الليبرالية الجديدة (Neoliberalism)


فؤاد النمري
2017 / 12 / 20 - 23:00     

الليبرالية الجديدة (Neoliberalism)

في ثلاث مقالات متوالية تحدث رفيقنا الشيوعي فلاح علوان عن الليبرالية الجديدة التي اعتمدتها الحكومة العراقية بتوصية من صندوق النقد الدولي دون أدنى اعتبار لحاجات المعوَزين والفقراء – طبعاً والرفيق علوان يرى أن أولى وظائف الشيوعي هي الدفاع عن الفقراء . وكنا علقنا على ما ذهب إليه فلاح ننبه إلى أن صندوق النقد الدولي ليس مؤسسة رأسمالية إمبريالية كما يسود الإعتقاد في البلدان العربية على الأقل وهو لا يعتمد المرابحة على الإطلاق في مختلف أعماله بل أن الكثير من قروضه تعطى بلا فائدة على الإطلاق، كما أنه ليس مؤسسة خيرية حيث هو أساساً تجمع دولي تشكل في نهاية الحرب العالمية الثانية باسم "البنك الدولي للإنشاء والتعمير" لمساعدة الدول التي تضررت بالحرب العالمية الثانية، وما زال يقوم حتى اليوم باسم صندوق النقد الدولي بمساعدة الدول المتعثرة اقتصادياً . ولأن وظيفته لا تتم بغير الحفاظ على أموال المساهمين في رأسماله فهو لا يستغني عن اعتماد القيمة الرأسمالية في حساباته وهي القيمة المعتمدة في كل المبادلات الإقتصادية والتجارية ولا يستغني عن اعتمادها حتى الدول الإشتراكية في التخطيط الإقتصادي . ولما لم يرد الرفيق فلاح على تعليقاتنا ويبحث معنا ماهية الليبرالية الجديدة على اعتبار أنها لا تهتم بالفقراء وهي فعلاً كذلك إلى حد بعيد، وأن واجبه كشيوعي كما يرى هو الاهتمام بالفقراء والدفاع عنهم، لذلك توجب علينا أن نشرح ماهية الليبرالية الجديدة والتي لا تهتم بالفقراء . ولعلنا نثير دهشة الرفيق فلاح وكثيرين مثله حين نؤكد أننا كماركسيين لينينيين بلاشفة نحن أيضاً لا نهتم بالفقراء، نتعاطف معهم نعم، لكننا لا نوليهم أي اهتمام بل إن ماركس نفسه لم يكتب سطراً واحداً في قضية الفقراء إن كان لهم قضية في الأصل حيث النظام الرأسمالي لا يعيرهم أية أهمية، والنظام الاشتراكي ليس فيه فقراء ليكون لهم قضية . قضيتنا نحن الشيوعيين محصورة في العمال الذين ينتجون كل ثروة المجتمع ويُسرق منهم معظمها، فالعمال ليسوا من الفقراء طالما أن لديهم شيئاً يبيعونه كل يوم وهي قوى العمل ويحصلون بدلاً عنها على خبزهم كفاف يومهم لأجل أن يعودوا للعمل صباح اليوم التالي .

لا يجوز الوقوف عند هذا الخليط من الأفكار دون تصنيفها كم يقتضينا نهجنا الشيوعي الماركسي كي نستبين الغث من السمين منها ومقدار أهميته فيما يتعلق بعملنا الشيوعي . تصنيف كل هذا الخليط من الأفكار يتم من خلال الحديث عن الليبرالية والليبرالية الجديدة التي هاجمها رفيقنا علوان في دفاعه عن الفقراء رغم أن الليبرالية ليست سبب الفقر حيث ينتشر الفقر في البلدان التي لا تعرف الليبرالية من قريب أو بعيد .

