تأملات في مآل ثورة أكتوبر -الاشتراكية-


رضا الظاهر
2017 / 12 / 8 - 01:24     


هذه محاولة أولية في إضاءة بعض الجوانب الأساسية لثورة أكتوبر "الاشتراكية"، بالتركيز على مآل الثورة، الهدف منها إثارة نقاش يسهم في إعادة النظر في تقييم الثورة من منظور ماركسي بمناسبة الذكرى المئوية.
ونود التنويه، ابتداء، الى أنه من المفيد جداً العودة الى وثيقة (خيارنا الاشتراكي: دروس من بعض التجارب الاشتراكية) الصادرة عن المؤتمر الوطني الثامن لحزبنا الشيوعي العراقي عام 2007، ففيها تقييم لمصائر الاشتراكية وثورة أكتوبر.
ولإضاءة مآل ثورة أكتوبر لابد من تناول جوانب الثورة الأساسية المختلفة. ولذلك ستطرح هذه المداخلة المحاور الخمسة التالية وعلى نحو شديد الايجاز:
1. أسباب حدوث الثورة ودلالاتها وانجازاتها.
2. الشروط المادية لقيام الثورة، والعلاقة بين الاشتراكية والديمقراطية، والنزعة البيروقراطية.
3. المواقف المتباينة من الثورة.
4. أسباب انهيار الثورة والاشتراكية.
5. مثل أكتوبر حية .. عودة ماركس !

لماذا حدثت ثورة أكتوبر ؟ ما دلالاتها وانجازاتها ؟

جاءت الثورة تعبيراً عن تفجر تناقضات الرأسمالية في احدى أضعف حلقاتها، وتجسيداً لروح الكفاح التي ظلت متقدة منذ تحدى سبارتاكوس عروش العبودية وحتى أيامنا، تلهم الثوريين مثل العدالة والتنوير، والأمل العظيم في الوصول الى ضفاف اسقاط نظام الاستغلال.
وأصبحت ثورة أكتوبر، التي يتفق معظم الباحثين الماركسيين، رغم تبايناتهم في تقييمها، على أنها الحدث الأعظم الذي حدد الاتجاهات الأساسية لتطور عالمنا ومصائره التاريخية، علامة مضيئة وملهمة في تاريخ النضال ضد الجور الاجتماعي.
فقد حققت الثورة انجازات عظمى وضعت البشرية على أعتاب مرحلة جديدة .. وسيظل المكافحون يمضون في الطريق الذي شقه الرواد، ليؤكدوا، مرة أخرى، ورغم "الهزيمة"، على أن ما تنبأ به ماركس مازال حياً.

