ماركس وروسيا البحث عن ثورة (3)


هشام روحانا
2017 / 12 / 10 - 09:50     

**روسيا: اشكال المجتمعات التشاركية " كمنطلق لتطور نحو الشيوعية".




** الشكل التشاركي
يطرح ماركس بشكل أكثر وضوحا مما في أي مكان آخر إمكانية أن تنتقل مجتمعات ما قبل رأسمالية الى الاشتراكية مباشرة، مستندة الى الشكل التشاركي القائم محليا دون الحاجة بالمرور المسبق بالمرحلة الرأسمالية. لكن الأمر مشروط بما قد تم التعبير عنه من قبل كل من ماركس وإنجلس في مقدمتهما للنسخة باللغة الروسية للبيان الشيوعي الصادرة عام 1882، وهو ان نجاح هذه الثورات منوط بقدرتها على اللحاق بثورات الطبقة العاملة في الدول الصناعية المتطورة.


//ع
**مادية ماركسية
يشرح دافيد سميث ما كان قيد البحث بالنسبة لروسيا والتي كانت بنيتها الاجتماعية جزءا من التشكيلة الاسيوية للإنتاج: "يساعدنا تأكيد ماركس على منحنى التطور الأسيوي ليس على إظهار انفصال مفهوم ماركس عن نظرية مُقولِبة تفرض بالقوة ارتقاءً يتم بمراحل ثابتة، نظرية تتخفى على شكل ’مادية ماركسية’ لسنوات عديدة، ولكن هذا التأكيد يساعدنا أيضا على رؤية مفهوم ماركس متعدد المسارات للمجتمع ما بعد الرأسمالي بالضبط كما كان إدراكه للماضي"




تصل العديد من المباحث الرئيسية التي تناولناها في هذا الكتاب ذروتها في كتابات ماركس المتأخرة حول روسيا في الأعوام بين 1877 حتى 1882. فأولا، يظهر ماركس هنا وقد ابتعد عن نموذج التطور في مسار خطي أحادي، هذا النموذج الذي خُط في البيان الشيوعي. وثانيا، يطرح ماركس هنا بشكل أكثر وضوحا مما في أي مكان آخر إمكانية أن تنتقل مجتمعات ما قبل رأسمالية الى الاشتراكية مباشرة، مستندة الى الشكل التشاركي القائم محليا دون الحاجة بالمرور المسبق بالمرحلة الرأسمالية. لكن الأمر مشروط بما قد تم التعبير عنه من قبل كل من ماركس وإنجلس في مقدمتهما للنسخة باللغة الروسية للبيان الشيوعي الصادرة عام 1882، وهو ان نجاح هذه الثورات منوط بقدرتها على اللحاق بثورات الطبقة العاملة في الدول الصناعية المتطورة.
ومثلها مثل سائر النصوص في هذا الفصل من الكتاب فإن كتابات ماركس المتأخرة حول روسيا المشمولة في دفاتر ملاحظاته تتضمن مقتبسات وتعليقات عرضية بكلماته. وهي وفيرة. في عام 1875 وعام 1876 وبعد ان درس اللغة الروسية بضعة سنوات بدأ يضع ملاحظات مطولة من مصادر روسية حول تطور البلاد الاجتماعي والسياسي منذ عام 1861. وتابع تغطية روسيا في ملاحظات إضافية خلال الثمانينيات. تضمنت هذه الملاحظات نصان سوف يظهران في MEGA2 IV/27: دراسة سريعة للزراعة في روسيا وملاحظات مطولة على كتاب نيكولاي كوستوماروف " مقالات تاريخية" [Nikolai KostomarovHistorical Monographs] ويركز النص الأخير على انتفاضة القوزاق بقيادة ستينكا رازين (StenkaRazin) في القرن السابع عشر.
