لا يزال - بيان الحزب الشيوعي - صحيحا و خطيرا و أمل الذين لا أمل لهم الفصل الأوّل من الكتاب 29 - دفاعا عن الشيوعية الثوريّة و تطويرها - ضد مايكل هاردت ، أنطونيو نغرى، ألان باديو، سلافوج تزتزاك و برنار دى مالو


شادي الشماوي
2018 / 2 / 15 - 23:33     

دفاعا عن الشيوعية الثوريّة و تطويرها

ضد مايكل هاردت ، أنطونيو نغرى، ألان باديو، سلافوج تزتزاك و برنار دى مالو

-------------------------------

( ملاحظة : الكتاب متوفّر للتنزيل بنسخة بى دي أف من مكتبة الحوار المتمدّن)
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
المقدمّة :
في العالم الراهن و في أيّامنا هذه ، أكثر من أيّ زمن مضى ، ينبغي على الماركسيّين الحقيقيين و الماركسيّات الحقيقيّات أن لا يكونوا إشتراكيين و إشتراكيّات و إنّما شيوعيين و شيوعيّات فهدف الماركسيّة و غايتها الأسمى ليست إلاّ الشيوعيّة على النطاق العالمي . هدف الشيوعيين و الشيوعيات الحقيقيين و ليس المزيّفين ، متبنّي الشيوعية كعلم الساعين جهدهم لإستخدام هذا العلم لبلوغ الهدف الأسمى : تحقيق المجتمع الشيوعي العالمي الخالى من الطبقات و تحرير الإنسانيّة قاطبة من جميع أصناف الإستغلال و الإضطهاد القومي و الطبقي و الجندري على كوكب الأرض برمّته ؛ و ليس الإشتراكية مفهومة كغاية أسمى بالنسبة لأنواع من الإشتراكيين الديمقراطيين و محرّفى الشيوعيّة فيما هي لا تعدو أن تكون في الواقع رأسماليّة بمساحيق مزوّقة ببعض الإجراءات الإجتماعيّة .
الإشتراكيّة من وجهة النظر الماركسيّة مغايرة لذلك الفهم الإشتراكي الديمقراطي أو التحريفي ؛ إنّما ، وهي وليدة الثورة الإشتراكيّة ، هي مكوّنة من أضلع ثلاث متكاملة كالمثلّث أو الهرم و قاعدتها أنّها أوّلا و قبل كلّ شيء مرحلة إنتقاليّة بين الرأسماليّة و الشيوعيّة كما حدّدها ماركس و شدّد على إبراز ذلك التحديد لينين في " الدولة و الثورة " . و الإشتراكية ثانيا نمط إنتاج له ميزاته و يسعى إلى خدمة مصالح البروليتاريا و أوسع الجماهير الشعبيّة و تجاوز بقايا الرأسماليّة و إرساء أسس المجتمع الشيوعي في البنية الفوقيّة و البنية التحتيّة للمرور إلى تكريس من " كلّ حسب عمله " المميّز للمرحلة الإشتراكية إلى " كلّ حسب حاجياته " كشعار معبّر عن فحوى المجتمع الشيوعي و يسعى طبعا إلى مدّ يد المساعدة للثورة البروليتاريّة العالمية. و الإشتراكية فضلا عن ذلك دولة دكتاتوريّة البروليتاريا أي دولة تحت قيادة البروليتاريا و حزبها الشيوعي الثوري بالتحالف مع الطبقات و الفئات الشعبيّة وهي تمارس الديمقراطية البروليتاريّة أي الديمقراطية فى صفوف الشعب و الدكتاتوريّة ضد أعداء الشعب و الثورة الشيوعية .
ماركسيّا ، الإشتراكيّة إذن مجتمع طبقي إنتقالي بين الرأسماليّة و الشيوعيّة و الشيوعيون و الشيوعيّات الحقيقيّين ليس هدفهم الأسمى الإشتراكية كمجتمع طبقي و إنّما هو تجاوز حتّى هذه الإشتراكية وليدة الثورة الإشتراكية الضرورية و المرغوب فيها ، نحو الشيوعية على الصعيد العالمي . على طول المرحلة الإشراكية الإنتقاليّة ، تظلّ هناك طبقات و يظلّ هناك صراع طبقي يتّخذ شكل صراع بين الطريق الرأسمالي من جهة ( و له قاعدته الماديّة و الفكريّة في المجتمع الإشتراكي ليس هنا مجال الخوض فيها ، و من يرنو لدراسة المسألة فعليه / عليها بكتاب بوب أفاكيان" المساهمات الخالدة لماو تسى تونغ " ، لا سيما الفصل المتعلّق بنظريّة و ممارسة مواصلة الثورة في ظلّ دكتاتوريّة البروليتاريا ، وهو متوفّر بالعربيّة بمكتبة موقع الحوار المتمدّن ، ترجمة شادي الشماوي ) و الطريق الإشتراكي الساعى إلى تخطّى بقايا الرأسماليّة و ما يفرزه المجتمع الإنتقالي في قاعدته الماديّة و الفكرية و محاصرة " الحق البرجوازي " في التوزيع إلى أبعد حدّ ممكن في كلّ مرّة ، و إلى بناء نمط إنتاج بملكيّة و علاقات إنتاج و علاقات توزيع تعالج تدريجيّا لكن بلا هوادة أهمّ التناقضات المولّدة للطبقات و المجتمع الطبقي و نقصد تلك بين العمّال و الفلاّحين و بين الأرياف و المدن و بين العمل الفكري و العمل اليدوي و بين النساء و الرجال .
و بالتالى ، تحتمل الإشتراكية بما هي مرحلة إنتقاليّة مديدة كما تبيّن ذلك التجربة التاريخيّة للثورة البروليتاريّة العالميّة و المجتمعات الإشتراكية لا سيما في الإتّحاد السوفياتي بين 1917 و 1956 و في الصين بين 1949 و 1976 و كما لخّص ذلك ماو تسى تونغ ، إمكانيّتين : التقدّم نحو الشيوعيّة و نقيضها إعادة تركيز الرأسماليّة . لهذا و لما تقدّم أعلاه ولأنّ الإشتراكية دولة طبقيّة و مرحلة إنتقاليّة في حين أنّ الشيوعيّة الهدف الأسمى مجتمع تكون فيه الطبقات و الدول قد إضمحلّت و يطبّق فيه " كلّ حسب حاجياته " تماما و على نطاق عالمي ، ينبغي على الشيوعيين و الشيوعيات الحقيقيين أن لا يكونوا إشتراكيين و إشتراكيات و إنّما ينبغي عليهم أن يكونوا شيوعيين و شيوعيات .
منذ تأسيس علم الشيوعيّة ، في " بيان الحزب الشيوعي " ، نقد مؤسّسو هذا العلم نقدا لاذعا ضروبا مختلفة من " الإشتراكيّة الرجعيّة " ؛ من " الإشتراكيّة الإقطاعيّة " إلى " الإشتراكيّة المحافظة أو البرجوازيّة " مرورا ب " الإشتراكيّة البرجوازيّة الصغيرة ". و أعلنا بلا مراء و لا لفّ و دوران : " إنّ الثورة الشيوعيّة تقطع من الأساس كلّ رابطة مع علاقات الملكيّة التقليديّة ، فلا عجب إذن إن هي قطعت بحزم أيضا ، أثناء تطوّرها ، كلّ رابطة مع الأفكار و الآراء التقليديّة ." و لاحقا ، طوّر ماركس ما أضحى الماويّون منذ عقود عدّة يطلقون عليه " الكلّ الأربعة " كتجسيد واضح و جلي لما تعنيه الثورة الشيوعية :
" هذه الإشتراكية إعلان للثورة المستمرّة ، الدكتاتورية الطبقية للبروليتاريا كنقطة ضروريّة للقضاء على كلّ الإختلافات الطبقيّة ، و للقضاء على كلّ علاقات الإنتاج التى تقوم عليها و للقضاء على كلّ العلاقات الإجتماعيّة التى تتناسب مع علاقات الإنتاج هذه ، و للقضاء على كلّ الأفكار الناجمة عن علاقات الإنتاج هذه ".
( كارل ماركس : " صراع الطبقات فى فرنسا من 1848 إلى 1850" ، ذكر فى الأعمال المختارة لماركس و إنجلز ، المجلّد 2 ، الصفحة 282 ).
و من اليسير على من لا ينظر من ثقب إبرة ، من اليسير على العين الفاحصة الناقدة و التي تتحلّى بالصرامة العلمية في البحث لتشعل شمعا للحقيقة و تفضح ما تظلّله شجرة الكذب أن ترصد أنّه على الصعيد العربي ، عقب خسارة الصين الماويّة كقلعة للثورة البروليتارية العالمية منذ أواسط سبعينات القرن الماضي و خضوعا لضغط الهجوم الإمبريالي - الرجعي على الشيوعية خاصة منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين و تذبذب البرجوازية الصغيرة و تراجع تألّق و توهّج النضالات الثوريّة بقيادة شيوعية و تنامى القوى الفاشيّة ذات المرجعيّة الأصوليّة الدينيّة ، بات الكثير من الشيوعيين سابقا أو الشيوعيين قولا فحسب يحدّدون هويّتهم و غايتهم الأسمى على أنّها الإشتراكية و يحدّدون مرجعيتّهم على أنّها الإشتراكية العلمية أو البلشفيّة . و نظرا لكون مجال هذه المقدّمة لا يسمح بالتوغّل في نقاش تفاصيل و مراجع كلاسيكيّة و غير كلاسيكيّة ، نحيل القرّاء على جدالات شيّقة لناظم الماوي بهذا الصدد على صفحات الحوار المتمدّن و بمكتبته ، لا سيما منها تلك التي وردت في كتابه " نقد ماركسية سلامة كيلة إنطلاقا من شيوعية اليوم، الخلاصة الجديدة للشيوعية " و تحديدا في النقطة السادسة من الفصل الأوّل و عنوانها " خطّان متعارضان في فهم الإشتراكيّة " .
و في نفس السياق ، ينبغي على الشيوعيّين الحقيقيّين و الشيوعيّات الحقيقيّات ألاّ يكونوا ديمقراطيين برجوازيين فيصيروا من خدم الرجعيّة ، إصلاحيين يساعفون في تأبيد الوضع السائد فالديمقراطية البرجوازية في أفضل تجلّياتها في البلدان الإمبريالية أفضت تاريخيّا إلى الفظائع التي إرتكبتها القوى الإمبريالية في بلدانها و عالميّا و لا نظنّ أنّنا في حاجة إلى أمثلة و قرائن لإثبات ذلك فهي متوفّرة للعيان يوميّا ، لا بل كلّ ساعة من كلّ يوم عبر العالم قاطبة . هكذا كانت و لا تزال الديمقراطية البرجوازية في البلدان الإمبريالية فما بالك بها في المستعمرات و المستعمرات الجديدة و أشباه المستعمرات حيث تتّخذ شكل ما يسمّيه البعض ديمقراطية الإستعمار الجديد . و يكفى الإلتفات يمنة و يسرة للتأكّد من تبعاتها على الجماهير الشعبيّة ، هذا طبعا إن لم نكن كالأعمى بعيون أمريكيّة أو عيون برجوازيّة كمبرادوريّة أو حتّى عيون برجوازيّة صغيرة. و عليه من أوكد واجباتنا الشيوعيّة أن نضع حدّا للهراء الخيالي عن " الديمقراطيّة الخالصة " و الشكلانيّة البرجوازيّة.
و لا ينبغي على الشيوعيّين و الشيوعيات الحقيقيين أن يكونوا ديمقراطيين و لا حتّى ديمقراطيين بروليتاريين فالديمقراطية طبقيّة دائما وهي شكل للدولة الطبقيّة التي يرمى المشروع الشيوعي إلى تجاوزها ببلوغ المجتمع الشيوعي الخالى من الطبقات حيث تضمحلّ الدولة كجهاز قمع طبقة أو طبقات لطبقة أو طبقات أخرى و قد أجلى لينين المسألة في مؤلّفه الذى تعرّض لتحريفات و تشويهات جمّة ، " الدولة و الثورة " . و مسألة الدولة مركزيّة في الصراع بين الماركسية الحقيقيّة و الماركسيّة الزائفة ( و غيرها من التيّارات الرجعيّة ) أو التحريفيّة . الديمقراطيّة شأنها شأن الإشتراكية شكل إنتقالي للحكم الطبقي حتّى و إن كانت شعبية أو بروليتاريّة و هي بالتأكيد ليست الغاية الأسمى للشيوعيين و الشيوعيّات و لا يجب أن تحلّ محلّ غايتهم الأسمى ، المجتمع الشيوعي على الصعيد العالمي .
و لزاما على الشيوعيين و الشيوعيات الحقيقيين أن يتركوا الضفّة الإصلاحيّة و ثلّة المثقّفين المنبهرين و المفتونين ب " الديمقراطيّة الخالصة " و الذين ما إنفكّوا يكيلون المدائح المرسلة لها مضلّلين الجماهير الشعبيّة ، و يعبروا إلى الضفّة الأخرى ، ضفّة الشيوعيّة الثوريّة كي يورق و يزهر الشجر و يرسخ علم الشيوعية كسلاح يقود تمكين الشعوب و على رأسها البروليتاريا و حزبها الشيوعي الثوري من صنع التاريخ و كسر الحجر، حجر الإستغلال و الإضطهاد الجاثم على صدر الغالبيّة الغالبة للإنسانيّة و خانق أنفاسها . لا ينبغي أن يغيب الهدف الأسمى الشيوعي عن أنظار الشيوعيات و الشيوعيين و لا لحظة واحدة ، ينبغي أن يكون حاضرا في برنامجهم الأقصى و إستراتيجيّتهم و سياساتهم و أشكال نضالهم و تنظيمهم كما يجب أن تخدم التكتيكات المتوخّات في نهاية المطاف هذا الهدف الأسمى ؛ لا يجب أن يبتلع التكتيك الإستراتيجيا نهائيّا . هدفنا الأسمى الشيوعي هو البوصلة التي إن أضعناها أضعنا الطريق المؤدّية إلى تحرير الإنسانيّة و تدحرجنا عن وعي أو لا وعي إلى الإنخراط في مشاريع إصلاحيّة من هذا الطراز أو ذاك.
و في مقال سابق لنا نشر كمقدّمة لكتابنا الثاني أو للعدد الثاني من " الماويّة : نظريّة و ممارسة " المعنون ب" عالم آخر، أفضل ضروري و ممكن ، عالم شيوعي ... فلنناضل من أجله !!! "( مكتبة الحوار المتمدّن ) ، شرحنا بإقتضاب إعتمادا على أمثلة ملموسة ثمّ لخّصنا كيف أنّ :
" المشاريع القومية و السلفية لم تحدث و لا تحدث قطيعة جذرية مع النظام الإمبريالي العالمي بل هي بدائله ( الأصوليون السلفيون ) أو هي قوى تتحّول تحت الضغط الإمبريالي و تصاعد النضال الشعبي من قوى وطنية إلى قوى برجوازية كمبرادورية تصبح جزءا لا يتجزأ من دولة الإستعمار الجديد فى أشباه المستعمرات . و مرّة أخرى تسطع حقيقة شدّد عليها ماو تسى تونغ منذ 1939 هي أن " الثورة البرجوازية القديمة قد دخلت حقيبة التاريخ . " فقد قال في " حول الديمقراطيّة الجديدة " :
" هنالك نوعين من الثورة العالمية : النوع الأوّل ينتسب إلى الثورة العالمية من النمط البرجوازي أو الرأسمالي . و لقد إنقضى عهده منذ زمن طويل ، إذ إنتهى حين إندلعت الحرب الإمبريالية العالمية الأولى عام 1914 ، و على وجه الدقّة منذ ثورة أكتوبر الروسية 1917 و حينذاك بدأ النوع الثاني ، ألا وهو الثورة العالمية الإشتراكية البروليتارية " .