هل كانت الشروط المادية لقيام الثورة متوفرة ؟

كيف يمكن للثورة الاشتراكية أن تنتصر في بلد لا يمتلك، بسبب ضعف تطور الرأسمالية فيه، قاعدة مادية متقدمة لبناء الاشتراكية، وهو الشرط الذي كان كارل ماركس قد وضعه لانتصار الاشتراكية في بلد من البلدان؟.
من هذا السؤال انطلق لينين، مبرهناً على وجود الرأسمالية في روسيا، التي كان يشكك في وجودها "الشعبويون" الروس، ومظهراً أن السمات الخاصة التي تتسم بها هذه الرأسمالية، وبالأخص ضعفها، تجعل إمكانات انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا أكبر من إمكانات انتصارها في أي بلد آخر من البلدان الرأسمالية المتطورة.
عززت ثورة 1905 قناعة لينين، وجعلته يطرح جدياً فكرة أن الثورة الديمقراطية، "البرجوازية بمحتواها الاقتصادي والاجتماعي" ، يمكن أن تتطوّر إلى ثورة اشتراكية. كما أن الانتصار الحاسم على القيصرية في روسيا يمكن أن يجعل الحريق الثوري يمتد إلى أوروبا ويمهد طريق انتصار الثورة الاشتراكية في عدد من بلدانها.
وبعد اندلاع الحرب العالمية، قام لينين بإغناء أفكاره عن الثورة الديمقراطية في روسيا وآفاق تطورها.
وعلى أساس تحليله ظاهرة الإمبريالية، واكتشافه قانون التطور المتفاوت للرأسمالية، شدّد لينين على إمكانية انتصار الاشتراكية، في بادئ الأمر، في عدد قليل من البلدان الرأسمالية أو حتى في بلد رأسمالي بمفرده.
وكان لينين قد أرسل خلال شهر آذار1917، من منفاه في مدينة زيوريخ، خمس رسائل، سميت "رسائل من بعيد"، إلى جريدة البرافدا، يحث فيها رفاقه على رفض المشاركة في الحكومة الائتلافية، والشروع في تحضير المرحلة الثانية للثورة. وفي 28 آذار، غادر لينين زيوريخ سراً، وانتقل عبر ألمانيا والسويد إلى روسيا، ليصل إلى بتروغراد في الثالث من نيسان. وبعد أيام من وصوله، قدم أمام اجتماع مندوبي البلاشفة في السوفييتات "موضوعات نيسان" الشهيرة ، التي حدد فيها "مهمات البروليتاريا في الثورة الحالية".
هل تناقض لينين مع معلمه ماركس عندما اتّخذ قراره بأن يتسلم البلاشفة السلطة إثر طور قصير مرت به الثورة "البرجوازية الديمقراطية" في روسيا ؟
يرى باحثون ماركسيون إن مشروعية هذا السؤال تنبع من حقيقة أن استلام البلاشفة السلطة في أكتوبر 1917، وانتقالهم السريع من مرحلة الثورة "البرجوازية الديمقراطية" إلى مرحلة الثورة "الاشتراكية"، كان متعارضاً مع "المخطط" الذي وضعه ماركس لسبل الانتقال إلى الاشتراكية في أمور ثلاثة رئيسية: فمن جهة أولى، جرى الانتقال إلى مرحلة الثورة الاشتراكية في بلد زراعي في الأساس. ومن جهة ثانية، كانت الطبقة العاملة فيه محدودة الحجم، إذ كان عدد العمال المأجورين فيه نحو 18 مليوناً، من أصل 174 مليوناً من السكان، ولم يكن يعمل في الصناعات الكبرى أكثر من 5.3 مليون عامل تقريباً. ومن جهة ثالثة، وبسبب استنادها إلى أقلية في المجتمع، لم يكن من الممكن أن تنطبع الثورة الاشتراكية في روسيا بطابع ديمقراطي، يجعل منها ثورة "الأغلبية الساحقة" على حد تعبير ماركس.

مواقف متباينة من الثورة

من الأهمية بمكان أن نتفحص المواقف المتباينة بشأن الثورة قبل وبعد قيامها. فهذا يزودنا بأداة لمعرفة مصائر الثورة. وسنتعرض هنا، وبايجاز شديد، الى أبرزها، مشيرين الى آراء ومواقف: بليخانوف، تروتسكي، وبوخارين من داخل روسيا، وكاوتسكي، وروزا لوكمسبورغ من خارجها (نحن، بالطبع، بحاجة الى معرفة آراء ومواقف أخرى، بينها، على سبيل المثال، آراءغرامشي، لوكاتش، الماركسيين الغربيين، مدرسة فرانكفورت، ألتوسير ... وصولا الى إريك هوبسباوم والماركسيين الحاليين).

