الفكر النقدي الثوري ومفهوم البورجوازية الصغيرة


هيفاء أحمد الجندي
2017 / 12 / 1 - 10:57     


شكلت كتابات ماركس ولينين وغرامشي،وعلى مرالأزمان واختلاف السياقات التاريخية،مرجعاً هاماً،لعدد من المفكرين النقديين،وكانت دالة عمل منهجية وأداة لقراءة الواقع في صيرورته المتبدلة-المتحولة،ولاستنباط الأفكار والرؤى،النابعة من تمايز التركيب الاقتصادي-الاجتماعي ومن خصوصية التعيين الواقعي للطبقات ومختلف الشرائح الإجتماعية،وهذا ما يفسر راهنية بعضاً من أطروحاتهم ولا سيما المتعلقة بموضوعة الثورات وموقف القوى الاجتماعية المبدأي أوالرجعي والمحافظ من التغيير الثوري الجذري.
لقد وقفت الشرائح الوسطى والعليا منها ضد التغيير الجذري،وتصالحت مع الطبقات المسيطرة والجكومات حفاظاً منها على امتيازاتها وعلى وضعها الطبقي المرتبط بديمومة الأنظمة القديمة وإعادة انتاجها.
ومن منا يمكنه أن يتجاوز السجال الذي دار بين ماركس وفيلسوف البورجوازية الصغيرة "برودون"وكما وصفه ماركس وما أكثر البرودويين الجدد في زمن الثورات العربية والتغيير من أسفل.
برودون الذي انطلق من مواقع مثالية-إصلاحية-توفيقية،ولم يدعو الى القضاء على النظام الرأسمالي والإنتاج البضاعي،والقيمة التبادلية،وأراد أن يطهر الرأسمالية من نواقصها ومن الشوائب والزوائد،ويوفق بين التناقضات،إنه ووفق تعبير ماركس،يشبه المذهبي السياسي،الذي يريد أن يبقي على الملك ومجلس النواب أي على أركان النظام القديم،وتأكيده الدائم على دور الأفكار والمقولات ودور النخب في صناعة التاريخ،بدلاً من الصراع الطبقي ومن حركة الناس،وكان العدو الصريح لكل حركة سياسية-ثورية-جذرية وحل المشاكل لا يكمن في العمل العام وإنما في الدورات الجدلية لذهنه وليس ضرورياً وبحسب برودون أن نغير النظام القائم،يكفي أن نغير المقولات حتى يتغير النظام القائم وبذلك يكون قد لجأ الى هيغلية بسيطة ومبتذلة.
ويمكن أن نعزو هذه المثالية في التحليل،إلى أن النخب والفلاسفة من البورجوازيين الصغار يخشون الوعي الشعبي،أكثر مما يخشون من الرجعية اللذين دافعوا عنها وهم يضمرون عداوة عميقة للجماهير ولمبادرتها في اقتحام السماء!
بيد أن المحطة النقدية الأبرز،والأكثر شجاعة وجرأة في نقد البورجوازية الصغيرة ومختلف التيارات الانتهازية،التي تنتشر في زمن الحروب والردات الثورية الرجعية،سيتصدى لها القائد الثوري لينين،والذي فضح مآربها وأهدافها وتكتيكاتها وتحالفاتها الرجعية،وبكثير من الحزم والجرأة الثورية،لما لها من تداعيات وتأثير سلبي،على وعي العمال والفلاحين،ويمكن أن تعيق تقدم الثورة،وأتى هذا النقد والتشريح النقدي لبنية هذه الشريحة،على خلفية الصراعات بين التيارات في قلب الاشتراكية الديمقراطية،عشية ثورة أكتوبر،وكانت،أي الصراعات امتداداً للصراع الذي سبق ثورة 1905.وكانت وقتذاك،المنشفية تمثل تياراً انتهازياً تدعمه البورجوازية الليبرالية،وكان جوهر فكرها، قائماً على تكييف حركة العمال وفقاً لليبرالية،وطرحت تعاون الطبقات،بدلاً من الصراع فيما بينها،وتحالفت مع البورجوازيات والحكومات،وساعدتها في وقت الحروب والأزمات،وسيما وأن الملاكيين العقاريين والبورجوازية الصناعية والتجارية،كانوا قد دعموا سياسة النزوع إلى الحرب،وإذا كان من وسيلة تؤجل انهيار الأنظمة،وتؤخر نشوب الثورة،لن تكون إلا شن حرب خارجية.
