المثقف والصراع الطبقي


أحمد القنديلي
2018 / 2 / 5 - 21:14     

المثقف والصراع الطبقي
أحمدالقنديلي

إن مجمل ما ينتجه الإنسان من تعبير سواء اتخذ شكلا نظريا / الأفكار، أو عمليا / فلاحة، عمارة...، أو رمزيا / شعر، تشكيل... يشكل ثقافة تندرج في نهاية المطاف ضمن الإيديولوجيا من حيث هي " ظاهرة الوجود الاجتماعي، على اعتبار أن الواقع الاجتماعي يتوفر دائما على تكوين رمزي يحمل تأويلا للرابطة الاجتماعية داخل صور وتمثلات " (1). غير أن هذه الثقافة التي يتم إنتاجها، لا تأخذ نفس الشكل ونفس المضمون ونفس الرؤية للعالم داخل السياق التاريخي الواحد، ذلك لأن الثقافة لا تعبر عن طبقة واحدة، بل عن مختلف الطبقات الاجتماعية بمختلف أفكارها وطموحاتها، والتي تتصارع فيما بينها بما يمكنها ـ بحسب موقعها الطبقي ـ إما من الاستمرار في تسييد وجودها، وإما من البحث عن شروط تسييد وجودها الطبقي الذي بواسطته وبواسطة إيديولوجيا السيادة التي تبلورها في سياق تسيدها، تسعى إلى تعميم إيديولوجيتها وكأنها ثقافة المجتمع ، بل العالم برمته.
هذا ما استطاعت البورجوازية تحقيقه بامتياز، سواء في مرحلة صعودها الثوري ضد الإقطاع، أو بعد تحقيق انتصارها. ولهذا السبب تستمر حتى الآن في استثمار الكثير من الأفكار، وفي الترويج لها باعتبارها " كونية ": الديمقراطية، حقوق الإنسان، المواطنة، المساواة، الحرية...
وجدير بالذكر أن مجمل هذه الأفكار بوجوازية صرفة، غير أنها تشكل اسمنت الوجود البورجوازي، بحيث لا تنعم بها الطبقات الاجتماعية الأخرى؛ لأن الضوابط القانونية والسياسية للمجتمع البورجوازي تحول بينها وبين ذلك.
وإذا كانت كل ثقافة تتحول إلى إيديولوجيا في نهاية المطاف، فإن الإيديولوجيا تتبخر بسهولة، وتفقد قيمتها الاعتبارية التي تضفي عليها الطابع الكوني ما لم تكن الثقافة ـ بمفهومها الشمولي العابر للإنسان والتاريخ والمحتوي على إجابات على الجزئي والكلي... ـ،اسمنتها القوي.
لهذا الاعتبار تمتلك الإيديولوجيا الماركسية قيمتها النظرية الهائلة في نضالها المستميت من أجل تحرير الإنسان من كل استيلاب يقلب أو يشوه وعيه، ويكبح حريته، ويحول في نهاية المطاف دون تمكينه من تحقيق رفاهه المادي والروحي، هذا الرفاه الذي لا يتحقق من خلال تشييع (من الشيوعية) وسائل الإنتاج فقط، بل من خلال تشييع الوعي الاجتماعي الذي يستطيع بمختلف فروع الثقافة تشييع البنية البورجوازية لوسائل الإنتاج. " إن تشييع وسائل الإنتاج وتأميمها لا يؤديان بوصفهما كذلك إلى إلغاء البنية الطبقية لوسائل الإنتاج" (2).
وهذا معناه أن ترسيخ فكرة ما في الواقع دون تثبيتها في الوجدان والوعي والثقافة لا يؤدي إلى ترسيخها، وقد يؤدي إلى ترسيخ عكسها تماما، والعكس صحيح. والدليل على هذا أن المناضلين الحاملين لإيديولوجيا التغيير يسعون باستمرار إلى تجاوز الواقع إلى اليوتوبيا ليس على مستوى وعيهم فقط، بل على مستوى سلوكهم وعلاقاتهم وأحاسيسهم. وفي انتظار أن يحققوا أو لا يحققوا يوتوبياهم، يتحركون في حياتهم اليومية، ويمارسون مهامهم الخاصة والعامة وهم في وضع يبعدهم باستمرار عن واقعهم المرفوض، ويقربهم باستمرار من واقعهم المأمول.إن الوعي محدِّد، غير أنه على أهميته محدِّد في بداية المطاف أما الوعي المحدِّد من منتصف المطاف إلى نهايته فهو الذي يحوله المثقف إلى إيديولوجيا ترقى إلى مستوى المعتقد.
وهنا بالضبط يكتسي الدور الذي يقوم به المثقف قيمة كبرى ما دام ليس هو من ينتج الأفكار والمواقف السياسية، بل هو من يبني ثقافة السياسة وثقافة الإيديولوجيا عبر ما ينتجه من إبداع بمختلف أصنافه.