بليخانوف

في مقال له نشر بعد أيام من قيام ثورة أكتوبر عنوانه (رسالة الى عمال بتروغراد) دعا بليخانوف (أبو الماركسية الروسية) الى استذكار ما قاله انجلز من "أنها مأساة تاريخية للطبقة العاملة عندما تنتزع السلطة في وقت هي ليست مؤهلة لذلك بعد". وأشار بليخانوف في (الوصية السياسية) الى أنه لم يقدر طموحات لينين المتطرفة.
وتعمق الخلاف بينهما عشية الحرب العالمية الأولى عام 1914. فقد دعا لينين الى تحويلها الى حرب أهلية، بينما رأى بليخانوف ضرورة أن يقوم العمال والفلاحون بدعم البرجوازية والسلطة في الحرب ضد ألمانيا وحليفاتها.
واشتد الخلاف خصوصاً بشأن ثورة شباط 1917. فقد نشر لينين حال عودته الى روسيا (موضوعات نيسان) التي دعا فيها الى تحويل الثورة البرجوازية الى ثورة اشتراكية، بينما رد بليخانوف على ذلك مسفّهاً الدعوة للاستيلاء على السلطة. وفي وقت لاحق وصف بليخانوف لينين بأنه فوضوي، وشن حملة للتشهير بالبلاشفة. وأكد بليخانوف، من بين أمور أخرى، على ضرورة وجود التعددية السياسية. وقال إنه يستحيل قيام ثورة اشتراكية في روسيا المتخلفة رأسمالياً، والتي تفتقر الى التقاليد الديمقراطية. وأضاف إن "الشيوعيين لن يفعلوا شيئاً سوى استبدال الدكتاتورية القيصرية بدكتاتورية بلشفية".

تروتسكي

في كتابه (نتائج وتوقعات) يقول تروتسكي إنه "يمكن للبروليتاريا في بلد متأخر اقتصادياً أن تستولي على السلطة بصورة أسرع مما في البلدان التي تكون فيها الرأسمالية متقدمة. وأكد أن الماركسية الكلاسيكية والحجج المستخلصة من أدبياتها حول تعاقب الثورتين البرجوازية والبروليتارية شي مستبعد. وأثبت أن الماركسية هي، قبل كل شيء، طريقة لتحليل العلاقات الاجتماعية لا طريقة لتحليل النصوص.
ويتعين علينا أن نشير الى أن لينين قال عن انضمام تروتسكي الى الحزب البلشفي إنه "بعد انضمام تروتسكي الى الحزب ليس هناك بلشفي آخر أفضل منه"، على الرغم من أن العلاقة بينهما لم تكن أبداً علاقة وفاق تام، لكن كان بينهما الكثير من الثقة المتبادلة. وعندما تشكلت الحكومة، التي أطلق تروتسكي عليها اسم مفوضي الشعب، اقترح عليه لينين ترؤسها كشخص قادها، لكن تروتسكي رفض ذلك احتراماً للينين.
ومنذ سنة 1923، لاحظ تروتسكي أن السياسة الاقتصادية الجديدة "النيب"، وإن كانت قد ساهمت في تطوير القوى المنتجة، إلا أن هذا التطوّر لم يكن في مصلحة الدولة العمالية لأنه لم يساهم في تطوير الصناعة الثقيلة أصلاً، وإنما كان في صالح الإنتاج الفردي الصغير، الزراعي والحرفي. وانتقد تروتسكي بشدة موضوعة بورخارين القائلة بضرورة التوجّه نحو الاشتراكية بـ "خطى السلحفاة"، من خلال ربط نمو الصناعة بنمو الزراعة، معتبراً أن تطوير القوى المنتجة في الاتحاد السوفييتي يجب أن يتحقق بوتائر أسرع نسبياً من وتائر تحققه في اقتصاديات البلدان الرأسمالية المتقدمة.
ومنذ سنة 1925، انتقد المكتب السياسي للحزب الشيوعي مواقف تروتسكي هذه، والتداعيات اللاحقة معروفة ...

