مئوية ثورة اكتوبر .. كيف تحققت نبؤة ستالين في الشرق الأوسط - 5 -


رضي السماك
2017 / 12 / 1 - 16:11     

خلصنا في المبحث السابق إلى انسياق الاحزاب الشيوعية العربية وراء الموقف السوفييتي بتأييد قرار التقسيم 1947 رغم عدم قناعتها الذاتية به ، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي اعترفت شخصيات روسية كانت قريبة من دوائر صنع القرار السياسي بخطأ موسكو الستالينية بتأييد القرار ، ومن هؤلاء المستشرق السوفييتي والاستاذ الجامعي وضابط المخابرات العسكرية ليونيد ميدفيدكو والذي كان شاهد عيان على خلفيات موافقة الزعيم ستالين على قرار التقسيم والذي تبيّن بأنه بُني على استنتاجات وحيثيات سطحية ، وقد تبع ذلك الاعتراف السريع أيضاً بالدولة الصهيونية إسرائيل بعد وقت قصير من إعلان تأسيسها عام 1948. وكان ستالين هو نفسه الذي صادق على الأوامر المرسلة للوفد السوفييتي لدى الاُمم المتحدة برئاسة أندريه جروميكو بالموافقة على قرار التقسيم ، وكان جروميكو الذي أصبح بعدئذً أشهر وزراء خارجية الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة وأطولهم فترةً قد ألقى كلمةً أمام الجمعية العامة للامم المتحدة في 14 مايو / أيار عام 1947 شديدة التعاطف مع اليهود جاء فيها : " إن مئات الآلاف من اليهود يجولون الآفاق في بلدان اوروبا بحثاً عن مأوى ، لقد آن الأوان لتقديم العون لهؤلاء الناس ، إن العرب يدّعون ان تقسيم فلسطين ظلم تاريخي ولكن لا يمكننا موافقتهم في هذه الرؤية ، إذ يكفي إن الشعب اليهودي كان مرتبطاً بإيرتز إسرائيل . " ( اُذيع هذا النص حرفياً ضمن مقابلة مع ضابط المخابرات العسكرية ميدفيدكو في RT الروسية ، يونيو / حزيران 2009 ) .
وكان تعبير " العرب " في كلمة جروميكو ، كما في كلام ستالين الذي سنأتي على ذكره لاحقاً ، يُقصد به العرب الحكّام أو أنظمتهم وليس الشعوب العربية بمجملها ، تماماً مثلما تتم الإشارة للإنجليز أو الامريكان او الالمان عند الحديث عن سياسات ومواقف حكوماتهم .
وحسب حديث ميدفيدكو فإن ستالين بني مبررات موافقته على قرارالتقسيم ( وكذلك الاعتراف بعدئذ بإسرائيل ) على التعويل بإستمالة أغلب قادتها اليهود المنحدرين من أصل روسي مثل بن جوريون وجولدا مائير إلى جانب الاتحاد السوفييتي ، ولم يكن يمانع من هجرة يهود بلده إلى إسرائيل ، كما كان يعوّل على ان تكون إسرائيل قاعدة لحركة تحرر وطني تقاوم المخططات الاستعمارية والامبريالية الغربية في الشرق الأوسط ، ويرى إن العرب واقعين تحت تأثير نفوذ وهيمنة الاستعمار الغربي ، وخاصةً في مصر والأردن وسوريا ، ولذلك حسم ستالين النقاش الذي دار في المكتب السياسي حول الاعتراف أو عدم بإسرائيل غداة تأسيسها بتأييده الاعتراف هدفه من الاعتراف بتشبيه بليغ مؤلم وإن بدا سوقياً : " سنعترف وسنغرس للعرب شوكةً في مؤخراتهم بحيث يواصلون حكها إلى آخر الدهر " ! ومن مفارقات حوادث التاريخ العربي الساخرة أن تتحقق نبؤة ستالين منذ إطلاقها قبل نحو 70 باستمرار وجود هذه الشوكة لكن ليس العرب الحكّام هم الذين يُعانون من حك دماملها - كما تنبأ - بل شعوبهم وعلى الأخص الشعب الفلسطيني !