لكن نصوص ماركس المتأخرة لم تقتصر على مقتطفاته في دفاتر الملاحظات حيث وبالضرورة كان ظهر صوته الخاص خافتا الى حد ما. انها تضم أيضا رسائل وملاحظات كما على نص منشور وهو مقدمة البيان باللغة الروسية والذي سبق وذكرناه. وتعقد معظم هذه النصوص الصلة بين الأشكال التشاركية وفرص نشوب الثورة في عصره. ومع أن هذه المواد (من خارج دفاتر الملاحظات) حول روسيا ليست طويلة وتتضمن حوالي الثلاثين صفحة في نسختها الأكثر شيوعا (Shanin 1983a) ألا أن بمقدورها أن توضح لنا الاستنتاجات التي كان ينسجها ماركس من دراساته حول الأشكال التشاركية في روسيا. وتفتح لنا هذه النصوص نافذة تطل على الاتجاه الذي كان ماركس ربما ينوي السير به في تطوير هذه المواد المقتبسة في دفاتر عام 1879-1882 حول المجتمعات غير الغربية المختلفة.
وكما كنا قد أشرنا في السابق فإن الدافع وراء تجدد اهتمام ماركس بروسيا كان ترجمة راس المال الى الروسية عام 1872. وكانت هذه النسخة باللغة الروسية النسخة الأولى بلغة غير الألمانية وأثارت نقاشا واسعا لم يكن متوقعا خصوصا وأن هذه البلاد الواقعة على الحدود الشرقية لأوروبا لم تكن قد تأثرت بالرأسمالية بشكل بالغ بعد (Resis 1970, White 1996). في مقدمته للنسخة الألمانية الثانية لمؤلفه رأس المال عام 1873 يقارن ماركس بين ما يراه كردود فعل أيديولوجية " للاقتصاديين الالمان المبتذلين وفاغري الفم الثرثارين" مع المراجعات الجدية التي حازت عليه "الترجمة الروسية الممتازة" لرأس المال(Capital I, 99). لقد تصدر الشعبويون الروس المعارضة السياسية في روسيا الفلاحية، وقاموا بالدعوة من أجل ثورة فلاحية تجنب روسيا المرور بمرحلة الرأسمالية وتقودها في مسارات مختلفة عن الغرب.
قام ماركس عام 1877 بوضع مسودة رد على مقالة حول رأس المال نشرها عالم الاجتماع والقائد الشعبوي الروسي نيقولاي ميخائيلوفسكي (Nikolai Mikhailovsky) في وقت سابق في نفس هذا العام في صحيفة (OtechestvennyeZapiski)[ملاحظات من أرض الأباء]. لقد كان ميخائيلوفسكي متعاطفا مع ماركس، وفي حقيقة الأمر كانت مقالته رداً على نقد لاذع نشره روسي آخر هو يولي جوكوفسكي (YuliZhukovsky). ويبدو أن ما شكل مصدر قلق لماركس هو أن ميخائيلوفسكي في دفاعه عنه عزى له نظرية في التاريخ الإنساني تقول بأحادية مسار التطور، نظرية تتصل بتطور تكون فيه المجتمعات محكومة بإتباع مسار انجلترا إلى الرأسمالية، يقول ميخائيلوفسكي:

في الفصل السادس من رأس المال هنالك الجزء " ما يسمى التراكم الأولي" وفيه يضع ماركس تصويره التاريخي للخطوة الأولى لعملية الإنتاج الرأسمالي، لكنه يقدم لنا أمرا ما أكبر؛ نظرية فلسفية-تاريخية شاملة. وهذه النظرية هي ذات أهمية عظيمة بشكل عام وهي ذات أهمية عظيمة خاصة لنا نحن الروس ([1877] 1911, 167–68).
وعلى ما يبدو فإن ما أزعج ماركس أيضا هو تحفظ ميخائيلوفسكي المعلن من الديالكتيك:

إذا ما أزلنا من رأس المال هذا الغطاء الثقيل المتسربل وغير الضروري من الديالكتيك الهيجلي سنرى عندها، وبدون أية علاقة مع الفضائل الأخرى لهذا العمل، مواده التي اشتُغل عليها بحرفة لوضع حلول لقضايا عامة تتصل بالعلاقات بين الأشكال [الاجتماعية] والظروف المادية لوجودها، كما وسنجد أيضا صياغات ممتازة للقضايا الخاصة. (186)
ركزت مسودة رد ماركس للمقالة في (OtechestvennyeZapiski) [ملاحظات من أرض الأباء] وبشكل خاص على موضوعة ميخائيلوفسكي الأولى والتي يدعي فيها بأن رأس المال وضع أسس " نظرية فلسفية تاريخية شاملة".
يعيد ماركس التأكيد على أن دراسة القضايا الروسية قد أشغلته على نحو عظيم خلال سبعينيات القرن:" لقد قمت ومن أجل تكوين رأي يعتمد على المعرفة بتطور روسيا الاقتصادي بدراسة اللغة الروسية ومن ثم ولسنين عديدة درست المنشورات الرسمية ومطبوعات إضافية تتصل بهذه المسألة" (Shanin 1983a, 135). ويكتب ماركس هنا، وللمرة الأولى ولكن دون أن يقر بصراحة بأن موقفه قد تغير، بأنه بات منفتحا للادعاء الشعبويلميخائيلوفسكي حول تجاوز المرحلة الرأسمالية في سبيل التقدم نحو الاشتراكية بمسار مختلف:" لقد توصلت لاستنتاج مفاده أنه إذا ما واصلت روسيا التقدم في المسار الذي اتبعته منذ عام 1861 فإنها سوف تفقد الفرصة الضئيلة التي قلما عرضها التاريخ لشعب ما وسوف تضطر للمرور بجميع مراحل تطور النظام الرأسمالي المفجعة" (135). ولاستبيان كم هي غير نهائية هذه الخلاصة فإنه يصوغها سلبا، ويؤكد على المدى الذي تغلغلت فيه المؤسسات الرأسمالية داخل المجتمعات التشاركية القروية منذ عام 1861 وهو عام إعتاق القنانة، تسارع خلاله تضاؤل الفرص أمام البديل الذي يطرحه ميخائيلوفسكيوشعبويون آخرون.
يرفض ماركس أن يكون قد أراد صياغة رسم تخطيطيّ لمستقبل روسيا أو لأي مجتمع غير غربي في رأس المال، فيكتب:" إن الفصل حول التراكم الأولي لا يدعي أكثر من كونه تقصي أثار المسار الذي من خلاله نشأ النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية من رحم النظام الفيودالي" (Shanin 1983a, 135). ولدعم هذا الادعاء يقتبس النسخة الفرنسية 1872-1875 حيث وكما كنا قد أتينا على هذا في الفصل السابق قام بتعديل النص باتجاه منظور يأخذ بتعددية أكبر لمسارات التطور فيكتب عن "تجريد ملكية المنتجين الزراعيين" التي " أنجزت على نحو جذري فقط في انجلترا... ولكن جميع دول أوروبا الغربية تمر في نفس مسار التطور"
(Shanin 1983a, 135 see also Marx [1872–75]1985b, 169).
يقدم ماركس ردا موجزا وضمنيا على الموضوعة الثانية في مراجعة ميخائيلوفسكي المتعلقة بنقده العنيف ل"الغطاء الثقيل للديالكتيك الهيجلي". وبخصوص هذا يحيل ماركس إلى فقرة في رأس المال تظهر في نهاية النقاش حول التراكم الأولي تقريبا، حيث يكتب بأن المنحى التاريخي للإنتاج الرأسمالي " ينسجم مع حقيقة كونه ‘ يُنجب نقيضَه بنفس الإصرار الذي لفعل من أفعال الطبيعة’؛ أي أنه يخلق بذاته العناصر المادية للنظام الاقتصادي الجديد" (Shanin 1983a, 135 see also Capital I,929). وكما يكتب في الخلاصة، فإن "نفي" رأس المال يتم بثورة العمل وهو مسار يحدده ماركس ك"نفي النفي":

إن أسلوب الملكية الرأسمالي المتوافق مع أسلوب الإنتاج الرأسمالي يؤسس لحالة النفي الأول؛ أي للملكية الخاصة الفردية وهي ليست إلا الموازي الطبيعي للعمل الفردي والمستقل. إلا أن الإنتاج الرأسمالي يُنجب من رحم ذاته وبالإصرار الذي لفعل من أفعال الطبيعة، نقيضَه هو بالذات. وما هذا إلا نفي النفي. لكنه لا يعيد تأسيس الملكية الخاصة الفردية للعامل بل يؤسس لملكيته الفردية على قاعدة منجزات الحقبة الرأسمالية: وتحديدا التعاون والملكية العامة لجميع وسائل الإنتاج بما فيها الأرض (Marx [1872–75] 1985b, 207، التشديد مضاف).


