الاتحاد السوفييتي: محاولة لتفنيد بعض جوانب التشويه السياسي الموجه ضد التجربة السوفييتية


مالك ابوعليا
2017 / 11 / 19 - 22:44     

ان الحديث حول ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى يطرح أسئلة على مستويات اقتصادية واجتماعية وثقافية، تتعلق بتأثير ثورة اكتوبر على مصائر شعوب الاتحاد السوفييتي نفسه ومصائر شعوب اسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، ومسائل الصراع الاقتصادي-الاجتماعي بين المنظومتين العالميتين وطبيعة النظام الاقتصادي والسياسي في الاتحاد السوفييتي. لقد دار نقاش طويل بين الشيوعيين، حول ثورة اكتوبر والاتحاد السوفييتي على مستويات مختلفة، استمر أكثر حتى من فترة استمرار التجربة نفسها.

ان كثيراً من الدراسات الماركسية، اليسارية الأكاديمية وغير الأكاديمية لثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى وأي موضوع يتعلق بالاتحاد السوفييتي من كل المستويات، تختلط، وان كان بدرجات متفاوتة، بأوهام دراسات السوفييتولوجيا التي كانت تنتشر في معظم الجامعات الغربية، والتي انتشرت خرافاتها عبر أثير وأوراق أجهزة الإعلام البرجوازية الضخمة. دأبت المصالح الحاكمة بلا كلل على نشر معاداة الشيوعية بين سكان العالم، حتى أصبحت أشبه بالأعراف الدينية أكثر من التحليل السياسي. خلال الحرب الباردة او ما يسمى كذلك، واليوم، يمكن للإطار الأيديولوجي المناهض للشيوعية أن يحول أي بيانات عن المجتمعات الاشتراكية القائمة إلى أدلة معادية. وياللسخرية، فإذا رفض السوفييت التفاوض على نقطة، كانوا متعنتين وقساة، إذا اظهروا استعدادهم لتقديم تنازلات، كانت هذه مجرد حيلة ماهرة لإبعادنا عن مواقفنا. ومن خلال معارضته للحدود المفروضة على الأسلحة، تظهر نواياه العدوانية، واذا رفضوها يظهر تلاعبهم، إذا كانت الكنائس في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية فارغة، فهذا يدل على ان الدين تم قمعه، ولكن إذا كانت الكنائس ممتلئة، فهذا يعني أن الناس كانوا يرفضون أيديولوجية النظام الإلحادية. إذا كان العمال يضربون (كما حدث في مناسبات غير متكررة)، كان هذا دليلا على إغترابهم عن النظام الجماعي؛ إذا لم يضربوا، كان ذلك لأنهم يتعرضون للتخويف ويفتقرون إلى الحرية. وإذا ظهرت ندرة السلع الاستهلاكية، فهذا يعني فشل النظام الاقتصادي؛ وإذا تحسنت الامدادات للمستهلك فان هذا يعني فقط أن القادة يحاولون استرضاء السكان المضطربين وبالتالي الحفاظ على سطوة اكثر صرامةً عليهم. اذا ساعد الاتحاد السوفييتي دولةً في بناء مدرسةً دون مقابل يذكر، فان هذا يعتبر ضغطاً سياسياً، واذا أعلن تصويته لصالح العرب فمصالحه الاقتصادية تقتضي ذلك، اذا انشأ الاتحاد السوفييتي اكبر لجنة معاداة للصهيوينة في العالم، فانهم قد اعترفوا باسرائيل (ولم يفسر المرء ظروف ذلك). إذا لعب الشيوعيون حول العالم دورا هاما يكافح من أجل حقوق العمال والفقراء والسود والنساء وغيرهم، فلم يكن ذلك سوى طريقتهم البراغماتية في جمع الدعم من الجماعات المحرومة والحصول على السلطة لأنفسهم. ولم يفسر أبدا كيف اكتسب المرء قوة من خلال الكفاح من أجل حقوق مجموعات عاجزة. ما نتعامل معه هو أرثوذكسية فولاذية تكرست عبر الزمن، بحيث يتم تسويقها بحزم من قبل المصالح الحاكمة التي تؤثر على الناس عبر الطيف السياسي بأكمله.
ان موضوع مقالتنا بمناسبة مرور 100 عام على ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى يختلف قليلاً عما يتم طرحه كثيراً في هذه المناسبة-على اهمية بعض ما يتم طرحه ونقاشه- بحيث اننا نرى انه قد آن الآوان انه علينا ان نحاول كشف بعض ما تعرضت له التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي خلال 100 عام من تزييف وتشويه للحقائق، تورط فيهما فيهما أشخاص انتسبوا لأحزاب شيوعية، وصاروا يرددونه، بل ويعززونه في مواقع كثيرة. ووصل الأمر، الى أن الآلة الاعلامية البرجوازية الجبارة قد اقنعت -ليس فقط الناس العاديين- بأن تجربة الاتحاد السوفييتي هي تجربة تاريخية لا يحتذى بها، وبأنها نموذج للأخطاء والعثرات و(الشمولية).