كان أول ظهور لليبرالية مع الثورة الفرنسية التي نادت بالإقتصاد البورجوازي تحت الشعار الشهير "دعه يعمل دعه يمر" – laissez passer laissez faire – وهو ما يمنح الحرية الكاملة دون أية إعاقة للعاملين في الإنتاج البورجوازي والتجارة . تطور الإنتاج البورجوازي "المانيفاكتوره" سريعا في النصف الثاتي من القرن الثامن عشر بعد الثورة الصناعية حتى اكتمل النظام الرأسمالي في النصف الأول من القرن التاسع عشر فكان النظام الذي شرّحة ماركس تشريحاً دقيقاً بارعاً واكتشف التناقض الرئيسي فيه والذي سيؤدي إلى فنائه وهو يكمن في فائض القيمة أهم مكتشفات ماركس . وتبعاً لذلك أصدر ماركس ورفيقه إنجلز البيان الشيوعي 1848 وأطلقا نداءهما الشهير "يا عمال العالم اتحدوا" من أجل القيام بالثورة الإشتراكية . شكل ماركس الأممية الأولى 1864 مؤملاً التبكير بالثورة الاشتراكية غير أن كومونة باريس 1871 وفشلها في الحفاظ على سلطتها أثبتت أن العمال في أوروبا المتقدمة لم يبلغوا بعد المستوى الثوري الذي يؤهلهم للقيام بالثورة الإشتراكية فكان أن حل ماركس الأممية الأولى 1873 ولم يعد يقوم بأي نشاط تنظيمي خلال السنوات العشر التالية من حياته، وهذه نقطة في غاية الأهمية يجب الوقوف عندها طويلاً للإعتبار . بعد خمس سنوات من رحيل ماركس لاحظ رفيقه في النضال فردريك إنجلز أن أحزاباً اشتراكية وازنة قد تشكلت في الدول الرأسمالية المتقدمة في أوروبا فبادر في العام 1889 إلى تشكيل الأممية الثانية التي انحرفت بعد رحيل إنجلز بقيادة المرتد كارل كاوتسكي لتغدو بالتالي أحزاب "الديموقراطية الإجتماعية" التي لم تعد تؤمن بالثورة .