و بناء على ما تقدّم ، في طيّاته يحمل هذا الكتاب الجديد بمناسبة الذكرى 160( 1848- 2018 ) لصدور " بيان الحزب الشيوعي " عنوانا معبّرا هو " دفاعا عن الشيوعيّة ..." و ليس دفاعا عن الإشتراكيّة سواء كرأسماليّة مقنّعة أم كمرحلة إنتقاليّة بين الرأسماليّة و الشيوعيّة ( أو كإشتراكيّة علميّة في تناقض مع الإشتراكية الطوباويّة ) . و فضلا عن ذلك ، إنطلاقا من العنوان ، لا يتعلّق الأمر بالشيوعيّة كقناع يتقنّع به محرّفو علم الشيوعيّة ، التحريفيّون بشتّى مشاربهم ، في الوقت الذى يفرغونها من مضامينها و أساليبها الثوريّة ليحشوها حشوا بالفعل بأرهاط من الإصلاحيّة و الديمقراطية البرجوازية الإمبريالية أو الإستعماريّة و الشوفينيّة القوميّة.
الماركسيّة أو الشيوعيّة كعلم ثوريّة كما يتبيّن ذلك منذ " بيان الحزب الشيوعي " ذاته فهي مرّة أخرى " تقطع من الأساس كلّ رابطة مع علاقات الملكيّة التقليديّة ، فلا عجب إذن إن هي قطعت بحزم أيضا ، أثناء تطوّرها ، كلّ رابطة مع الأفكار و الآراء التقليديّة ."
و من هنا يفهم لماذا لم نكتف في العنوان بالدفاع فحسب عن الشيوعيّة التي تعرّضت لإفتراءات و تشويهات جمّة على يد الإمبرياليين و الرجعيين و التحريفيين عبر العالم قاطبة ، بل أضفنا إليها نعت الثوريّة . قبل سنوات و عند إلقاء نظرة على بعض صفحات شبكة التواصل الاجتماعي ، إستوقفتنا جملة خطّها على صورة حسابه الفيسبوكي ناشط على الفايسبوك آنذاك لا ننسى فضله في المساهمة في التعريف بمقالاتنا و كتبنا ، ألا وهي جملة " الماركسيّة ثوريّة أو لا تكون " ما يفيد قنصه لحقيقة عميقة غاية العمق ففعلا هي كذلك ؛ الشيوعيّة ثوريّة أو لا تكون ، ثوريّة أو تتحوّل إلى مسخ من الإيديولوجيا المشوّهة التي تنضاف إلى ترسانة الرجعيّة العالميّة في تأبيد النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي و تأبيد إضطهاد و إستغلال الطبقات الشعبيّة المشكّلة لغالبيّة الإنسانيّة و سحقها .
و لأنّ التحريفيّة نقيض للشيوعية الثوريّة وهي كإنحراف يميني بمعنى ما ملازمة للشيوعيّة كعلم ، يترتّب على الشيوعيين و الشيوعيات الحقيقيين مقاتلتها بلا هوادة و إلاّ سقطوا في أحابيلها و أمسوا عن وعي أو عن غير وعي من أعداء الشيوعيّة الثوريّة و خدما للإمبريالية و الرجعيّة بشكل من الأشكال . و يساوى عدم تولّى النهوض بواجب الدفاع عن الشيوعيّة الثوريّة و نقد التحريفيّة الإلتحاق آجلا أم عاجلا و أردنا ذلك أم أبينا ، بأعداء القيام بالثورة الشيوعيّة و تحرير الإنسانيّة و الهدف الأسمى الشيوعية على الصعيد العالمي .
و لم يقف العنوان عند الدفاع عن الشيوعيّة الثوريّة فحسب بل تعدّاه إلى الدفاع عن تطويرها . و هنا نسلّط الضوء على نقيض آخر ملازم أيضا للشيوعيّة كعلم ألا وهو الدغمائيّة أو الجمود العقائدي بما هي إنحراف يساري قد يتحوّل و قد تحوّل في أحيان كثيرة إلى تحريفية أو دغمائيّة تحريفيّة . فهي تنظر إلى الشيوعيّة على أنّها قالب جامد بينما علم الشيوعية ككلّ علم يتطوّر بنقد ذاته و بتطوّر ممارسته و تطبيقه و بالتفاعل مع المستجدّات في شتّى الحقول و بالإكتشافات في مختلف مجالات الإنسانيّة الأخرى . و لطالما صارع الماركسيّون – اللينينيّون – الماويّون في العقود الأخيرة الدغمائيّين من مدعى الشيوعيّة الذين جعلوا من ستالين أيقونة لا تقبل النقد و من تجربة البلاشفة نموذجا لا يطاله إعمال الفكر النقدي و بجرّة قلم ألغوا التجربة الإشتراكية في الصين الماويّة إلخ و كان على رأس هؤلاء الخوجيون بمختلف ألوانهم . و يحنّط الدغمائيّون التحريفيّون الخوجيّون تجربة البروليتاريا العالميّة في الإتّحاد السوفياتي فلا يجرون التقييم الضروري بالتحليل و التلخيص العلميين لإبراز المكاسب و الدفاع عنها دفاعا مبدئيّا و صلبا و مصمّما و كشف الأخطاء و نقدها و فهم منابعها و إنعكاساتها و طرح تجاوزها لإنجاز ما هو أفضل مستقبلا . و بهكذا سلوك يقف هؤلاء الدغمائيّين ضد لينين و ستالين ذاتهما و المنهج الجدلي و تطبيق التقييم العلمي كما يقفون صراحة ضد ما نادى به ماركس عندما صرّح بأنّ الثورات الإشتراكيّة " تنتقد ذاتها على الدوام ، و تقاطع نفسها بصورة متواصلة أثناء سيرها ، و تعود ثانية إلى ما بدا أنّها أنجزته لتبدأ فيه من جديد ، و تسخر من نواقص محاولاتها الأولى و نقاط ضعفها و تفاهاتها بإستقصاء لا رحمة فيه ، و يبدو أنّها تطرح عدوّها أرضا لا لشيء إلاّ ليتمكّن من أن يستمدّ قوّة جديدة من الأرض و ينهض ثانية أمامها وهو أشدّ عتوّا ، و تنكص المرّة تلو المرّة أمام ما تتصف به أهدافها من ضخامة غير واضحة المعالم ، و ذلك إلى أن ينشأ وضع جديد يجعل أي رجوع إلى الوراء مستحيلا و تصرخ الحياة نفسها قائلة بصرامة : هنا الوردة ، فلترقص هنا ! "
( كارل ماركس ، " الثامن عشر من برومير لويس بونابرت " )
و غالبا ما يرفع الدغمائيّون ( و التحريفيّون ) الأخطاء المقترفة لنقص في فهم و تطبيق المنهج المادي الجدلي أو في التجربة أو لظروف تاريخيّة ، إلى مبادئ مناهضة لأهمّ المكاسب التاريخيّة و القطيعة مع الأخطاء و الإضافات والتطويرات الحاسمة للشيوعيّة الثوريّة التي ليس بوسعها كعلم و ككلّ علم إلاّ أن تتطوّر و إلاّ سيتهدّدها الموت و ستعاجلها المنيّة . و في الواقع الموضوعي للصراع الطبقي ، شاهدنا تحوّل الكثير من هؤلا الدغمائيّين إيديولوجيّا من الإنحراف اليساري إلى الإنحراف اليميني أي إلى التحريفيّة و سياسيّا إلى الإصلاحيّة متبنّين بدلا من الشيوعيّة الثوريّة و عمليّا مكرّسين أشخاصا و منظّمات و أحزاب الديمقراطيّة البرجوازيّة و منافحين بشكل أو آخر عن الإمبرياليّة و الرجعيّة و تأبيد الوضع السائد الساحق للطبقات الشعبيّة و مثل هؤلاء مبثوثون في الأقطار العربيّة و عبر العالم بأسره و يمثّلون الخطّ السائد صلب الحركة الشيوعيّة العالميّة .
و لسوء الحظّ ، نخر مرض الدغمائيّة المناهضة لتطوير علم الثورة البروليتارية العالميّة ، الماركسية – اللينينية – الماويّة ، صفوف حتّى الماويين عالميّا إذ إنبرى منذ سنوات الآن قسم منهم ليوقف تطوّر هذا العلم عند التجربة الماويّة في الصين و يناهض إضافات الشيوعيين الثوريين عبر العالم منذ أواسط السبعينات ، عقب وفاة ماو و حدوث الإنقلاب التحريفي و إستيلاء البرجوازيّة الجديدة على مقاليد الحكم هناك بصعود التحريفيّة إلى السلطة و مضيّها في إعادة تركيز الرأسماليّة هناك . و الأدهى أنّهم لم ينجزوا التقييم العلمي المطلوب ، من منظور شيوعي ثوري ، لتلك التجربة و طفقوا يعلون راية حتّى ما تبيّن بحكم تطوّر الأحداث و الواقع أو بالتحليل العلمي و المبدئي أنّها أخطاء و رفعوها هم أيضا إلى مصاف المبادئ فألحقوا ضررا ما بعده ضرر بالشيوعية الثوريّة ذاتها .
و قد أفرز إنقسام الماويّة على إثنين بروز أشخاص و منظّمات و أحزاب تكتّلت حول الخلاصة الجديدة للشيوعيّة التي صارت معروفة كذلك بالشيوعيّة الجديدة و بوب أفاكيان رئيس الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتحدة الأمريكيّة مهندسها . و بإعتبار نشرنا سابقا لعديد الوثائق المتّصلة بهذه الشيوعية الجديدة و بالصراعات حولها ، نكتفى هنا بالدعوة بإلحاح للإنكباب على دراسة هذه الخلاصة الجديدة للشيوعيّة و الصراع حولها دراسة جدّية فنحن ندرك و نلمس فعلا حقيقة موضوعيّة هي أنّ الشيوعية في مفترق طرق و أنّ الرهان ليس أقلّ من مستقبل الشيوعيّة الثوريّة عالميّا .
و ما نخطّه هنا ليس البتّة مجرد كلام على كلام و قول يحاذى القول و إنّما هو قبل كلّ شيء سواه صدى لحقائق كشف النقاب عنها و أمسك بها كما يمسك بالجمر معلّمو البروليتاريا العالمية منذ عقود و من واجب الشيوعيين و الشيوعيّات إدراكها و إستيعابها و النضال إنطلاقا منها و على أساسها في سبيل تغيير العالم تغييرا شيوعيّا ثوريّا . و حسبنا هنا أن نذكّر بأنّ ماركس بعدُ في " الثامن عشر من برومير لويس بونابرت " قد أعلن أنّه على الثورات القادمة - القرن التاسع عشر قال ، و نحن الآن في القرن الواحد و العشرين ! - أن ترفع النظر و لا تخفضه ، أن ترفعه و تستلهم ليس من الماضي الذى يجب أن تقضي على كلّ " إحترام خرافي " له و إنّما من " المستقبل فحسب ". و في عصرنا هذا ، عصر الإمبرياليّة و الثورة الإشتراكية ، مفاد ذلك ليس تخلّى الشيوعيين و الشيوعيّات عن تراث الحركة الشيوعية العالمية الذى يمثّل المستقبل الذى مني بالهزيمة المؤقّتة في صراعه المرير و حربه المديدة مع الماضى كما ألمح إلى ذلك ماركس في إستشهاد من الإستشهادات أعلاه ، و هذا التراث البروليتاري الثوري ينبغي أن يدرس و أن تستخلص منه الدروس و العبر لإنجاز ما أفضل في قادم الثورات الشيوعية ؛ مفاده هو كما قال ماو تسى تونغ في ما مرّ بنا أنّ الثورات البرجوازيّة القديمة فات أوانها ( الديمقراطية الإشتراكية و الديمقراطيّة البرجوازيّة فات أوانهما فما بالك بالقوميّة و الأصوليّة ! ) و أنّ المستقبل تجسّده الثورة الديمقراطية الجديدة بقيادة البروليتاريا و حزبها الشيوعي الثوري في المستعمرات و المستعمرات الجدية و أشباه المستعمرات كتيّار من تيّاري الثورة البروليتاريّة العالمية و التيّار الآخر هو الثورات الإشتراكية في البلدان الرأسماليّة – الإمبرياليّة .
جاء على لسان ماركس منذ 1852 ، في مؤلَّفه الآنف الذكر ( الصفحة 155 من ، ماركس و إنجلس " مختارات في أربعة أجزاء "، الجزء الأوّل ، الطبعة العربيّة دار التقدّم ، موسكو ) :
" إنّ ثورة القرن التاسع عشر الإجتماعيّة لا يسعها أن تستمدّ أشعارها من الماضي بل من المستقبل فحسب . إنّها لا تستطيع أن تبدأ بتنفيذ مهمّتها قبل أن تقضي على كلّ إحترام خرافي للماضي . لقد كانت الثورات السابقة في حاجة إلى إستعادة ذكريات ما مضى من حوادث تاريخ العالم لكي تخدع نفسها بشأن محتواها هي بالذات ، أمّا ثورة القرن التاسع عشر فيترتّب عليها لكي تستوضح لنفسها محتواها الخاص أن تدع الموتى يدفنون موتاهم ".
و كرّس إنجلز و لينين و ستالين هذا التوجّه الماركسي الشيوعي الثوري الذى أعطى أكله تقدّما لا بل منعرجا عاصفا في تاريخ الإنسانيّة بمكاسبه العظيمة وهي جانبه الرئيسي و بنقائصه و هناته و أخطائه وهي جانبه الثانوي . و صدح ماوتسى تونغ مواصلا السير على خطاهم المبدئيّة بحقيقة ساطعة حمل وزرها على أكتافه و سعى طاقته و رفاقه و رفيقاته من جميع أصقاع العالم ، و ما فتأ يدعو و ما فتئوا يدعون ، إلى تكريسها عمليّا ألا وهي " الماركسية لا بدّ أن تتقدّم ، و لا بدّ أن تتطوّر مع تطوّر التطبيق العملى و لا يمكنها أن تكفّ عن التقدّم . فإذا توقّفت عن التقدّم و ظلّت كما هي فى مكانها جامدة لا تتطوّر فقدت حياتها " .
( ماو تسي تونغ ، " خطاب فى المؤتمر الوطنى للحزب الشيوعي الصيني حول أعمال الدعاية " 12 مارس/ أذار 1957 " مقتطفات من أقوال الرئيس ماو تسى تونغ " ، ص21-22 )
و ينطوى العنوان الفرعي لكتابنا هذا على تحديد دقيق لمن يتمّ الجدال ضدّهم و هم مفكّرون جلّهم أكاديميّون يزعم بعضهم صراحة مناهضة الرأسماليّة و حتّى أحيانا تبنّى الشيوعية و منهم من ناضل في ماضي الأيّام في صفوف الماويين ( مثلا ، ألان باديو الفرنسيّ ) فيما هم يعرضون على القرّاء منظومات أفكار ضارة في جوهرها معادية للشيوعيّة الثوريّة كما يكشف ذلك النقاش العميق و الحيوي لأمّهات أطروحاتهم .
و في مناسبات متفرّقة ، قد تولّى مسؤوليّة خوض هذا الحانب من المعركة الإيديولوجيّة الضروريّة و فضح لبّ هذه الأطروحات المشوّهة للشيوعيّة الثوريّة ، الأطروحات " الشيوعيّة دون ثورة " و الموضوعات الخافضة للنظر و التي لا تمثّل أصلا بديلا للرأسماليّة و لا تستهدف " إلغاء نظام العمل المأجور " و المشوّهة لجوهر الماويّة و المتنكّرة لتطوير علم الشيوعيّة إلخ ، تولّى هذه المسؤوليّة الجسيمة أساسا ( بمعيّة نايى دنيا في الكتاب المفرد لنقد أفكار ألان باديو ) منظّران شيوعيّان معروفان في الأوساط الماوية العالميّة من أنصار الخلاصة الجديدة للشيوعية أو الشيوعيّة الجديدة و هما كلّ من ك. ج. أ. و ريموند لوتا . و الأوّل ، ك. ج. أ، حسب موقع مجلّة " تمايزات " ، مجلّة الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتّحدة الأمريكيّة و رابطها على الأنترنت تعثرون عليه في ثنايا هذا الكتاب ، كاتب يساهم بمقالات عميقة و طويلة نسبيّا بمفرده أو بالتعاون مع غيره في أعداد المجلّة ( ساهم في العدد الأوّل و الثاني و الرابع بمقالات قيّمة ) و قد ترجمنا له و نشرنا مقال خطّه بمعيّة إشاك باران هو " آجيث – صورة لبقايا الماضي " ضمن كتابنا " من ردود أنصر الخلاصة الجديدة للشيوعية على مقال " ضد الأفاكيانيّة " لآجيث ".