عادة ما عاب المفكرون الضد-هيجليون على ماركس توظيفه لمفهوم نفي النفي الهيجلي في هذه النقطة المفصلية وادعى آخرون أنه يحاول مقودا بعقائدية ضيقة اثبات قوانينه في الاقتصاد موظفا مقايس المنطق الهيجلي. ويجيب ماركس في مسودة خطابه عام 1877:" لم أجهز أي جواب على هذه النقطة، لسبب بسيط هو أن هذا التصريح هو محض تلخيص موجز للشرح الوافي الذي عرضته في الفصول المتعلقة بالإنتاج الرأسمالي" (Shanin 1983a, 135). وعليه فإن لجوئه الى اللغة الهيجلية في هذه النقطة لم يكن بحثا عن برهان ما، بل مؤشرا منهجيا يُعلم القارئَ أن عرضه الإجمالي للإنتاج الرأسمالي وتداعيه المتوقع، يتأسس على قاعدة الديالكتيك الهيجلي رغم أنه تقدم مطورا نقاشه دون إحالة صريحة الى هيجل. يتوافق الديالكتيك مع رأس المال ليس لأنه [ماركس] فرضه على الواقع بل لأن الواقع بذاته هو ديالكتيكي.
اما الموضوعة الثالثة في رسالته الى (OtechestvennyeZapiski) فإنها تتناول إحالات في التاريخ المقارن. يكتب ماركس بأنه و"إذا ما كانت روسيا مهتمة بأن تصير أمة رأسمالية مثل أمم أوروبا الغربية" فإن عليها عندها وفقط عندها أن 1) تجرد فلاحيها من ملكياتهم وتجعل منهم بروليتاريين هائمين و2) عندها "سيتم جلبها الى فِناء النظام الرأسمالي" لتدخل تحت جناحي "قوانينه عديمة الرأفة" (Shanin 1983a, 136). ويقدم ها هنا مثالا لمسار تطور مشابه لتراكم أولي لرأس المال، إلا أنه لم يقود الى الرأسمالية في نهايته إنه روما القديمة:

ذكرت في مواقع مختلفة من رأس المال المصير الذي حل بجماهير العامة في روما القديمة. كانوا في الأصل فلاحين أحرارا، يفلح كل واحد منهم قسيمته من الأرض لمنفعته الشخصية. وخلال مسيرة التاريخ الروماني جردوا من ملكياتهم. وتضمن نفس المسار التاريخي الذي أدى الى تجريدهم من وسائل الإنتاج ومقومات المعيشة تَشكُلَ مُلكيات خاصة من الأراضي الشاسعة ورأس مال نقدي هائل أيضا. وفي صباح أحد الأيام اللطيفة وعلى جانب واحد، وُجِد رجالٌ أحرارٌ من كل شيء سوى قوة عملهم، وعلى الجانب الآخر ومن أجل استغلال قوة العمل هذه، مالكون يملكون جميع الثروة المكتسبة. فما الذي حدث؟ لم تتحول البروليتاريا الرومانية الى عمال بالأجرة بل صارت "غوغاء" عاطلة عن العمل، أحط خسة مِن مَنْ كانوا يسمون البيض الفقراءفي الولايات الجنوبية لأمريكا، وبالتوازي ما نشأ بعد هذا [se d ploya] ليس نظام انتاج رأسمالي بل نظام أنتاج قائم على العبودية. (136)

ورغم أن ماركس يعقد موازاة بين روما القديمة والولايات الجنوبية الأمريكية فإن اهتمامه يتخذ وجهة مختلفة، نحو التباين الجذري بين الرومان والتشكيلة الاجتماعية للرأسمالية المعاصرة.
وموضوعة ماركس الرئيسية هي أنه وبعكس ادعاء ميخائيلوفسكي لم يطور " نظرية فلسفية-تاريخية شاملة" للمجتمع، قابلة لأن تعمم على جميع الأزمنة والأمكنة:

وهكذا فإن أحداثا متشابهة تشابها مدهشا تقع في سياقات تاريخية مختلفة تؤدي الى نتائج متباينة بالكامل. ومن خلال دراسة كل واحدة من هذه التطورات على حِدة يستطيع المرء اكتشاف مفتاح هذه الظاهرة، لكن هذا لا يمكن بلوغه بمفتاح عام[[avec lepassepartout مفتاح متوفر في نظرية تاريخية فلسفية تكمن فضيلتها الأسمى في انها فوق-تاريخية. (Supra-historical) (Shanin 1983a, 136)

