توضيح لمعالم اليسار اللاسلطوى


سامح سعيد عبود
2006 / 3 / 6 - 11:20     

توضيح لمعالم اليسار اللاسلطوى (1)
إذا كنت مخلصا للوصول إلى الحقيقة فى الحوار فعليك أن تقرأ جيدا ما يقوله خصمك،لا أن تنتزع بعض العبارات من حديثه من سياقها لتثبت خطئه و صوابك، أو تخلط بين ما يقوله من جمل تقريرية خبريه، و بين جمل أخرى يعلن بها انحيازاته ، وهذا هو بالضبط ما فعله خالد الصاوى فى الرد على مقال معالم اليسار اللاسلطوى، فاليسار اللاسلطوى الذى أشرف بالإنتماء إليه يعادى كل من الملكية الخاصة والدولة باعتبارهما مصدرى الشر الاجتماعى الرئيسيين، ويناضل من أجل إزالتهما تماما من المجتمع البشرى ،هذا عن انحيازاته الفكرية وأمنياته الطيبة، ولكنه يعلم أنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ، و أن هذا الهدف النهائى الرائع ربما سوف يتحقق عبر نضال أجيال من البشر فى المستقبل القادم، فما ترسخ بعمق من علاقات اجتماعية سلطوية تقوم على الملكية الخاصة والعنف والتضليل عبر عشرة آلاف عام من التاريخ البشرى لا يمكن القضاء عليها فورا ، وذلك عندما تستيقظ الطبقة العاملة التى ينتظرون ثورتها منذ عشرات السنين ذات صباح جميل، لتخلص البشرية من تلك العلاقات فورا، كما ينتظر اليهود المسيح، والمسيحيون عودته، والمسلمون المهدى المنتظر،و لكننا نرى أنه يمكن لنا عمليا أن ننتزع الآن وفورا لنا و لآخرين مساحات يمكن أن تتزايد باستمرار من الحرية والمساواة بدلا من هذا الانتظار الغيبى لذلك اليوم الموعود الذى قد لا نراه فى حياتنا القصيرة للأسف،طالما أن ثورة الطبقة العاملة نفسها ليست فعل إرادى يمكنا إحداثه بدلا منها.
ودليلى على تلك القراءة المتسرعة و لا أقول الملتوية أن خالد الصاوى اعتبر أن الإقرار بأن نمط الإنتاج الفردى شكل لا يوجد فيه عمل مأجورمستعبد ،هو دعوة لتأبيد الملكية الخاصة، كأن التاريخ يتحرك بالأمنيات والدعوات والتحريض الحماسى و ليس وفق الضرورات الموضوعية كما تعلمنا على يد ماركس، وبالرغم من ذلك فأن المقال يعلن انحيازه لأنماط إنتاج أخرى ليست قائمة على الاستعباد والعمل المأجور والملكية الخاصة، و لم يذكر من بينها نمط الإنتاج الفردى، فالمقال يعلن بوضوح أن اليسار اللاسلطوى مع السيطرة الجماعية على كل مصادر السلطة المادية و هى الثروة والعنف والمعرفة كشرط لتحقيق أهدافه النهائية فى تحقيق الحد الأقصى من الحرية والمساواة .
كما خلط خالد الصاوى بين أن اليسار اللاسلطوى يناضل من أجل التقليص المستمر لصلاحيات الدولة لصالح تقوية المجتمع المدنى ، كخطوة ضرورية من أجل إزالتها فى المستقبل،و كشرط ضرورى لإطلاق آليات التحرر الذاتى من قيودها المتمثلة فى الدولة التدخلية، لأن المنطق العملى والواقعى يقول أنه لا يمكن أن تهزم عدوك إلا باضعافه أولا و تقوية نفسك ثانيا، و الأمر بالنسبة لهزيمة الدولة يحتاج لمعركة طويلة الأمد لا تنتهى فى يوم واحد ، وليس معنى ذلك أن اليسار اللاسلطوى مع تأبيد الدولة ولا تأبيد السلطة.
يخلط خالد الصاوى بين معنى المجتمع المدنى الحقيقى الذى هو تعاونيات ونقابات عمالية ومهنية وجماعات ضغط وجمعيات أهلية تتميز بتحررها واستقلالها عن الدولة ورأسالمال وكونها منظمات جماهيرية حقيقية تنظم أصحاب مصالح فعلية، وبين مراكز حقوق الإنسان و النقابات والجمعيات والتعاونيات القائمة بالفعل والتى هى تابعة للدولة ورأسالمال و التى ليس من بين أهدافها تحديدا دعم التحرر الذاتى للبشر والتى ليس لها القدرة على التأثير بهذا الخصوص لأسباب يعرفها الجميع.
