مهزلة تجديد الماركسية - تطور الديالكتيك المادى ونظرية الفوضى


محمود محمد ياسين
2017 / 12 / 29 - 10:35     

أصبح بالنسبة للبعض تأليف الكتب والمقالات المطولة فى ما يسمى تجديد الماركسية قمة الإبداع والابتكار فى مجال التنظير للفكر الاشتراكي؛ ولكن خلافاً لحذلقة تجديدها، فالأصح هو التمسك بأن تكون لازمة دراسة الظاهرات الاجتماعية عاكسة لحركة الواقع المتجدد على صعيد المجتمع والطبيعة. فالماركسية نظرية علمية وهى فى تطور بشكل موضوعى إذ أنها تكتسب المعرفة بالتحليل المادى للعلاقات الإجتماعية الواقعية الملموسة كما هى، بعيداً عن التصورات الذاتية. والتطور فى الطبيعة والمجتمع البشرى والفكر بالنسبة للماركسية يحدث بشكل ديالكتيكى، أى عبر صراع التناقضات داخل الاشياء والظاهرات الطبيعية والأجتماعية بينما العوامل الخارجية تمثل الظروف المناسبة لنقل الحركة من مستوى أدنى الى أعلى.

إن الدعوة الراهنة لتجديد الماركسية تقف وراءها ذاتية تتجاوز النظرة العلمية التي تُعرِّف الماركسية بأنها نقدية وثورية. نقدية بمعنى النقد المادى الذى ينطلق من أن الواقع المادى كائن بشكل مستقل عن وعى الإنسان، فهو النقد الذى يبحث فى تفسير الحقائق السياسية والحقوقية والعلاقات الاجتماعية بإرجاعها الى علاقات الانتاج ومصالح الطبقات المختلفة. وثورية لأن مهمتها هى الكشف عن تناقضات المجتمع التي يُمكِّن إدراك طبيعتها من إستبصار اتجاه تطوره استناداً على مبدأ أن الانساق الإجتماعية تاريخية وهى بالتالى مرحلية وفى تغير متواصل. وعليه فإن التطوير الحقيقى للماركسية يتحقق في مجرى الدراسات المفصلة للتناقضات التي تُسيِّر حركة مكونات الواقع المحدد. ورغماً عن الخلافات التي يفرضها التباين الثقافي والبيئي، الخ، بين واقع وآخر، إلا أن العامل المشترك بينها هو خضوع حركتها وتطورها لقانون التناقض.

وهكذا فإن هذه النظرية العلمية تتطور، في شكل تنظير يعكس التقدم الذى يطرأ على حركة مكونات الواقع، بالشكل الذى يُمكِّن من التقدير الصحيح لاتجاه تطور التناقضات الاجتماعية في ظروف محددة والتي يَكمُن في حلها التغيير المنشود.

لتوضيح أن زعم النظرة الذاتية في تجديد الماركسية حماقة لا أكثر، نتناول فى هذا المقال كيف أدت الظروف الموضوعية إلى تطور الديالكتيك الذى اكتشفته عبقرية الناس ومن ثم وضعته وقدمته في شكل نظريات.