يتبرم ماركس فيكتب بأن ميخائيلوفسكي:" يصر على تحويل التخطيط التاريخي الذي رسمته لتكون الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى نظرية تاريخية – فلسفية ذات منحى جامع محتوم ولا مرد له يحل على جميع البشر أيا تكن الظروف التاريخية التي قد يجدوا أنفسهم فيها" (136)
يرفض ماركس إذا :1) أنه قد استنبط نظرية في التاريخ تقول بأحادية مسار التطور 2) وينكر أنه يوظف نموذجا حتميا للتطور الاجتماعي 3) أن روسيا مقيدة بأن تتطور باتجاه الرأسمالية الغربية. ولقد كانت هذه الادعاءات الى حد ما جديدة رغم أنها نبتت على أرضية الانتقال الذي اجراه ماركس نحو تبني شبكة تقور بتعدد مسارات التطور التاريخي منذ أن اشتغل علىالجروندريسه.
نظرا لمستوى التعميم الذي يصوغ ماركس فيه ادعاءاته فمن المرجح أنه كان يقصد تطبيق هذه التعديلات ليس على روسيا فحسب بل والهند إضافة الى مجتمعات معاصرة غير غربية وغير مصنعة كان يقوم بدراستها عندها. كان للهند كما لروسيا تشكيلات اجتماعية تشاركية في القرى، الأمر الذي استدعى كرادِر (*) للكتابة حول "موقف ماركس من الإمكانيات المفتوحة امام مؤسسات المجتمع التشاركي في روسيا والهند"(1974, 29). وكانت في كل من إندونيسيا الجزائر وامريكا اللاتينية وهي مناطق كان يتناولها في دفاتر ملاحظاته للأعوام 1879-1882، تشكيلات اجتماعية تشاركية. وبسبب الكولونيالية،أثرت الرأسمالية في هذه المجتمعات بشكل أكثر مباشرة من روسيا. وعلى كل الأحوال يستطيع المرء أن يقدر أن ماركس كان مهتما بتطور هذه المجتمعات في مسار مضاد للرأسمالية محتمل، بموازاة الخطوط التي كان قد بدأ يرسمها لروسيا.
تؤكد رسالة ماركس عام 1877 الى (OtechestvennyeZapiski)، منظوره القائل بتطور تاريخي متعدد المسارات، في نفس الوقت الذي لا تحلل المجتمع الروسي أكثر مما كان قد فعل في رأس المال. لكنه في رسالته للثورية الروسية فيرا ساسوليتش (Vera Zasulich) يبدأ ماركس بوضع ترسيم تخطيطي لما قد يبدو عليه المسار الروسي للتطور الاجتماعي داخل هذا المنظور المتعدد المسارات، والذي بدأ بدفعه الى الأمام في رسالته عام 1877 وفي النسخة الفرنسية من رأس المال. يشرح دافيد سميث ما كان قيد البحث بالنسبة لروسيا والتي كانت بنيتها الاجتماعية جزءا من التشكيلة الاسيوية للإنتاج: "يساعدنا تأكيد ماركس على منحنى التطور الأسيوي ليس على إظهار انفصال مفهوم ماركس عن نظرية مُقولِبة تفرض بالقوة ارتقاءً يتم بمراحل ثابتة، نظرية تتخفى على شكل’ مادية ماركسية ‘لسنوات عديدة، ولكن هذا التأكيد يساعدنا أيضا على رؤية مفهوم ماركس متعدد المسارات للمجتمع ما بعد الرأسمالي بالضبط كما كان إدراكه للماضي"(1995, 113). في رسالة بتاريخ 16-شباط - 1881 سألت فيرا ساسوليتش والتي وصفت نفسها بأنها عضو في "حزب اشتراكي" روسي، ماركس "إذا ما كان بمستطاع التشاركية الفلاحية الروسية، المتحررة من الضرائب الباهظة ومن المدفوعات للنبلاء وللإدارات المتعسفة، التطور في اتجاه اشتراكي" أم "أن هذه التشاركية الفلاحية محكومة بالفناء" وبأن على الاشتراكيين الروس انتظار تحقق التطور الرأسمالي ونهوض طبقة بروليتاريا، الخ الخ (Shanin 1983a, 98). وأضافت بأن اتباع ماركس الروس يتبنون الطرح الأخير مشيرة الى النقاشات الدائرة في الصحف ومنها (OtechestvennyeZapiski). وطلبت ساسوليتش ردا من ماركس يكون قابلا لأن يترجم وينشر في الروسية.
في رسالته بتاريخ 08-أذار-1881 يرد ماركس مقتبسا مرة أخرى من رأس المال بنسخته الفرنسية تلك الفقرة التي تحصر النقاش حول التراكم الأولي على أوروبا الغربية ويلخص:" وعليه فإن هذه الحتمية [fatalité] التاريخية لهذا المنحى مقتصرة وبوضوح على دول أوروبا الغربية"(Shanin 1983a, 124). ويضيف بأن الانتقال من شكل المُلكية الفيودالية الى المُلكية الرأسمالية في أوروبا الغربية كان" انتقالا من شكل ملكية خاصة الى شكل ملكية خاصة آخر" بينما التحول الرأسمالي في روسيا الفلاحية سيتطلب ما هو "عكس هذا، انتقال الملكية التشاركية الى ملكية خاصة" (124). ولهذا فإن رأس المال لم يتعامل معرفيا مع قضية مستقبل روسيا. وينهي رسالتها ببعض الملاحظات الأولية والمترددة حول روسيا:

إن دراستي الخاصة لها ... أقنعتني بأن القرية التشاركية هي نقطة الارتكاز لانبعاث المجتمع في روسيا. ولكن ومن أجل أن تقوم بهذه الوظيفة وعلى هذا النحو فإنه يجب العمل على تصفية التأثيرات المضرة التي تهاجمها من كل صوب ومن ثم تحقيق ضمان شروط عادية لتطورها الذاتي. (124)

يدعي ماركس هنا وكما فعل عام 1877 بأن مسارات بديلة للتطور قد تكون قائمة بالنسبة لروسيا. ويؤسس ادعائه بمعظمه على التباين البارز القائم بين القرية الروسية ببنيتها الاجتماعية التشاركية وقرية العصور الوسطى في أوروبا الغربية. ويزيد بأنه كان "مقتنعا ... بأن القرية التشاركية هي نقطة الارتكاز لانبعاث المجتمع في روسيا "(Marx in Shanin 1983a, 124).
في النُسخ التمهيدية المتبقية لدينا من هذه الرسالة يبحث ماركس هذه القضايا بشكل مطول أكثر وبعمق أكبر مما ظهر في الرسالة الفعلية المرسلة لفيراساسلوليتش. ويناقش ماركس فيها خصوصيات حالة روسيا بوصفها بلدا واسعا على أطراف أوروبا:" ليست روسيا في عزلة عن العالم الحديث ولم تقع فريسة لغزو خارجي كالهند الشرقية" (Shanin 1983a, 106). ولهذا فإنه من الممكن دمج تشكيلات المجتمع التشاركي الروسي القديم مع التقانة الحديثة وسيكون هذا أقل استغلالية مما هو الأمر تحت النظام الرأسمالي.
وعلينا أن نؤكد هنا بأن ماركس لم يكن يقترح نظاما للاكتفاء الذاتي بل توليفة جديدة تضم القديم والحديث، نظاما يستفيد من أرفع منجزات الحداثة الرأسمالية:
بفضل تضافر ظروف فريدة في روسيا فإن التشكيلة الاجتماعية التشاركية والقائمة فعلا على مستوى الدولة قادرة على نزع جوانبها البدائية بالتدريج والتطور مباشرة كأساس لنظام انتاج تعاوني على مستوى الدولة. وبالضبط لأنها تتزامن مع شكل الإنتاج الرأسمالي فإن التشكيلة التشاركية القروية تستطيع امتلاك المنجزات الإيجابية لنفسها دونما أن تكون مضطرة للمرور بمراحل تطوره الرهيبة... وإذا ما أنكر محبو الرأسمالية الروس أن يكون مثل هذا التطور ممكنا فإنني عندها سأطرح أمامهم هذا السؤال: هل محكومة هي روسيا بالمرور بفترات الحضانة الطويلة الشبيهة بالنمط الأوروبي الغربي قبل أن تستطيع استخدام الماكينات، السفن البخارية، سكك الحديد وهلمجرا؟ وليفسروا لنا أيضا كيف على الروس التدبر وإدخال منظومة التبادل هذه كلها (البنوك وشركات الائتمان وما اليه) برمشة عين، والتي كانت نتاج عمل قرون في الغرب. (Shanin 1983a, 105–6)
والتأكيد هنا على ابراز الطابع التناقضي والديالكتيكي للتطور الاجتماعي على الضد من أحادية المسار الحتمي للتطور. ومن الناحية الموضوعية تستطيع التشكيلة التشاركية القروية في روسيا تجيير منجزات الحداثة الرأسمالية الغربية ذاتها. ومن الناحية الذاتية يخلق هذا الأمر وضعا مختلفا تماما عما كانت قد واجهته قديما حركات شعبية في المجتمعات ما قبل الرأسمالية.
(يتبع)