الأمر الأهم أن خالد الصاوى يتهم اليسار اللاسلطوى بأنه لا يسمع له صوت إلا على النت وأنه تيار انسحابى و يحمل روح البرجوازى الصغير الذى يخشى الاشتراكية كما يخشى الرأسمالية، و بالتغاضى عن روح السباب الذى لا معنى له و الموروث عن الطريقة اللينينة فى الكتابة، فالحقيقة أن العديد من اللاسلطويين فى مصر يحرصون على التواجد فى معظم الأنشطة العملية المجدية من وجهة نظرهم و التى عرفها اليسار فى السنوات الأخيرة بدءا من اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة الفلسطينية وآخرها التصدى لآثار أنفلونزا الطيور، كما يحاول بعضهم منذ فترة الخروج من مرحلة التبشير النظرى لمرحلة صنع نماذج عملية قابلة للنجاح للتحرر الذاتى، دون الإعلان بمناسبة ودون مناسبة عن انتماءهم لأنهم لا يستهدفون تجنيد البشر لمنظمات أشبه بالشلل والحلقات الضيقة، لأنهم مهتمون أساسا بنشر الأفكار و بالنضال العملى المباشر المجدى أكثر من اهتمامهم بالتنظيمات الكاريكاتيرية والاكتفاء بالنضال الصوتى والاستعراضى، و فى هذا الخصوص أدعوا خالد الصاوى للاهتمام بالدعوة التى نشرها صبرى السماك منذ فترة على النت لحل مشاكل بروليتاريا السينمائيين المصريين ، ولدى اقتراح لهما، لماذا لا يتعاونا لإنتاج أفلام سواء درامية أو تسجيلية عن تاريخ الطبقة العاملة المصرية، على سبيل المثال قضية خميس والبقرى أو عمال شبرا الخيمة فى الأربعينات والخمسينات، و أن يتم هذا بشكل تعاونى لا سلطوى بين من يمكن أن يقنعوهم بالفكرة من السينمائين سواء اليساريين منهم و غير اليساريين، و يمكن لهم طبعها على شرائط فيديو أو اسطوانات مدمجة وإنزالها على النت، إذا لم يمكن أن توزع فى دور العرض السينمائية، أليس هذا أفضل من عشرات المظاهرات التى تمت فى السنة الماضية، ولم يحضرها سوى بعض المئات من نفس النخب المعزولة، وخيرا من عشرات البيانات التى لا يقرأها أحد، والمؤتمرات التى لا يحضرها إلا الزملاء اليساريين وعملاء الأمن.
اعتقد يا أستاذ خالد أنه بانخراطك فى أعمال فنية عبر أشكال تعاونية تضم فنانين ملتزمين، لن تحررك بالطبع بشكل كامل من كل السلطات والعبوديات، و إن كانت سوف تمنحك قدرا أوسع من الحرية مما تستمتع به الآن، و بالطبع لن تحرر كل البشر كما اتمنى وتتمنى، ولكنها ستحررك أنت و بعض زملائك من عبودية العمل المأجور على الأقل للمنتجين الرأسماليين وللدولة، و ستضمن لك قدر أوسع من حرية التعبيرعن ذاتك ، وسوف تضمن أن لا تشارك فى أعمال تجارية برجوازية تافهة كمسلسل محمود المصرى من أجل لقمة العيش والتى تساعد فى دعم النظام القائم لا القضاء عليه، وإنما ستحقق ذاتك فعليا بأن لا تشارك سوى فى أعمال تتلائم مع أفكارك، واعتقد أن الموضوع ليس مستحيلا وإنما يحتاج قدر من الإبداع والروح العملية.