سوف نتطرق سريعاً الى عدد من مراحل تطور الاتحاد السوفييتي، وسنتحدث كذلك عن الحرب ضد السوفييت (الحرب الباردة). سننتقل للحديث عن عدد من القضايا تباعاً، دون أن تفصل الواحدة عن الأخرى عناوين فرعية، لأن القارئ سيعرف عن ماذا نتحدث من خلال سياق الفقرات نفسه. لقد استخدمنا -من اجل دعم هذا المقال بحقائق عيانية- مصادر أكثرها غربية، ليس بسبب عدم ثقتنا بالمصادر السوفييتية، بل لأن المصادر السوفييتية تخلق جدلاً حولها بين المهتمين بدراسة وتقييم التجربة السوفييتية، وان كنا، نحن معدي المقالة، نعتقد بأن المصادر السوفييتية لا تقل اهميةً بل وتتجاوز المصادر الغربية دقةً، فيما يتعلق بالاحصائات، وبمنجزات الدولة السوفييتية في مجالات الحياة، وأمور اخرى، بل ونعتبر عدم استخدام المصادر السوفييتية هو نقطة ضعف لمقالتنا. ونضيف اننا استعنا كذلك بمعارفنا السابقة طبعاً في عدد من القضايا، دون ان نذكر مصدر ما قرأناه في وقت قد مضى.

لقد حدثت ثورة اكتوبر الاشتراكية قبل مئة عام من الان، وفيها ثار ملايين العمال والفلاحين من اجل تحررهم في زمن عاصف من الحرب العالمية الهمجية والفقر والجوع والأمراض، وكانت أهم المطالب التي ترفعها الثورة: الخبز، الأرض والسلام. لقد كان حدث ثورة اكتوبر، أول تجربة اشتراكية في العالم انقطاعاً مع نظام الرأسمالية العالمية. رسم ملايين الرجال والنساء جدول المجهول، حيث لم يحملوا اي مخططات، وحاولوا بناء الاشتراكية في ظروف لم يختاروها. لقد شكل مسار الاتحاد السوفييتي منذ نشوءه وحتى انهياره أقسى الظروف: ارث الاقطاع والثيوقراطية، هجمات الداخل والخارج، خطر الفاشية، مشاكل بناء الاشتراكية، وخطر حلف شمال الأطلسي.

لقد ورث الاتحاد السوفييتي من النظام القيصري الروسي قمعاً وحشياً للشعوب الأخرى، قمعاً للنساء ومعاداة للسامية ومعاداة لمن يعتنقون الاسلام. لقد كانت الطبقة العاملة صغيرة، وتخلف مستوى التصنيع، وكانت الأمية هي القاعدة بالنسبة للملايين. كانت المشكلة الكبرى للثورة في بداية ايامها خارجية بالدرجة الأولى، الخنق الإمبراطوري - الحصار الاقتصادي، فضلا عن غزو الدول الإمبريالية التي شملت البريطانيين والأمريكيين والكنديين والمجندين الاستعماريين الهنود الذين أرسلتهم إنجلترا واسكتلنديون و 70 ألف جندي ياباني. كما اضطر إلى هزيمة هجوم يميني من الداخل كان يسمى الجيش (الأبيض) على نحو مناسب!، في حرب أهلية حرضتها القوى الإمبريالية العالمية بما في ذلك الولايات المتحدة. كانت سياسة "الشيوعية الحربية"، استراتيجية البقاء على قيد الحياة في حالات الطوارئ وهي تعني طلبات الحبوب القسرية من الفلاحين، والانضباط العسكري في مكان العمل، وتسوية الأجور، والاستيلاء الكلي للدولة على الصناعة الخاصة، وتلبية جميع الموارد المتاحة للجهد العسكري. ولم يكن هذا بالضبط المستقبل الاشتراكي المشرق لديموقراطية العمال والوفرة الاقتصادية التي ألهمت اقتحام القصر الشتوي.

