالنسبة للزاباتستاس ، " لم يكن الهدف أبدا إلحاق الهزيمة بالدولة و المطالبة بالحكم السيادي بل بالأحرى تغيير العالم دون إفتكاك السلطة " (88) . و من المهمّ أن نشير إلى أنّه في حين أنّ بعض القوى الماركسية – اللينينيّة – الماويّة تجد صعوبة في رؤية الطبيعة الإصلاحيّة للزاباتستاس و قوى مشابهة لهم ، هرول نغرى و هاردت لتصوير العلاقات بين لولا و القائد ماركوس ، معترفين بأنّ النضال سواء كان عنيفا أو غير عنيف ، النقطة الأساسيّة هي أنّه لا يجب محاولة إفتكاك السلطة السياسيّة و بدلا من ذلك يجب تغيير العالم تغييرا تدريجيّا و خطوة خطوة .
لقد رفع الماويّون شعار " دون سلطة دولة ، كلّ شيء وهم ". و تؤدّى مثاليّة نغرى و هاردت بهما إلى قلب الواقع رأسا على عقب . فيحاججان في الأساس بأنّه لا يجب إستبعاد لا الإصلاح الصغير و لا ضخّ حلم طوباوي و لا ديماغوجيا الحكّام ، كلّ شيء يجب أخذه بقيمته الظاهرة . في نظرتهما إلى العالم المقلوبة رأسا على عقب ، ما من وهم سوى سلطة دولة الطبقات الحاكمة التي ستتحلّل مع نضال الحشد من أجل " الديمقراطيّة الحقيقيّة " . أمّا في ما يتعلّق بسلطة دولة البروليتاريا ، بالنسبة إلى نغرى و هاردت من الأفضل عدم محاولة إيجادها حتّى . في هذا المقال لن نتوغّل في النقاش الحيوي لتجربة الثورة السياسيّة البروليتاريّة في القرن العشرين و إنّما سنعيد تأكيد أنّه بالرغم من أخطاء هذه التجربة و نقائصها التي كان بعضها جدّيا أو حتّى تراجيديّا ، كانت تلك أخطاء و نواقص في سيرورة عظيمة و جهود بطوليّة لإشناء عالم بلا إستغلال و إضطهاد . أخطاء البروليتاريا في ممارسة السلطة السياسيّة شاحبة مقارنة بالخطأ الأكبر بكثير الذى سينجم عن إتّباع نغرى و هاردت و تنكّرهما للقتال من أجل السلطة السياسيّة .
أجل ، المجتمع الإنساني يزخر بالوعود . و قدرة الجماهير على الإنتاج ، على الخلق ، على التحكّم الواعي في المجتمع بإستمرار تعيد تأكيد نفسها في آلاف الحقول . لكن النزاع بين قدرة الإنسانيّة و الشكل الراهن للتنظيم المعتمد على الإستغلال الرأسمالي ، يغدو أحدّ . و تناقضات و تطوّرات المجتمع المعاصر تدفعه بإتّجاه مستقبل شيوعي بيد أنّ هذا التغيير ليس حتميّا و لا آليّا و لن يحدث أبدا دون ثورة . حرّاس العالم القديم الذى فات أوانه و المستفيدين من إستغلال الإنسان ، يسيطرون على مؤسّسات حقيقيّة جدّا – حكومات و جيوش و سجون ، ضمن عديد الأشياء الأخرى – تحمى الإستغلال الرأسمالي و تفرضه . و الدعوة إلى " الشيوعية " في حين تتمّ المحاججة ضد نضال مصمّم لتحطيم هذه المؤسّسات الرجعيّة القائمة أسوأ من وهم ، إنّها خدعة .
الشيوعيّة ممكنة و ضروريّة و بالفعل بلوغها من خلال ثورة بروليتارية عالمية مهمّة ملحّة للمجتمع الإنساني . المستقبل وضّاء لكن فقط إن إمسكنا به بيدينا ./ .
الهوامش :
1- ربّما يفسّر هذا جزئيّا بإحترام تونى نغرى على أنّه كان ضحيّة قمع سياسي في إيطاليا ( ناجم عن دوره في الحركة اليساريّة خارج البرلمان في أواخر ستّينات القرن الماضي و سبعيناته ).