وإذا كان المثقف ـ كما يرى أحمد صادق سعد ـ هو " الشخص المنشغل بشؤون الثقافة المعنوية، بحيث تتوافر لديه المعلومات والمفاهيم النظرية، والقدرة على التعامل مع الأفكار المجردة عن الشؤون العامة المكونة لثقافة المجتمع " (3)، فإن مجمل ما ينتجه من أفكار لا تكتسب قيمتها إلا من خلال الوظيفة التي تنهض بها، والتي تنسجم مع واقع وطموحات هذه الطبقة الاجتماعية أو تلك. فلا وجود للأفكار ـ مهما تعالت وتكثفت رمزيا ـ خارج الوجود الطبقي من حيث هو وجود تاريخي، " فلا معرفة بلا سياسة، ولا ممارسة بلا نظرية، ولا ثقافة بلا وظيفة، ولا وظيفة بدون بحث مستمر عن علاقة الكتابة بالسياسة " (4).
وحين نتحدث عن هذه المعرفة، فإننا نتحدث عنها باعتبارها منتجة لوعي طبقي معين، أي باعتبارها معرفة مبنينَة ليس داخل وعي فردي خلاق، بل داخل وعي جماعي منتجه جماعي هو هذه الحركة السياسية أو تلك بأطرها الثقافية والأدبية والفنية.
إن المواطن حين يمتلك زادا معرفيا يؤهله لإنتاج المعرفة يتحول من كائن مادي إلى آخر معنوي، تنتهي علاقته الحميمية بما ينتجه بمجرد ما ينقله من حيزه الخاص إلى حيز الآخرين. ولهذا يتحول ما ينتجه إلى معرفة لها أساس نظري، ولها وظيفة ذات علاقة وطيدة بالسياسة التي تستفيد منها هذه الحركة السياسية أو تلك. وفي عملية الاستفادة هذه تتحول المعرفة إلى فكر يصارع طبقيا إما بهدف تغيير واقع الاستغلال، أو بهدف تأبيده.
ولكي تتمكن هذه المعرفة من ممارسة الصراع الطبقي بهدف تغيير واقع الاستغلال، لابد أن تتحول إلى وعي طبقي ينتجه مصارع طبقي هو الحزب اليساري المناضل من حيث هو مثقف جمعي ينقل المعرفة إلى الطبقة العاملة التي لا تستطيع تجاوز الوعي بمصالحها الاقتصادية ما لم تتلقى هذا الوعي الطبقي بحمولاته الإيديولوجية والسياسية والثقافية والفنية... فبدون مشاركة هذا المثقف يكون تحقيق الأهداف التاريخية مستحيلا. فخارج " الحزب ليس هناك من خلاص أبدا للجماهير، وخارج الفلسفة ليس هناك من خلاص أبدا للحزب " كما يرى لوي ألتوسير (5).
وفي سياقنا المغربي لا تكمن أزمة اليسار المناضل في تشرذمه، كما لا تكمن في تباين وضبابية اختياراته، كما لا تكمن في المفارقة المأساوية بين بلورته للمواقف وبين إنجازها على الأرض، كما لا تكمن في ضعف فاعليته في الإطارات الجماهيرية التي تحتضنه ويحتضنها... إن مجمل هذه الأمراض أعراض لمرض أخطر يتمثل في الاشتغال على السياسي على حساب الإيديولوجي، أو في أحسن الأحوال في الاشتغال على الإيديولوجي والسياسي على حساب الثقافي. وفي غياب هذا الثقافي يتحرك السياسي على الأرض، يثير عجاجا، ولكن دون أن يتمكن من الانغراس في الأرض ليثمر بعد حين.
إن الثقافة اليسارية التي تنتجها التنظيمات اليسارية حين لا تتحول إلى خبز يومي وسط العمال والكادحين، لا تفقد الفعل السياسي تأثيره فقط، بل تفقده بوصلته بحيث يأخذ في كل لحظة مضمونا معينا بحسب مزاج الفاعل السياسي واللحظة السياسية.
لهذا الاعتبار لا مفر لليسار المناضل اليوم من بعث التقاليد الأصيلة لليسار، والاشتغال على مختلف المحاور بروية تروم تقوية فاعلية المثقف الجمعي المبتغى: حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين، التواق إلى إنجاز مهام التحرر الوطني على طريق الاشتراكية في أفق المجتمع الشيوعي صانع الرفاه المادي والروحي للمنتجين بجهد المنتجين وبوعيهم ووجدانهم. فلا شيء يتحقق في التاريخ دون تحقق هذا التماهي الخلاق بين الفعل والوعي والوجدان.
الهوامش:
1 ـ بول ريكور: " من النص إلى الفعل ": أبحاث التأويل. ترجمة محمد برادة وحسان بورقية. عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية. ط 1 سنة 2001 ،مصر، ص: 246.
2 ـ ليون كريميو:" الماركسية والديمقراطية " مجموعة من الباحثين تقديم ومراجعة عماد شيحة ط 1، سنة 2006، ص:80.
3 ـ إشكالية التوصيف الاجتماعي للمثقف المصري: أحمد صادق سعد، مجلة الوحدة عدد 40 يناير 1988، ص:55.
4 ـ فيصل دراج: " السياسة والثقافة" مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء ط 2 سنة 1993، ص: 238.
5 ـ عن مقال جورج طرابيشي: من المثقفين إلى الأنتلجينسيا، مجلة الوحدة عدد 40 ، سنة 1988، ص:64.