وفي مواجهة كل هذه الظروف التي لا تصدق، ألهمت الثورة الأمل، وأطلقت العنان للطاقة الابداعية للجماهير. واعتمد الاتحاد السوفييتي، تحت قيادة الحزب الشيوعي، الدستور الديمقراطي الأكثر تقدماً والذي لم يشهد مثله كل التاريخ حتى الان.
مع تزايد خطر الفاشية في المانيا والتها الحربية التي اججتها الاحتكارات الغربية الفرنسية والانجليزية وخصوصاً منها الأمريكية، والتي رأت في الاتحاد السوفياتي والشيوعية خطراً أكبر، وأملت أن هتلر سيغزو الاتحاد السوفياتي، ومرة أخرى، كانت ألمانيا النازية دولة رأسمالية ورأى العديد من الرأسماليين الأمريكيين الفاشية كفرصة ذهبية. كانت هناك قوى مؤيدة للفاشية قوية في الولايات المتحدة بما في ذلك هنري فورد، ألفريد سلون رئيس جنرال موتورز، وجوزيف كينيدي، وفرانكلين روزفلت من 1930 إلى 1940. واضطر الاتحاد السوفييتي بذلك الى تسريع التنمية في مسيرة قسرية اختلطت مع الخوف من الأعداء الخارجيين والداخليين. وبغض النظر عن عثرات فترة الثلاثينيات في الاتحاد السوفييتي الا أن الاقتصاد عالي التصنيع والتعبئة المهولة للشعب السوفييتي قد لعبا الدور الحاسم في هزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية. وقد تحمل الشعب السوفييتي العبئ الأكبر فيها: قتل 22 مليون انسان سوفييتي، ودمرت 1700 مدينة رئيسية ومعظم البنى التحتية من مزارع ومصانع.

اضطر الاتحاد السوفييتي- قبل ان يتمكن من اعادة بناء نفسه من تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية- لتكريس موارد واسعة لدرء خطر اعتداء المعسكر الامبريالي على اراضيه. وبدأت الولايات المتحدة بعملية إعادة تأهيل النازيين، بما في ذلك جلب فيرنر فان براون، قائد الجيش النازي خلال الحرب العالمية الثانية. ومثال اخر، ضابط سابق في الجيش الألماني، كان الجنرال هانز سبيديل حيث عين قائداً اعلى للقوات البرية في اوروبا لحلف شمال الأطلسي.
استثمرت الولايات المتحدة، من خلال خطة مارشال، 13 مليار دولار لإعادة تأهيل ألمانيا واليابان وإنعاش الاقتصادات الرأسمالية ومنع انفجار الثورات الاشتراكية في المانيا واليابان. بعد أن عانى الاتحاد السوفييتي من غزوتين كارثيتين في أقل من 30 عاما، فضلاً عن حرب اقتصادية وسياسية مستمرة، اقتضت الحاجة إلى جيران ليسوا معاديين ولن ينضموا إلى الغزو المحتمل القادم لبلدهم. لم يكن لدى الغرب اي نية في تنفيذ اتفاقية يالطا بتقسيم المانيا مؤقتاً ونزع سلاحها، وتعويض الاتحاد السوفييتي: أصبح واضحا أن القوى الغربية لم يكن لديها نية للسماح للسوفييت بالمطالبة بالتعويضات الـ 10 مليار دولار بأي شكل من الأشكال. في المناطق الغربية، فسر الاحتلال الغربي "نزع النازية" بشكل مختلف تماماً عما فعله السوفييت. حيث سمح للعديد من الأعضاء السابقين في النخبة الحاكمة النازية أو الموالية للنازية بالعودة إلى الحياة العامة، وغالبا الى المناصب الرئيسية، بالإضافة إلى استعادة ممتلكاتهم. وأطلق سراح العديد من السجناء بعد تخفيف العقوبات الطويلة. في المنطقة السوفياتية تم تفكيك الكثير من القاعدة الصناعية وإرسالها إلى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية باعتبارها تعويضات الحرب. وهنا أدى نزع النازية إلى تأميم الشركات الرأسمالية على نطاق واسع التي كان يملكها نازيون اقوياء. ورفض جميع أعضاء الحزب النازي الذين كانوا يشغلون مناصب مؤثرة في الرايخ الثالث وأدينوا بجرائم خطيرة. وقد نددت الولايات المتحدة وحلفاؤها بهذه الإجراءات باعتبارها محاولة سوفيتية "لتشويه" ألمانيا الشرقية كخطوة أولى لزعزعة استقرارالمناطق الغربية تمهيدا للاستيلاء على المانيا واوروبا بأسرها.