2- " الإمبراطوريّة " ، ص 9.
3- " الإمبراطوريّة " ، ص 146.
4- " الإمبراطوريّة " ، ص 354.
5- " الإمبراطوريّة " ، ص347 ( التشديد مضاف ).
6- توم مرتاس ، ص 147 ضمن مجموعة مقالات " نقاش الإمبراطوريّة " .
7- أنظروا بالخصوص كتاب لينين ، " الإمبريالية أعلى مراحل الرأسماليّة ".
8- " الإمبراطوريّة " ، ص 166.
9- " الإمبراطوريّة " ، ص 174. قاد رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة ، وودرو ولسن ، الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى و دعا إلى تركيز عصبة الأمم إثرها . و قاتل رئيس الولايات المتحدة تيودور روزفالت إسبانيا من أجل وضع اليد على كوبا و الفليبين في 1898 وهو عامة مرتبط ب " دبلوماسيّة السفينة المدفعيّة " الأمريكيّة في أمريكا اللاتينيّة .
10- ماركس و إنجلز ، " الإيديولوجيا الألمانيّة " ، الجزء الأوّل ، لورنس و ويشارت 1970، ص 67 ؛ بالعربية صفحة 59 ، طبعة دار دمشق ، ضمن سلسلة مصادر الإشتراكية العلميّة .
11- " الإمبراطوريّة " ، ص 179.
12- " الإمبراطوريّة " ، ص 384.
13- " الإمبراطوريّة " ، ص 5.
14- " الإمبراطوريّة " ، ص 167.
15- " الحشد " ، ص 5.
16- " الحشد " ، ص 59-60 .
17- " الحشد " ، ص 60.
18- " الحشد " ، ص 385 ( التشديد مضاف ).
نقطة لن نفعل سوى ملاحظتها على عجل هنا هي أنّ نغرى و هاردت يرفضان كذلك ما يسمّيانه " الجدليّة " التي عادة ما يلحقونها بهيغل . لكن الماديّة الجدليّة أساس الفهم الماركسي كذلك و التناقضات التي يقع محوها بجرّة قلم بين القاعدة و البنية الفوقيّة و بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج مركزيّة في هذا الفهم .
19- سنرى لاحقا في هذا المقال أنّ نغرى و هاردت يعارضان صراحة " إفتكاك السلطة " من قبل الجماهير بالتنكّر للتناقض بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج و يطوّران تبريرهما النظري لهذا الإستنتاج اللاثوري .
20- " الإيديولوجيا الألمانية " ، ص 55 بالأنجليزيّة ؛ و بالعربية صفحة 47 ، طبعة دار دمشق ، ضمن سلسلة مصادر الإشتراكية العلميّة .
21- سنبيّن لاحقا أنّ نظرة نغرى و هاردت للمجتمع الشيوعي ليست بتاتا نفس نظرة ماركس و إنجلز وهي حقّا نسخة فوضويّة من الديمقراطيّة البرجوازيّة .
22- أنظروا كتاب ريموند لوتا ، " إنهيار أمريكا " ، بانربراس ، شيكاغو ، 1984. و يقدّم لوتا عرضا جليّا لكيف أنّ قوانين الرأسماليّة تواصل عملها في عصر الإمبريالية و يبيّن مركزيّة الفوضى في الإنتاج الرأسمالي و كيف ليس بوسع رأس المال أن يوجد إلاّ كعدّة رساميل و هذا يدفع كامل سيرورة مراكمة رأس المال إلى الأمام .
23- " الإمبراطوريّة " ، ص 234.
24- " الإمبراطوريّة " ، ص 269.
25- " ضد دوهرينغ " III ، قارئ ماركس و إنجلز ، ص630 بالأنجليزيّة أمّا بالعربيّة فصفحة 321 من طبعة دار التقدّم، موسكو ، 1984.
26- بالفعل ، يلعب نغرى و هاردت ، شأنهما في ذلك شأن الكثيرين في الحركة الشيوعيّة ، لعبة المدّ و السحب بكلمة " أزمة " على نحو يفقدها معناها الخاص و يحيل بدلا عن ذلك إلى الوضع الدائم للرأسماليّة المعاصرة . و تنبع الأزمة من وهي تعبير حاد خاص عن التناقض الأساسي للرأسماليّة بين التملّك الخاص و الإنتاج الاجتماعي الطابع ، لكنّها ليست تساوى هذا التناقض . و حتّى في فترة " عدم أزمة " ( أي توسّع رأسمالي حيوي ) ظلم و لاعقلانيّة نمط الإنتاج الرأسمالي ساطعان .
