التفاوت الاجتماعي والتفاوت الطبقي

عبد الغني اليعقوبي
2006 / 2 / 26 - 12:07     

ليست كل تفاوت اجتماعي بتفاوت طبقي. فإن الفرق بين أجر عامل غير متخصص وأجر عامل ذي اختصاص عال لا يجعل منهما عضوي طبقتين اجتماعيتين مختلفتين.
إن التفاوت الاجتماعي تفاوت يمد جذوره في بنية الحياة الاقتصادية وسيرها الطبيعي، وتحافظ عليه المؤسسات الاجتماعية والقانونية الرئيسية في عصره، وتزيد من حدته.
فلنوضح هذا التعريف ببعض الأمثلة:
لكي يصبح المرء رب عمل كبير في بلجيكا، عليه جمع رساميل تقدر بنصف مليون فرنك [23] مقابل كل عامل يجري استئجاره. إن مصنعا صغيرا يستخدم 100 عامل يتطلب بالتالي جمع رأسمال لا يقل عن 100 مليون فرنك. والحال أن أجر العامل الصافي لا يتعدى أبدا تقريبا 200 ألف فرنك سنويا فحتى إذا عمل خمسين عاما دون أن يصرف فلسا واحدا للأكل والعيش، لا يستطيع العامل جمع ما يكفي من المال ليصبح رأسماليا. فالعمل المأجور، الذي هو أحد ميزات بنية الاقتصاد الرأسمالي، يشكل إذا أحد جذور انقسام المجتمع الرأسمالي إلى طبقتين مختلفتين بالأساس: الطبقة العاملة التي لا تستطيع أبدا أن تصبح بواسطة مداخيلها مالكة وسائل إنتاج، وطبقة مالكي وسائل الإنتاج أو الرأسماليين.
صحيح أنه يوجد إلى جانب الرأسماليين بحصر المعنى بعض التقنيين الذين يستطيعون أن يصلوا إلى مراكز إدارة المنشآت. غير أن التكوين التقني المطلوب هو تكوين جامعي. والحال أن 5 إلى 7% فقط من الطلاب الجامعيين في بلجيكا، في العقود الأخيرة، هم من أبناء العمال… والحالة هي نفسها في معظم البلدان الامبريالية.
إن المؤسسات الاجتماعية تقطع الطريق إلى الملكية الرأسمالية أمام العمال، سواء من جهة مداخيلهم أو من جهة نمط التعليم العالي. هذه المؤسسات تبقى انقسام المجتمع إلى طبقات كما هو قائم اليوم، وتحافظ عليه وتديمه.
حتى في الولايات المتحدة حيث يحلو لبعضهم أن يذكروا أمثالا عن «أبناء عمال مجتهدين أصبحوا من أصحاب المليارات بفضل دأبهم في العمل»، تبيّن نتيجة استقصاء أن 90% من مدراء المنشآت الهامة ذوو أصول برجوازية كبيرة ومتوسطة.
هكذا نجد عبر التاريخ تفاوتا اجتماعيا تبلور في تفاوت طبقي. ففي كل مجتمع من المجتمعات المذكورة، نجد طبقة من المنتجين تعيل بعملها المجتمع بأسره وطبقة مسيطرة تعيش من عمل الغير: فلاحون وكهنة أو أسياد أو كتبة في إمبراطوريات الشرق، عبيد وأسياد عبيد في العصور القديمة اليونانية والرومانية، أقنان وأسياد إقطاعيون في بداية العصر الوسيط، عمال ورأسماليون في العصر البرجوازي.