وكانت الظروف الموضوعية،في نهاية القرن التاسع عشر،تقوي الإنتهازية والبيروقراطية والاستقراطية بين صفوف الطبقة العاملة،ويمكن أن تجذب الكثير من البورجوازيين الصغار،الى صفوف الأحزاب،ولا مصلحة لهؤلاء في التغيير الجذري،لأنهم معنيون بالدفاع عن مصالحهم وامتيازاتهم الطبقية المرتبطة بتكريس القائم وتحالفهم مع البورجوازية.
وهذا ما يفسر،انتشار الأفكار المثالية والطوباوية الرجعية في أزمنة الردات الثورية والحروب،وكان للينين قصب السبق،في تشريح ونقد هذه التيارات والطوباويات الليبرالية والشعبية.
الطوباوية الليبرالية،وبحسب لينين هي طوباوية العجز،في قضية تحرر روسيا السياسي،وطوباوية كيس النقود والجشع الذي يقاسم الامتيازات،وهذه الطوباوية تفسد وعي الجماهير الديمقراطي والجماهير التي تؤمن بهذه الطوباوية لن تنال الحرية مطلقاً.
أما الطوباوية الشعبية،فهي لا تعدو كونها استغراق الملاك الصغير،الذي يقف في الوسط بين الرأسمالي والعامل الأجير،الذي يحلم في القضاء على العبودية المأجورة من دون نضال طبقي،وهذه الطوباوية يمكن أن تفسد وعي الجماهير الاشتراكي.
ويعتبر لينين،الطوباوية الليبرالية بمثابة ستار لرغبة المستثمرين الجدد الجشعة،في تقاسم الامتيازات مع المستثمرين القدامى!والشعبية هي تعبير عن سعي ملايين البورجوازيين الصغار الكادحين،في القضاء وكلياً على المستثمرين القدامى الإقطاعيين،وأمل باطل في القضاء على المستثمرين الجدد الرأسماليين،إذ يكتفي هؤلاء بإلغاء الإقطاع،وينتقلون الى جانب النظام الجديد،وغالباً ما يتأرجحون ما بين الديمقراطية العمالية والليبرالية البورجوازية!
ولأن الماركسية،تحكم على المصالح،انطلاقاً من الصراع الطبقي،والتناقضات،فإن البورجوازية الصغيرة تحلم بتخفيف التناقضات،وتثرثر حوله،بحجة أن تفاقمها سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة،وما من ماركسي،يخالجه شعور بأن الانتهازية،تعبر عن السياسة البورجوازية في الحركة العمالية،وتعبر عن مصالح البورجوازية الصغيرة،ولذلك يسعون إلى تفريغ الماركسية من روحها الثورية،ويقبلون أي شيء فيها ما عدا وسائل النضال الثورية،والترويج لها،يريدون ماركسية مطهرة تماماً من كل روح ثورية ومتكيفة وفقاً لحاجات البورجوازية.
وبرهنت ثورة 1905 و1917 على صحة التكتيك الثوري،البعيد عن المهادنة والمساومة،ودعمت وبكل قوة تحالف الفلاحين والعمال،وطرحت مهمة الإطاحة بالسلطة القيصرية وإقامة سلطة العمال والفلاحين الثورية،ومن خلال النضال الثوري المباشر.وحققت انتصاراً تاريخياً على شتى المذاهب الانتهازية والرجعية المحافظة،والتي دعت الى التحالف مع البورجوازية،وسيما وأن التحالف مع الانتهازية لا يعني ووفق الرفيق "لينين" إلا خضوع العمال للبورجوازية وهذا يعني السير في درب الثورة المضادة.
