شيوعيون لم يعودوا شيوعيين


فؤاد النمري
2018 / 2 / 6 - 21:29     

شيوعيون لم يعودوا شيوعيين !!

كارل ماركس الشاب العبقري المولود في 5 مايو 1818 في مدينة ترير الألمانية الذي حمل درجة الدكتوراه في الفلسفة لم يكن شيوعياً قبل العام 1844 حين كتب "نقد الإقتصاد السياسي" واكتشف إذاك "فائض القيمة" ؛ أي أن 6 ساعات عمل إذا ما أُستهلكت بصورة نفعية كما تستهلك في نظام الإنتاج الرأسمالي فإنها تعطي قيمة إنتاج عمل 8 ساعات ؛ قيمة إنتاج الساعتين الإضافيتين هي فضل القيمة أو فائض القيمة .
أجور العمل التي تصرف كقيمة تبادلية لعمل 8 ساعات يومياً تتحقق كاملة بعد عمل 6 ساعات فقط أما إنتاج الساعتين الأخريين فيعود على الرأسمالي بعد استبداله في السوق بأرباح وهي الهدف الوحيد للتجارة الرأسمالية التي تستبطن مخاطر المغامرة . مبادلة إنتاج الساعات الست الأولى في السوق تقضي إعادة كامل الأجور إلى الرأسمالي المنتج وبذلك لن تعود لدى المجتمع قوى شرائية لشراء إنتاج الساعتين الإضافيتين . فضل القيمة سيتراكم في السوق المحلية ليخنق بالتالي النظام الرأسمالي نفسه غريقاً فيه ما لم يتدبر تصريفه للخارج فكان أن شكل العالم الجديد أسواقاً مفتوحة لتصدير فائض الإنتاج أواسط القرن التاسع عشر ثم التوسع الإمبريالي حتى وصل إلى إقتسام كل العالم أسواقاً لبضعة مراكز رأسمالية عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .

نعود لهذه القراءات المعروفة لدى العامة، عامة الشيوعيين على الأقل، كيما نؤكد على أن الشيوعي لا يكون شيوعياً حقيقياً وكاملاً إلا بعد القراءة الدقيقة الموضوعية الكاملة لعلاقات الإنتاج القائمة وهي التي تحدد مسارات التطور الإجتماعي الذي هو قضية الشيوعيين الأولى والأخيرة، أما من لا يقرأ مثل هذه القراءة فليس بوسعه أن يكون شيوعياً حتى وإن إدعى أو أراد ذلك .
الشيوعيون بعامتهم اليوم يعتقدون أن النظام الرأسمالي ما زال يعمل بوحشية فائقة خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي . هؤلاء هم شيوعيون فقط إذا ما كانت قراءتهم لتطور النظام الرأسمالي صحيحة،أما إن لم تكن صحيحة فعليهم عندئذٍ أن يعترفوا بأنهم لم يعودوا شيوعيين، ليس هذا فقط بل انتهوا ليكونوا محرفين بل الأولى أعداءً للشيوعية . أحداً من هؤلاء الأدعياء بالشيوعية لم يكتب قط ليؤكد عقيدته في دوام النظام الرأسمالي عاملاً ومتوحشاً حتى اليوم . كل ما يعلنون في هذا السياق هو أن الولايات المتحدة قلعة النظام الرأسمالي تؤيد اسرائيل العدوانية وتشن الحروب كيفما اتفق في العالم كله . بالرغم من أن هذين الشرطين لا يدلان أدنى دلالة على بقاء النظام الرأسمالي فهما ليسا حقيقيين ؛ فالإدارة الأميركية منذ عهد بوش الأب 1988 وهي تعمل ضد إسرائيل الصهيونية كقاعدة متقدمة للإمبريالية بعد أن لم يكن هناك إمبريالية وليس أدل على ذلك من مؤتمر مدريد للسلام 1991 حيث ساقت الولايات المتحدة اسرائيل مكرهة إلى المؤتمر وهو ما أرغمهاعلى أن تقدم تنازلات في أوسلو، وكان يمكن أن تقدم أكثر في مدريد، والخطاب الوداعي لوزير الخارجية جون كيري (John Kerry) في 16 يناير 2017 المعادي لإسرائيل . أما أن تشن الولايات المتحدة الحروب دعماً للدولار فذلك يعني الغياب التام للإنتاج الرأسمالي الذي ينعكس بخواء عملته، ولذلك تقوم الحرب مقام الإنتاج الرأسمالي في دعم النقد .
أن يحجم القائلون ببقاء النظام الرأسمالي عن الحديث في غير مثل هذا الحديث الفج عديم الدلالة فذلك يحكم بعدم وجود النظام الرأسمالي أو أي أثر له .
حديثنا المعاكس الذي يؤكد انهيار النظام الرأسمالي في سبعينيات القرن العشرين يستند إلى حقائق ماثلة عبر التاريخ . المشروع اللينيني البولشفي في الثورة الإشتراكية العالمية أخذ على عاتقه تقويض النظام الرأسمالي الإمبريالي، فهل نجح المشروع في تحقيق هذا الهدف الكبير ؟
ليس لدينا أدنى شك في أن النظام الرأسمالي قد انهار في السبعينيات ولو متأخراً بسبب خيانة خروشتشوف المتمثلة بفصل ثورة التحرر الوطني عن الثورة الإشتراكية وما أدت إليه من سلسلة طويلة من الإنقلابات العسكرية الرجعية في الستينيات وهزيمة مصر 67 علماً يأن المؤتمر التاسع عشر للحزب برئاسة ستالين في أكتوبر 1952 كان قد قرر "انهيار النظام الإمبريالي في وقت قريب" .
نحن هنا لا ننطق عن هوى أو ننطلق من معتقدات تبرر سياسات رغبوية هجينة كتلك التي يعتقد فيها الشيوعيون الذين لم بعودوا شيوعيين، بل نعتمد على وقائع تاريخية ثابتة يمكن أن يتثبت منها الشيوعيون وغير الشيوعيين . لماذا تشكّل أول مؤتمر للرأسماليين الخمسة الأغنياء (G 5) ؟ نعود إلى ما صرح به أولئك الخمسة في بيانهم الذي صدر عنهم في 17 نوفمبر 1975 باسم إعلان رامبوييه (Declaration of Rambouillet) حيث أكدوا أنهم اجتمعوا لبحث القضايا الهامة المشتركة لدى الخمسة وهي التالية ..
- استشراء البطالة في بلدانهم وهو يعني أول ما بعني أن النظام الرأسمالي في بلدانهم كان قد فقد خاصيته الحيوية في التمدد (Expansion) وهي الخاصية التي أكدها ماركس كدالة على حيوية النظام الرأسمالي . فقدان حيوية التمدد يعني موات الإنكماش .
- يعترف الخمسة الأغنى أن بلدانهم تعاني من فورة في التضخم النقدي (Outburst of Inflation) والسبب الوحيد للتضخم النقدي هو القصور في الإنتاج البضاعي الرأسمالي وخاصة إذا ما ترافق ذلك مع انزياح ملحوظ نحو إنتاج الخدمات .
- هبوط في النشاط التجاري وهو الدلالة القاطعة على الهبوط الحاد في الإنتاج البضاعي الرأسمالي . لا يتنامى الإنتاج الرأسمالي إلا بالطبع مع تنامي التجارة .
- نقود الدول الخمسة التي كانت صعبة قبلئذٍ أخذت تعاني مما سموه ذبذبات غريبة في أسواق الصرف (Erratic fluctuations in exchange rates) والمقصود هنا هو تدهور أسعار صرف عملاتهم في الأسواق المالية، ووصفوها بالغريبة للإذعاء بأن التدهور إنما كان بسبب المضاربة . في الحقيقة أن تدهور اسعار صرف عملاتهم إنما كان بسبب القصور في الإنتاج البضاعي الرأسمالي . لو كانت نقودهم مغطاة فعلاً بالذهب أو بالبضائع لامتنعت أن تكون موضوعاً للمضاربة إذ لا أحداً يضارب على الذهب - ويذكر في هذا السياق أن ملكة بريطانيا وافقت على منح المضارب الشهير جورج سورس (George Soros) مبلغاً ضخماً من الاسترليني كي يتوقف عن المضاربة على الجنيه الاسترليني في بورصة لندن .