إن المادية مرت بسلسلة من التطورات منذ ظهورها فى شكل بدائى فى العصور القديمة قبل أن تأخذ شكل "المادية الجدلية"، وهذا ينسحب كذلك على المثالية التى تطورت من صورة المثالية الذاتية الى المثالية الموضوعية، وحتى الأخيرة أخذت صيغاً مختلفة عبر الزمن. فالمادية أخذت فى القرن الثامن عشر شكل النظرية الميكانيكية التى عكست، من بين جميع العلوم الطبيعية، وقتذاك الدرجة المتطورة لعلم الميكانيك. ولهذا كانت المادية الميكانيكية لا تاريخية تدور فى حلقة ثابتة نتيجة التفكير الميتافيزيقى الذى يعتبر الطبيعة ساكنة والاشياء منفصلة لا رابط بينها. وبتقدم العلوم (اكتشاف الخلية الحية وتكاثرها وتحوُّل الطاقة ونظرية التطور لدارون) وإضافة الفيلسوف هيجل حل الديالكتيك (علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة والمجتمع الإنساني والفكر) محل الميتافيزيقا. وهذا مكن المادية من أن تتطور وتنظر للعالم المادى بإعتباره فى حركة تاريخية متواصلة وأن مكوناته على صعيد الطبيعة والمجتمع تُفهم فى وحدتها وتضادها. ووفقا للينين فى دفاتره الفلسفية فإن الديالكتيك والمنطق والنظرية المادية للمعرفة شيء واحد فى ثلاث كلمات. ووفقاً لماركس وفريدرك انجلز فإن الديالكتيك ليس قوانين تُطبق قَبْلِياً (a priori) بل هو السعى لإكتشاف طبيعة التناقضات فى الظاهرات عبر الدراسة الدقيقة للواقع بشكل لاحق للتحليل (ex post) تمهيدا لحلها؛ والمثال الكلاسيكى لهذا هو المنهج المتبع فى دراسة مؤلف "راس المال" حيث لم يتجه ماركس فى تحليله للرأسمالية الى اختبار قوانين ديالكتيكية محددة (أو غير ديالكتيكية) بل اكتشف من خلال الدراسة الدقيقة أن الراسمالية تاخذ مجرى ديالكتيكى خلال تطورها. وهكذا فإن المسألة المحورية فى هذا المنهج العلمى لدراسة الظاهرات هى النشاط العملى المبنى على التحليل الملموس للواقع الملموس على أساس أولوية المادة على الفكر؛ وهذا المنهج لم تدركه كل الفلسفة السابقة إذ” ان الفلاسفة دأبوا على تفسير العالم بطرق مختلفة فحسب، فى حين النقطة المهمة تتقوم فى تغييره“ فالإنسان، بحسب ماركس،” لا يعرف العالم الا كموضوع لخبرته وإن السؤال ما إذا كانت الحقيقة الموضوعية تعزى للتفكير الإنسانى ليست مسالة نظرية، بل هى قضية عملية........“. وعليه ماذا يعنى التجديد فيما يخص هذا المنهج العلمى؟ لا شيئ غير العودة للفلسفة التأملية القديمة التى ذكر فريدرك انجلز فى مؤلفه "آنتى دوهرنج" تم دحضها ولم يبقى منها إلا الفكر المسترشد بالديالكتيك والمنطق الشكلى.

وكمثال آخر لتطبيق المنهج الديالكتيكى المادى وتطويره هو صياغة لينين نظرية للإمبريالية بتحليله للواقع واكتشاف أن ديناميكيات معينة مرت بها الرأسمالية، كتمركز راس المال فى احتكارات ضخمة وميل أرباح المؤسسات الرأسمالية إلى الانخفاض، هي التي أدت لأن تكون الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية؛ فلينين في هذا المسعى لم يذهب للبحث عن تجديد الماركسية بتأليف إطار ابستمولوجي ما لمواجهة الظروف المستجدة أمام عينيه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية الفرن العشرين، بل إثراء النظرية الماركسية من خلال الاستعانة بقوانينها الأساسية في تحليل الواقع المادي واكتشاف طبيعة تناقضاته.