إن موقف لينين الحازم والحاسم من الانتهازية ومن البورجوازية،التي تمثلها وتكتيكاته الثورية عن كيفية التعامل معها،ألهم عدد كبير من المفكرين العرب،وكان بمثابة البوصلة الفكرية الثورية،ونذكر وعلى سبيل المثال،المفكر السوري ياسين الحافظ والذي تأثر تأثيراً بالغاً بأفكار لينين الثورية-النقدية،الأمر الذي دفعه الى نقد البورجوازية الصغيرة،ونقد تذبذبها الفكري والسياسي،وتقلباتها الدائمة في غمرة احتدام الصراع الطبقي،على خلفية ما كتبه لينين عن هذه الفئة وكان لينين قد دعا وكما جاء في المجلد الثاني من مختاراته،الى عدم الخلط بين بين الانقلاب الديمقراطي والاشتراكي،بين النضال من أجل الجمهورية،والنضال في سبيل الاشتراكية،واذا ما حاولت الاشتراكية-الديمقراطية،أن تجعل من الانقلاب الاشتراكي هدفها المباشر،فإنها لن تفعل غير أن تخزي نفسها أمام مهمة الانقلاب البورجوازي الديمقراطي بالذات،وأمام هذه المهمة يقف الشعب كله،أي كل جمهور البورجوازية الصغيرة والفلاحين وبدون هذا الانقلاب،يستحيل تطور التنظيم الطبقي المستقل تطوراً واسعاً من أجل الانقلاب الاشتراكي،ويقول لينين:الاشتراكية الديمقراطية لا تقدس الجمهورية،الا بوصفها أنسب ساحة من أجل نضال البروليتاريا ضد البورجوازية وهي لا تقدس الملكية،وبوليسها،بل تقدسها من أجل النضال الواسع والحر ضد المؤسسات.
ينبغي التحالف مع البورجوازية الصغيرة،في مرحلة النضال الديمقراطي،وضربها بآن،ومحاربة تأثيرها الإيديولوجيأي مراقبة الحليف كما مراقبتنا العدو!لأن السحنة الإيديولوجية للبورجوازية الصغيرة كريهة،وهي تشكل بحكم فرديتها،بؤرة لجميع أشكال التفكير الذاتي،والارتجال والكسل العقلي،والتفكير الوعظي وسائر النزعات المثالية في التفكير،وتحمل التشويش والتناقض والغموض،وتعمل هذه الفئة على حجب الأفق الثوري الاشتراكي،عن حركة الجماهيروتشوش تطلعاتها الجذرية وتقوم بتعطيلها،وتبقى المهمة الأساسية،المطروحة على الطبقة العاملة،هوالنضال الإيديولوجي ضدها،في سبيل تصفية مفاهيمها الغبية واللاديمقراطية والمعادية للعلم وانتزاع القيادة من البورجوازية الصغيرة هو ضرورة ملحة،يفرضها مستلزمات استمرار الثورة الاشتراكية.