بوخارين

اختلف بوخارين مع لينين حول معاهدة بريست – ليتوفسك، اذ كان يميل، في الواقع الى محاربة ألمانيا. وبعد وفاة لينين أصبح بوخارين عضواً في المكتب السياسي، ودخل في الصراع على السلطة بين تروتسكي وزينوفييف وكامينيف. ورغم أنه أظهر نفسه كوسطي في الحزب لكن، في الواقع، وقف الى جانب ستالين. وكان بوخارين هو الذي صاغ نظرية (الاشتراكية في بلد واحد) التي طرحها ستالين عام 1924.
كان ستالين ينتقد ضمناً ما سمي بعد أشهر بـ "المعارضة اليمينية" مستهدفاً أربعة من أعضاء المكتب السياسي هم: بوخارين، رئيس الأممية الشيوعية (الكومنترن) ورئيس تحرير "البرافدا، وريكوف رئيس مجلس مفوضي الشعب، وتومسكي رئيس النقابات، وأوغلانوف سكرتير اللجنة المركزية. وكانت الخلافات داخل قيادة الحزب قد بدأت تبرز إلى العلن منذ أواخر شهر أيلول 1928، عندما نشر بوخارين مقالاً نقدياً في "البرافدا" بعنوان: "ملاحظات اقتصادي"، أتبعه بخطاب له في 21 كانون الثاني 1929 في الذكرى الخامسة لرحيل لينين.
فقد كان بوخارين يعتقد أنه من الممكن التوفيق بين حكم الحزب الواحد والاستمرار في انتهاج سياسة اقتصادية معتدلة ومرنة.
أما قصة محاكمات موسكو الشهيرة فهي تلك التي صفى ستالين عبرها بوخارين والكثير من قادة البلاشفة.

كاوتسكي

الواقع أن الرأي القائل بأن إمكانات اندلاع ثورة ديمقراطية في روسيا هي إمكانات كبيرة كان شائعاً في مطلع القرن العشرين في أوساط عدد من قادة الحركة الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية البارزين، ومنهم الألماني كارل كاوتسكي الذي كان، منذ سنة 1904، على قناعة بأن هناك مجموعة من البلدان الأوروبية، في مقدمها روسيا، كانت أكثر استعداداً للثورة من ألمانيا.
اتفق كاوتسكي مع لينين حول عدد من الأمور المتعلقة بطبيعة الثورة الديمقراطية في روسيا، ومنها أن البروليتاريا، وليس البرجوازية، هي التي ستلعب الدور القيادي فيها، وأن التحالف بين العمال والفلاحين سيطبع الحركة الثورية فيها بطابع "ديمقراطي ثوري".
بيد أن كاوتسكي اختلف مع لينين في تقديره لآفاق تطور هذه الثورة الديمقراطية في روسيا، إذ اعتبر أن مستقبل روسيا الاشتراكي سيبقى مرهوناً بانتصار الثورة الاشتراكية في بلدان أوروبية مثل ألمانيا، وأن هذه الأخيرة، بعد استيلاء البروليتاريا على السلطة فيها، هي التي سيكون بإمكانها أن تقدم إسهاماً حاسماً لتحويل الثورة الديمقراطية في روسيا إلى ثورة اشتراكية.
وكان كاوتسكي قد اتّخذ، منذ انتصار ثورة أكتوبر، موقفاً نقدياً من سياسات البلاشفة وممارساتهم. إذ اعتقد كاوتسكي أن الديمقراطية هي الأساس لبناء الاشتراكية، ورفض بحزم إقدام البلاشفة على تصفية التعددية السياسية.
وفي كتابه (الماركسية والبلشفية) – 1934 رأى كاوتسكي أن لينين والبلاشفة أرسوا الأساس لدكتاتورية جديدة، بيروقراطية، وانتجوا ثقافة استبدادية باسم دكتاتورية البروليتاريا.
وكما هو معروف، رد لينين بعنف على طروحات كارل كاوتسكي هذه، وخصص لها كتاباً كاملاً وصفه فيه بـ "المرتد" عن الماركسية، الذي انضم "إلى البرجوازية ليسخر من كل فكرة عن الثورة"، و"حوّل ماركس إلى ليبرالي مبتذل"