في البداية قام السوفييت بتثبيت الجبهة الشعبية المعادية للفاشية (تحالف الشيوعيين والاشتراكيين) كحكومات في أوروبا الشرقية، وعلى عكس الأسطورة السائدة، انتخبت هذه الحكومات ديمقراطياً. ففي هنغاريا على سبيل المثال، كان هناك خطر من عودة الفاشيين إلى السلطة بطرق الديمقراطية البرجوازية، وأحبط الاتحاد السوفييتي هذه المحاولة. وكان هذا بعد فترة طويلة من حرب تشرشل في اليونان التي قتلت عشرات الآلاف وهجرت مئات الآلاف من الناس الى معسكرات الاعتقال في جزر معزولة أو حتى في صحراء شمال أفريقيا. لكن ما حدث في هنغاريا انتشر في عناوين الصحف كمثال على (الاستبداد الشيوعي الوحشي). حينما كتب جورج بولك نقداً للحكومة الفاشية في اليونان قتله الفاشيون اليونانيون واتهموا الشيوعيين بموته. في تشيكوسلوفاكيا استولى الشيوعيون على السلطة عندما بدا أنهم يفقدون النفوذ في الحكومة، حشدوا الجماهير الشعبية وأجبروا الحكومة على الاستقالة. وكان هذا بعد أن أعلن ترومان عقيدته التي تسمح للامبريالية بشن حرب سرية على اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية وعلى الثوار في جميع أنحاء العالم سواء كانوا قوميين أو شيوعيين. لكن قام الاعلام الامبريالي بتضخيم هذه التحركات الدفاعية التي قام بها السوفييت (مساعدة الجبهات الشعبية المعادية للفاشية) كدليل على أن السوفيات كانوا يحاولون السيطرة على العالم وبالأخص اوروبا الشرقية، وتشبه هذه الدعاية، الهراء النازي الذي سبقه قبل عدة سنوات حول "المؤامرة اليهودية البلشفية العالمية".

في الدعاية المعادية للشيوعية، في أواخر الأربعينات، اتهم السوفييت بانتهاك أحكام اتفاق بوتسدام بشأن تقسيم ألمانيا. وتظهر الحقائق أن الأمور كانت على العكس من ذلك، فقد كانت القوى الغربية هي التي تنتهك بوتسدام. وينص الاتفاق على ضرورة ان يعمل حلفاء الحرب معا على اقامة المانيا موحدة ومحايدة ومنزوعة السلاح، وكانت النية الغربية تذهب باتجاه ان يصطنعوا دولةً في مناطق احتلالهم، وقد وضعت خطط لذلك في مؤتمر لندن الذي عقد في عام 1948، واستبعد منه الاتحاد السوفياتي. تم التخطيط لعملة جديدة (ديوتشسمارك) للدولة الألمانية الغربية الجديدة. رأى السوفييت أنه من المنطقي تماما أنه إذا كانت القوى الغربية تمزق اتفاق بوتسدام من خلال إقامة دولة منفصلة في الغرب، فإنها بالتالي تلغي حقها في الاحتفاظ بقطاعات السيطرة في برلين التي تقع على بعد 100 ميل داخل المنطقة السوفييتية في ألمانيا. دخلت جمهورية ألمانيا الاتحادية حيز الوجود تحت رعاية الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. وقد أعقب ذلك على الفور تقريبا، الرد السوفيتي - تأييد دولة منفصلة في الشرق، جمهورية ألمانيا الديمقراطية. ان التاريخ يشهد على فصل اخر من فصول (الحرب الباردة)، فقد عرضت الدولة السوفييتية على القوى الغربية اقتراحاً بإمكانية إعادة توحيد ألمانيا على أساس الانتخابات الديمقراطية على مستوى البلاد، شريطة أن ألمانيا الموحدة ستكون محايدة. اقترح الاتحاد السوفياتي "حكومة ديمقراطية موحدة ومحبة للسلام وفقا لأحكام بوتسدام - مع انسحاب جميع القوات الأجنبية من أراضيها؛ والسماح لبناء قوات محدودة ضرورية للدفاع عن البلاد". كان كونراد أديناور، الذي روضه الغرب وبردوا انيابه، متحمساً آخراً في لعبة أميركا النفاقية، حيث رفض المستشار اديناور الاقتراح بيده. كما رفضت الحكومة الأمريكية ذلك، ووصفته بأنه حيلة ملتوية لم يقصدها ستالين على محمل الجد!