ما نود الخلوص إليه بعد كل هذه الديباجة هو أن النظام الرأسمالي كان قد شبّ وشاب بالإعتماد على مبدأين : المبدأ الأول وهو الليبرالية التي لم يحدها أية حدود في استغلال العمال وعمل هذا المبدأ بكل نفاذه منذ ولادة النظام الرأسمالي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وحتى العام 1922 حين انهزمت جيوش العالم الرأسمالي مجتمعة (تسعة عشر جيشاً من أربع عشرة دولة رأسمالية) أمام العمال الروس بقيادة البلاشفة . إذّاك فطن الرأسماليون في العالم إلى أن يخففوا من وطئ ليبراليتهم بالإعتماد على مبدأ "الديموقراطية الإجتماعية" في مراكز الرأسمالية ولذلك اجتمعت فلول أحزاب الأممية الثانية (1922) وقررت نبذ الماركسية مع ضبط حدود لليبرالية الرأسمالية عن طريق تلطيف آثار استغلال العمال والعمل بمبدأ الديموقراطية الاجتماعية . وجاء الإقتصادي البريطاني جون مينارد كينز (John Minard Keynes) لينظّر لمبدأ الديموقراطية الإجتماعية كمهرب مستوجَب من أخطار الثورة الإشتراكية الداهمة . وما يتوجب الوقوف عنده في هذا السياق هو بعد أن شكلت الثورة الإشتراكية الأمر اليومي على أجندة التاريخ بعد انتصار البلاشفة على إئتلاف الدول الإمبريالية في العام 1921 تبدلت أولوية الدول الإمبريالية من نهب المستعمرات إلى مقاومة الشيوعية وتوظيف المستعمرات وأحزاب الديموقراطية الاجتماعية ومختلف أحزاب البورجوازية الوضيعة في مقاومة الشيوعية وقد برز في المشرق العربي من هذه الطينة ميشيل عفلق وصدام حسين وبمقاومة مبطنة "اليساريان" الهواري بومدين في الجزائر وحافظ الأسد في سوريا الذي اعترف بهذا الدور المسند إليه من قبل جهة لم يكشف عن اسمها وهي المخابرات السوفياتية كما تشير القرائن .
لنصف قرن طويل 1922 – 1972 ساهمت أحزاب الديموقرطية الإجتماعية في إطالة عمر النظام الرأسمالي إلى أن اضطر المستشار هيلموت شميدت رئيس الحزب الإشتراكي في ألمانيا وهارولد ويلسون رئيس حزب العمال البريطاني الحاكم توقيع إعلان رامبوييه (Declaration of Rambouillet) ينعي النظام الرأسمالي في 17 نوفمبر 1975 .
في الثما نينيات التالية ظن أحمقان من فلول النظام الرأسمالي، مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحد، أن التنازلات أمام الطبقة العاملة تطبيقا لمبدأ الديموقراطية الإجتماعية هي ما تسبب في انهيار النظام الرأسمالي وليس الثورة الإشتراكية واستدعائها لثورة التحرر الوطني كما هو الحال، فعملا بقوة على استعادة العمل بمبدأ الليبرالية دون أدنى تنازل أمام الطبقة لعاملة، ويذكر في هذا السياق إضراب نقابة عمال الفحم في بريطانيا (600 ألف) برئاسة النقابي القوي سكارغل (Scargill)وإصرار الليدي ثاتشر على تحطيم تلك النقابات بمساعدة مادية من الحكومة السوفياتية 1984، تلك هي السياسة التي سميت الليبرالية الجديدة (Neoliberalism) . الإنحطاط المالي في عهد هذين النيوليبراليين الأحمقين، ثاتشر وريغان بلغ الدرك الأسفل فكان أن وصلت حماقتهما إلى المحاولة اليائسة لإنقاذ الدولار والإسترليني بفائدة مصرفية على الإيداع بلغت 20% وهو ما لم يحدث عبر التاريخ وذلك لا يعني أقل من تدهور عملتيهما الناجم أصلاً عن انهيار النظام الرأسمالي . وهكذا كانت النيوليبرالية هي استعادة تاريخ الليبرالية لكن بصورة مهزلة (Farce) .
ما يفوت غالباً على الشيوعيين هو أن انتهاج الليبرالية أو الديموقراطية الإجتماعية هما نهجان مختلفان لكنهما متكاملان يتم انتهاجهما في معالجة التناقض الرئيس في النظام الرأسمالي المتمثل بفائض القيمة أو فائض الإنتاج . الليبرالية تحكم أن فائض الإنتاج جميعه هو من حق الرأسمالي بينما بالمقابل يطالب الديموقراطيون الإجتماعيون بإنفاق قسم من هذا الفائض على تحسين شروط العمل كيلا يتمرد العمال ويثوروا ثورة اشتراكية ويستولوا على المصانع .
منذ العام 1975 هناك قصور في الإنتاج في جميع الدول الرأسمالية الكلاسيكية فما بالك في العراق وأشباه العراق . وعندما يكون هناك قصور في الإنتاج تنعدم الحاجة لا ستخدام مبدأ الليبرالية حيث تكون حقوق الطرفين الرأسماليين والعمال قد انكمشت . البلدان التي لم تصل بعد عتبة النظام الرأسمالي وتوصف عادة بالبلدان المتخلفة لا شأن لها بالليبرالية قديمها وجديدها سواء بسواء . إقتصاد العراق إقتصاد ريعي تمثل ريوع النفط والزراعة أكثر من 90% منه وفي مثل هذه الريوع تكون حقوق المنتجين قليلة، وفي مثل هذه الحالة لا يستطيع صندوق النقد الدولي التوصية بشيء بغير ضمان تسديد القرض وإلا فلن يُعطى ؛ فريوع الإقتصاد توزعها الحكومة المنتخبة في العراق بصورة ديموقراطية من قبل مختلف القوى الطائفية . منذ رحيل بول بريمر ومآل السلطة إلى العراقيين والحكومة العراقية ينخرها النزوع الديني والفساد، وعليه يتوجب على صندوق النقد الدولي قبل أن يوافق على قروض للعراق أن يشترط الحد من الفساد ومن النزوع الديني من أجل ضمان تسديد قروضه ولا أتوقع أن أي عراقي وطني وتقدمي يمكن أن يعارض ذلك .

المعني لكلمة النيوليبرالية أو الليبرالية الجديدة هو استعادة الليبرالية، وهو ما يعني أنه كان هناك نظام رأسمالي يعمل وفق مبدأ الليبرالية لكن ذاك راح وانقضى ولذلك يتوجب أن يستعاد العمل بمبدأ الليبرالية من جديد (النيوليبرالية). التبرير الوحيد لدعوى النيوليبرالية هو أن النظام الرأسمالي الذي يعمل على مبدا الليبرالية مات واندثر ولا تعود الليبرالية من جديد إلا بعودة النظام الرأسمالي .
القضية الكبرى التي يترتب على الشيوعيين الوقوف عندها ولا يبارحونها قبل تفكيكها وإدراك مركباتها وهي حقيقة انهيار النظام الرأسمالي . القرار الصحيح في هذه المسألة المركبة من شأنه أن يقرر طبيعة ومسار العمل الشيوعي وعلى المستويين الاستراتيجي والتاكتيكي . ولذلك يتوجب التنبيه إلى أن كل موقف سياسي مهما كانت أسبابه ومراميه سيبقى موقفاً تكتنفه الشكوك قبل حل مسألة بقاء أم إندثار النظام الرأسمالي .