و أما عن الخلط الآخر الذى وقع فيه خالد الصاوى،فهو الخلط بين ضرورة الانحياز لكل الذين يتم اضطهادهم واستغلالهم وقهرهم، و بين ضرورة التحالف مع أو الانحياز إلى أو التأييد لـ قوة سياسية، تتحدث باسم هؤلاء المضطهدين والمستغلين والمقهورين إنطلاقا من رؤى عنصرية وفاشية ، لا رؤى من تحررية إنسانية، واعتقد أنه سيكون من البلاهة أن نتغافل عن أن هذه القوة التى ترفع شعارات تحرير هؤلاء من مضطهديهم ومستغليهم وقاهريهم، ما تفعل ذلك سوى لممارسة التسلط عليهم واضطهادهم و استغلالهم مجددا باسم الهوية العنصرية والقومية والدينية، وما تفعل ذلك إلا لتحل محل الصهاينة والعنصريين البيض والرأسمالية الأمريكية، فحماس وحزب الله ومقتدى الصدر وما لكلوم اكس و الأخوان المسلمين والقاعدة، ليسوا بعيدين عن ذلك ، وعندما نعرف ذلك ونتغاضى عنه ونشاركهم فى تضليل الناس فأننا سنكون مشاركين لهم فى جرائمهم، أما عن الجماهير المخدوعة فليس علينا أن نشارك فى المزيد من تضليلها بصرفها عن الصراع الطبقى الجوهرى،بل علينا أن نعلن رأينا إليها باصرار، وأن نفضح دجل تلك القوى السياسية الهوياتية بأن نصر على أن الصراع الوحيد المقبول هو الصراع الطبقى، والصراع الوحيد الذى يجب أن ننخرط فيه لابد وأن يكون على المصالح الاجتماعية الحقيقية، رافضين صراع الهويات، وفاضحين زيفه.
يخلط خالد الصاوى لسبب لا أفهم منه إلا السخرية بين مفهوم البنية التحتية الماركسى الذى يعنى مجمل العلاقات الاجتماعية الاقتصادية وقوى الإنتاج باعتبارها تشكل البنية التى يبدأ بتغيراتها تغيير المجتمع وفق المفهوم المادى للتاريخ،وبين الكبارى والطرق والصرف الصحى،وعلى العموم سأعتبرها دعابة أقبلها بأريحية،و أما عن الميدان الذى يمارس فيه اليسار اللاسلطوى نضاله فهو فى تغيير تلك البنية التحتية بالمعنى الماركسى تحديدا، وذلك بشكل تدريجى، ببناء تعاونيات مستقلة عن الدولة ورأسالمال،بنماذج التسيير الذاتى للمنشئات التى يهرب منها ملاكها، وغيرها من النماذج المنتشرة فى العال ، و ذلك كى تسحب تلك النماذج مع تمددها وانتشارها من الرأسمالية والدولة مساحات يمكن أن تتزايد باستمرار من قوتهما المادية ومن قدرتهما على الهيمنة ، و ذلك حتى تحين الفرصة لتغيير البنى الفوقية و هى الدولة والوعى الاجتماعى، استنادا على قوة مادية طالما نعترف سويا أن القوة المادية لا تهزمها لا قوة مادية، وأن الوعى نفسه لا يكفى للتغيير الاجتماعى و إلا انقلبنا مثاليين فى فهمنا للتاريخ،.
إلا يلاحظ خالد الصاوى وغيره أنه برغم كل تلك السنوات الطويلة من حرية التعبير الطليقة فى الدول الرأسمالية المتقدمة تحريضا ودعاية وتثقيفا ، فإن النظرية الثورية لم تتملك عقول الجماهير المستلبة بعد التى لا توجد أى حواجز بينها وبين الثوريين، و لم يتمكن اليسار الراديكالى أن يكسب منها إلا النظر القليل فى لحظات قليلة جدا فى التاريخ، بل أن هذه الجماهير التى يعبدها البعض بلا سبب انجرفت وراء تافه مثل هتلر فى بلاد كاوتسكى وروزا لوكسمبرج.
علينا أن نعترف أن خطاب اليسار الراديكالى فقد جاذبيته الجماهيرية منذ زمن بعيد، و ليس معنى ذلك بالطبع الاستغناء عنه أو أنه خطاب غير صحيح، ولكن الحل يكمن فى أن لا تستغرقنا الدعاية والتحريض لآذان لا تريد أن تسمع إلا لمن يخدعوها و أن هؤلاء يحتاجون فترة طويلة من ممارسة عملية مختلفة عبر نماذج للتحرر الذاتى كى يتخلصوا من أثار القهر والتضليل والاغتراب على عقولهم وممارستهم.
و لكن يتحقق ذلك إلا بأن نعطيهم بدلا من الكلام، نماذج حياة بديلة عن الحياة البرجوازية، نماذج تتميز بكونها عملية قابلة للنجاح، لأن جزءا من السدود بيننا وبين الناس هو فشلنا فى تحقيق نموذجنا الثورى، والناس فى غالبيتهم عمليون يميلون نحو النموذج الناجح والممكن.
أكتفى بهذا القدر فى ذلك الجزء لأتناول فى الجزء الثانى قضية الثورة السياسية والإصلاح الدولتى حرصا على عدم الإطالة على القارىء.