لكن هذا لا يعنى أن الديالكتيك المادى ليس قابلاً للتطور فى شكله (form)؛ وفى شكله فقط لأن الاساس الفلسفى للديالكتيك المادى لا يتغير وهو غير قابل للتجزئة (indivisible)، ويتلخص فى أن المادة توجد بشكل مستقل عن الفكر وتطورها المعلق على تناقضاتها الداخلية وإنعكاسها على الدماغ هو ما يشكل الافكار. فالتناقض هو أساس الحركة والتبدل. وأن السكون نسبى والحركة مطلقة. لا توجد مادة الا فى شكل حركة (حركة ميكانيكية، كيميائية، بيولوجية، حركة التغيير على صعيد المجتمع، الخ). لكن التناقض فى حالته النسبية يعنى أن لكل شيئ صفته الخاصة التى تميزه عن غيره وبالتالى له تناقضه الخاص، وهكذا فإن تناقضات الواقع المنعكسة فى الدماغ هى دوماً متغيرة لأن حركة المادة فى تغير دائم بشكل يلائم تفرد تكوينها الطبيعي (natural characteristics)؛ ولهذا فإن القوانين الديالكتيكية التى يستخلصها الإنسان من التناقضات الواقعية يتغير شكلها تعبيراً ليس فقط عن خصوصية الواقع، بل لكونه في حالة تجدد دائم.

وجديراً بالذكر أن لينين من خلال دراسته للعلوم للعلوم الطبيعية استطاع إحداث إضافة ثرة ونوعية إلى فهم المادية الجدلية ومنها أنه أعطى تعريفاً لمفهوم المادة يعتبرها مفهوما فلسفيا للدلالة على أن الواقع الموضوعي يوجد بصورة مستقلة عن وعى الإنسان ويُعطى له في احاسيسه التى تصوره وتنقله وتعكسه.

وهكذا فإن الأشكال المختلفة التى إتخذتها المادية كانت تعبيراً لمراحل محددة من تاريخ تطور العلوم؛ وحتماً سيتغير شكل الديالكتيك (وليس جوهره) بتناسق مع تواتر الإكتشافات العلمية. والآن تشهد ساحة الدراسات فى بعض الجامعات ومراكز الدراسات العلمية فى الغرب إرهاصات ثورة فى مناهج العلوم الطبيعية الكلاسيكية تتمثل فى نظرية الفوضى (Chaos Theory) التى مهد لظهورها التطور الحالى الهائل على أصعدة تكنولوجيا جمع المعلومات وأدوات وأساليب تحليلها.

إن نظرية الفوضى تسعى لإكتشاف ما إذا كانت الفوضى فى الظاهرات الطبيعية لها نقيضها وهو النظام (order). فبالنسبة لنظرية الفوضى، التى أخذت فى الظهور فى الستينيات من القرن الماضى فى الدوائر العلمية الغربية، فإن الفوضى فى بعض الظاهرات الطبيعية هى شيء ذو معنى ويمكن أن تتطور، فى شكل غير قابل لللإنعكاس (irreversible)، الى أنظمة مرتبة (from chaos to order) وأن الانحرافات أو المخالفات (irregularities) الصغيرة فى الحقائق أو البيانات العلمية (scientific data)، التى طالما تجاهلها العلماء، يمكن تؤدى عبر قفزات ذاتية لنشوء نظم ضخمة. استعمل رواد نظرية الفوضى الرياضيات والنماذج الحاسوبية لإدراك كنه الظاهرات الطبيعية عن طريق تحليل كم هائل من المتغيرات ((variables بهدف دراسة عمل الانظمة الغير مستقرة بإلإعتماد على الرياضيات اللاخطية (nonlinear mathematics) ومعطيات علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، الخ. فخلافاً للعلوم الطبيعية الكلاسيكية، التى -بشكل عام- تقف عند حدود تطبيق المعادلات الخطية على أنظمة خطية، فإن نظرية الفوضى تعتمد على الرياضيات اللاخطية لدراسة الظاهرات التى لا تتمتع بديناميكية خطية (nonlinear dynamic).

ولمعرفة طبيعة الأنظمة المعقدة تؤكد النظرية ضرورة إدراك وتحليل مكوناتها الأولية لمعرفة كيف وصلت لحالتها الراهنة.