روزا لوكسمبورغ

نجد الموقف الأكثر أهمية لفكرة روزا لوكسمبورغ حول الحاجة الى الديمقراطية الثورية في مقالتها الطويلة (الثورة الروسية)، المكتوبة عام 1918، والمنشورة عام 1922، أي بعد رحيلها. وبينما توجه المقالة انتقادات قوية للثورة البلشفية في أكتوبر 1917، يتعين علينا أن نتذكر أن هذا العمل دفاع عن ثورة أكتوبر. وإذ كتب بينما كانت في السجن بسبب معارضتها للحرب العالمية، فانه أثنى على البلاشفة لجرأتهم ومبادرتهم. غير أنه في الوقت ذاته انتقدت لوكسمبورغ، بحدة، عدداً من سياساتهم عند استلامهم السلطة. وركز نقدها الشديد على قمع الديمقراطية الثورية من جانب لينين وتروتسكي. وكانت لوكسمبورغ عميقة القلق من أن ميل البلاشفة لكبت حرية التعبير والصحافة والتجمع عرض للخطر الحركة ذاتها نحو مجتمع اشتراكي. وقالت إن الاشتراكية والديمقراطية متلازمتان على نحو لا ينفصم، ولا يمكن إنجاز واحدة دون الأخرى. وفضلاً عن ذلك فان لينين وتروتسكي، باحتكارهما السلطة بيد حزب واحد، غامرا بتدمير أساس التطور الثوري لروسيا. وفي تأكيدها الحاجة الى حرية الفكر والتعبير العفوي بعد الاطاحة بالنظام القديم طرحت لوكسمبورغ واحدة من أهم وأصعب المسائل التي واجهت الحركة الماركسية: ما الذي يحدث بعد الثورة ؟ ما العمل لضمان أن طبقة جديدة أو بيروقراطية لا تستولي على السلطة لاحقاً ؟ هل يمكن لعملية ثورية أن تستمر "دائمة" حتى يمكن تحقيق تجاوز الاغتراب ؟
واكتسبت هذه المسائل قوة أعظم منذ نشوء الاستبداد الستاليني من داخل الحركة الماركسية، والانهيار اللاحق للأنظمة "الاشتراكية"، وهو تطور لم تعش لوكسمبورغ نفسها لتشهده. وهذه المسائل دليل على بصيرة لوكسمبورغ من أن نقدها للثورة الروسية، الذي طرح في سياق تاريخي مختلف جذرياً، يعالج، على نحو مقنع، مسألة هي، اليوم، في أذهان الملايين ـ هل هناك بديل لكل من الرأسمالية القائمة ومناوئيها البيروقراطيين.