أمّا ريموند لوتا فقد أنف لنا ترجمة أعمال له و نشرها و جاء فى التعريف المقتضب به في مقدّمة كتاب " عن بوب أفاكيان و أهمّية الخلاصة الجديدة للشيوعية تحدّث قادة من الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتّحدة الأمريكيّة " :
" أمّا ريموند لوتا فلا شكّ فى أنّ المطّلعين على ما أصدرنا من كتب قد عرفوه لا سيما و قد إنطوى الكتاب 23 على حواره الصحفي المعنون " لا تعرفون ما تعتقدون أنّكم " تعرفون " ... الثورة الشيوعية و الطريق الحقيقي للتحرير : تاريخها و مستقبلنا ". و ريموند لوتا عالم إقتصاد ألّف المقالات فى هذا المجال منذ سبعينات القرن العشرين و مثال ذلك مقال " حول الرؤية المنشفيّة للأزمة : الرأسمالية تعمل فى النهاية " المتوفّر على الرابط التالي :
http://bannedthought.net/USA/RCP/TheCommunist/TheCommunist-RCP-04-Summer-Fall1978.pdf
و ساهم بمقالات فى مجلّة الحركة الأممية الثوريّة " عالم نربحه " منها مثلا :
- " عن ديناميكيّة الإمبريالية و عرقلة التطوّر الإجتماعي "
http://bannedthought.net/International/RIM/AWTW/1985-2/index.htm
- " التمرّد فى الصين : أزمة التحريفية ...أو لماذا كان ماو تسى تونغ على صواب "
http://bannedthought.net/International/RIM/AWTW/1989-14/AWTW-14-ChinaCrisis-
وهو صاحب كتاب " إنهيار أمريكا " ألّفه بمعيّة فرانك شانون و كتاب " و خامسهم ماو " و له مقالات لا تحصى و لا تعدّ عن الإشتراكية والتخطيط و العولمة إلخ و من أهمّ نصوص محاضراته التى نشرنا نصّ محاضرة " الإشتراكية أفضل من الرأسمالية و الشيوعية ستكون أفضل حتى ! " ( " الماوية : نظريّة و ممارسة " عدد 2 - عالم آخر، أفضل ضروري و ممكن ، عالم شيوعي ... فلنناضل من أجله !!! ) . و لأكثر من عقد من الزمن الآن ، صار مشرفا أيضا على مشروع " وضع الأمور فى نصابها " أي الدفاع عن الشيوعية فى وجه الهجمات الرجعيّة والإمبريالية و توضيح الحقائق و المكاسب التاريخية – وهي الرئيسيّة – فى تراث البروليتاريا العالمي و تجاربها الإشتراكية السابقة و نقد بعض الأخطاء متّبعا فى ذلك كما يقول هو نفسه قيادة بوب أفاكيان و مطبّقا ما توصّلت إليه الخلاصة الجديدة للشيوعية . و موقع إنترنت " هذه هي الشيوعية " يشهد بذلك :
www.thisiscommunism.org " .
و متّبعين في عرض النصوص المستقاة من مجلّة " عالم نربحه " مجلّة الحركة الأممية الثوريّة كمنظّمة عالميّة وحّدت إلى 2006 أهمّ الأحزاب و المنظّمات الماويّة في العالم ، أو من مجلّة الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتحدة الأمريكيّة " تمايزات " أو من جريدة هذا الحزب عينه " العامل الثوري " التي صارت منذ 2005 تحمل إسم " الثورة " ، ترتيبا تاريخيّا . و مهّدنا لجدالات هذا المصنّف الجديد الدسمة بفصل أوّل يعاد فيه التذكير بقصّة " بيان الحزب الشيوعي" و نقاطه المحوريّة التي لا تزال تشكّل منارات لمن يتطلّع لإدراك أوجه من جوهر المشروع الشيوعي الثوريّ . و قد شملت النقاشات التي تستدعى لا محالة القراءة و التفحّص بتؤدة و تمعّن و التأملّ مليّا و التحلّى بالفكر النقديّ قضايا إيديولوجيّة منها و سياسيّة عدّة في غاية الأهمّية تتعلّق بالتغيّرات التي طرأت على الواقع الموضوعي و بالتجربة التاريخيّة للحركة الشيوعيّة العالميّة و بماهيّة الماويّة و إنقسامها إلى إثنين و نحو ذلك مثلما يمكن للقرّاء تبيّن هذا حتّى من نظرة أولى على محتويات هذا المصنّف .
و محتويات هذا الكتاب 29 ، أو العدد 29 من " الماويّة : نظريّة و ممارسة " إضافة إلى هذه المقدّمة :
1- الفصل الأوّل : لا يزال " بيان الحزب الشيوعي " صحيحا و خطيرا و أمل الذين لا أمل لهم
-1- قصّة " بيان الحزب الشيوعي "
- منظّمة شيوعيّة جديدة ، بيان شيوعي جديد
سلاح لخوض النضال -
بيان من أجل حركة عالميّة جديدة -
-2- " بيان الحزب الشيوعي " اليوم لا يزال صحيحا و لا يزال خطيرا و لا يزال أمل الذين لا أمل لهم
- وثيقة تغيّر التاريخ
- ماركس بشأن صعود البرجوازية و مهمّتها
- الرأسماليّة اليوم
- عالم مغاير ممكن
- النظرة الشيوعية
- معالم ثلاث لقضيّتنا
- الثورة الثقافيّة تكتسح أرضا جديدة
- إمتلاك أفق تاريخي
2- الفصل الثاني : حول " الإمبراطوريّة " : الشيوعية الثوريّة أم " الشيوعية " دون ثورة ؟
I- الإمبريالية أم " الإمبراطوريّة " ؟
II ـ ما هي الرأسماليّة ؟
- ما الذى يدفع الإمبريالية إلى الأمام ؟
- قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج
- ما الذى يدفع ماذا ؟
- إعادة إحياء نظريّة روزا لكسمبورغ
- سيادة وحيدة ؟
III- التحرّر الوطني و الدولة
- الإمبرياليّة و أنماط الإنتاج ما قبل الرأسماليّة
- التحرّر الوطني ـ لا يزال مهمّة من مهام البروليتاريا
- تواصل أهمّية الفلاّحين و المسألة الزراعيّة
– قانون القيمة و " العمل غير المادي " IV
- تحليل طبقي مضطرب
- أجر مضمون إجتماعيّا
V – الديمقراطية و الفوضويّة و الشيوعيّة
- الديمقراطية و الحكم الطبقي
- إضمحلال الدولة ... في ظلّ الرأسماليّة !
3- الفصل الثالث : ألان باديو و دكتاتورية البروليتاريا أو لماذا يساوى نبذ " إطار الدولة - الحزب " نبذا للثورة
- لماذا تصلح الدولة الإشتراكية وكيف ستضمحلّ و لماذا ينتهى ألان باديو إلى جانب الدولة البرجوازية I
1- ملاحظة سريعة عن الفلسفة
2- ألان باديو لاطبقية الدولة و الشكلانية
- الحزب فى المجتمع الإشتراكي : " غير ملائم " أم وسيلة للتحرير ؟II
1- مرّة أخرى عن روسو و التمثيليّة
2- " الخضوع البيروقراطي اللاطبقي " أم مرّة أخرى ، هل الخطّ هو الحاسم ؟
3- القيادة الشيوعية المؤسساتيّة و تناقض القادة – المقادين و رأي الخلاصة الجديدة بهذا الصدد
4- الفصل الرابع : القدح في الشيوعية و التزلّف للإمبريالية - تزييف سلافوج تزتزاك للحقائق و جلبه العار لنفسه
- تحدّيات حقيقيّة و بدائل حقيقيّة و مسؤوليّات حقيقيّة I
II- يرفض الخوض في الخلاصة الجديدة للشيوعية لبوب أفاكيان بينما يهاجمها هجوما غير مسؤول
III – مناهضة مسعورة للشيوعيّة تلبس قناع التفكير الجديد
IV – موقف تزتزاك المعادي لمناهضة الإمبرياليّة
- خاتمة : تصفية حساب و دعوة إلى نقاش جريئ و صريح V
- ملحق : سلافوج تزتزاك أحمق متعجرف يتسبّب في ضرر كبير
5- الفصل الخامس: فهم الماويّة فهما علميّا و الدفاع عنها بصلابة و تطويرها ، بهدف بلوغ مرحلة جديدة من الشيوعية : أفكار جداليّة حول مقال برنار دى مالو " ما هي الماويّة ؟ "
مفهوم دى مالو للماويّة :
نهاية مرحلة و بداية مرحلة جديدة :
الديمقراطيّة الراديكاليّة أم الشيوعيّة العلميّة :
المساهمات الخالدة لماو تسى تونغ :
الصراع من أجل الدفاع عن ماو تسى تونغ و إرساء أرضيّة مزيد التقدّم :
ماو ( و ماركس ) ك " ديمقراطيّين راديكاليّين " :
الخلط بين الشيوعيّة و الديمقراطيّة :
تجاهل دروس الثورة الثقافيّة البروليتاريّة الكبرى :
الثورة الوطنيّة الديمقراطيّة :
ما معنى القيادة البروليتاريّة ؟
ماركسيّة العالم الثالث ؟
الخطّ الجماهيري :
" الممارسة معيار الحقيقة " :
ملاحظات نهائيّة :
-+++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++-

الفصل الأوّل :
لا يزال " بيان الحزب الشيوعي " صحيحا و خطيرا و أمل الذين لا أمل لهم
---------------------------------------------------------
-1- قصّة " بيان الحزب الشيوعي "
بمناسبة الذكرى 150 لصدوره
" العامل الثوري " ( جريدة الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتحدة الأمريكية ) عدد 936 ، 14 ديسمبر 1998
مجلّة " عالم نربحه " عدد 24 / 1998
http://bannedthought.net/International/RIM/AWTW/1998-24/onComManif24Eng.htm

أواسط فيفري 1848 ، صدر كرّاس شيوعي جديد عن مطبعة صغيرة بحصن أساقفة في لندن . كُتب باللغة الألمانية و كان يحمل عنوان Manifest der Kommunistischen Partei ؛ بيان الحزب الشيوعي . و بسرعة وُزّعت منه
نسخ على أراضي أوروبا . حينها كانت إنتفاضات و إضطرابات قد إندلعت في أغلب المراكز السكّانيّة الأساسيّة في القارة إيّاها . و كان عدد من الناشطين الممثّلين للبّ صلب من الثوريّين ينتظرون بفارغ الصبر بيانا قويّا يقود عملهم و يوحّد الجماهير الشعبيّة في حركة ثوريّة تماما .
و رفعت الجمل الإفتتاحية الجريئة تحدّيا :
" هناك شبح يجول في أوروبا - هو شبح الشيوعيّة. وقد إتّحدت كلّ قوى أوروبا العجوز في حلف مقدّس لملاحقته و التضييق عليه ... الشيوعيين قد آن لهم أن يعرضوا أمام العالم بأسره مفهوماتهم و أهدافهم و ميولهم ، و يدحضوا خرافة شبح الشيوعيّة ببيان من الحزب نفسه ."
و قد ترجم هذا العمل إلى عدّة لغات أوروبيّة و أمريكيّة . و في الترجمة الأنجليزيّة صار معروفا ب " البيان الشيوعي ". و في طبعة أنجليزيّة من أوائل الطبعات ، نشرت سنة 1850 ، لأوّل مرّة يجرى إعلان إسمي المؤلّفين غير المعروفين سابقا : كارل ماركس و فردريك إنجلز .
و في حين أنّ وثائق و بيانات أخرى كانت منسيّة أو غمرها الغبار في أرشيف المكتبات ، لا يزال هذا البيان اليوم ينبض حياة وهو يدرس بعمق في الغيتو و في مناطق الإرتكاز في الغابات و حتّى في فصول الدراسة ، عبر العالم قاطبة ـ و لا يزال يلهم و يدرّب جيلا بعد جيل من الثوريّين و الثوريّات الجدد .
بيان الحزب الشيوعي وثيقة تأسيسيّة للحركة الشيوعية المعاصرة ذات نظرة ثاقبة . إنّه البيان الإفتتاحي لهذه الإيديولوجيا العلمية المعروفة الآن كماركسية ـ لينينيّة ـ ماويّة . و إعلاءا للذكرى 150 لصدوره ، نقدّم هنا قصّة ولادة هذا البيان .
كانت الحركة الشيوعيّة أواسط أربعينات القرن التاسع عشر في حاجة إلى بيان توحيدي جديد ـ فإلى أبعد حدّ ، كان المجتمع يشهد تغيّرا سريعا و لم تعد العقائد الثوريّة القديمة المنقولة عن و المتأقلمة مع الثورة البرجوازيّة الفرنسيّة الكبرى لسنة 1789 ، بعد الآن تفى بالغرض .
بمعانى ما ، كانت تلك الأوقات صعبة بالنسبة للثوريين . و قد إنتهت الثورة الفرنسيّة الكبرى إلى الهزيمة . بداية وقعت خيانتها من الداخل ـ حيث تجاسر نبليون بونابرت على إعلان نفسه إمبراطورا . ثمّ سحقت فرنسا من الخارج ـ سنة 1815 ، منيت جيوشها بالهزيمة في مواجهة قوى الأنظمة الملكية الأوروبيّة المتّحدة . و لعقود ، كان " الحلف المقدّس " للأنظمة الملكيّة المنتصرة يبقى الناس تحت قبضة حديديّة . و أعاد تركيز الملوك و الأمراء و جرى قمع السياسات الثوريّة المناهضة للأنظمة الملكيّة و جرت مراقبة عن كثب للحدود و زُرع المخبرون و الوشاة في كلّ مكان .
لكن بينما كانت القوى الرجعيّة تبدو مظفّرة ، كانت تغييرات كثيفة في الإقتصاد تقوّض سلطتها و تخلق قوى غاضبة جديدة قويّة . و كانت التكنولوجيا و كان الإنتاج يثوّران . و تطوّر ما سمّي ب " نظام المصنع " في مناطق صناعيّة جديدة قليلة في أنجلترا و كانت مصانعه الهشّة العنيفة تُنسخ هنا و هناك في معظم أوروبا . و كان الأطفال الصغار ذوو التسع سنوات عادة ما يقذف بهم في المصانع ليشتغلوا 60 و حتّى 72 ساعة أسبوعيّا . و كان الفلاّحون المزارعون يطردون من أراضيهم جرّاء الضغوطات الرأسماليّة الجديدة في الفلاحة و كان بعضهم يصبحون جزءا من طبقة جديدة متمرّدة ـ البروليتاريا المعاصرة .
و وُجدت علامات أوّليّة لنهوض ثوريّ جديد . ففي جويلية 1830 ، ثارت باريس كالبركان في قتال شوارع و متاريس . و في 1831 ، نظّم نسّاجو الحرير في ليون مسيرة خارج المعامل التي يشتغلون بها و كانوا ينشدون :
" عندما يأتي حكمنا
عندما يزول حكمكم
عندها سنهزّ أركان العالم القديم
أصغوا إلى غليان الثورة " .
و بعد سنوات عشر ، جدّت عدّة " مسيرات خبز " بحيث غدت العشريّة مسمّاة ب " أربعينات الجوع " .
و في ذلك الوقت ، كانت القوى الأكثر راديكاليّة تُنشئ حركة جديدة أطلقت عليها إسم " الشيوعية " ـ و كانت تحلم بإقتسام ثروة المجتمع و إلغاء الإختلافات الطبقيّة . و كانت هذه الشيوعيّة الأولى مزيجا من نظرات ثاقبة لامعة و أمنيات " طوباويّة " غير ممكنة التحقيق و أعمال جسورة . و قد فكّر بعض أوائل الشيوعيين في حركات جماعيّة محلّية قد تدرّب تدريجيّا الإنسانيّة على طرق جديدة دون الإطاحة الثوريّة بالنظام القديم . و فكّر آخرون في أنّ المؤامرات الصغرى قد تغيّر مجتمعا ، دون أن يكون لها جذورا عميقة وسط الجماهير الشعبيّة .