هذا العرض المقتضب لنظرية الفوضى لا يمثل الا هيكلها. ولكن نلاحظ أنها تسير على النهج الذى سار عليه كل من ماركس وانجلز الذى تميز بالإنطلاق من دراسة الخلية الأساسية لدراسة الظاهرات الطبيعية والإجتماعية التى إعتبرا أنها فى حركة متطورة من الأدنى للأعلى ومن البسيط الى المعقد. يقول العالم البلجيكى إيليا بريغوجين (Ilya Prigogine)، المتخصص فى الديناميكا الحرارية وهو من أهم رواد نظرية الفوضى وحاصل على جائزة نوبل فى الكيمياء (1971):

” يوجد لدرجة ما تشابه بين (التناقض بين الفيزياء النيوتونية والأفكار العلمية الجديدة) وهو التناقض الذى أدى لظهور المادية الجدلية. إن فكرة أن تاريخ الطبيعة يمثل جزءاً عضوياً من المادية يعود تأكيدها لماركس، وبشكل أكثر تفصيلاً لإنجلز. “ وهكذا فإن ” التطور الحالى فى مجال الفيزياء، كالدور الإيجابى الذى تلعبه اللاانعكاسية (irreversibility)، يطرح فى نطاق العلوم الطبيعية السؤال الذى طالما أثاره الماديون.“ ... وفى الوقت الذى كتب فيه انجلز " ديالكتيك الطبيعة" كانت العلوم الطبيعية قد بدأت فى رفض النظرة الميكانيكية للعالم وإقتربت كثيراً من فكرة التطور التاريخى للطبيعة. ذكر انجلز ثلاث إكتشافات: الطاقة والقوانين التى تتحكم فى تحولاتها النوعية وأن الخلية هى الوحدة الأساسية للحياة ونظرية تطور الكائنات الحية لدارون؛ وعلى ضوء هذه الإكتشافات العلمية الكبيرة وصل انجلز الى أن التصور الميكانيكى للعالم قد فَنِّىّ.“*

كما أن الجديد فى هذه النظرية هو الدمج بين مختلف فروع العلوم الطبيعية المختلفة فى دراسة ظاهره ما بإعتقاد أصحابها ان المبالغة فى التخصص الجزئى ظل يعيق تطور هذه العلوم بسلبها ميزة النظرة الكلية الشاملة التى بدونها لا يمكن فهم المكونات الصغيرة. كما أن نظرية الفوضى تتيح دراسة أعمق حول التسلسل داخل مكونات الظاهرات الطبيعية (مثل الإنتقال من حالة الحركة الميكانيكية الى مستوى القوانين الديالكتيكية) وانعكاس هذا على مناهج العلوم الطبيعية وتقريب الشقة بينها.

إن نظريات بريغوجين والعلماء الآخرين الخاصة بدراسة الإختلالات فى الظاهرات الطبيعية تقترب كثيراً من المادية الديالكتيكية؛ ولكن إعتماد علماؤها على التجريب البراغماتى لإكتشاف عوامل حركة الظاهرات الطبيعية يقف عقبة امام تطورها، فهذه النظريات تفتقد للمنهج العلمى الذى يرى أن وراء حركة المادة هو تناقضاتها الداخلية وبالتالى توجيه البحث نحو إكتشاف كنه هذه التناقضات. هذا مع الإقرار بأن أى إكتشافات فى حدود منهجها، فإن هذه النظريات تفتح آفاقاً واسعة لتطوير التحليل المادى الذى يسعى لإستخلاص طبيعة التناقضات التى تكمن وراء الظاهرات الطبيعية الكبيرة والمعقدة، وإمكانية إسقاطها على دراسة وتفسير بعض الظاهرات الإجتماعية التى تتميز بالتعقيد الشديد فى عالم اليوم.

والمفارقة هى أن تطوير ابحاث العالِم المثالى (بالمعنى الفلسفى) إيليا بريغوجين وزملائه يمكن أن تخدم علم الديالكتيك المادي بما هو أفضل من أى ادعاء أحمق حول تجديد الماركسية.


*Ilya Prigogine, “Order Out of Chaos, Man’s New Dialogue with Nature,” a Bantam Book, 1984, pp. 251-252.