ما الذي أدى الى انهيار ثورة أكتوبر والاشتراكية ؟

استخدمت هزيمة ثورة أكتوبر طوال الوقت من قبل البرجوازية للبرهنة على أن الثورات الاشتراكية تكون نهايتها الحتمية الهزيمة والدمار والديكتاتورية.
إن الرد على أطروحات البرجوازية حول ثورة أكتوبر يستدعي، من بين أمور أخرى، أن نفهم جيداً الظروف التاريخية لتلك الثورة حتى يمكن أن نفهم لماذا انهزمت وكيف يمكن أن تنجح الثورات القادمة الهادفة الى الاطاحة بسلطة رأس المال.
لم يتقبل حكام الرأسمالية الغربية نجاح ثورة أكتوبر وبدأ 22 جيشاً في الهجوم على روسيا بهدف الإطاحة بالبلاشفة وظلت روسيا لمدة تقارب 3 أعوام في حرب أهلية بين الدولة السوفييتية الجديدة وبين جيوش الثورة المضادة وحلفائها الغربيين.
ومات الملايين خلال تلك الفترة بسبب الحرب والأمراض والجوع، وكان للحرب أثر مدمر على القاعدة الصناعية، وتفتتت الطبقة العاملة الصناعية التي تأسس عليها حكم البلاشفة. وتحول موقف الفلاحين من تأييد الثورة الى التخلي عنها.
وحاول لينين في 1921 أن يعطي النظام البلشفي بعض المساحة للحركة من خلال طرح “السياسة الاقتصادية الجديدة -النيب” التي أعادت بعض سمات السوق الرأسمالي كوسيلة لتشجيع الفلاحين على إنتاج المزيد من المحاصيل الغذائية، ولكن هذا لم ينجح في حل التناقض الأساسي، وجوهره وصول طبقة عاملة صغيرة إلى السلطة في بلد غالبيته من الفلاحين. ومنذ البداية لم يكن لينين وتروتسكي يظنون ولو للحظة أن الجمهورية السوفييتية تستطيع الصمود والبقاء وحدها، فقد كانا يتوقعان أن ثورة أكتوبر بمثابة الشرارة التي ستحرك موجة من الثورات في البدان الرأسمالية في الغرب. وطرحا أن الاشتراكية لا يمكن بناؤها في بلد واحد خاصة بلد متخلف مثل روسيا، فبناء الاشتراكية يتطلب الإمكانيات المشتركة لكل البلدان الرأسمالية الرئيسية.
وفي الأعوام التي تلت موت لينين استطاع ستالين أن يهزم بالتدريج جميع معارضيه حتى أصبح في عام 1928 مسيطراً تماماً على الحزب وعلى جهاز الدولة.
لقد هزمت ثورة أكتوبر في أواخر ثمانينات القرن الماضي على نحو دراماتيكي، مرغمة على الركوع بسبب مشكلاتها الداخلية وسباق التسلح وتفوق الغرب الاقتصادي. وبدت الماركسية بالنسبة لكثيرين منتهية، حيث أطاحت بها المطالب "الشعبية" في الشرق وأبعدتها عن المسرح السياسات اليمينية والتحولات الاجتماعية في الغرب.
والحق أن ما انتهى في الاتحاد السوفييتي السابق كان الماركسية التقليدية الجامدة. فالأفكار الماركسية ظلت حية، متجاوزة الممارسة السياسية "الماركسية". ومن الغريب الظن بأن أفكار لوكاتش وغرامشي وبريخت لم تعد حية لأن الصين تتجه نحو الرأسمالية أو لأن جدار برلين سقط. ومن باب المفارقة أن هذا لا يعكس سوى ذلك النمط من النظرة الميكانيكية للعلاقات بين الثقافة والسياسة، التي كانت الماركسية "المبتذلة" نفسها متهمة بها في الغالب.

عودة ماركس !