و بشكل متصاعد ، تبيّن أنّ هذه المخطّطات و هذه المناهج غير مجدية . و شرع شابان ألمانيّان ثوريّان في كسب أتباع بفضل تحاليلهما القويّة الجديدة . و إجتمع كارل ماركس و فردريك إنجلز في بروكسال لتصوّر طريق للثورة الشيوعيّة . و قد أتى كلّ منهما بجوانب قوّة لشراكتهما . و قد وُلد كارل ماركس سنة 1818 و نقد و بحث مليّا كافة النظريّات و الفلسفات الثوريّة المختلفة لزمنها . و كصحفي في الجريدة التقدّميّة ، " الجريدة الرينانيّة " ، أخذ ينجز تحاليلا مفصّلة للسياسات و النزاعات وقتها ـ خاصة حياة الفلاّحين في سهول الراين الألمانية . و قد وصف شخص يعرفه شخصيّا الشاب ماركس بأنّه : " جريئ و مندفع و متحمّس و يزخر بالثقة في النفس و لكنّه كان في الوقت نفسه ، بعمق جدّيا و مثقّفا و جدليّا لا يهدأ ".
و في 1843 ، عقب حظر " الجريدة الرينانيّة " ، إضطرّ ماركس إلى الذهاب إلى فرنسا التي كانت عهدذاك مركز النشاط الثوري في أوروبا .
و وُلد إنجلز سنة 1820 و كان عصاميّا و تعليمه من درجة عالية وهو منحدر من عائلة ألمانيّة رأسماليّة ثريّة . و في 1842 ، بعثته أسرته إلى منشستر بأنجلترا ليعمل بمصنع نسيج العائلة . في تلك الأيّام ، كتب لاحقا ، كان ذهنه مليئا بالأغاني الثوريّة للثورة الفرنسيّة و كان يتوق إلى إعادة ظهور مقصلة الرعب الأحمر الباريسيّ الشهير .
في أنجلترا ، شاهد إنجلز البدايات الأولى للتطوّرات الرأسماليّة الأكثر تقدّما ـ وسائل الإنتاج الصناعيّة القويّة ، و مدن الصفيح و الآفات المريرة للمدن الصناعيّة الجديدة . و قد درس حركة الجارتيين الأنجليزيّة ـ وهي حركة من أوائل الحركات الجماهيريّة العمّاليّة . و كان إنجلز يمقت الرأسماليّة و عاين بوضوح كيف كانت تغيّر العالم القديم تغييرا سريعا.
فعمل ماركس و إنجلز اليد في اليد لإنجاز خلاصة جديدة متطوّرة و حديثة إعتمادا على دراسة عميقة للسياسة و الاقتصاد و التاريخ و الفلسفة . و أخرجت مقاربتهما العلميّة الشيوعيّة من قبضة أحلام اليقضة الطوباويّة إلى عالم مذهل من السياسة العمليّة .
منظّمة شيوعيّة جديدة ، بيان شيوعي جديد
" الدعاية السرّية أُوتيت هي أيضا أكلها : فكلّما كنت فى كولونيا أو في إحدى الخمّارات الصغيرة المحلّية ، ألاحظ نجاحات جديدة و مهتدين جددا . و قد أسفر الاجتماع في كولونيا عن نتائج مذهلة ـ و شيئا فشيئا تتكشّف فرق شيوعيّة منفردة ، تطوّرت حتّى الآن خفية ، بدون مساهمتنا المباشرة ... العقول قد نضجت و ينبغي طرق الحديد ما دام حاميا ." ( من رسالة مؤرّخة في 1845 بعث بها فردريك إنجلز إلى كارل ماركس )
و بداية من 1846 ، إشتغل ماركس و إنجلز لنسج روابط مع عدّة مجموعات شيوعيّة مختلفة ظهرت في أوروبا . و مجموعة من المجموعات الواعدة أكثر من غيرها ، " عصبة العدل " في لندن التي كان ينتمى إليها حوالي مائة عضو منهم عديد الثوريين الألمان المنفيّين . و كانت هذه العصبة مهتمّة بكتابات ماركس و إنجلز و تبعا لإقتراح الأخيرين أعيد تنظيمها كعصبة شيوعيّة . و صارع ماركس ( الذى لم يحضر المؤتمر التأسيسي ) من أجل تغيير الشعار القديم " كلّ الرجال أخوة " معلّلا ذلك بوجود رجال لا يرغب المرء في أن يكون أخا لهم . و صارت صرخة المعركة الجديدة " يا عمّال العالم إتّحدوا ".
و قد وصف رفيق لماركس و إنجلز الرجلان أيّامها :
" كان ماركس حينها لا يزال شابا له من العمر 28 سنة غير انّه كان يتمتّع بتأثير كبير علينا . و كان متوسّط القامة ، عريض الكتفين ، بنيته قويّة و كان حيويّا في وقاره ... كان خطابه موجزا مقنعا و منطقه مسنودا بأدلّة قاطعة ... لم يكن بخطاب ماركس أي شيء حالم ... و كان فردريك إنجلز ، الأخ الروحي لماركس ،... نحيفا ، حيويّا و له شعر كثيف و شاربان ، كان أشبه بملازم شاب وسيم من الحرس أكثر منه بالمثقّف ."
في سبتمبر 1847 ، أصدرت العصبة الشيوعية الجديدة مشروع " إعتراف بالإيمان شيوعي " فكان وثيقة طوباويّة من النمط القديم قائمة على مبادئ منفصلة عن الحياة الحقيقيّة ، وإتّخذت مثالا لها التعاليم الدينيّة . لذلك رفض ماركس و إنجلز تبنّيها . و تحرّك إنجلز ليتولّى هو نفسه صياغة مشروع جديد .
و في أكتوبر ، وضع إنجلز المشروع بين يدي ماركس و إقترح عليه " أعتقد أنّ أفضل شيء نقوم به هو التخلّص من شكل التعاليم الدينيّة و ليكن عنوان هذا المشروع : بيان الحزب الشيوعي . و فيه يجب أن نقدّم قدرا معيّنا من العرض التاريخي فالشكل الحالي لا يتماشى مع هذا بصورة جيّدة ". كما إقترح أن يعالج البيان مسائل التنظيم الحزبي و نبّه إلى أنّ يتمّ ذلك فقط " طالما أنّه سيتعيّن نشره للعموم ".
و قصد ماركس و إنجلز معا المؤتمر الثاني للعصبة الشيوعيّة ـ و طوال عشرة أيّام ، في نوفمبر و ديسمبر 1847 ، ناقش المؤتمرون إنطلاقة مقاربتهم السياسيّة الشيوعيّة الجديدة . و قُبلت إقتراحاتهما .
و عوّضت العصبة الشيوعيّة برنامجها القديم للدعاية من أجل " تشارك في السلع " و تبنّت هدفا أشمل و أصعب في مناله ألا وهو " الإطاحة بالبرجوازيّة و هيمنة البروليتاريا و إلغاء المجتمع البرجوازي القديم القائم على العداء الطبقي و إرساء مجتمع جديد خالى من الطبقات و من الملكيّة الخاصة ".
و نشأت منظّمة شيوعيّة على أسس جديدة و عاد ماركس لينكبّ على إتمام كتابة البيان . و أقام في بروكسال ليشتغل ـ بمثابرته ودقّته و عمقه المعهودين . و نفذ صبر رفاقه في لندن . فقد إندلعت الثورة في ميلانو و بالرمو بإيطاليا و كان الرفاق في حاجة إلى بيانهم الجديد لينشروه في الشوارع. و في جانفي 1848 ، أرسلوا إلى ماركس محدّدين موعدا أخيرا: إن لم ينه ماركس العمل في بدايات فيفري 1848 ، " ستتّخذ إجراءات أخرى " . و أنهى ماركس العمل في بدايات فيفري 1848 و بعث بسرعة بالمخطوط اليدوي إلى لندن .
سلاح لخوض النضال
" إن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسّروا العالم بأشكال مختلفة و لكن المهمّة تتقوّم في تغييره " .( كارل ماركس ، 1845)
صدر Manifest der Kommunistischen Partei ، " بيان الحزب الشيوعي " أواسط فيفري كبرنامج رسمي للعصبة الشيوعيّة . و بعد بضعة أيّام ، إندلع تمرّد فى باريس أطاح بالملك الفرنسي من السلطة . و فى غضون أسابيع ، إنتشرت الثورة التى كان يترقّبها الشيوعيّون إلى فيننا و برلين . و فى غضون شهور وقعت الإطاحة بالحكام فى منطقة واسعة عبر تلك القارة .
و قد إستُقبل بيان ماركس و إنجلز إستقبالا حماسيّا . و صار التيّار الشيوعي الصغير عبر أوروبا الآن يملك سلاحا من العيار الثقيل لخوض المعركة . و سرعان ما تمّت ترجمة البيان من الألمانيّة إلى الأنجليزيّة و الفرنسيّة و البولنديّة و الدانماركيّة .
و ذُعرت الشرطة البلجيكيّة فأوقفت كارل ماركس كما جرى إيقاف جيني ماركس وهي تبحث عن زوجها و سجنت بتهمة عدم إمتلاك مأوى . ثمّ طُردا كلاهما من بلجيكا و نُفيا إلى باريس . و أعاد ماركس و إنجلز تنظيم اللجنة المركزيّة للعصبة الشيوعيّة و أسّسا نادى العمّال الألمانيين الذى سرعان ما أضحى أعضاؤه يعدّون 400 عضو . و كانت عيون الجميع تتركّز على ألمانيا . فقد كتب إنجلز : " بالفعل كانت الأمور تسير سيرا حسنا جدّا فالمسيرات كانت فى كلّ مكان ...".
و فى بدايات أفريل ، تسلّل ماركس و إنجلز عبر الحدود إلى ألمانيا – التى كانت وقتها متشكّلة من عدّة دول شبه مستقلّة خاضعة لمملكة برّوسيا و حملا معهما ألف نسخة من البيان كانت وصلت للتوّ من لندن .
و أرسى ماركس و إنجلز مركز عمليّاتهما فى كولونيا حيث كانت الحركة الثوريّة الأكثر تقدّما . و نمت العصبة الشيوعيّة المحلّية إلى 8 آلاف عضو فى فقط البضعة أشهر الأخيرة – إلاّ أنّه كان يهيمن عليها خطّ يميني حدّد العمّال فى خوض نضالات مطلبيّة و حتّى دعّم دعوات من أجل نظام ملكي دستوري . فأسّس ماركس تنظيمه الثوري الخاص الذى سرعان ما حلّ محلّ العصبة الشيوعية الذابلة . و حدّدت هذه المنظّمة الجديدة مهمّة لها الإلتحام بالجماهير العريضة و قيادتها فى القيام بالثورة . و لاحقا كتب إنجلز : " لم نكن جيّدين فى الصراخ فى البرّية ؛ لقد درسنا جيّدا الطوباويين بحيث لم نسقط فى هذا الخطأ ".
و مع غرّة جوان 1848 ، أخذ ماركس و إنجلز ينشران جريدة ثوريّة ، " الجريدة الرينانيّة الجديدة " . و قد هاجمت الأنظمة الملكية الأوروبية و إستنهضت الجماهير من أجل ثورة ديمقراطية راديكاليّة ضد الإقطاعيّة و الأوتوقراطية . و بلغت هذه الجريدة إصدار حوالي 5000 نسخة فكانت أكبر الجرائد إنتشارا في ألمانيا .
و في بروسيا ، لم تنجح الثورة أبدا في الإطاحة بالنظام الملكي . نهضت الجماهير في موجات متكرّرة خلال 1848 و 1849 . و نجحت إقتراحات الحكومة بتنظيم انتخابات في إستمالة البرجوازيّة بينما تقدّم الجيش البرّوسي لسحق المراكز الثوريّة .
و في سبتمبر ، إنتخب اجتماع جماهيري كلاّ من ماركس و إنجلز و عديد مسانديهما إلى مواقع في " لجنة الأمن العام " التي أرست على خطى أجهزة السلطة الثوريّة التي نفّذت حكم الإعدام في الأرستقراطيّين الفرنسيين قبل خمسين سنة . و في 25 سبتمبر ، أرسلت السلط قوّاتا لإيقاف القادة المفاتيح . و جرى إلصاق معلّقات مطلوب للعدالة بالنسبة إلى إنجلز . و قد فرّ هو و كتّاب آخرون ل" الجريدة الرينانيّة الجديدة " عبر الحدود و إختفوا لبضعة أشهر .
و قد لعب ماركس دورا قياديّا لكنّه لم يكن الناطق الرسميّ في الإجتماعات العامة . فلم تكن للسلط أدلّة لربط الصلة بينه و بين " المؤامرة ". لذا بينما إضطرّ آخرون للمغادرة ، ظلّ ماركس في كولونيا و تقريبا لوحده أعاد إصدار " الجريدة الرينانيّة الجديدة " متحدّيا السلط العسكريّة . و سرعان ما أحيل على المحاكمة هو الآخر . و أطلقت المحكمة سراحه عقب دفاعه السياسي الكاسح فيما كانت جمهرة كبيرة من الناس تهدّد بشدّة بإطلاق سراحه بالقوّة .
و في ديسمبر ، بلغ ماركس إستنتاجا راديكاليّا جديدا : دلّلت البرجوازيّة على عدم قدرتها على قيادة الثورة للإطاحة بالإقطاعيّة و الأنظمة الملكيّة . إذا لم تقد الطبقة العاملة الحركة إلى الأمام ستفشل هذه الحركة .
و في مارس 1949 ، حاصر جنود برّوسيّون منزل ماركس و هم مسلّحون بالسيوف . و طلبوا من ماركس تسليم أحد كتّاب الجريدة و إلاّ فإنّ الأشياء " ستسوء". فأجاب ماركس بأنّ تهديداتهم " لن تفيد في أيّ شيء مطلقا معى " . و فجأة إكتشف الجنود أنّ ماركس كان يحمل مسدّسا يطلّ من جيبه . ففقدوا حماسهم و تركوا المكان . و لاحقا ، تندّر إنجلز قائلا إنّ الحامية البرّوسيّة كانت تعدّ 8000 رجلا مسلّحا ـ بينما " حصن " " الجريدة الرينانيّة الجديدة " كان متسلّحا فقط ببعض البنادق و بعض الخراطيش و القبّاعات الحمراء للراقنين .
فى أواخر ربيع 1849 ، شدّد الجيش البرّوسي من قبضة إحتلاله للراين و تصدّى له الناس . و قاتل إنجلز في المتاريس القريبة من المدينة مسقط رأسه ألبار فالد . و في التاسع من ماي ، تلقّى ماركس أوامرا من رئيس الشرطة بمغادرة البلاد في غضون 24 ساعة . فقد إنتهت الصلوحيّة القانونيّة لوثائقه ما يجعله أجنبيّا بلا وثائق . و إتّهمه رئيس الشرطة بأنّه " داس بلا خجل الضيافة " بندائه " للصراع ضد الحكومة القائمة و للإطاحة العنيفة بها و بتركيز جمهوريّة إشتراكيّة ".
و لم تستطع " الجريدة الرينانيّة الجديدة " مواصلة المشوار ذلك أنّ كافة ناشريها كانوا يواجهون المنفى أو الإيقافات . فنشر ماركس عددا أخيرا في 18 ماي طُبع كلّيا بالحبر الأحمر . و قد إستهزأت الكلمات الأخيرة بالسلط التي حجبت قمعها الدموي بتعلاّت واهية : " ما فائدة جملكم المنافقة المتوتّرة بعد محاولات مستحيلة ؟ نحن ليست لدينا رحمة أيضا و لا نطالبكم بأي تقدير لنا . عندما يأتي دورنا لن نقدّم أعذارا لبثّنا الرعب ".