ونذكر ان الديمقراطيات الشعبية في اوروبا الشرقية قد حسنت كثيرا حياة الناس في دولهم حيث امموا الأراضي الإقطاعية الضخمة التي قمع اصحابها وقتلوا شعبهم بوحشية. وقاموا بإصلاح الأراضي، وتوفير التعليم المجاني، والرعاية الصحية المجانية، والعمل المضمون. وتم دعم الأغذية والإسكان لجعلها ميسورة التكلفة. أعربت الامبريالية الأمريكية عن أملها في إجبار السوفييت على الخروج من أوروبا الشرقية، وكانت تشن حربا سرية مع مجموعات الفاشيين المنفيين لزعزعة استقرار الحكومات ووقف الشيوعية. جورج كنان الذي كان مسؤولا عن هذا البرنامج، ومهندس عقيدة ترومان شن حملة الدعاية الضخمة كجزء من الجهود الرامية إلى إجبار السوفييت على الخروج من اوروبا الشرقية. كانت الولايات المتحدة تمتلك القنبلة الذرية. واستخدمت الفاشية السابقة من ألمانيا واليابان كوكلاء. وأصبحت الامبراطوريتان البريطانية والفرنسية بيدقين يائسين طامعين في الحصول على قروض، وكانت أمريكا واثقة من أنها سترث إمبراطورياتهما.

عندما امتلكت الولايات المتحدة القنبلة الذرية، اسقطتها على اليابان. وتقول الأسطورة، ان هزيمة اليابان كانت بسبب تلك القنابل الذرية بالذات. وهكذا تقريبا، لا أحد يتذكر ضربة الجيش الأحمر والأنصار المنغوليين الساحقة للجيش الياباني الامبراطوري في منشوريا والتي ادت الى استسلام اليابان دون الحاجة الى استخدام القنبلة الذرية. لقد تم قتل مئات الاف المدنيين اليابانيين لارسال رسالة للسوفييت. ولحسن الحظ كان لدى السوفييت وكلاء شيوعيين ضمن البرنامج النووي الأمريكي. اعتقدت الولايات المتحدة انه بتهديد خصمهم بالقنبلة الذرية سوف يتخلى هذا الخصم –أي الاتحاد السوفييتي- عن اوروبا الشرقية. تفاخرت الصحف الأمريكية علناً بخطط لإطلاق حرب نووية وقائية. وهكذا كانت بداية الغطرسة التي اتسم بها الموقف الأمريكي منذ ذلك الحين. وكان مخططو الحرب الباردة، او بالأدق مخططو الحرب على السوفييت، في أمريكا منذ البداية أكثر قلقا بشأن الانهيار الحتمي للإمبراطوريات الأوروبية. ومن خطر أن تسعى البلدان المحررة حديثا إلى مكافحة الفقر والاستغلال الذي يهدد أرباح الشركات الغربية. ورأى الامبرياليين أنه يمكن قمع اي حركة تحررية او اصلاحية او اي (أداة للكرملين) من خلال تقليص التهديد السوفياتي. سوف يتم اتهام اي ثورة او نضال معاد للاستعمار بأنها (تخريب شيوعي). قتل في غواتيمالا وحدها حوالي 000 200 شخص نتيجة لانقلاب من الانقلابات الفاشية المدعومة امريكياً والتي روج لها باسم مكافحة الشيوعية. ومع بدء الحرب على السوفييت (الحرب الباردة) في عام 1945 كانت الولايات المتحدة تشن حربا في الفلبين وكوريا والصين. وحدثت الانقلابات الفاشية في الأربعينات في كولومبيا وفنزويلا وبيرو. وكانت الولايات المتحدة تدافع بالفعل عن الحكومات الفاشية في اسبانيا والأرجنتين. في غرب المانيا كانت أمريكا تسمح لمعظم موظفي الدولة النازية للامساك بزمام السلطة وشكلت تحالفاً مع راينهارد جهلن الذي يظهر العداء للسوفييت من شدته في تقاطيع وجهه، وظف هذا، الجيوش الفاشية من أوكرانيا ولاتفيا وإستونيا وجميع بلدان أوروبا الشرقية. وكانت الولايات المتحدة تساعد مجرمي الحرب الفاشيين على الهروب من العدالة في جميع أنحاء أوروبا الشرقية من أماكن مثل كرواتيا والمجر ورومانيا. هؤلاء الفاشيون سوف يستقرون في الولايات المتحدة وكندا وسيبنون مجمعات لوبية للضغط باتجاه (تحرير) روسيا وأوروبا الشرقية. بطبيعة الحال، كان للحرب ضد السوفييت (الحرب الباردة) أسباباً داخليةً أيضاً. خلال الحرب العالمية الثانية كان لأمريكا أكبر عدد من الإضرابات في تاريخها. ويخشى الرأسماليون من النقابات العمالية، واتاح لهم هذا الخوف الأحمر فرصة القضاء على النقابات التي أرغمت على طرد جميع الشيوعيين الحقيقيين أو المشتبه بهم، وأصبحت النقابات بالتالي أدوات للجريمة المنظمة ولوكالة المخابرات المركزية. وكان للعنصريين الجنوبيين الأمريكيين دوراً فاعلاً ورئيسياً في مكافحة الشيوعية، حيث اعتدوا على خصوم جيم كرو، مثل بول روبنسون أو في وقت لاحق مارتن لوثر كينغ. وغني عن القول أنه كان ينظر الى أي حركة سلام في الغرب على انها مجرد تخريب شيوعي خطير.