مثل ثورة أكتوبر ما تزال حية .. هناك، اليوم، الكثير من الحقائق الساطعة التي تؤكد على أنها تولد من جديد .. ومن بين هذه الحقائق ما نسميه بـ "عودة ماركس" !
كانت صحيفة "التايمز" اللندنية قد تطرقت في أحد أعدادها قبل حلول الألفية الثالثة للأزمة الاقتصادية بنبرة تهكمية عندما استعارت صيغة عبارة "يا عمال العالم اتحدوا" التي افتتح بها ماركس كتابه "بيان الحزب الشيوعي"، وحولتها الى "يا مصرفيي العالم اتحدوا".
وتابعت الصحيفة متوجهة الى المصرفيين: "لم يعد لديكم اليوم ما تخسرونه سوى مكافآتكم المالية الكبيرة ومنازلكم الشاسعة واجازاتكم على الشواطئ الكاريبية، والآن، وبينما سرح الكثيرون من بينكم من وظائفهم، أصبح لديكم الوقت لقراءة تحذيرات ماركس البالغة الجدية من الرأسمالية".
قد يبدو البحث في إعادة قراءة واكتشاف ماركس من باب "البطر". فمن يبحث في ما لم يعد ذا صلة بالواقع ؟ غير أن هناك تطوراً في أواخر التسعينات، فقد تجدد الثناء على ماركس فجأة باعتباره عبقرية من جانب الرأسماليين البرجوازيين القدامى أنفسهم. وتجلت الدلالة الأولى على إعادة تقييمه في أكتوبر 1997، عندما ظهر عدد جديد من (النيويوركر) واصفاً كارل ماركس بـ "المفكر الأعظم المقبل"، انسان لديه الكثير لنتعلم منه بشأن الفساد السياسي والاحتكار والاغتراب والجور الاجتماعي والأسواق العالمية.
وأبلغ مصرفي استثمارات المجلة قائلاً "كلما أمضيت وقتاً أطول في وول ستريت ازددت قناعة بأن ماركس كان على حق. أنا مقتنع بالكامل بأن منهجية ماركس هي أفضل منهجية للنظر في الرأسمالية". ومنذئذ وقف كثير من اقتصاديي وصحفيي الجناح اليميني في الطابور ينتظرون دورهم في الثناء على ماركس. وهم يقولون إن ماركس كان حقاً "تلميذ الرأسمالية".
وأشار مدير نشر دار ديتز الى أن الاقبال على كتب ماركس، الذي اختاره استطلاع (بي بي سي) باعتباره فيلسوف الألفية الثالثة، منقطع النظير، وأن الكتاب الأكثر مبيعاً لديه هو (رأس المال).
وختم الناشر حديثه لوكالة الأنباء الفرنسية بالقول "إن مجتمعاً يشعر مجدداً بضرورة قراءة ماركس هو مجتمع لا يشعر أنه بخير".
كان هناك الكثير مما كتبته الصحف قبل 20 عاماً وماتزال، لكن يصعب، هنا، الحديث عن كل هذا. غير أنه من الجدير ذكره أن "الفايننشيال تايمز" أثنت على "تأثير ماركس الاستثنائي على العالم خلال القرن والنصف الماضي" ، وذكرت قراءها بأن ماركس لم يكن فقط بشير الحقد الثوري وانما محللاً بارعاً للمجتمع الرأسمالي.
وقال كاتب العمود الشهير في الصحيفة البريطانية إدوارد مورتيمر، مشيراً الى (البيان الشيوعي)، إن "ماركس وانجلز وصفا الاقتصاد العالمي على نحو أكثر شبهاً باقتصاد عام 1998 منه باقتصاد عام 1848".
وكانت الذكرى 150 لصدور (البيان الشيوعي) فرصة للكثير من مقالات الثناء على ماركس والتذكير بضرورة العودة اليه.
إن تاريخ القرن العشرين هو تاريخ ثورة أكتوبر، وهو إرث ماركس. وكان كل رموز العصر الحديث، من ستالين وماو حتى تشي غيفارا وكاسترو، قد قدموا أنفسهم باعتبارهم ورثته. أما مسألة اعترافه بهم كورثة فمسألة أخرى تماماً. وعندما سمع أن حزباً جديداً زعم بأنه ماركسي، رد على ذلك بالقول "أنا، على الأقل، لست ماركسياً".
ومن الطبيعي أن الشخص المغفل وحده هو الذي يحمل ماركس المسؤولية عن معسكرات الاعتقال الستالينية وجرائم بول بوت. غير أن هناك أدوات جاهزة للمغفلين. وقد كتب ليوبولد شواز تشايلد عام 1947 في مقدمة سيرته الموسومة (الروسي الأحمر) إنه "بطريقة أو بأخرى تقودنا حقائق عصرنا الأكثر أهمية الى إنسان واحد، الى كارل ماركس ...". ومن هنا مساواة منهجيته بمنهجية ستالين، مستخدماً حق أن "الشجرة تعرف بثمارها" ليراد به باطل (هل ينبغي أن نتهم نوبل بجريمة هيروشيما !؟)