و قد طبعت عشرون ألف نسخة من هذا " العدد الأحمر " الذى سرعان ما صار شهيرا . و لسنوات مرّرت النسخ من يد إلى أخرى في صفوف العمّال الثوريّين في أوروبا و أمريكا الشماليّة ـ غالبا بصحبة " بيان الحزب الشيوعي " .
و مع تقدّم الثورة المضادة ، تراجع ماركس و إنجلز جنوبا ، على طول نهر الراين . و غير قادر على البقاء طويلا دون ورق ، قصد ماركس باريس حيث إنغمس في النضال ، باسم مستعار.
و ظلّ إنجلز في ألمانيا و إلتحق بالكفاح المسلّح ضد الجيش البرّوسي المتقدّم . و قاتل في أربع معارك قبل الإضطرار إلى المغادرة إلى سويسرا عابرا الحدود . وفي رسالة إلى جيني ماركس ، قال إنّ " صفير الرصاص مسألة تافهة تماما " ، و تباهى بأنّ لا أحد بمقدوره قول إنّ الشيوعيين لم يقفوا بصلابة حينما إشتدّ القتال .
و مثّلت أحداث ماي نهاية هذه المرحلة من الثورة في ألمانيا . و إستمرّ قمع الحكومة لسنوات . و وصف شاعر ثوريّ كيف أنّ الناس كانوا مروّعين في منازلهم بفعل إطلاق النار الفجئي لفرق الموت التي كانت تنفّذ حكم الإعدام في الثوريّين. و قد كان يقع في الحال إيقاف من كانوا يحملون " بيان الحزب الشيوعي " .
بيان من أجل حركة عالميّة جديدة
و إلتقى ماركس و إنجلز في أنجلترا أين عملا على إعادة تركيز المنظّمة الشيوعيّة و خطّطا إلى جهاز ثوري جديد . كان سنّ ماركس آنذاك 31 سنة و لم يبلغ إنجلز سنّ الثلاثين سنة .
و قد تعلّم ماركس الكثير من الممارسة الثوريّة الكثيفة ل 1848ـ1849 . و كتب أنّ الثورات البروليتاريّة :
" تنتقد ذاتها على الدوام ، و تقاطع نفسها بصورة متواصلة أثناء سيرها ، و تعود ثانية إلى ما بدا أنّها أنجزته لتبدأ فيه من جديد ، و تسخر من نواقص محاولاتها الأولى و نقاط ضعفها و تفاهاتها بإستقصاء لا رحمة فيه ، و يبدو أنّها تطرح عدوّها أرضا لا لشيء إلاّ ليتمكّن من أن يستمدّ قوّة جديدة من الأرض و ينهض ثانية أمامها وهو أشدّ عتوّا ، و تنكص المرّة تلو المرّة أمام ما تتصف به أهدافها من ضخامة غير واضحة المعالم ، و ذلك إلى أن ينشأ وضع جديد يجعل أي رجوع إلى الوراء مستحيلا و تصرخ الحياة نفسها قائلة بصرامة : هنا الوردة ، فلترقص هنا ! "
[ " الثامن عشر من برومير لويس بونابرت " ـ المرتجم ] .
و بعد 1848 ، لم تعد الشيوعيّة " شبحا " و إنّما حركة أممّية حقيقيّة من دم و لحم . و ظهر " بيان الحزب الشيوعي " كأكثر وثائقها تقديرا و تأثيرا . و كتب إنجلز لاحقا أنّ البيان أرسى " خطّ عمل " للشيوعيين للقتال " كجيش واحد تحت راية واحدة ".
و بالضبط لأنّ البيان جسّد تحليلا ماديّا و مثّل خلاصة حيّة ، كانت بعض الأجزاء المختلفة من الوثيقة تبدو قد فات أوانها عندما كان ماركس و إنجلز ينظران إلى الوراء بعد سنوات . و خلال ال150 سنة الأخيرة ، تغيّر العالم تغيّرا أشكاله متنوّعة ، و صارت التجربة الثوريّة الجديد أثرى و يجب تلخيصها ـ كما يجب توسيع فهم الشيوعيين و تعميقه بطرق نوعيّة عدّة .
لكن رغم كلّ ذلك ، لا يزال جوهر هذا البيان البارز ـ منهجه المادي الجدلي و إستنتاجاته ذات النظرة الثاقبة حول إمكانيّة إلغاء الطبقات و تحليله للدور التاريخي للطبقة البروليتاريّة الصاعدة الجديدة ـ قد حافظت على نضارتها و قوّتها و عكسها للحقيقة طوال 150 سنة .
في " بيان الحزب الشيوعي " ، أعرب ماركس و إنجلز عن : " إنّ الثورة الشيوعيّة تقطع من الأساس كلّ رابطة مع علاقات الملكيّة التقليديّة ، فلا عجب إذن إن هي قطعت بحزم أيضا ، أثناء تطوّرها ، كلّ رابطة مع الأفكار و الآراء التقليديّة ." و بعد سنوات ثلاث ، غداة 1848 ، عاد كارل ماركس إلى هذا الموضوع ، ملخّصا أنّ الشيوعية " إعلان للثورة المستمرّة ، الدكتاتورية الطبقية للبروليتاريا كنقطة ضرورية للقضاء على كلّ الإختلافات الطبقية ، و للقضاء على كلّ علاقات الإنتاج التى تقوم عليها و للقضاء على كلّ العلاقات الإجتماعية التى تتناسب مع علاقات الإنتاج هذه ، و للقضاء على كلّ الأفكار الناجمة عن علاقات الإنتاج هذه ".

[ " صراع الطبقات فى فرنسا من 1848 إلى 1850" ـ المترجم ]

هذان المفهومان الماركسيّان ، اللذان يشير إليهما الماويّون على أنّهما " القطيعتين الراديكاليّتين " و " الكلّ الأربعة " ، يظلاّن مركزيّان لفهمنا للتغيّرات العميقة المعنيّة في السيرورة العالميّة للثورة الشيوعيّة .
في 1869 ، في سويسرا ، ظهرت طبعة روسيّة ل" بيان الحزب الشيوعي " ترجمها باكونين و مُرّرت عبر الحدود إلى داخل المملكة القيصريّة . و عندما إفتكّت الطبقة العاملة السلطة لأوّل مرّة أثناء كمونة باريس لسنة 1871 التي لم تعمّر طويلا ، صار " بيان الحزب الشيوعي " مرشدا لجيل من الثوريين الجدد عبر أوروبا و أمريكا الشماليّة . و أضحى عديد الشيوعيّين الآن يسمّون أنفسهم " ماركسيّين ".
و في الولايات المتحدة الأمريكيّة ، طُبعت عدّة ترجمات في سبعينات القرن التاسع عشر ، منها ترجمة لألبار بارسن ، قائد العمّال الثوريّين بشيكاغو ، الذى برز في أحداث هايماركت الشهيرة . و في 1882 ، ظهرت طبعة روسيّة جديدة لتدرّب جيلا من الماركسيّين الذين أعدّوا الأرضيّة لحزب لينين البلشفي .
و بعد سبعين سنة من كتابة البيان ، إفتكّت البروليتاريا الثوريّة و حافظت على السلطة لأوّل مرّة ـ في 1917 في روسيا . و دلّل الإنتصار التاريخي عمليّا على صحّة الكثير من الأفكار المفاتيح الواردة في البيان . و في الوقت نفسه ، عنيت سلطة الدولة الجديدة أنّ الأعمال الماركسيّة غدت في المتناول لأوّل مرّة عبر العالم . و بعد قرن من زمن تأليف " بيان الحزب الشيوعي " ، كان القائد الشيوعي ماو تسى تونغ يكاد يفتكّ السلطة عبر البلاد في الصين و قد كتب : " لقد جلبت لنا طلقات مدافع ثورة أكتوبر الماركسية ـ اللينينيّة ".
خلال القرن العشرين ، جرت ترجمة " بيان الحزب الشيوعي " إلى تقريبا كلّ اللغات المكتوبة على كوكب الأرض ـ و درسه بنهم الملايين من الباحثين عن سبيل للتحرّر . طوال 150 سنة ، كان يهرّب و يطارد و يمنع و يعتزّ به . إنّه مثال حيّ عن الأفكار التي تغيّر المادة . لقد صاغ تماما هذا العمل التاريخ الإنساني و أثّر في حياة مئات ملايين الناس . و تأثيره شاهد على قوّة الإيدجيولوجيا العلميّة التي تقود النضال البروليتاري إلى تحرير الإنسانيّة . و نحن نقترب من نهاية القرن العشرين ، لا تزال الكلمات الختاميّة ل " بيان الحزب الشيوعي " تعدّ مرجعا و عقيدة لكافة الذين يكرهون الإضطهاد :
" يترفّع الشيوعيون عن إخفاء آرائهم و مقاصدهم ، و يعلنون صراحة أنّ أهدافهم لا يمكن بلوغها و تحقيقها إلاّ بدكّ كلّ النظام الاجتماعي القائم بالعنف . فلترتعش الطبقات الحاكمة أمام الثورة الشيوعيّة . فليس للبروليتاريا ما تفقده فيها سوى قيودها و أغلالها ، و تربح من ورائها عالما بأسره ."
يا عمّال العالم ، إتّحدوا !
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
" بيان الحزب الشيوعي " اليوم :-2-
لا يزال صحيحا و لا يزال خطيرا و لا يزال أمل الذين لا أمل لهم
ريموند لوتا
جريدة " العامل الثوري " عدد 958 ، 24 ماي 1998
http://revcom.us/a/v19/950-59/958/cmnyc1.htm
[ في غرّة ماي 1998 ، بمدينة نيويورك ، ألقى الاقتصادي السياسي ريموند لوتا محاضرة هامة بمناسبة إحياء الذكرى 150 ل " بيان الحزب الشيوعي " . و تنشر هنا جريدة " العامل الثوري " نصّ المحاضرة بأكمله ] .
عثرت لأوّل مرةّ على " بيان الحزب الشيوعي " أواخر ستّينات القرن العشرين و كنت حينها طالبا راديكاليّا و كان جيلي بصدد إكتشاف ماركس و الماركسيّة . و أقرّ بأنّى لم أفهم كلّ ما جاء فيه . لكن أتذكّر أنّ شيئين إثنين أذهلانى : الصورة البانورامية للتاريخ في " بيان الحزب الشيوعي " إذ هو لا يحلّل الماضي فحسب بل يتحدّث أيضا عن المستقبل ، عن إلى أين يتّجه المجتمع ؛ و كان هذا الموقف في " مواجهتك " . و أذكر هذه الجملة : " تشدّق البرجوازيين الفارغ عن العائلة و التربية " . كان سنّى 19 و أحببت ذلك حبّا جمّا . و لمّا كتب ماركس البيان [ بمعيّة إنجلز ] كان له من العمر 29 سنة .
وثيقة تغيّر التاريخ
أواسط فيفري 1848 ، أتمّ كارل ماركس ، هذا المحرّض الثوري الشاب ، المشروع النهائي لكرّاس هام . فقد كلّفت مجموعة صغيرة من الثوريين ماركس و رفيقه ، فردريك إنجلز بصياغة وثيقة سياسيّة الغرض منها توحيد و توجيه عمل الثوريين و توحيد الجماهير من شتّى البلدان .
و كانت ثلاثينات و أربعينات القرن التاسع عشر سنوات مضطربة في أوروبا . فالأنظمة الملكيّة القديمة و الدول ذات الأنظمة المطلقة على القارة كانت تمارس القمع للبقاء على قيد الحياة . و كان الغضب و المعارضة في تصاعد . و في الوقت نفسه ، كان نظام المصانع الرأسماليّ ، بمعامله الهشّة و مدن الصفيح الصناعيّة يمدّ جذوره . و قد صلب عوده في أنجلترا و أخذ ينتشر في فرنسا و ألمانيا . و كان الفلاّحون يدفعون إلى مغادرة أراضيهم . وكانت طبقة جديدة من العمّال ، البروليتاريا ، تنمو ... و معها ينمو تمرّدها .
و كانت من المهام الملحّة طباعة هذه الوثيقة إلاّ أنّ ماركس و إنجلز رفضا تبنّى المشروع الأوّلى الذى كتب في شكل سؤال – جواب ، كالمنشور الديني . لذا تطوّع إنجلز و ماركس لإعادة كتابته " أعتقد أنّ أفضل شيء نقوم به هو التخلّص من شكل التعاليم الدينيّة و ليكن عنوان هذا المشروع : بيان الحزب الشيوعي . "
و ألّف ماركس فعلا بيانا و كان وثيقة تأسيسيّة للحركة الشيوعية العالميّة ذات نظرة ثاقبة . و كانت عرضا موجزا لكيف يصنع حقّا التاريخ ، فالتاريخ ليس نتيجة لأعمال رجال عظام ، أو إرادة الإلاه ، أو مجرّد سلسلة من الحوادث . لا ، التاريخ يصنع نتيجة للنضال بين مجموعات إجتماعيّة مختلفة ، أو طبقات ، و هذا الصراع الطبقي متجذّر في الأساس الاقتصادي للمجتمع . و بيان الحزب الشيوعي هو أيضا أوّل صيغة و أوجز صيغة لأهداف و غايات الثورة البروليتارية و هو يزخر بالشعر و الحماس .
و لا نغالى إن قلنا إنّ " بيان الحزب الشيوعي " قد غيّر مجرى التاريخ . على الأرجح هو أكبر وثيقة سياسيّة مؤثّرة كتبت أبدا و درسها الملايين حول العالم . و كان كتابا محظورا قانونيّا . عندما كنت في الفليبين ، قبل سنوات ثلاث ، قال لى فلاّحان ثوريّان أنّه كان عليهما أن يخفيا كتب ماركس في حقولهما .
و هناك دائما شيء خطير بشأن " بيان الحزب الشيوعي " . هناك الجمل الإفتتاحيّة الشهيرة الشهيرة : " هناك شبح يجول في أوروبا – هو شبح الشيوعيّة . " و هناك البنادق و الخناجر التي تقذفنا بها الطبقات الحاكمة . إستمعوا إلى ماركس : " يهولكم و يروعكم أنّنا نريد محو الملكيّة الخاصة . و لكن في مجتمعكم هذا ذاته تسعة أعشار أعضائه محرومون من أيّة ملكيّة خاصة ، و إذا كانت هذه الملكيّة موجودة فلأنّ هؤلاء الأعشار التسعة محرومة منها ... تتّهموننا بأنّنا نريد محو ملكيّتكم أنتم . و حقّا هذا الذى نريد . " و ينتهى بندائه الشهير : " ليس للبروليتاريا ما تفقده فيها سوى قيودها و أغلالها ، و تربح من ورائها عالما بأسره . "
ونحن الآن في نهاية القرن العشرين و قد كان قرنا نهضت فيه الشعوب المضطهَدَة في نضالات كبرى . لقد رأينا الثورتين البلشفيّة والصينيّة تصل إلى السلطة وتشرع في بناء مجتمعات جديدة . لكن هذه الثورات أطاحت بها قوى رأسماليّة جديدة. و بالتأكيد أنّ العالم الرأسمالي تماسك لفترة أطول ممّا توقّع ماركس . و نواجه بإستمرار بالحكم البرجوازي بأنّ الشيوعيّة فاشلة ، طوباويّة غير ممكنة التطبيق تحوّلت إلى كابوس . يريدوننا أن نعتقد أنّ رسالة القصّة هي : الرأسماليّة هي أفضل ما يمكننا الحصول عليه . " عاش الجشع و عاشت اللامساواة ".
لذا ل " بيان الحزب الشيوعي " ما يخاطبنا به اليوم ؟ نعم ، له ما يخاطبنا به اليوم . هو يحدّثنا عبر تحليله للمجتمع الرأسمالي . يحدّثنا عبر نظرته لعالم خالى من الطبقات . يحدّثنا عبر التجربة العمليّة للثورة البروليتاريّة في هذا القرن – في ما تحقّق و ما تمّ تعلّمه بصدد ما يتطلّبه التخلّص من هذا النظام . يحدّثنا لأنّ تقدّم المجتمع الإنساني ، في فجر الألفيّة القادمة ، يقتضى لا أقلّ من الثورة .