على الرغم من كل المشاكل التي اكتنفت الاقتصاد السوفييتي، يمكن للشعب السوفييتي أن يفخر بانجازات واسعة جداً: الانتاج الصناعي الحديث الذي نافس، بل وتفوق في مجالات كثيرة، على الاقتصاد الأمريكي. القدرة على تأمين الغذاء والكساء والسكن بأكمله، التقدم العلمي والتكنولوجي رفيع المستوى، محو الأمية بشكل نهائي، تأمين الرعاية الصحية والتعليم المجانيين، الفنون المتقدمة، الرياضة، الثقافة، المساواة الاقتصادية والاجتماعية الرسمية للمرأة والأقليات المضطهدة سابقاً.

لقد قدم الاتحاد السوفييتي مساعدات هائلة للحركات الوطنية والحركات المناهضة للاستعمار بما في ذلك فييتنام وكوبا والنضال ضد الفصل العنصري في جنوب افريقياً. فضلاً عن مساعدته الدول النامية في تمويل مشاريع البنى التحتية وتعليم عدد لا يحصى من العلماء والمهندسين وغيرهم من الموظفين من جميع انحاء العالم. لقد شكل الاتحاد السوفييتي ثقلاً سياسياً وعسكرياً مواجهاً للامبريالية الأمريكية. وكان الاتحاد السوفييتي هو الذي اتخذ الخطوات لانهاء سباق التسلح في الحرب الباردة من خلال شتى المبادرات والنضال في المحافل الدولية، واعلن وقف التجارب النووية والتخفيضات في الجيش في بداية الثمانينات. اضطرت البلدان الرأسمالية في جميع انحاء العالم، لدن تنافسها مع نظام اقتصادي يحظر الاستغلال، بما في ذلك الطبقة الرأسمالية الأمريكية، لتقديم تنازلات لمطالب العمال، وقلصت مستويات استغلالها العنصري لتجنب بروز نفاقها. بدأ الاتحاد السوفييتي وحلفائه السياسيين في أوروبا الشرقية بعد الحرب في برنامج ضخم لإعادة الإعمار والانتعاش والنمو الاقتصادي وتوطيد السلطة، على أسس اقتصادية اجتماعية بعيدة المدى. لقد شعرت الأنظمة الرأسمالية بالخوف من أن الطبقة العاملة في الغرب سوف "تتبع" المثال السوفياتي أو ان تدعم الأحزاب والإجراءات التي من شأنها تقويض الانتعاش الرأسمالي. وبالنظر إلى ان التشويه قد اصاب قسماً من الرأسماليين الغربيين بسبب تعاونهم مع النازيين، والمعارضة الضعيفة لها لقسمها الاخر، فانهم لم يتمكنوا من اللجوء إلى أساليب قمعية شديدة كما في الماضي. وبدلا من ذلك، طبقت الطبقات الرأسمالية الغربية استراتيجية ذات شقين لمواجهة اشتراكية الرفاه السوفييتية: القمع الانتقائي للشيوعيين المحليين واليسار الراديكالي، ومنح امتيازات ترفيهية لتأمين ولاء النقابات والأحزاب السياسية والمسيحية الديمقراطية. ومع الانتعاش الاقتصادي والنمو بعد الحرب، تكثفت المنافسة السياسية والأيديولوجية والاقتصادية: أدخلت منظومة الدول الاشتراكية إصلاحات واسعة النطاق، بما في ذلك العمالة الكاملة، وضمان الأمن الوظيفي، والرعاية الصحية الشاملة، والتعليم العالي المجاني، وإجازة مدفوعة الأجر مدتها شهر واحد، والمعاشات التقاعدية المدفوعة الأجر، والمخيمات الصيفية المجانية، ومنتجعات العطلات لأسر العمال وإجازة الأمومة والطفولة المطولة المدفوعة الأجر، وشددوا على أهمية الرفاه الاجتماعي بدلاً من الاستهلاك الفردي. كان الغرب الرأسمالي يتعرض لضغوط لتقريب رفاهه لما هو في الاتحاد السوفييتي، في حين توسع الاستهلاك الفردي على أساس تأمين الشركات الجزئي وتقديم الأقساط المريحة لقروض الاستهلاك. منذ منتصف عام 1940 وحتى منتصف السبعينيات، تنافس المعسكر الرأسمالي مع دول المنظومة الاشتراكية، مع هدفين في الاعتبار: الإبقاء على ولاء العمال في الغرب مع عزل القطاعات المتشددة في نقابات العمال، وإغراء عمال الشرق مع وعود برفاهية وزيادة الاستهلاك الفردي. وعلى الرغم من التقدم المحرز في برامج الرعاية الاجتماعية في الغرب، كانت هناك احتجاجات عمالية كبرى هناك، كانت هناك اضطرابات كبيرة بين العمال والطلاب في فرنسا وإيطاليا تطالب بإنهاء الهيمنة الرأسمالية في مكان العمل والحياة