4- المساواة الاجتماعية في ما قبل التاريخ البشري

غير أن التاريخ لا يشكل سوى جزء بسيط من حياة البشرية على الكرة الأرضية. فقد سبقه ما قبل التاريخ، أي تلك المرحلة من وجود البشرية التي كانت خلالها الكتابة والحضارة مجهولتين. وقد بقيت بعض الشعوب البدائية في شروط العيش ما قبل التاريخية حتى زمن قريب، بل حتى أيامنا هذه. والحال أن البشرية جهلت التفاوت الطبقي طوال القسم الأعظم من وجودها ما قبل التاريخي.
وسوف يتضح لنا الفرق الأساسي بين جماعة بدائية ومجتمع طبقي من خلال استعراضنا لبعض مؤسسات تلك الجماعات.
فقد حدثنا العديد من علماء الأناسة (أنتربولوجيا) عن عادة نجدها عند شعوب بدائية كثيرة وهي عادة تنظيم احتفالات مسهبة بعد الحصاد. وقد وصفت لنا عالمة الأناسة مارغريت ميد هذه الاحتفالات عند شعب آرابيش البابو [24] في غينيا الجديدة، حيث جميع الذين حصدوا محصولا فوق المتوسط، يدعون عائلاتهم بكاملها وجميع جيرانهم إلى المشاركة في احتفالات تستمر حتى استهلاك القسم الأعظم من فائض ذلك المحصول. وتضيف مارغريت ميد:«إن هذه الاحتفالات تشكل إجراء ملائما لمنع الفرد من مراكمة ثروات..»
من جهة أخرى، درس عالم الأناسة آش نظام وتقاليد قبيلة قطنت جنوب الولايات المتحدة، هي قبيلة الـهوبي. في هذه القبيلة، وبخلاف مجتمعنا، يعتبر مبدأ المزاحمة الفردية مبدأ مدانا من وجهة النظر الأخلاقية. فعندما يلعب الأولاد الـهوبي ألعابا رياضية، لا يحسبون أبدا العلامات ويجهلون من «ربح».
إن المشاعات البدائية التي لم تنقسم بعد إلى طبقات، عندما تمارس الزراعة كنشاط اقتصادي رئيسي وتحتل أرضا معينة، لا تقوم باستثمار الأرض جماعيا. بل تحصل كل عائلة على حقل تستثمره لفترة. بيد أن الحقول يعاد توزيعها مرارا للحؤول دون تمتع أي عضو من أعضاء المشاعة بامتيازات على حساب الآخرين. أمّا المروج والغابات فإن استثمارها جماعي. إن نظام المشاعة القروية هذا، المبني على غياب الملكية الخاصة للأرض، قد وجد عند البحث في نشوء الزراعة لدى جميع شعوب العالم تقريبا. أنه يثبت أن المجتمع في تلك الفترة لم يكن منقسما إلى طبقات على صعيد القرية.
أمّا الأفكار الشائعة التي تردد دائما والقائلة أن التفاوت الاجتماعي يجد جذوره في تفاوت مواهب الأفراد أو كفاآتهم، وأن انقسام المجتمع إلى طبقات هو نتاج «أنانية الإنسان الغريزية» وبالتالي نتاج «الطبيعة الإنسانية»، فهي أفكار لا أساس علمي لها. إن اضطهاد طبقة اجتماعية لطبقة أخرى ليس نتاج «الطبيعة الإنسانية»، بل نتاج تطور تاريخي للمجتمع. إنه اضطهاد لم يكن موجودا دوما ولن يبقى إلى الأبد. فلم يكن ثمة أغنياء وفقراء دوما ولن يبقى أغنياء وفقراء إلى الأبد.