ماركس بشأن صعود البرجوازية و مهمّتها
مثلما إقترحت ، " بيان الحزب الشيوعي " حقّا شيئان . إنّه تحليل تاريخي للمجتمع الطبقي و الصراع الطبقي و المجتمع الرأسمالي بخاصة ؛ وهو نظرة ثاقبة لما يجب و يمكن أن يحلّ محلّه . و أودّ أن أنطلق بالحديث عن تحليل الرأسماليّة في البيان . يتفحّص ماركس الرأسماليّة من أفق مادي تاريخي . و هذا يعنى عدّة أشياء .
أوّلا ، يعنى أنّ الرأسماليّة ليست أبديّة . الرأسماليّة شكل تاريخي للإنتاج الاجتماعي . لها بدايتها . ففي القرن السادس عشر، كانت تتراكم ظروف تطوّر مستقبلي للرأسماليّة . و ستكون للرأسماليّة نهايتها . ظهرت الراسماليّة في مرحلة معيّنة من تطوّر المجتمع الإنسانيّ . كانت قوى الإنتاج تتطوّر في رحم المجتمع الإقطاعي ؛ و الطبقة الجديدة ، البرجوازيّة ، كانت تظهر معها . و بقوى الإنتاج أقصد الوسائل و الأدوات و الأرض و المواد الأوّليّة و الناس أنفسهم . و تمثّل البرجوازيّة طرقا جديدة لإستعمال هذه القوى المنتجة و تنظيم الإنتاج . لكن علاقات الإنتاج الجديدة كانت تعرقلها علاقات الإنتاج الإقطاعية القديمة .
و بعلاقات الإنتاج أقصد علاقات المجموعات المختلفة في المجتمع بوسائل الإنتاج – من يملكها و من يتحكّم فيها ؛ و مختلف الأدوار التي يضطلع بها الناس في سيرورة الإنتاج ؛ و كيف و أيّة حصّة من الثروة المنتجة في المجتمع توزّع على شتّى المجموعات في المجتمع . في المجتمع الطبقي ، مختلف هذه المجموعات و العلاقات الإجتماعيّة هي طبقات و علاقات طبقيّة .
لقد كان النظام الإقطاعي للعقّارات في الفلاحة و نظام النقابة للصناعة التقليديّة يعرقل قدرة هذه البرجوازيّة على تطوير الأسواق و إستخدام أدوات و مناهج جديدة للإنتاج . و كان على البرجوازيّة أن تطيح بالأنظمة الإقطاعيّة و أن ترسي سلطة دولتها و نظامها الاجتماعي الخاصين .
كان كارل ماركس يمقت الرأسماليّة و قد كتب : " يولد رأس المال في العالم و الدم يقطر من كلّ مسامه ". غير انّ التحليل المادي التاريخي قاده إلى إستنتاج أنّ البرجوازيّة تحمل مهمّة تاريخيّة موضوعيّة . و هذه المهمّة هي تطوير قوى الإنتاج بطريقة جديدة نوعيّا .
تغيّر البرجوازية وسائل الإنتاج الفرديّة مثل الأدوات الصغيرة للحرفيين إلى وسائل إنتاج إجتماعيّة ، كالآلات و خطوط التركيب و ما على ذلك ، التي لا يمكن تشغيلها إلاّ من قبل عدد كبير من الناس . إنّها تخلق أنظمة إنتاج جماعيّة إجتماعيّة تكون فيها المنتوجات ليس ثمرة جهود شخص أو قلّة من الأشخاص بل بالأحرى هي ثمرة النشاطات الواسعة و المترابطة لعديد الناس . فكّروا في سيّارة و كلّ ما يستدعيه إنتاجها . على خلاف الحرفي أو المزارع ، لا أحد من العمّال يمكن أن ينظر إليها و يقول " صنعتها " فهي إنتاج جماعي للآلاف من الناس .
لكن ما هدف الإنتاج في ظلّ الرأسماليّة و من أجل من يتمّ الإنتاج ؟ الهدف هو الربح و المزيد من الربح . إنّه الإنتاج الذى يخدم مصالح الطبقة البرجوازيّة ، أولئك الذين يملكون وسائل إنتاج . و ما هو منبع هذا الربح ؟ المنبع هو إستغلال البروليتاريا ، طبقة البروليتاريين الذين ليس لهم ما يبيعونه غير قوّة عملهم .
الرأسماليّة ديناميكيّة . و هذا من المواضيع الكبرى ل " بيان الحزب الشيوعي " . ما يحرّك الرأسماليّة هو قوّة المنافسة للتوسّع و التجديد . يقول البيان الآتى عن البرجوازية : " خلقت البرجوازيّة ، منذ تسلّطها الذى لم يكد يمضى عليه قرن واحد ، قوى منتجة تفوق في عددها و عظمتها كلّ ما صنعته الأجيال السالفة مجتمعة ." إنّه يتحدّث عن مصانع الفولاذ و الكهرباء و البواخر و السكك الحديديّة .
الرأسماليّة مضطربة و تغييريّة . قال ماركس : " هذا الإنقلاب المتتابع في الإنتاج ، و هذا التزعزع الدائم في كلّ العلاقات الإجتماعيّة ، و هذا التحرّك المستمرّ و إنعدام الإطمئنان على الدوام ، كلّ ذلك يميّز عهد البرجوازيّة عن كلّ العهود السالفة . " و هي تقذف بالناس معا في المصانع و المدن . كما تجرّد الرأسماليّة العلا قات الإنسانيّة إلى مصالح ذاتيّة عارية و إلى الدفع نقدا – ما أملكه ، ما قيمتى ، ما قيمتك أنت ؟
و تكسر الرأسماليّة الحدود و تهاجم أي شيء يقف في طريقها . و يضع ماركس ذلك على النحو التالى : " و بدافع الحاجة الدائمة إلى أسواق جديدة تنطلق البرجوازيّة إلى جميع أنحاء الكرة الأرضيّة ". و عندما كان ماركس يكتب ، كانت أنجلترا تنهب بعنف و تستعمر الهند و تدمج الصين بقوّة البنادق في نظامها التجاري . وإنتشر الإنتاج السلعي الذى يكون فيه عمليّا كلّ شيء ينتج ينتج للتبادل، عبر العالم . و بالقيام بذلك ، ترجّ الرأسماليّة مجموعات سكّانيّة بأكملها و تخلق بروليتاريين جدد و تستغلّهم .
و حلّل ماركس كيف أنّ سيرورة تطوّر رأس المال تسفر عن تمركز وسائل الإنتاج بيد فئة أصغر فأصغر عددا. إنّها سيرورة يقع فيها إستقطاب متزايد في المجتمع : الثراء من جهة و الكدح و الفقر و الحطّ من القيمة من الجهة الأخرى . و قد إرتهنت الثورة الصناعيّة في أنجلترا بالإنضباط الرهيب في المصانع و 14 ساعة من العمل يوميّا و تشغيل الأطفال و قد تركت مدن الصفيح تعجّ بالأمراض و سوء التغذية . و اصبح العمل في ظلّ الرأسماليّة إمتدادا للآلة و لا يحقّ للعامل أو العاملة الشغل إلاّ طالما أنّه يخدم توسّع رأس المال .
و في 1825 ، شهد العالم الرأسمالي هزّة أو أزمة إقتصاديّة كبرى . فلأوّل مرّة عرف الملايين الجوع ليس بسبب قلّة الإنتاج بل بسبب فائض في الإنتاج و لم يكن ممكنا بيع المنتوجات الفائضة و لم يكن من الممكن بالتالى إستخدام وسائل إنتاج كثيرة بشكل مربح . كان هذا أوّل تمرّد لقوى الإنتاج الكبرى الجديدة ضد علاقات الإنتاج الرأسماليّة – ضد علاقات الملكيّة الفرديّة لوسائل الإنتاج .
الرأسماليّة نظام إنتاج فوضويّ . لا وجود لتنسيق واعي للإنتاج عبر المجتمع . كم من الفولاذ يجب صنعه ، كم من البنايات يجب تشييدها – هذا لا يقرّر وفق مخطّط عقلانيّ . هناك الصورة الخارقة للعادة في " بيان الحزب الشيوعي " أين يقول ماركس : " كلّ هذا المجتمع البرجوازي الحديث الذى خلق وسائل الإنتاج و التبادل العظيمة الهائلة أصبح يشبه الساحر الذى لا يدرى كيف يقمع و يخضع القوى الجهنّميّة التي أطلقها من عقالها بتعاويذه . " و يبلغ ماركس إستنتاجا ماديّا تاريخيّا آخر في البيان . و قد صمدت الرأسماليّة بعد نهاية صلوحيّتها . غدت البرجوازيّة غير مؤهّلة للحكم .
الرأسماليّة اليوم
و الآن نحن في 1998 . هل أنّ هذا التحليل يساعدنا على إستيعاب العالم اليوم ؟
في هذه ال150 سنة ، إنتشرت الرأسماليّة و باتت أكثر تركيزا . و قد أكّدت نفسها عبر تقنيات و صناعات جديدة تكتسح العالم . و قد أدّت المراكمة الرأسماليّة إلى أسرع نموّ لإنتاجيّة العمل الإنساني في تاريخ الإنسانيّة . و قد مضت التقنية الإنتاجيّة من المناسج الميكانيكيّة التي يُسيّرها فريق إلى روبوتات أو صناعات إنسان آلي . إستغرقت الإنسانيّة حوالي 100 ألف سنة لإختراع القوارب البحريّة ؛ و 5 آلاف سنة أخرى لإختراع البواخر ؛ لكن فقط 100 سنة لإختراع مركبة فضائيّة . لقد أمست الرأسماليّة معولمة بدرجة كبيرة . و أوجدت تقسيمات عمل عالميّة جديدة . و لنضرب مثلا حذاء " نايك ": فالجلد الخارجي ينتج في البرازيل و أستراليا ، و النعال المطّاطي في تيلندا و تتمّ خياطة الأحذية معا في الصين.
لكن ما هي الديناميكيّة ، ما هو الواقع الاجتماعي الكامن وراء كلّ هذا ؟ الجواب هو : المزيد من الإستغلال المكثّف للعالم الإنساني و المزيد من النهب الوحشي للكوكب . مثّل القرن و نصف القرن نموّا لا نظير له و تحطيما و عذابا لا نظير لهما. و قد شهد القرن و نصف القرن أزمة كبرى و حربين عالميّتين و إضطهادا فظيعا لما يسمّى بالعالم الثالث .
و لينين هو الذى حلّل كيف أنّ الرأسماليّة قد تطوّرت عمليّا إلى مرحلة أعلى تسمّى الإمبريالية. و يشمل هذا تغييرات في تنظيم رأس المال و هيكلته ، خاصة نموّ الإحتكار و رأس المال المالي . كما يشمل إندماجا نوعيّا أكبر للعالم . لكن لينين شدّد كذلك على أنّ العولمة الرأسماليّة تحدث بشكل غير متساوى : في عالم منقسم إلى حفنة من الأمم و الدول الإمبريالية المسيطرة و المضطهِدة من جهة و من الجهة الثانية ، الأمم المضطهَدَة للعالم الثالث .
و أقرّ بأنّ نضال هذه الأمم المضطهَدَة من اجل حرّيتها – بقيادة البروليتاريا في تحالف مع الفلاّحين المطالبين بالأرض و الراديكاليين – سيكون قوّة محرّكة للثورة البروليتاريّة العالميّة .
لكن الإمبرياليّة تقوم على أساس الرأسماليّة و قوانين حركتها مثلما حلّلها ماركس .
لذا لنلقى نظرة على بعض معطيات عالم اليوم .
1- 300 شركة متعدّدة الجنسيّات تملك مباشرة رُبع الممتلكات المنتجة في العالم . و أغنى ال2 بالمائة من سكّان العالم يسيطرون على 85 بالمائة من مداخيل العالم . و في الولايات المتّحدة ، أكبر 200 شركة صناعيّة تملك 60 بالمائة من القدرة الصناعيّة .
2- لقد نما عدد البروليتاريا العالميّة بشكل ضخم منذ زمن البيان . يسحق عشرات ملايين الفلاّحين و يجتثّوا من أراضيهم كلّ سنة في العالم الثالث . ففي بنغلاداش قبل 20 سنة ، لم تكن هناك صناعة نسيج . و اليوم هناك مليون عامل في قطاع النسيج و معظمهم من النساء المتركّزات في داكا ، العاصمة . إنّ إقتصادا صناعيّا عالميّا قائم على اليد العاملة البخسة جزء حيوي من السير العالمي للرأسماليّة . ويوجد بروليتاريوها الجدد في المناطق الصناعيّة التي يحرسها الجيش، في معامل هشّة ذات معدّلات حوادث قاتلة مرتفعة و إستغلال جنسيّ ، و في مدن الصفيح المجاورة لها ماء مسموم ، و تستغلّ عمل 200 مليون طفل !
و هناك بروليتاريا حقيقيّة في الولايات المتّحدة : في محلاّت الملابس ، في مصانع الدجاج ؛ و هناك عمّال الفلاحة و ممرّضو المستشفيات ، و المراهقون الذين يطاردون زوايا الشوارع جنوب البرونكس و جنوب وسط لوس أنجلاس .
3- أكثر من نصف البشر على الكوكب بالكاد يعيشون بدخل أقلّ من دولارين في اليوم . و غدا ليلا ، يكون قد مات 40 ألف طفل آخر في العالم الثالث بفعل سوء التغذية و أمراض يمكن الوقاية منها : و 30 بالمائة من قوّة العمل العالميّة لا تجد شغلا أو هي تشغّل بأقلّ من قدراتها . و 1 من 9 عمّال في أوروبا يعرف البطالة . و 75 مليون عامل مهاجر يتركون سنويّا بلدانهم بحثا عن الشغل .
4- في الولايات المتّحدة ، أغنى بلد في العالم ، 40 بالمائة من الأطفال السود و اللاتينيين يعيشون في فقر ؛ و 7 مليون شخص بلا مسكن ؛ 33 مليون إنسان لا تأمين مرض لديهم ؛ و 1 من 3 من الرجال الشباب السود إمّا في السجن أو هو تحت مراقبة نظام العدالة الإجرامي . و ثلث قوّة العمل في الولايات المتّحدة تشتغل في أعمال أجرها متدنّى . و بين 1992 و 1995 ، 15 بالمائة من الناس الذين كان لديهم شغل ل 10 سنوات أو أكثر فقدوا مواطن شغلهم و الشغل الجديد الذى وجدوه يحصلون منه على أجور أقلّ ب 14 بالمائة .
5- الإنهيار الاقتصادي في آسيا . إستحضروا كيف أنّ ماركس تحدّث عن أنّ الساحر لم يعد يستطيع السيطرة على القوى التي جمّعها ؟ حسنا ، الأزمة الماليّة في آسيا مثال مناسب للغاية . في تسعينات القرن العشرين ، تدفّقت كمّيات ضخمة من رأس المال المالى العالمي إلى بورصات و أسواق المال الآسيويّة و قد تيسّر ذلك بواسطة التقنيات الألكترونيّة و المعلوماتيّة . و قد إستثمرت كمّيات هائلة من رأس المال الصناعي العالمي لتوسيع الإنتاج في كلّ شيء من السيّارات إلى رقائق الحواسيب . و أعلى بنايتين في العالم شيّدتا في ماليزيا . ثمّ تداعى كلّ شيء . و إنهارت هذه الإقتصاديّات . و أغلقت المصانع و وجد الملايين أنفسهم دون شغل و تبخّرت إدّخارات أعداد كبيرة من الناس .
6- و في الختام ، يُواجه كوكب الأرض أزمة بيئيّة أبعادها غير مسبوقة . فنصف الغابات التي تغطّى المناطق الإستوائيّة من العالم لم تعد موجودة . و كلّ يوم ، ينقرض 74 نوعا . هذا إلى جانب تحطيم طبقة الأوزون و ارتفاع حرارة العالم و إستنزاف موارد المحيطات و إستخدام العالم الثالث لدفن النفايات السامة . كلّ هذا من تبعات المنطق الرأسمالي : كلّ شيء من أجل الربح .