27- عند تحليل الأزمة الإمبرياليّة ، نغرى و هاردت هما اللذان ينزلقان إلى " العوامل الإقتصاديّة الصرفة " . إنّهما يحلّلان الأزمة الرأسماليّة على أنّها إنطلقت في سبعينات القرن العشرين دون أيّة مراجع تحيل على واقع أنّ الإتحاد السوفياتي قد صار قوّة إمبرياليّة عظمى ، و وقتها ، صار يمثّل تحدّيا عالميّا أمام الإمبريالية الأمريكية .
28- " الإمبراطوريّة " ، ص 272 .
29- " الإمبراطوريّة " ، ص 272 .
30- لأجل فهم هذا فهما أفضل ليس علينا سوى النظر إلى هذه البلدان التي كانت إشتراكيّة إسما و رأسماليّة فعلا – الإتحاد السوفياتي في ظلّ حكم خروتشوف و بريجناف ، أو الإنقلاب على الإشتراكية في الصين بعد وفاة ماو تسى تونغ . في كلا هتين الحالتين المختلفتين ، ظهرت إلى السطح المنافسة بين المصالح الرأسماليّة . و بالرغم من أنّ مجمل البرجوازيّة الجديدة كانت تتقاسم حاجة مشتركة هي إستغلال عمل البروليتاريا ، لم تستطع و لم تفعل ذلك بشكل متناغم . و ليس الأمر كما لو أنّ " بيروقراطية " واحدة لا إختلافات صلبها يمكن أن تستغلّ بسلاسة بقيّة المجتمع . إنّ إعادة تركيز الرأسماليّة تعنى كذلك إعادة تركيز التنافس الشديد و التفكّك و الأزمة . بعض قطاعات الطبقة الحاكمة الجديدة تزدهر على حساب قطاعات أخرى . و عندما وقع التخلّص النهائيّ من آخر جزء من القناع الإشتراكي و عندما وقع تفكيك الإتّحاد السوفياتي ، لم يكن ممكنا بالنسبة للبرجوازية الجديدة أن تحكم بهويّة رأسماليّة واحدة ، بل إنقسمت إلى جماعات متنافسة من الرأسماليين القانونيين و غير القانونيين ( المافيا ) . و ما كان ممكنا أن يتمّ الأمر بشكل آخر .
31- " الإمبراطوريّة " ، ص 248 .
32- " الإمبراطوريّة " ، ص 251 .
33- بوب أفاكيان ، في نقاشه في بدايات ثمانينات القرن العشرين لفهم ماو " للتناقض الرئيسي " ، حاجج أنّه من غير الصحيح رؤية الإمبريالية كعلاقة خارجيّة في البلدان المضطهدَة بما أنّها صارت " داخليّة " بالنسبة لهذه البلدان . أنظروا بوب أفاكيان ، " حول التناقض الرئيسي و المزيد حول التناقض الرئيسي " ، http://www.revcom.us.
34- " الإمبراطوريّة " ، ص 254 .
35- " الإمبراطوريّة " ، ص 335 .
36- " الإمبراطوريّة " ، ص 336 .
37- لاحقا سنرى أنّ نغرى و هاردت يتمنّيان إدّعاء أنّ راية الديمقراطيّة رايتهما ، لكن حينما يتعلّق الأمر بتحرّر الأمم المضطهَدَة يُنكران حتّى المطالب الديمقراطية الأكثر أساسيّة . و في مقتطف أسبق ، يبدو أنّ المؤلّفان يدحضان أنفسهما بالمحاججة بأنّ هذا يشمل مجرّد مسألة " تطوّر " : الهند أو نيجيريا ليستا في موقع فرنسا أو أنجلترا القرن التاسع عشر ، " في أوضاع مختلفة جذريّا و حتّى متباينة – أوضاع هيمنة و تبعيّة " و " إقتصاديّات ما يسمّى بالبلدان النامية تحدّد ليس فقط بقدر معيّن من العوامل أو بهياكلها الداخليّة بل كذلك و أهمّ من ذلك بموقعها المهيمن في النظام العالمي " . ( الصفحة 282 ، التشديد في النصّ الأصلي ).