5- التمرد ضد التفاوت الاجتماعي عبر التاريخ

إن انقسام المجتمع إلى طبقات والملكية الخاصة للأرض ولوسائل الإنتاج ليسا إطلاقا، إذا، نتاج «الطبيعة الإنسانية». إنهما نتاج تطور للمجتمع وللمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية. وسوف نرى لماذا نشآ وكيف سيزولان.
في الواقع، ما أن يظهر انقسام المجتمع إلى طبقات حتى يبدي الإنسان حنينه إلى الحياة المشاعية القديمة. ونجد تعبيرات هذا الحنين في حلم «العصر الذهبي» الذي يقال أنه ساد عند فجر وجود البشرية على الأرض والذي وصفه الأدباء الكلاسيكيون الصينيون، شأنهم في ذلك شأن الكتاب الإغريق واللاتينيين. ويقول فرجيليوس [25] بوضوح أن المحاصيل، في ذلك العصر الذهبي، كان يجري تقاسمها جماعيا، أي أن الملكية الخاصة لم تكن موجودة.
هذا وقد اعتبر العديد من الفلاسفة والعلماء الشهيرين أن انقسام المجتمع إلى طبقات يشكل مصدر القلق الاجتماعي، وقد وضعوا مشاريع لإزالة هذا الانقسام.
هو ذا الفيلسوف اليوناني أفلاطون [26] يحدد أصل المصائب التي تصيب المجتمع: «حتى أصغر مدينة منقسمة إلى قسمين، مدينة فقراء ومدينة أغنياء تتعارضان (وكأنهما) في حالة حرب».
كذلك، فإن الشيع اليهودية التي تكاثرت في عصر المسيح ومن ثم آباء الكنيسة المسيحية الأول الذين حافظوا على تراث تلك الشيع بين القرن الثالث والخامس الميلاديين، كانوا دعاة متحمسين لعودة إلى مشاعية الأملاك. فقد كتب القديس برنابا: «لن تتكلم أبدا عن ملكيتك، لأنك إذا كنت تنعم بثرواتك الروحية بالمشاع، فحري أن تنعم بثرواتك المادية بالمشاع». وقد ألقى القديس قبريانوس مرافعات عديدة دعا فيها إلى تقاسم الثروات المتساوي بين جميع الناس. وكان القديس يوحنا فم الذهب أول من صاح: «الملكية هي السرقة». والقديس أوغسطينوس، حتى هو، بدأ بإلقاء مسؤولية العنف والصراعات الاجتماعية على الملكية الخاصة، قبل أن يغير لاحقا وجهة نظره.
وقد استمر هذا التقليد طوال العصر الوسيط، لا سيما عند القديس فرنسيس الاسيزي وعند رواد الإصلاح [27]. هاكم ما قاله الرائد الإنكليزي جون بول في القرن الرابع عشر: «يجب إلغاء القنانة وجعل جميع البشر متساوين. إن الذين يسمون بالأسياد يستهلكون ما ننتجه نحن.. إن ترفهم ناتج عن كدحنا».
وفي العصر الحديث، أخيرا، نرى مشاريع مجتمع المساواة تصبح أدق وأدق، سيما في كتاب «الطوبى» للإنكليزي توماس مور، وكتاب «مدينة الشمس» للإيطالي توماس كامبانيللا، وكتابات الفرنسي فوراس داللي (القرن 17)، وفي «وصية جان ميلييه» و«قانون الطبيعة» للفرنسي موريللي (القرن 18).
وإلى جانب هذا التمرد الفكري ضد التفاوت الاجتماعي، كانت ثمة تمردات فعلية لا تحصى، أي انتفاضات من قبل الطبقات المضطهَدة ضد مضطهِديها. إن تاريخ جميع المجتمعات الطبقية هو تاريخ الصراعات الطبقية التي تمزقها.

6- الصراعات الطبقية عبر التاريخ

إن الصراعات بين الطبقة المستغِلة والطبقة المستغَلة أو بين مختلف الطبقات المستغِلة تتخذ أكثر الأشكال تنوعا حسب المجتمع المعني ومرحلة تطوره المحددة.
هكذا فقد حصلت تمردات عديدة في مجتمعات ما يسمى بـ «نمط الإنتاج الآسيوي» (إمبراطوريات الشرق الكلاسيكي). وقد تعاقبت انتفاضات فلاحية لا تحصى في تاريخ السلالات التي سادت بالتتالي في الإمبراطوريات الصينية. وشهدت اليابان أيضا عددا كبيرا من الانتفاضات الفلاحية ، خاصة في القرن الثامن عشر.
وقد عرفت العصور القديمة اليونانية والرومانية سلسلة غير منقطعة من تمردات العبيد -كان أشهرها بقيادة سبارتكوس- التي ساهمت إلى حد بعيد في سقوط الإمبراطورية الرومانية. ونشب بين «الأحرار» صراع عنيف بين طبقة من الفلاحين المستدينين وتجار- مرابين، بين غير مالكين ومالكين.
وفي العصر الوسيط، في ظل النظام الإقطاعي، جرت صراعات طبقية بين الأسياد الإقطاعيين وبلدات حرة قائمة على الإنتاج البضاعي الصغير، وبين الحرفيين والتجار داخل هذه البلدات، وبين بعض الحرفيين المدينيين والفلاحين المجاورين للمدن. وجرت بالأخص صراعات طبقية عنيفة بين النبلاء الإقطاعيين والفلاحين الذين حاولوا التخلص من النير الإقطاعي، واتخذت هذه الصراعات أشكالا ثورية تماما في عاميات فرنسا وحروب الفلاحين في إنكلترا وبوهيميا وألمانيا في القرن السادس عشر.
وعرفت الأزمنة الحديثة صراعات طبقية بين النبلاء والبرجوازية، وبين المعلمين الحرفيين والصناع، وبين رجال المصارف والتجار الأغنياء من جهة و«السواعد .العارية» في المدن من الجهة الأخرى، الخ.. هذه الصراعات هي مقدمة الثورات البرجوازية والرأسمالية الحديثة ونضال البروليتاريا الطبقي ضد البرجوازية
* * * * * * *
المراجع
ك. ماركس وف. إنجلس البيان الشيوعي.
ف. إنجلس، دحض دوهرنغ (الجزءان الثاني والثالث).
ماكس بير، تاريخ الاشتراكية.
ك. كاوتسكي، مصادر الاشتراكية، توماس مور.
مورتون، الطوبى الإنكليزية.