و يرفع الرأسماليّون السوق الحرّة كأمل للإنسانيّة . لكن نظامهم كارثة بأتمّ معنى الكلمة . إنّه نظام وحشيّ ، فات أوانه و لم يعد ضروريّا . و شيء مغاير نوعيّا ممكن .
عالم مغاير ممكن
الواقع أنّ قوى الإنتاج في العالم قادرة على إنتاج ما يكفى من الغذاء و اللباس و المسكن و الرعاية الصحّية و الحاجيات الضروريّة الأخرى لكلّ فرد في العالم و في نفس الوقت ، هي قادرة على توفير فائض كبير يخصّص للتطوّر الشامل المستقبلي للمجتمع الإنساني و البشر الذين سيكوّنونه . لكن بداهة ليس هذا يحدث على أرض الواقع . و ما الذى يقف حجر عثرة أمام هذا ؟ علاقات الملكيّة الرأسماليّة و الحكم الطبقي السياسي لرأس المال .
جميع ما كنت أصفه تعبير عن التناقض الأساسي لعصر البرجوازيّة . إنّه تناقض بين الإنتاج الاجتماعي الطابع و التملّك ( أو الملكيّة ) الخاصة . و البروليتاريا هي الطبقة التي تمثّل العمل التعاوني و الجهود التعاونيّة عامة و التي تتناسب و الطبيعة الإجتماعية العالية لقوى الإنتاج . يمكن أن تطلق طاقة هذه القوى المنتجة .
هناك جملة شهيرة في " بيان الحزب الشيوعي " يتحدّث فيها ماركس الصناعة التي تطوّرها البرجوازيّة ثمّ يقول : " إنّ البرجوازيّة تنتج قبل كلّ شيء حفّارى قبرها ". و يقصد البروليتاريا . و الآن تذكّروا أنّي قلت إنّ البرجوازيّة قد إضطلعت بمهمّة موضوعيّة . حسنا ، للبروليتاريا مهمّة موضوعيّة ألا وهي إنجاز ثورة تهدف إلى تركيز ملكيّة إشتراكيّة ، عامة لوسائل الإنتاج و تنظيم الناس بطرق تعاونيّة لإنجاز العمل و توزيع ما يتمّ إنتاجه حسب حاجيات الناس .
البروليتاريا تقود ثورة فريدة من نوعها . لأوّل مرّة ، يمكن إنجاز ثورة في مصلحة غالبيّة الإنسانيّة – ليس لتعويض شكل من الإستغلال و الإضطهاد بشكل آخر ، و إنّما للتخلّص من جميع الإستغلال و الإضطهاد . وكما شدّدت على ذلك ، قوى الإنتاج اليوم مترابطة إلى درجة عالية على الصعيد العالمي و بالفعل لا يمكن إستخدامها بالطريقة الأكثر عقلانيّة إلاّ على الصعيد العالمي . لذا الثورة البروليتارية في نهاية التحليل ثورة عالميّة . و تهدف هذه الثورة إلى إلغاء الطبقات و بناء نوع جديد تماما من المجتمع على النطاق العالمي . هذه هي النظرة و المهمّة الموصوفتين في " بيان الحزب الشيوعي " و هذا ما أودّ التعمّق فيه أكثر .
النظرة الشيوعية
يتقدّم " بيان الحزب الشيوعي " بنظرة جليلة لمجتمع جديد و عالم جديد . و يصف ماركس النظرة في عدّة أماكن : " مجتمع جديد تكون حرّية التطوّر و التقدّم لكلّ عضو فيه شرطا لحرّية التطوّر و التقدّم لجميع أعضائه . " و في قسم آخر ، يقول ماركس ، " إنّ الثورة الشيوعيّة تقطع من الأساس كلّ رابطة مع علاقات الملكيّة التقليديّة ؛ فلا عجب إذن إن هي قطعت بحزم أيضا ، أثناء تطوّرها ، كلّ رابطة مع الأفكار و الآراء التقليديّة ."
مفهوم " القطيعتين الراديكاليّتين " يخبرنا بالكثير عن المهمّة الثوريّة للبروليتاريا . و قد شرحت أنّ علاقات الإنتاج متعلّقة بمن يملك وسائل الإنتاج و أي دور تنهض به مختلف مجموعات الناس في الإنتاج الاجتماعي و كيف يتمّ توزيع الثروة المنتجة في المجتمع . و مثلما أشرت سابقا ، تهدف الثورة الشيوعيّة إلى مشركة وسائل الإنتاج و تطويرها إلى درجة – و يمكن أن يجري هذا عبر مراحل – يمكن خلالها أن تصبح ملكيّة جماعيّة للمجتمع .
و تتخلّص الثورة الشيوعيّة من الإنتاج من أجل الربح و تهدف إلى إيجاد وفرة ماديّة مشتركة و تتخلّص من الإنتاج السلعي و التبادل عبر النقد / المال . غايتها هي تغيير هياكل العمل و العلاقات في صفوف الناس كي يشتغل الجميع في تعاون للمساهمة بأكثر ما أمكن في المجتمع و الحصول من المجتمع على ما يحتاجون إليه . سيكفّ تسليم الإنسان أو الإنسانيّة قوى حياتها الحيويّة لقوى غريبة تهيمن عليها ؛ سيكفّ إرتباط الفرد بتقسيم عبودي للعمل – فيه البعض يأمرون و البعض يرسمون و البعض يخلقون و البعض يكدحون .
ستتجاوز هذه الثورة البون بين العمل الفكري و العمل اليدوي . و سيكون الناس في آن معا منتجين و مبدعين . لن يكون أي مظهر من مظاهر المجتمع حصرا على البعض ؛ سيساهم الجميع في تسيير المجتمع . كما تهدف هذه الثورة على إلغاء كافة الإختلافات الطبقيّة و التناقضات الإجتماعيّة العدائيّة و إلى القضاء على أرضيّة هيمنة أيّة مجموعة من الناس على المجتمع . بإختصار ، غايتها هي التخلّص من الدولة .
جميع هذه التغييرات متصلة بالقطيعة الراديكاليّة الثانية التي صاغها ماركس ، القطيعة مع الأفكار التقليديّة و يعنى هذا تغيير طرق التفكير و الدوافع و الأخلاق . و يعنى القطيعة مع اليد الميّتة للماضى ، بمعتقدات و قيم و تطيّر متخلفين . و يعنى أنّ الثورة ليس بوسعها إلحاق الهزيمة بالرأسماليّة إذا لم تناضل ضد الإيديولوجيا البرجوازيّة ل " أنا أوّلا ".
و للشيوعيّة فهمها الخاص للحرّية . تنهض النظرة البرجوازية للحرّية ، و قد تحدّث ماركس عنها في " بيان الحزب الشيوعي " ، أساسا على حرّية الشراء و البيع ، بما يعنى حرّية الهيمنة و الإستغلال . و تتمحور النظرة البرجوازية للحرّية حول الفرد - يتّبع الفرد مصالحه الخاصة ، الحق الفردي في الحصول على الثروة والسلطة على حساب الآخرين ؛ و حقّ البعض في التحكّم في الآخرين بينما لا يتحكّم فيهم أحد .
و النظرة الشيوعيّة للحرّية مختلفة . ستحرّر الأفراد من علاقات الإستغلال و الإضطهاد و سيتطوّرون من كلّ الجوانب . لكن هذا سيجرى في إطار تجمّع الناس على نحو جديد كلّيا . و مثلما وضع ذلك بوب أفاكيان ، رئيس الحزب الشيوعي الثوري ، " سيدرك الناس أنّ مصالح الجميع تتحقّق عبر تغيير المجتمع ، لتوسيع مجال الحرّية للجميع ".
و الثورة الشيوعيّة ثورة عالميّة هدفها إلغاء الطبقات على النطاق العالمي . إنّها تهدف إلى إنشاء مجتمع عالمي حقيقي فيه معا الوحدة و التنوّع القائمة على تجاوز كلّ اللامساواة و العلاقات الإضطهادية بين مختلف الشعوب و الأمم ، و التقسيم نفسه للعامل إلى أمم منفصلة . و سيخوّل بلوغ هذا لللإنسانيّة التحرّك كراعية حقيقيّة لكوكب الأرض و موارده ، معتنية ليس بالحاضر و حسب بل بالمستقبل و أجيال المستقبل أيضا . و ستُنشئ الشيوعية مجتمعا عالميّا من الاجتماع و التعاون الحرّين بين البشر . و قد أصاب ماو تسى تونغ حين قال : " عندما تبلغ البشريّة جميعها مرحلة تغيّر فيها نفسها و العالم تغييرا واعيا ، يكون العالم قد دخل عصر الشيوعيّة ." [ " فى الممارسة العمليّة "، مؤلفات ماوتسى تونغ المختارة ، المجلّد الأوّل ، صفحة 451 – المترجم ].
و الآن سبب أساسي لكتابة ماركس ل " بيان الحزب الشيوعي " كان توضيح ما الذى سيتطلّبه بلوغ النظرة الشيوعيّة و تحقيق هدفها . حين تقرأون البيان ، هناك قسم في النهاية حيث ينقد ماركس النظرات الأخرى للإشتراكيّة و الشيوعيّة . أساسا ما يقوله ماركس هنا و في كتابات أخرى هو أنّ الطرق المتنوّعة الأخرى لوضع حدّ للظلم – سواء شملت التذيّل وراء حكّام " مستنيرين " أكثر أو وضع بعض أصحاب النوايا الحسنة يدهم على مقاليد الدولة و تغيير سياساتها ، أو الانسحاب و إنشاء مجموعات شيوعيّة – طوباويّة صغيرة على هامش المجتمع – هذه الطرق الأخرى لن تنفع و لن تفلح لأنّها تترك العلاقات الإقتصاديّة الرأسماليّة و الحكم السياسي الرأسمالي دون مساس .
لا يمكن أن يتمّ تحرير البروليتاريا إلاّ على يد البروليتاريا نفسها . و مثلما جاء في النشيد الشهير ، نشيد الأمميّة : " يـكـفي عــزاء بـالخـيال/علـيـنا العــبء لا منــاص/ فــيا عــمّــال للنـضال / ففي يميــنـنا الـخلاص" . و ما قاله ماركس في البيان و الكتابات السياسيّة التي ستليه هو أنّ البروليتاريا ينبغي أن تنظّم نفسها كطبقة و يجب أن تصبح واعية بمهمّتها ، مهمّة تحرير الإنسانيّة قاطبة . و بالضرورة يجب أن تطيح بالبرجوازيّة و تحطّم جهاز دولتها . و يجب أن تشكّل نفسها كطبقة حاكمة و تركّز دكتاتوريّتها الطبقيّة ضد البرجوازيّة .
دكتاتوريّة البروليتاريا وسيلة لبلوغ المجتمع الخالى من الطبقات . إنّها البروليتاريا وهي تحكم المجتمع و تغيّره . و هذه هي الإشتراكيّة : مرحلة إنتقاليّة بين الرأسماليّة و الشيوعية .
معالم ثلاث لقضيّتنا
لكن البرجوازية تقول إنّه أينما و كلّما تمّت محاولة القيام بهذا ، كانت النتائج كارثيّة . و تقول لنا إنّ هذا هو درس ال150 سنة الماضية . إلاّ أنّ الماركسية – اللينينيّة – الماويّة تستخلص الدرس العكسي . أينما و عندما أنجزت هذه الثورة ، كانت النتائج عميقة و تحريريّة . و التجربة التاريخيّة للقيام بالثورة بإنتصاراتها و هزائمها ، توفّر دروسا حول طريق تحرير الإنسانيّة . و هذا ما أرغب في الحديث عنه الآن .
لقد وُجدت معالم كبرى ثلاث في تاريخ الثورة البروليتاريّة – و كلّ إختراق وفّر نقطة إنطلاق جديدة للإختراق التالى .
جدّ الإختراق الأوّل في فرنسا – كمونة باريس سنة 1871 . فلأوّل مرّة إفتكّت الطبقة العاملة السلطة . و فرّت البرجوازيّة من باريس . و طوال 70 يوما بطوليّا ، كان ينشئ شيء جديد و غير مسبوق أبدا . جرى تركيز حكم الطبقة العاملة . و أدخلت إصلاحات خدمة للشعب . و شرع العمّال في تسيير المدينة تسييرا مباشرا . و كانت النساء في الخطوط الأماميّة لهذه المعركة و التجربة . لكنّ هذه الأخيرة لم تعمّر طويلا إذ تمكّنت البرجوازية من تجميع قواها ثمّ إنقضّت على الكمونة و سحقتها في الدم .
و وقع تعلّم درس حيويّ . مثلما لخّص ماركس نفسه و قد أدمج هذا في مقدّمة الطبعات اللاحقة ل " بيان الحزب الشيوعي " ، " الطبقة العاملة لا يمكنها أن تكتفي بالإستيلاء على جهاز الدولة القائم و إستخدامه في غاياتها الخاصة " . لم تدرك البروليتاريا الباريسيّة أهمّية مطاردة العدوّ و سحقه .
و جدّت القفزة الكبرى التالية في روسيا في 1917 . هنا ، شيّد لينين و البلاشفة صرحا على أساس هذه الدروس . و بيّن لينين أيضا الحاجة إلى حزب طليعي لتمكين البروليتاريا من الوعي الثوري و خوض صراع ثوري .
و أرست الثورة البلشفيّة أجهزة سياسيّة و أجهزة إجتماعيّة جديدة للحكم الشعبي . و إعترفت بحقّ تقرير المصير للأمم المضطهَدَة في الإمبراطوريّة الروسيّة القديمة و شكّلت دولة متعدّدة القوميّات و اللغات . و حصلت النساء على حقّ الطلاق و تغييرات أخرى في العلاقات الأسريّة و إلتحقن بحقول كلّ من الإنتاج و السياسة على نحو غير مسبوق . و وفّر الإتحاد السوفياتي الإلهام و الدعم الأممي للحركات الثوريّة عبر العالم قاطبة . و قد أنشأت هذه الثورة أوّل إقتصاد إشتراكي مخطّط في تاريخ الإنسانيّة . و صادرت ملكيّة الطبقات المستغِلّة السابقة و أرست نظام ملكيّة عامة – الدولة . و كان الإنتاج يُنجز على قاعدة مخطّط واعي لتلبية حاجيات المجتمع .
لكن من البداية و بلا هوادة ، كانت الثورة تواجه ظروفا صعبة لا تصدّق . فقد غزت الإمبرياليّة البلاد بُعيد تشكيل دولة البروليتاريا . و وُجد حصار إمبريالي دائم . و في نهاية المطاف ، واجهت الدولة العمّاليّة الشابة القسم الأساسي لآلة الحرب النازيّة .
طوال 40 سنة ، وقع الدفاع عن الإشتراكية إلاّ أنّه بعد ذلك هُزمت الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي نتيجة منتهى الضغط من الخارج و التداعى الداخلي المتنامي . في أواسط خمسينات القرن العشرين ، إستولت طبقة راسماليّة جديدة على السلطة عقب وفاة ستالين .
و التقدّم الكبير التالى في قضيّة الثورة البروليتاريّة حدث في الصين في 1949 . إنتصرت حرب ثوريّة طويلة الأمد بقيادة الطبقة العاملة و حزبها الشيوعي و على رأسه ماو تسى تونغ . فحرّرت الثورة الصينيّة رُبع الإنسانيّة من الإستغلال . فكّروا في هذا : مثّل الإصلاح الزراعي المنجز في الصين أكبر نقل ضخم للثروة من الأغنياء إلى الفقراء في تاريخ الإنسانيّة .
و قد لخّص ماو تسى تونغ دروس التجربة الإشتراكيّة السوفياتيّة و إعادة تركيز الرأسماليّة . و بالرغم من المكاسب العظيمة ، وقع الثوريّون السوفيات أيضا في أخطاء ، إذ لم تفهم أشياء معيّنة بصدد طبيعة المجتمع الإشتراكي فهما جيّدا .