38- " الإمبراطوريّة " ، ص 284 ، عند تفحّص نظريّات " التخلّف " في سبعينات القرن العشرين .
39- بيّن ماركس بحيويّة كبيرة كيف أنّ " الفجر الوردي للرأسماليّة " إرتبط تماما بتجارة العبيد و نهب السكّان الأصليين لأمريكا و التحطيم الاقتصادي لجانب كبير من آسيا .
40- لسنغافورا مثلا مستوى حياة مساوي للولايات المتحدة و أوروبا . لكنّها ليست داخليّا دولة – أمّة ذات إقتصاد منسجم و متطوّر . لقد تطوّرت في علاقة تبعيّة للقوى الإمبرياليّة وهي تستفيد من التخلّف في المنطقة .
41- هذا النوع من الفهم كان واسع الإنتشار في صفوف الحركة الشيوعيّة العالميّة . وهو بصفة خاصّة مرتبط بلين بياو و كتابه ، " عاش إنتصار حرب الشعب " الذى يصف فيه سيرورة الثورة العالمية على أنّها محاصرة " مدن " أوروبا و شمال أمريكا و اليابان إنطلاقا من " ريف " آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينيّة .
42- إثر الحرب العالميّة الثانية ، شدّد ستالين على وجود الكتلتين المتعارضتين ، كتلة إشتراكية و كتلة إمبريالية ، و سيرورة الثورة العالميّة كان يُنظر إليها على أنّها أساسا إنتصار كتلة على الكتلة الأخرى . و عندما إستولى التحريفيّون المعاصرون على السلطة في الإتّحاد السوفياتي إستخدموا هذه الأطروحة كورقة تين لإخفاء تطلّعاتهم الإمبريالية – الإشتراكية – لم تعد الثورة ضروريّة و صار " طريق التطوّر غير الرأسمالي " ممكنا لبلد يرتبط بالإتحاد السوفياتي .
43- لسوء الحظّ تبيّن هزيمة الموجة الأولى من الثورات البروليتارية منتهية بالإطاحة بالإشتراكية في الصين عقب وفاة ماو أنّه ليس " حتميّا " ابدا أنّه عند أيّة نقطة في تاريخ العالم يستطيع النظام الإشتراكي السيطرة على العالم الإمبريالي .
44- أنظروا مجلّة " عالم نربحه " عدد 25/1999 . و المسيرة الذاتيّة المختصرة لفليب ، " بلبوت : تشريح كابوس " ، ( هنرى هولد و آخرون ، نيويورك 2004) ، فهو يقدّم أيضا رؤى ثاقبة قيّمة بهذا المضمار .
45- هذا سبب آخر للماذا من غير الثوري أن نعد الجماهير في البلدان المتقدّمة برفع مباشر لمستوى عيشها في حال حدوث ثورة برولتاريّة . فإضافة إلى الإستبعاد البديهي لإفتكاك قوى الإنتاج وهي سليمة كلّيا ، إن أمسى رفع مباشر لمستوى العيش معيار بواسطته يقيس النظام الجديد نجاحه ، سيدفع إلى إعادة تركيز علاقات الهيمنة على بلدان أخرى .
46- أنظروا نقاش الدول الإشتراكيّة ك " قواعد إرتكاز " في أعمال بوب أفاكيان ، " كسب العالم ..." و " التقدّم بالثورة البروليتاريّة العالميّة... " ، http://www.revcom.us.
47- " الإمبراطوريّة " ، ص 106( التشديد في النصّ الأصلي ).
48- " الإمبراطوريّة " ، ص 108.
49- يحيل هذا على ثورة فيفري 1917 التي أحلّت جمهوريّة برجوازيّة محلّ النظام القيصري و قد أطاحت بها الثورة البلشفيّة في أكتوبر 1917.
50- " الإمبراطوريّة " ، ص 133-134 ( التشديد في النصّ الأصلي ).