وبدوره،اعتبر ياسين الحافظ وثلة من أترابه المفكريين النقديين،بأن التحرر الوطني يتطلب تحالف الفئات الشعبية،مع البورجوازية الصغيرة،ضد المستعمر وما أن تنجز مهام التحرر،حتى تبرز التناقضات بين العمال والفلاحين من جانب والبورجوازية الصغيرة من جانب أخر،وفي هذه المرحلة،ستواجه الجماهير الكادحة البورجوازية الصغيرة،وستكون المواجهة مباشرة،عندما يتحول التناقض من ثانوي الى رئيسي،والذي كان يخفيه التناقض الأساسي،بين الشعب والبورجوازية الصغيرة،والكولونيالية والاستعمار وفي هذه المرحلة،سوف تسعى البورجوازية الصغيرة،القسم المالك منها،لوقف نمو حركة الجماهير،التي سوف تناضل في سبيل التحرر الكامل والمطلق،وفي مرحلة التحرر الوطني،سوف تقف البورجوازية الصغيرة،مع الجماهير وهذا ينسجم مع طموحها الطبقي،لأنه سوف يحذف الطبقة العليا من فوق أي من أعلى السلم الهرم الاجتماعي،وهذه تعتبر خطوة إلى الأمام،وأما في مرحلة النضال الطبقي،سوف تبرز كل الجوانب السلبية،للبورجوازية الصغيرة من ضيق أفق وانتهازية،وعداء صريح وعلني،لتعيق مرحلة التحول الاشتراكي للمجتمع،وفي هذه المرحلة،سوف تبرز أيضاً خطورة الطابع الوسطي والانتهازي الفردي للبورجوازية الصغيرة،وسيكون عزلها عن قيادة الجماهير،مسألة ملحة،تمليها تطورات النضال الاشتراكي،بغية دفع التحول الاشتراكي للمجتمع الى نهاياته،ومن هنا تنبع أهمية توفر قيادة ثورية واشتراكية للجماهير العمالية والكادحة،لأن البورجوازية الصغيرة تعارض الطبقات المستغلة من جهة وتخاف من الجماهير من جهة أخرى،وفي غمرة احتدام الصراع الطبقي،يمكن أن ينجر قسم منها خلف البورجوازية الكبيرة ويذهب القسم الأخر"الفئات الغير مالكة" ليلتزم بقضية الطبقة العاملة،ويقبل قيادتها وهذا يعطي راهنية قل نظيرها للتحليل الذي قدمه ماركس لهذه الشريحة.
يقول ماركس وفي معرض نقده للبورجوازية الصغيرة:إن الفئات المتوسطة من صغار المنتجين،والباعة والحرفيين،والفلاحين،تحارب البورجوازية،بوصفها فئات متوسطة،فهي ليست ثورية وأكثر من محافظة ورجعية فهي تحاول،دفع حركة التاريخ الى الوراء،واذا كانت ثورية،فذلك،بقدر ما ينتظرها،من الانتقال إلى صفوف البروليتاريا،وهي تدافع عن مصالحها المقبلة،وليس عن مصالحها الحالية،وليس من بين جميع الطبقات التي تواجه البورجوازية،إلا طبقة واحدة ثورية وهي البروليتاريا،وأن جميع الطبقات تنحط وتهلك مع نمو الصناعة الكبرى،أما البروليتاريا،فهي نتاج هذه الصناعة بالذات."
ولذا بات من الضروري،تحديد دور مواقف الطبقة العاملة وأشكال نضالها خلال طوري الثورة لأن القسم المالك من البورجوازية وكما أسلفنا أعلاه،سوف يرفض الاندماج والذوبان في الهياكل الاشتراكية للمجتمع،وسيعارض التطوير الاشتراكي،بغية الحفاظ على الامتيازات الطبقية،وسيعارض بالمقدار ذاته ايديولوجية الطبقة العاملة،على نحو شرس،لأنه انضم الى المعسكر المعادي للثورة الاشتراكية،حيث تقف الرجعية،وعندها ستصبح قيادة البورجوازية الصغيرة،عقبة أمام التطور الموضوعي للثورة العربية.
ويمكن للصراع الطبقي،أن يعطي للرفض،الرؤية العلمية والموقف الثوري الجريء باعتباره المحرك الأساسي،لتطور المجتمع،والسبيل الوحيد،لكشف تناقضاته،بدل المنظور المثالي،والانجرار إلى التحدث،عن دور النخبة في صناعة التاريخ،كبديل عن التطور الموضوعي،ودور الجماهير ونضالها وهذا النضال هو طريق خلاصها ولن ينقذها لا النخبة ولا دور البطل،ويمكن أن تتحول"النخب" الى عقبة تحول دون انضاج وعي الجماهير الاشتراكي.