كل من هذه النقاط الأربعة يمكن الاستدلال بها على موت النظام الر أسمالي لكن الشيوعيين الذين لم يعودوا شيوعيين لا يرغبون في الإستدلال على موت الرأسمالية حيث موتها يعني موت البرامج السياسية (Platform) للأحزاب الشيوعية التي لم تعد شيوعية .
أما قرار الخمسة الأغنياء بأن السلطات النقدية لديها ستقف متعاونة في وجه أية اضطرابات في أسواق الصرف "our monetary authorities will act to counter disorderly market conditions" وهو ما جعلها توصي الهيئة الإدارية لصندوق النقد الدولي في اجتماعها الإستثنائي في جمايكا في 5 يناير 1976 أن تغيّر نظام النقد الدولي لنظام يتوافق مع الشروط المستجدة في بلدانهم ؛ فكان أن قررت الهيئة الإدارية لصندوق النقد الدولي فك الرباط الطبيعي بين النقد وقيمته البضاعية وهو أمر مخالف للقانون الدولي الذي لا يرى في النقد إلا معايراً عاماً لقيمة البضاعة .
تلك المخالفة القانونية الفجة قطعت باليقين أن الدول الخمسة لم يعد لديها بضائع تتاجر بها ولديها مقابل ذلك خزائن مترعة بالأموال وهي لذلك لم تعد دولاً رأسمالية وهي الدول التي مثلت قلاع الرأسمالية العالمية ؛ وكان ماركس قد علمنا كما في كتابه الأثير "رأس المال" /ن الرأسمالية هي المتاجرة بقوى العمل عن طريق تحويلها إلى بضائع حصراً .

طبعاً ما كان ذلك ليكون إلا بفعل جبروت الإتحاد السوفياتي الهائل . الدول الإمبريالية الكبرى الثلاث، بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة لم تكن لتوازي القوى السوفياتية العملاقة، بوصف تشيرتشل، تلك القوى التي عبر إندفاعها حدود الجغرافيا وانعكست بقوى التحرر الوطني التي نهضت في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية تطالب بالحرية والاستقلال وتفك الروابط مع مراكز الرأسمالية العالية . في العام 1972 أصدرت الامم المتحدة إعلاناً أكدت فيه أنه لم يبق أي أثر للإستعمار في العالم وعليه حلت الأمم المتحدة لجنة تصفية الإستعمار التي كان قد طالب بإنشائها خروشتشوف لدى زيارته للأمم المتحدة 1960
المعنى الأول لاستقلال المستعمرات والبلدان التابعة هو أن هذه الدول لم تعد أسواقاً مفتوحة لمراكز الرأسمالية الإمبريالية ومن المعلوم أن الرأسمالية لا تعمر بدون أسواق ولذلك انهارت في أرضها . فكان أن حقق مشروع لينين هذفه الثوري الأول الذي يسبق بالطبع انتصار الثورة الإشتراكية على صعيد العالم .
أما لماذا لم بكن هناك انتصار للإشتراكية حال انهيار النظام الرأسمالي فذلك لأن البورجوازية الوضيعة السوفياتية استخدمت آثار الحرب على دولة دكتاتورية البروليتاريا وانقلبت على الإشتراكية بدءاً بإلغاء الخطة الخماسية الخامسة في سبتمبر 1953 .
وأخيراً أقول للشيوعيين الذين لم يعودوا شيوعيين أن من لا يعلم حيثيات ومرامي الخطة الخمسية الخامسة 1951-55 وأسباب الانقلاب عليها فليصنع جميلاً مع قوى الشيوعية وليصمت