51- حاجج ماو و الثوريّون المتجمّعون حوله أنّ أتباع الطريق الراسمالي في الصين لم يكونوا يشاطرونهم حقّا هدف المجتمع الإشتراكي فالشيوعي و في الواقع ، كانوا ديمقراطيين برجوازيين يبحثون عن تحرير البلاد دون إجتثاث النظام الرأسمالي و لم يقطعوا قط مع هذه الإيديولوجيا البرجوازية . و موضوعيّا ، كان برنامج دنك سياو بينغ و نظرته منحصرين في إنجاز المرحلة الأولى الديمقراطية من الثورة ، التي رآها ماو كخطوة أولى لا غير . و يمكن قول الشيء ذاته عن الآخرين الذين أعلنوا أنّهم شيوعيّون ، من مثل قائد الثورة الفتناميّة ، هو شي منه . إنّ ظاهرة " تحوّل الديمقراطيين – البرجوازيين إلى أتباع للطريق الرأسمالي " ظاهرة موضوعيّة تعكس المرحلتين المختلفتين من الثورة و القطيعة الراديكاليّة مع الإيديولوجيا البرجوازيّة التي تمثّلها الثورة الشيوعية . و في حين ما من أحد بوسعه أن يقول مسبّقا ما هو الدور الذى يمكن لقائد معيّن أن ينهض به في المستقبل ، واقع ظهور قادة سيبحثون عن تحديد الثورة في مرحلتها الديمقراطيّة البرجوازيّة أمر لا مفرّ منه .
52- " الإمبراطوريّة " ، ص 248.
53- " حول البرنامج العام لعمل كافة الحزب و كافة الأمّة " و في كتاب " و خامسهم ماو " ، الذى نشره ريموند لوتا ، بانربراس ، شيكاغو ، 1978.
54- " الحشد " ، ص 116.
55- " الحشد " ، ص 117.
56- " الحشد " ، ص 124.
57-" الحشد " ، ص 124.
58- مدعاة للسخرية أنّ أسرع نموّ للرأسماليّة في العقود الأخيرة جدّ في الصين عقب إعادة تركيز الرأسماليّة إثر وفاة ماو و الإنقلاب الذى حدث ضد أتباعه . و يثبت هذا أنّ الثورة الصينيّة و بالخصوص إجتثاثها للنظام شبه الإقطاعي في الفلاحة ، قد أزاحت من الطريق عوائقا فعليّة كانت تحول دون التطوّر السريع للرأسماليّة . و كذلك يشرح لماذا أناس مثل دنك سياو بينغ الذين أطاحوا بالإشتراكية في الصين عملوا على الإتّحاد مع ماو و الشيوعيين الحقيقيين في المرحلة الديمقراطية السابقة من الثورة .
59- يعدّ الماركسيّون " رأسمالا متغيّرا " الجزء من رأس المال الذى يقع إستثماره في أجور العمّال و شراء قوّة العمل ، أي ، قدرة العامل على إنتاج السلع المقاسة زمنيّا.
60- " الإمبراطوريّة " ، ص 294.
61- " الإمبراطوريّة " ، ص 302.
62- " الحشد " ، ص 146.
63- " الحشد " ، ص 150.
64- من المهمّ عدم فهم هذا بالمعنى الضيّق . فقد شدّد ماركس على أنّ " وقت العمل الضروري إجتماعيّا " يشمل كذلك " العمل المركّب " أي عمل المنتجين الآخرين الذى يدخل في رفع قيمة مُنتَج معيّن . و بالتالى ، قيمة عمل الآخرين الذين يمكّنونه من التدرّب و ممارسة هذا الشغل ، مثلا ، الخدم في المنازل لدى كاتب شفرة برنامج حاسوب في بنغالور ، الهند أو مراكز الرعاية اليوميّة في سان خوسى ، كاليفورنيا .
65- " الإمبراطوريّة " ، ص 209.
66- " الإمبراطوريّة " ، ص 114.
67- " الإمبراطوريّة " ، ص 263.
68- " الإمبراطوريّة " ، ص 264.
69- يُقدّر أنّ نصف كافة الوجبات المستهلكة في لوس أنجلاس و لندن لا يجرى إعدادها في المنازل . و نسبة مائويّة مرتفعة من هذه الوجبات تشترى في سلسلة " الغذاء السريع ".