وماذا عن عبدالله العروي وموقفه من البورجوازية الصغيرة؟
لا يختلف موقف العروي النقدي،عن سائر أترابه من المثقفين الثوريين النقديين،واعتبر بأن هذه الفئة،لا تستحق اسم طبقة،لأنها خليط من بقايا متخلفة وحاملة للأفكارالرجعية،الطوباوية المثالية،لأنها خارج الإنتاج الفعلي،ولا ارتباط لها بالعقلانية الصناعية،لأنها مقهورة من النظام الرأسمالي و تريد أن تحطمه من الخارج ويحطمها،وفي البلاد العربية،تتميز البورجوازية الصغيرة بأنها تمثل أغلبية سكان المدن والأغلبية من الفلاحين واللذين يتحولون الى ملاكين صغار ما إن يدخلون في الانتاج البضاعي،ولا غرابة فيما لو انتهجت هذه الفئة الازدواجية والوسطية الفكرية والسياسية،وهادنت الفكر التقليدي،وبهذه المهادنة تكون قد ضمنت استمرار هيمنة الفكر التقليدي،ولا ترى لها أي مصلحة في تغليب الفكر العصري وليست بقادرة على القيام بعقلنة الدولة والمجتمع،إذ كيف يمكن للفئات البيروقراطية والتي تعيش عيشة الطبقة الوسطى،أن تعقلن المجتمع,والطبقة الوحيدة والتي تقع على عاتقها مسؤولية القيام بهذه المهمة هي الطبقة العاملة،والمثقف الثوري الذي ينتمي الى البورجوازية الصغيرة،والذي استطاع أن يتجاوز أفق ومصالح طبقته وهو يمثل أقلية داخل النخبة المثقفة.
وكان ماركس،قد عول أهمية كبيرة على دور المثقف الثوري في توعية الطبقة العاملة،وسيما وأن الماركسية كانت قد ميزت بين الطبقة في ذاتها ولذاتها،والتمييز قائم على ادخال عنصر الوعي ومن خلال الأحزاب والمثقفين العضويين،ورأى ماركس بأن التحرر من الوعي الخاص،لا يكون إلا عن طريق النقد الإيدلولوجي،والتحرر من الاغتراب والتشيؤ والاستلاب الاقتصادي لا يكون إلا من خلال القضاء الجذري على النظام الرأسمالي والتبادل ومن لهم مصلحة فعلية في هذا التغيير هم الفئات الشعبية المفقرة،أي العمال والفلاحين الغير ملاكين ولكن ما ينقص هذه الفئة المحرومة،هو التنظيم والوعي الكافي للقيام بثورة على الأوضاع السائدة وعلى أصحاب الملكيات الكبيرة.
ومن هنا تنبع أهمية ما طرحه الفيلسوف الماركسي غرامشي،حول اللحمة العضوية بين المثقفين وجمهور البسطاء،ولن تتحقق هذه اللحمة إلا من خلال الحزب الثوري وهو بمثابة العقل الموجه للقوة الشعبية،والبوتقة التي تتوحد فيه النظرية والتطبيق باعتبارها عملية تاريخية،وعندها سوف تنتقل الهيمنة إلى الطبقة العاملة،بما تعنيه من تصعيد للنضال ضد البورجوازية والمخلفات الإقطاعية في الريف.