الاجتماعية. وعبرت المعارضة الشعبية للحروب الإمبريالية (فييتنام والجزائر، وما إلى ذلك)، عن السمات السلطوية للدولة الرأسمالية العنصرية وعن عمليات تركيز الثروة واسعة الانتشار. وقد ضمن وجود الثقل السوفييتي عدم حدوث أي تراجع في الإصلاحات التي تحققت في الدول الرأسمالية حتى الان. ومع ذلك، فإن هزائم التمرد الشعبي في الغرب ومحدودية أفقها، في الستينات والسبعينات قد ضمنت عدم حدوث أي مزيد من التقدم في الرعاية الاجتماعية. والأهم من ذلك هو "الجمود" الاجتماعي الذي نشأ بين الطبقات الرأسمالية والعمال في الغرب مما أدى إلى ركود الاقتصادات، وبرجزة نقابات العمال، وتفكيك دولة الرفاهية بشكل منهجي. وكان الوهم الكبير، الذي تغلغل في اذهان جماهير الغرب، فكرة أن الوعد الغربي للاستهلاك الجماهيري يمكن أن يقترن ببرامج الرفاهية المتقدمة التي لا تنتهي والتي اعتبرت امراً مفروغاً منه. لكن الأحداث السياسية في الدول الرأسمالية كانت تتحرك في الاتجاه المعاكس. مع صعود الرئيس رونالد ريغان في الولايات المتحدة ورئيسة الوزراء مارغريت تاتشر في بريطانيا العظمى، استعاد الرأسماليون السيطرة الكاملة على جدول الأعمال الاجتماعي، ووجهوا لكمات قاتلة لما تبقى من النضال النقابي وتم تسعير سباق تسلح كامل النطاق ضد الاتحاد السوفياتي من أجل إنهاكه. بالإضافة إلى ذلك، تم نشر مشروعات الليبرالية الجديدة المتوحشة في العالم، وبروز الكومبرادوريات الطرفية، والجماعات المعادية للثورة في الكتلة الاشتراكية وقد تلقوا دعما سياسيا وماديا من المؤسسات الغربية، ووكالات الاستخبارات الغربية، والفاتيكان (وخاصة في بولندا)، والأحزاب الاجتماعية الاشتراكية الأوروبية، في حين صار "زعماء" حركة التضامن البولندية الذين تلقوا دعماً صريحاً من وكالات الاستخبارات الغربية، رجال اعمال مزدهرين بعد الانهيار. ولم تعد الطبقة الرأسمالية بحاجة الى المحافظة على امتيازات الرعاية الاجتماعية حالما انهارت الكتلة الاشتراكية وانتهى وجود الثقل الاشتراكي. تم خفض المعاشات التقاعدية وتم تمديد سن التقاعد، واختفى الأمان الوظيفي، وألغيت الحماية من مكان العمل، وقطعت مدفوعات إنهاء الخدمة، وتم تسهيل تسريح العمال، بينما ازدهرت حركة رأس المال. واستغلت العولمة الليبرالية الجديدة الخزانات الضخمة للعمل عالي التأهيل منخفض الأجر من البلدان الاشتراكية السابقة، وواجه هؤلاء الأخيرين عالمين سيئين: فقدوا شبكة الرعاية الاجتماعية من بلدانهم، وفشلوا في تأمين مستويات الاستهلاك الفردي الموعودة و(ازدهار) الغرب. استغلت ألمانيا العمالة البولندية والتشيكية الأرخص، في حين خصخصت السلطات التشيكية الصناعات الحكومية والخدمات الاجتماعية (المتطورة للغاية-حرفياً)، مما زاد من تكاليفها، وتم ايقاف الوصول إلى الخدمات المتبقية وتم تفكيك الصناعة كلها بنجاح. ولم يعد المتنافسون الرأسماليون الان يتنافسون مع الكتلة الاشتراكية على نظام الرعاية الأفضل، بل صاروا يتنافسون فيما بينهم على من لديه عمالة بتكاليف ونفقات اجتماعية أقل، وأقصى قدر من تقليل مستويات حماية اماكن العمل، وأسهل قوانين لتسريح الموظفين. إن جيشاً كاملاً من اليساريين (المعادين للاتحاد السوفييتي) أنشئ بشكل مريح في الجامعات الغربية، لعبوا دورا حيويا في التشويش على الدور الإيجابي الهام الذي كانت تمارسه الجماهيرالسوفياتية في الضغط على الأنظمة الرأسمالية في الغرب لمتابعة زمام المبادرة، يصيحون لحاجتهم للبحث عن وسيلة فعالة لـ"معاداة الرأسمالية"، دون ان يكون هناك اي فهم حول ماهية البديل، فالبديل، يمكن ان يكون اي شيء ما عدا ما يشبه تجربة (الشمولية السوفييتية). ولا نتحدث عن سلافوي جيجك مؤيد تدمير يوغسلافيا، ونعوم تشومسكي هؤلاء البارزين وحسب، بل والأكاديميين الأقل شأناً كذلك.