70- " الإمبراطوريّة " ، ص 210.
71- " الحشد " ، ص 145.
72- يدافع الماركسيّون عن أنّ قيمة قوّة العمل تساوى " وقت العمل الضروري إجتماعيّا " المضمّن في إنتاج العامل و الذى يسمح للعامل بإعالة جيل آخر. إن إستطاع الرأسمالي أن يستفيد من الظروف الخاصة ، مثل مسبح كبير من " فائض " العمل ، سيكون مستعدّا لدفع أجور أدنى حتّى إن كان هذا يعنى أنّ العامل لا يقدر على ضمان البقاء على قيد الحياة و ضمان معيشة أسرته .
73- " الحشد " ، ص 131.
74- " الإمبراطوريّة " ، ص 158.
75- أنظروا كتاب فوستار ، " تاريخ الحزب الشيوعي للولايات المتحدة الأمريكيّة " .
76- الطابع الرجعي لهذه الإجراءات المشجّعة على الإنجاب ( في فرنسا و إيطاليا مثلا ) يمكن النظر إليها بحدّة أكبر لمّا يدرك المرء أنّها تحصل في نفس الوقت الذى تتّخذ فيه عدّة بلدان إمبرياليّة إجراءات صارمة لإيقاف موجات الهجرة الواردة من ما يسمّى بالعالم الثالث .
77- سينتج تفكّك إقتصادي شديد إذا لم يقع الإلتزام بمتطلّبات قانون القيمة الرأسمالي . و على سبيل المثال ، حاول بلد حقّا توفير " أجر مضمون إجتماعيّا " كريم فوجد عملته تنهار . إنّ وجود قوانين الرأسماليّة يعطى قوّة لحجج " الواقعيّة " التي يطلقها المتحدّثون باسم الطبقة الحاكمة سواء من اليمين أو اليسار .
78- ماركس ، " الأجور و السعار و الربح " ، دار التقدّم ، موسكو 1976 ، ص 55 بالأنجليزيّة .
79- " الحشد " ، ص 310.
80- " الحشد " ، ص 276 و 296.
81- " الإمبراطوريّة " ، ص 299 ، و يسعيان أيضا إلى تصوير الأنترنت على أنّها مثال لمثل هذه الشبكة التي لا مركز لها. لكن في الواقع ، العامود الفقري للأنترنت تتحكّم فيه حكومة الولايات المتحدة( بإتّفاق صريح مع " المجتمع الدولي").
82- أنظروا لينين ، " الدولة و الثورة " .
83- " الحشد " ، ص 241 . و لاحظوا عنوان فصلهما " العلم الجديد للديمقراطية : ماديسن و لينين " .
84- لقد أجرى بوب أفاكيان دراسة شاملة و رياديّة للعلاقة بين الديمقرؤاطيّة و الثورة الشيوعية . أنظروا بخاصة كتاب بوب أفاكيان ، " الديمقراطيّة : أليس بوسعنا إنجاز أفضل من ذلك ؟ " بانربراس ، شيكاغو ، 1986؛ " الديمقراطية : أكثر من أي زمن مضى بوسعنا و يجب علينا إنجاز أفضل من ذلك " ، مجلّة " عالم نربحه " عدد 17/ 1992 ؛ و خطابه " الدكتاتوريّة و الديمقراطيّة و الإنتقال الإشتراكي إلى الشيوعيّة " ، http://www.revcom.us.
85- " الحشد " ، ص 311.
86- " الحشد " ، ص 311 ، باروش سبينوزا كان مفكّرا هاما في بدايات التنوير في هولندا . و كان من المفهوم تماما ، حتّى وهو ثوريّ في القرن السابع عشر ، أن يرى الديمقراطية كوضع إنساني طبيعي . و شيء آخر كلّيا أن يتكرّر هذا النزاع الآن و الإنسانيّة تستعدّ لتجاوز النظام الاقتصادي – الاجتماعي القائم على تبادل السلع .
87- موضوع عديد المقالات ضمن مجموعة مقالات ، " نقاش الإمبراطوريّة " ، المنشور من طرف غوبال بلاكرشنام ، و المثال الأكثر فضحا هو مقال تموتى برينان " الإيديولوجيا الإيطاليّة ".
88- " الحشد " ، ص 85.