والفضل يعود لغرامشي والذي وسع مفهوم الهيمنة،والتي كانت تقتصر على التحالفات السياسية وفق التصور اللينيني،وانتقل بها الى مستوى الهيمنة الإيديولوجية،والتي من شأنها أن تحدث تحولاً جذرياً في وعي الطبقة العاملة،والفئات الاجتماعية الحليفة،أي الانتقال من الهيمنة في إطار التحالفات إلى الهيمنة السياسية والثقافية والفكرية والإيديولوجية ومن شأن هذه الهيمنة أن تجذب الفلاحين الملاكين،والمثقفين التقليديين المرتبطين بأنماط الإنتاج الماقبل رأسمالية وإيلاء المستوى الإيديولوجي أهمية كبيرة من قبل غرامشي في عملية الصراع الطبقي،مرده إلى أن الفئات الوسطى،وبعض المثقفين،يخلطون بين الدولة الطبقية والمجتمع المنظم واللذين يفرحون بأي إجراء من شأنه أن يمنع الصراعات الحادة،والاضطرابات وهذا موقف رجعي وماضوي،فضلاً عن أن النضال الإيديولوجي،يخلق الأرضية اللازمة لحركة الناس ونضالهم والوعي بموقفهم،وهذا هو السبيل،لكي تتخلص الفئات الشعبية،من الوعي الطائفي والغيبي ويحصنها من الانزلاق،الى مواقع التحريفيين،إذ لا يكفي ولتحقيق الثورة الفكرية،مواجهة فلسفة لفلسفة،بل ينبغي،مواجهة القوى الاجتماعية،التي تقف وراءها والتي تسعى إلى تكريس الحس المشترك في الوقت الذي يتوجب فيه تجاوز ونقد ما سماه غرامشي "بالحس المشترك" وكما أن نقد الفلسفة المثالية،الرجعية،الليبرالية والنضال الايدلولوجي هما وجهان لنضال واحد.
وينبغي خوض هذا النضال،بأقصى قوة وحسمه على أرضية تثوير الواقع،ولن يتحقق هذا التثوير! من دون الأحزاب الثورية وانخراط المثقفين فيها وسوف تصبح الرؤية أكثر جذرية بقدر ما تصبح العلاقة بين النظرية والتطبيق أكثر توثقاً.
ويمكن بناء نظرية،بقدر ما تتوحد الانتلجنسيا الثورية مع العناصر الحاسمة في الواقع،وتصبح الممارسة أكثر تجانساً واتساقاً وفاعلية،وتثبت عقلانيتها وواقعيتها عندما تنظر الى الواقع،من منظور ديالكتيكي،على اعتبار أنه في حركة دائمة،يتضمن انقطاعات،ووقفات وتراجعات وقفزات،وتحاول أن تلتقط الميول الكامنة في الواقع،بغية تدعيمها أو لجمها،واقتناصها وصولاً إلى التحكم بمجرى الأحداث والإمساك بالفرص الثورية المتاحة.
غني عن البيان القول،بأن الحركة الثورية الوطنية،مطالبة بتبني الاشتراكية والديمقراطية كي تصبح جزءاً من ايديولوجيتها،وتكون الاشتراكية حقة وديمقراطية بقدر ما تسعى إلى تحقيق العدالة والمساواة وتتجاوز الطبقية،والتحدي الذي يواجه الحركة الثورية،هو وضع استراتيجيات عقلانية واقعية،من شأنها أن تردم الهوة بين الحلم والواقع،وتتجاوز الولاءات التقليدية،والتصادم والتعايش إلى مرحلة الاندماج المجتمعي والذي يعتبر بمثابة الرافعة لكل وحدة سياسية علمانية واشتراكية وديمقراطية ووصولاً الى التغيير الجذري،في البنى والأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية السائدة،أي استبدال واقع بواقع أخر ونقطة البداية هو الواقع لا الثقافة ولا الأفراد. ولا ضير من القول،بأنه لا مستقبل لأي حركة ثورية من دون اعتمادها،على الارادة الشعبية والطبقات الكادحة باعتبارها القوة التاريخية الصاعدة،وعندها ستصبح سيدة وقائدة نفسها وتملك زمام التحكم بمصيرها.