وبعد انتهاء الحرب الباردة و"الانتصار الجلي" على ماركس، أعلن البعض عن أننا وصلنا الى ما أسماه فوكوياما "نهاية التاريخ". فقد باتت الشيوعية ميتة شأن ماركس نفسه، وما جاء في (البيان الشيوعي) من أنه "لترتعش الطبقات الحاكمة من الثورة الشيوعية. فليس للبروليتاريا ما تخسره غير أغلالها لتكسب عالما بأسره .. يا عمال العالم اتحدوا !" بدا مجرد شيء ينتمي الى الماضي.
ويقول البعض إن ماركس مات بالتأكيد. ولم يكن هذا "الاستنتاج" جديداً، فقد جاء على لسان الايطالي بنيديتو كروتشه منذ عام 1907، وبالتالي فان عمره يزيد على قرن. ولعل المرء يشير الى هذا ليذكّر بأن حفاري قبر ماركس، الفلاسفة الجدد من أمثال فوكوياما، لديهم الكثير من الأسلاف وسيكون لديهم الكثير من الأحفاد. ولا يجدر بالمرء أن يبدد الكثير من الوقت ليدحض مواعظهم الجنائزية المأجورة.
لكن هل يعلمنا ماركس، من ناحية أخرى، كما يزعم بعض اليساريين، أن المهمة الأولى لليسار أن نصغي وننكب على التطور الفعلي للرأسمالية ؟ إن ماركس الذي نعرفه كان، أولاً وقبل كل شيء، ثورياً اجتماعياً. وبقي هكذا وسط تقدم وتراجع الصراعات الاجتماعية. فلا هزيمة ثورات 1848 ولا إخفاق كومونة باريس كانت مناسبات بالنسبة له للتخلي عن الصراع الطبقي الثوري. وتعين على ماركس وانجلز أن يدرسا ويحللا الهزائم لاختيار طريق صراع متجدد.
لقد كرس ماركس قدراً كبيراً من طاقته السجالية لتسفيه آراء أقرانه الاشتراكيين الذين تخيلوا أن الانتقال الى الاشتراكية سيكون قصيراً ويسيراً. والواقع إن تحليله الاجتماعي ينزع الى تبيان أنه ما من شيء أكثر حماقة من السعي الى خلق مجتمع اشتراكي بقرار إرادة سياسية.
ان الحركات السياسية الماركسية (خلافا لتراث ماركس النظري الخالص) انطلقت دوماً من تفاؤل معرفي وتاريخي، مفترضة أن الأشياء كفيلة بأن تتغير نحو الأفضل بعد فترة وجيزة، وذلك بفضل النشاط السياسي الذكي والبارع. لكن اتضح أن السياسة ليست هي الأساس في إحداث التغيير في حياة البشر.
وبسبب الاعتقاد بأن السياسة، لا الأسس المادية الاجتماعية، هي التي تغير الواقع، تمزقت بنية الأمل السياسي المعاصر الى حد أن الماركسي الحقيقي يجد نفسه أمام مهمة تشييع هذا الأمل الخادع المضلِّل الى مثواه، والعودة، ثانية، من مملكة الوهم الى مملكة الواقع.
اذا اردنا لماركس أن يبقى حياً، أي أن نعيده من الصقيع الجامد الى دفء الحياة، فعلينا أن نفعل، كما فعل هو مع ديالكتيك هيغل، أي أن نوقف ماركس على قدميه بعد أن أوقفناه طويلاً على رأسه.
* * *

نحن ندرس الثورة والتاريخ، ونعيد النظر بتراثنا، ونقرأه ونقرأ الواقع بعيون جديدة.
تلك الأيام العشرة التي هزّت العالم ستظل أمثولة يتمسك بدروسها الغنية وقيمها السامية وآفاقها المضيئة كل الساعين الى خسران أغلالهم ليحققوا العدالة على الأرض.
ستبقى جمرة الكفاح الثوري متقدة .. وسيبقى الشيوعيون في ساحة هذا الكفاح، راياتهم تخفق، وينابيعهم تتفجر، وهم يسيرون، في هدي أكتوبر، حالمين، طليعيين، مقتحمين قلاع رأس المال للاطاحة بعبوديته، وبناء العالم الجديد ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مداخلة قدمت في ندوة عمان حول الذكرى المئوية لثورة أكتوبر التي أقامها الحزب الشيوعي الأردني يومي 18 – 19 تشرين الثاني 2017