و حلّل ماو دلالة مخلّفات المجتمع الرأسمالي داخل المجتمع الإشتراكي . فهذه المخلّفات هي أشياء من مثل واقع أنّ بعض الناس ينخرطون أساسا في العمل الفكري بينما يقوم آخرون أساسا بالعمل اليدوي ، و واقع أنّ مسؤوليّات الإدارة و القيادة ليست بعدُ موزّعة بشكل عادل ؛ و لا تزال هناك لامساواة بين المدن و الأرياف و بين المناطق ، و بين النساء و الرجال ؛ و إختلاف في الدخل ؛ و المال و الإنتاج السلعي يتواصل لعبهما دورا هاما في ظلّ الإشتراكية .
لا يمكن إلغاء هذه الأشياء بين ليلة و ضحاها . لكن يجب أن تتمّ محاصرتها و يتمّ تقليصها و تغييرها كما يجب قتال الإيديولوجيا التي تتناسب معها . لكن طالما وُجدت هذه الظواهر فإنّها ستولّد قوى طبقيّة برجوازيّة ستبحث عن صياغة المجتمع حسب مصالحها الطبقيّة . و قال ماو إنّ الإشتراكيّة مرحلة طويلة من الصراع بين الطريق الرأسمالي و الطريق الإشتراكي ، بين الطبقات الإجتماعيّة العدائيّة و أنّ مسألة من سيكسب و متى مسألة لم تحسم بعدُ .
و كذلك حلّل ماو نقاط ضعف المقاربة السوفياتيّة لبناء الإشتراكيّة . فقد وُجد تشديد مبالغ فيه على بناء صناعة ثقيلة فحسب. و أيضا وُجد تشديد مغالى فيه على القبول بالطرق الرأسماليّة في تنظيم الأشياء و لم يحصل تغيير كافى في العلاقات في صفوف الناس . فعلى سبيل المثال ، في الإتّحاد السوفياتي ، ظلّت المصانع تعمل بنظام إدارة الرجل الواحد . و جرى التعويل أكثر من اللازم على الخبراء و لم يجرى التعويل على الجماهير في معالجة المشاكل . و لخّص ماو أنّه لو توجّه عناية كافية إلى " القطيعة الراديكاليّة الثانية " – تغيير نظرة الناس إلى العالم و النضال حول القضايا الإيديولوجيّة .
و مسألة ذات أهمّية تاريخيّة حيويّة هي أنّ الثوريين السوفيات لم يعثروا على طريقة قتال محاولات القوى البرجوازيّة الجديدة ، لا سيما الموجودة صلب الحزب ، لإعادة تركيز الرأسماليّة . لكن ماو ، إلى جانب الجماهير ، إكتشف هذه الطريقة و هذه الوسيلة : الثورة الثقافيّة البروليتارية الكبرى .
إنطلقت الثورة الثقافيّة في 1966 و إنتهت في 1976 . وهي المعلَم الثالث في تاريخ الثورة البروليتاريّة العالميّة . هي قمّة ما إستطاعت البروليتاريا إنجازه . و يتساءل الناس " أهناك شيئا ملموسا و ذات معنى بوسعكم قوله عن كيف ستسيّر البروليتاريا المجتمع ؟ " . نعم لدينا ما نقوله .
الثورة الثقافيّة تكتسح أرضا جديدة
لقد كانت الثورة الثقافيّة ثورة داخل الثورة : صراعا طبقيّا في ظلّ الإشتراكيّة مخاض صراحة لمنع إعادة تركيز الرأسماليّة و خيانة الثورة . في ظلّ قيادة ماو تسى تونغ و أنصاره داخل الحزب الشيوعي الصيني ، نهضت الجماهير لتطيح بالقوى الرأسماليّة الجديدة التي ظهرت صلب ذات هياكل و مؤسّسات المجتمع الإشتراكي ، و التي كان مركز قوّتها صلب الحزب الشيوعي ذاته .
كانت هذه الثورة الثورة الأعمق والأشمل في تاريخ العالم. لقد جسّدت تجسيدا حيّا ما تعنيه جملة ماركس" إقتحام السماء ". و شهدت الثورة الثقافية الشباب في نقاش ملتهب بشأن ما يجرى في المجتمع . و شهدت العمّال من المدن الكبرى يحتشدون ببطولة لإسترجاع السلطة من نخب متخندقة ، أثناء سيرورات معقّدة من صياغة أشكال حكم بروليتاريّة جديدة أكثر راديكاليّة و شعبيّة .
و في أثناء الثورة الثقافية ، تفجّر روتين الحياة اليوميّة و بكثافة إنخرط الناس من كلّ مجالات الحياة في نقاش واسع النطاق – حول الاقتصاد السياسي و حول النظام التعليمي و حول العلاقات بين الحزب الشيوعي و الجماهير . و لم يُستثنى و لا موظّف رسمي من النقد . كان الناس العاديّون يتصارعون مع العلماء و الإداريين حول عجرفتهم و أفكارهم المسبّقة .
و كان الفلاّحون يناقشون كيف أنّ القيم الكنفيشيوسيّة للنظام الأبوي / البطرياركي و العبوديّة لا تزال تؤثّر في حياتهم . في الصين الثوريّة ، كانت " خدمة الشعب " – كيف تساهم حياتى في تلبية حاجيات المجتمع و الثورة العالميّة – معيارا إيديولوجيّا وفقه كان عشرات ملايين الناس يقيّمون أنفسهم و الآخرين .
خلال الثورة الثقافيّة ، نُظّمت حملات للنشر الشعبي لبعض المفاهيم الماركسيّة . و من المفاهيم التي تمّت دراستها على نطاق واسع مفهوما من عمل لماركس [ " صراع الطبقات فى فرنسا من 1848 إلى 1850" - المترجم ] يقول إنّ الشيوعيّة : " إعلان للثورة المستمرّة ، الدكتاتورية الطبقية للبروليتاريا كنقطة ضرورية للقضاء على كلّ الإختلافات الطبقية ، و للقضاء على كلّ علاقات الإنتاج التى تقوم عليها و للقضاء على كلّ العلاقات الإجتماعية التى تتناسب مع علاقات الإنتاج هذه ، و للقضاء على كلّ الأفكار الناجمة عن علاقات الإنتاج هذه ".

و يسمّى الماويّون هذا ب " الكلّ الأربعة " . و هذا يفيد أنّ الثورة لا تقف في نصف الطريق . تظلّ البروليتاريا تقوم بالثورة لتثوير كلّ الأنظمة و كلّ العلاقات و كلّ المؤسّسات و كلّ الأفكار التي تجسّد و تعزّز الإنقسام الطبقي .
و ماذا يعنى هذا بالملموس ؟ لنأخذ مسألة علاقات الإنتاج . أثناء الثورة الثقافيّة ، جرى تثوير إدارة الصناعة و المصانع . و تمّ نقد ضوابط العمل الإضطهاديّة التي باسم الإنتاجيّة و الإنضباط كانت تحدّ من مبادرة العمّال و تمّ التخلّص منها . و محلّ نظام إدارة الرجل الواحد حلّ نظام إداري جماعي . و أمضى العمّال وقتا في النهوض بالمهام الإداريّة و أمضى الإداريّون وقتا في العمل في محلّ الإنتاج . و حلّل التقنيّون و عمّال الإنتاج المشاكل معا و تطوّرت فرق تقنيّة من ضمن العمّال . و تداول العمّال المهام في العمل كجزء من جهود الإطاحة بالروتين و التخصّص المبالغ فيه . و كان أسمى الإداريين يحصلون على أجور تساوى خمسة مرّات فقط أجور العمّال الذين لا مؤهّلات لهم . قارنوا هذا بالقادة التنفيذيين في الولايات المتحدة الذين يحصلون على أجور تساوى 150 مرّة أجور العمّال .
و تعاونت المصانع مع الجماعات المحلّية و بعثت مندوبين إلى الريف . و كان هذا وسيلة ملموسة لكسر الإختلافات بين المدن و الأرياف . و كانت الحياة في أماكن الشغل أكثر من أماكن إنتاج ، فقد وُجد الشعار الذى رفعه أنصار ماو خلال الثورة الثقافيّة و كان يقول " المصانع لا تصنع فقط منتوجات بل هي تصنع أيضا الناس " . و أدخلت في المصانع النقاشات و الجدالات السياسيّة و الثقافة و التعليم إلى جانب العمل .
العلاقات الإجتماعيّة جزء آخر من " الكلّ الأربعة " . أنظروا إلى الثورة و المؤسّسات في النظام التعليمي . حينها ، صار العمّال و الفلاّحون مسجّلين في الجامعات بأعداد كبيرة ؛ و وقع تعديل البرنامج القديم ليتناسب و حاجيات بناء مجتمع مساواة ؛ و جرى التخلّص من الإمتحان التنافسي التقليدي و أنظمة التدرّج ؛ و جرى نقد مناهج التعليم الأوتوقراطيّة ؛ و بات من المنتظر من الأساتذة أن يتعلّموا من الطلبة ؛ و وجّهت دعوات للعمّال و الفلاّحين للحضور في الجامعات و إلقاء المحاضرات في الأقسام . و ربط النظام التعليمي الجديد الدراسة بالعمل اليدوي . و قبل مضيّ الطلبة إلى مؤسّسات تعليميّة من مستوى عالى ، كانوا يقضّون سنة أو سنتين في صفوف العمّال و الفلاّحين و ترشّحهم الجماهير للقبول بهم في الجامعات ، و مقياسا هاما هو نيّتهم خدمة الشعب .
التغيّرات كانت عميقة بيد أنّها لم تكن يسيرة التحقيق . و تعرّضت للهجوم . كلّ هذا تمّ بفضل النضال و تحقّق كجزء من الصراع الطبقي في المجتمع الصيني . و كان محور هذا الصراع من سيُحدّد توجّه المجتمع و في نهاية المطاف ، من سيسيّر المجتمع – البروليتاريا أم البرجوازيّة الجديدة . و إشتدّ هذا الصراع في سبعينات القرن العشرين و كان للوضع العالمي تأثير كبير على مآل الصراع الطبقي في الصين . فقد خاضت القوى الثوريّة نضالا شرسا و بطوليّا للدفاع عن حكم البروليتاريا . غير أنّ أتباع الطريق الرأسمالي و على رأسهم دنك سياو بينغ تمكّنوا من مراكمة قوّة لتنظيم إنقلاب عسكري . و أطاحوا بسلطة الطبقة العاملة في 1976 .
إمتلاك أفق تاريخي
ثلاث مرّات – أوّلا ، في باريس ثمّ في الإتحاد السوفياتي و تاليا في الصين – إقتحمت البروليتاريا السماء . مرّتان في هذا القرن العشرين ، حقّقت البروليتاريا العالميّة عمليّا إختراقا و شرعت في سيرورة حكم المجتمع و بناء عالم جديد – طوال 30 سنة في الإتّحاد السوفياتي و طوال أكثر من 25 سنة في الصين . لكن في كلّ مرّة ، تهُزم الثورة . لم " تفشل " بل مُنيت بالهزيمة . و أتت هذه الهزائم التي منيت بها البروليتاريا على يد العدوّ الطبقي و النظام العالمي العدّو .
و جدّت كلّ واحدة من هذه المحاولات لبناء نوع جديد من المجتمع في بلد تحاصره و تضغط عليه قوى معادية . و لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ ، فقد جدّت في عالم فيه نمط / أسلوب الإنتاج الرأسمالي و أفكاره و نظرته إلى العالم لا تزال مهيمنين . و من هذا نستخلص درسا هاما . مصير أيّة ثورة فرديّة مرتبط في نهاية المطاف بما إذا كانت الثورة العالميّة تتقدّم أم لا . و هذا يعنى حيثما تحقّق الجماهير إختراقات لتفتكّ السلطة و تبنى الإشتراكيّة ، يجب على المجتمع الجديد أوّلا و قبل كلّ شيء أن يكون قاعدة إرتكاز لتقدّم الثورة العالميّة .
خلال جولات ثلاث ، كانت البروليتاريا في السلطة . لكنّها لم تعد إلى نقطة الإنطلاق لأنّ البروليتاريا قد تعلّمت من هذه التجارب . فقد تعلّمت ما يعنيه الحكم و ما تعنيه إعادة تشكيل المجتمع برمّته . و قد عمّقت فهمها للسيرورة الثوريّة و الماركسية – اللينينيّة – الماويّة تلخّص هذا . هناك الذين يقولون إنّ ماركس على حقّ في تحليله للرأسماليّة لكنّه كان مخطئا في كيف ستقود البروليتاريا ثورة تحرّريّة بيد أنّ البروليتاريا في هذه 150 سنة ، قد بيّنت أنّها الطبقة الوحيدة القادرة على تثوير المجتمع .
و من المهمّ إمتلاك أفق تاريخي . و المقصود هنا هو نضال تاريخي – عالمي بين نظام جديد صاعد ، الشيوعية و نظام قديم و متداعى ، الرأسماليّة – الإمبريالية – الشكل الأخير و الأكمل للإنتاج الاجتماعي القائم على العداء الاجتماعي . صحيح أنّ النظام القديم تماسك لمدّة أطول ممّا توقّع ماركس . لكنّه لم يصبح بتاتا حميدا و لطيفا . نعيش اليوم في عالم ما كان قبل أبدا أشدّ إستقطابا بين من يملكون و من لا يملكون ، عالم ينفصل فيه الناس عن بعضهم البعض و عن إبداعهم . إنّه عالم تستعبد فيه التكنولوجيا الناس و لا تحرّرهم . هذا النظام حقّا نظام فات أوانه . ظروف البؤس تدفع الجماهير إلى النهوض و النضال . و الثورة البروليتارية وحدها بوسعها معالجة تناقضات هذا النظام و السماح للإنسانيّة بالتقدّم أبعد من هذه المرحلة العنيفة من التاريخ .
لكن ما تعلّمناه هو أنّ القضاء على هذا النظام سيتطلّب نضالا طويل الأمد و معقّدا ، عصرا كاملا . و قد تعلّمنا أيضا أنّ الثورة البروليتاريّة العالميّة ستستغرق وقتا أطول و تمرّ عبر منعرجات عديدة أكثر ممّا توقّعه ماركس . إلاّ أنّه علينا أن نتذكّر أنّ البرجوازيّة إستغرقت أربعة قرون – منذ زمن بدايات البرجوازية في المدن الدول الإيطاليّة – قبل أن تعزّز في النهاية حكمها . بطبيعة الحال ، كانوا يناضلون من أجل نظام إستغلال جديد . و الثورة البروليتاريّة لا تشبه أي جهد إنساني سابق . لذا لا ينبغي أن نيأس إن تعرّضت ثورتنا للصعوبات و الهزائم .
و ها نحن في منعرج الألفيّة الجديدة . و ترغب البرجوازيّة في أن نخفض أنظارنا . يريدون منّا أن نعتقد بأنّه لا بديل للرأسماليّة ، لا مستقبل أبعد من الرأسماليّة . لكن لدينا هذه التجربة التاريخيّة في بناء عالم مغاير . و الشيوعيّة لا تزال تنبض حياة وهي موجودة وجودا جيّدا في عالم اليوم . فهناك الحركة الأممية الثوريّة ( RIM ) التي توحّد القوى الماركسية – اللينينيّة – الماويّة عبر العالم . و هناك حرب الشعب في البيرو و النيبال بقيادة أحزاب منتمية إلى الحركة الأمميّة الثوريّة . و في الفليبين ، هناك حرب شعب ماويّة . و هنا بالذات في " قلب الغول " ثمّة حزب طليعي يعمل في صفوف الجماهير و يعدّ الأرضيّة للثورة .
و قد كتب بوب أفاكيان ، رئيس الحزب الشيوعي الثوري ، في غرّة ماي من السنة الفارطة : " إن كان بوسعكم أن ترتؤوا عالما دون إمبريالية و إستغلال و إضطهاد ، كيف يمكنكم ألاّ تشعروا بالإندفاع إلى المشاركة النشيطة في النضال العالمي – التاريخي لتحقيق ذلك ؟ "
الإخوة و الأخوات ، لا يزال " بيان الحزب الشيوعي " صحيحا و لا يزال خطيرا و لا يزال أمل من لا أمل لهم .
---------------------------------------------------------------------------------------------------------