والحال ليس هذا الخطأ القاتل الوحيد الذي وقعت فيه دولة ثورة اكتوبر الاشتراكية ، إذ ثمة جملة من الأخطاء المتعاقبة في سياساتها الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط منذاك حتى أنهيارها ، بل ويمكننا القول بأن هذه السياسات ، ولا سيما خلال حكم بريجنيف المُسمىٰ بفترة " الجمود " ، هو من جملة أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي ، وعلى الأخص بدءاً من حرب 1967 الاسرائيلية العربية التي مُني فيها حليفتاه مصر وسوريا بهزيمة موجعة وعدم اتخاذ موسكو حينها مواقف مسبقة إنذارية حازمة تجاه إسرائيل وأمريكا يكف يد الأولى عن المبادرة بشن الحرب ، ثم سياسة التلكؤ ،إلى حد ما ، في تزويد القاهرة بالاسلحة الهجومية المتطورة في سني الرئيس المصري جمال عبد الناصر الأخيرة لشن حرب تُمكنه من تحرير سيناء كاملة ، ثم زادت سياسة التلكؤ في تزويد مصر بالاسلحة على نحو أشد بعد استلام خلفه الرئيس أنور السادات السلطة . أضف إلى ذلك عدم ابداء موسكو مواقف وسياسات أشد حزماً أو أكثر دهاءً أزاء التحولات الجذرية اليمينية التي شرع السادات في تنفيذها في النظام الناصري وبمعادة السوفييت والتحالف مع المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة . وفي حوار مع قناة RT انتقدت إحدى الشخصيات الروسية موقف الاتحاد السوفييتي المتفرج من إنقلاب السادات على الجناح الناصري داخل السلطة في مايو / ايار 1971 وإيداعهم السجون وعدم نصرته لرجال هذا الجناح لهم أثناء الانقلاب رغم أن وزراء الداخلية والدفاع والإعلام ( شعراوي جمعة ومحمد فوزي ومحمد فائق ) هم من أبرز عناصره المقربة من موسكو .
والحال ليس هناك من القوى الكبرى الدولية من لا تحسب أولا تعرف قيمة وأهمية منطقة الشرق الأوسط عالمياً على مخلف الصُعد الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية ، بل لعلنا لا نبالغ في القول : إن حجم نفوذ أي دولة كبرى في هذه المنطقة هو التي يحدد إلى حد كبير مدى النفوذ والدور العالمي اللذان تتمتع بهما ، بحيث لو كان لها موطئ قدم واحد فيها لاستماتت للحيلولة دون فقدانه ، لكن من مفارقات الاتحاد السوفييتي الغريبة أنه في الوقت التي أستمات على موطئ قدم له في افغانستان عام 1979 يتمثل في حكم جنرالات يساريين في السلطة وفي بلد قبلي شديد التخلف إلى درجة عدم التورع عن التدخل العسكري فيه والانزلاق في مستنقع حروبه على مدى عشر سنوات ونيّف مما أدى إلى استنزافه ، وكان واحداً من الاسباب المباشرة لانهياره ، فإنه - الاتحاط السوفييتي - لم يُبدِ خلال حكم " الجمود " حزماً أكثر فاعليةً للمحافظة على أكثر من موطئ قدم له في الشرق الأوسط ، في حين تستميت روسيا اليوم بكل وسائلها السياسية والعسكرية والمادية للمحافظة على موطئ قدم وحيد يتيم في هذه المنطقة وفي سوريا تحديداً رغم إن نظامها الفاشي الشمولي بات في حكم المنتهي حتى لو خرج من الحرب الدائرة حالياً منتصراً !