لقد خفض ميخائيل غورباتشوف الصراع الطبقي، وأدخل النظام الرأسمالي على الاتحاد السوفييتي من فوق، ومهدت البيروسترويكا لاقتصاد السوق، وتم نزع قيادة الحزب الشيوعي من دفة ادارة المجتمع. ادت كل هذه الفوضى الى انتصار القوى الموالية للرأسمالية والقومية والعناصر الفاسدة مثل بوريس يلتسن في نهاية المطاف.

وفي سنة 1991، وبعد 74 عاماً، انهار الاتحاد السوفييتي. ومثلت نهايته مأساة هائلة وخسارة للانسانية، وأعطت دفعةً للحرب ومكافحة الاشتراكية والعداء للشيوعية والعدوان الامريكي الامبريالي.

فيما يتعلق بانهيار الاتحاد السوفييتي، نقول، أن ميخائيل غورباتشوف وطغمته استغلوا المعضلات الاقتصادية التي يعاني منها الهيكل الاقتصادي السوفييتي من أجل بث جو عام يتستر بعبارات الاشتراكية خلال فترة "البريسترويكا" مفاده أن الانتقال إلى اقتصاد السوق هو الحل الوحيد لتجاوز هذه المعضلات، والمشكلة العظمى التي واجهت الاقتصاد السوفييتي هي نشوء اقتصاد الظل الذي قام عليه وتولى ادارته عدد لا بأس به من الأشخاص سعوا إلى الاثراء الشخصي غير المشروع ضاربين بعرض الحائط أغلب القوانين في الاتحاد السوفييتي آنذاك والمتعلقة بمنع نشوء القطاع الخاص أو أي شكل من اشكال الملكية الخاصة، وعليه فإن تعريف اقتصاد الظل في البيئة السوفيتية يمكن اختصاره على أنه السعي إلى انتهاج اساليب اقتصادية تهدف إلى تحقيق المكاسب الشخصية بطرق قانونية –من خلال استغلال القانون- وأخرى غير قانونية، أما عن مدى قدم وتجذر هذا النوع من الاقتصاد في المجتمع السوفييتي فيبقى هذا الأمر متغير من كاتب لآخر ومن دراسة لأخرى –أو يمكن القول إضافة إلى ذلك أن هذه الموضوعة خارج حدود معرفتنا وإطلاعنا- لكن المؤكد هو أنه قد وصل ذروته في عهد غورباتشوف، وكان أثر اقتصاد الظل بالدرجة الاولى هو التأثير سلبا على علاقات الانتاج الاشتراكية والعمل على تخريب العديد من القطاعات الانتاجية من خلال نهبها والمضاربة على سلعها عبر السوق السوداء، أما الدرجة الثانية –النابعة من الأولى والمرتبطة بها- فهي خلق قيم تناقض القيم الاشتراكية في المجتمع مثل السعي للاثراء وعبادة المال ليتجلى التعبير عنها منذ منتصف الثمانينيات في المطالبات –بنفس بروجوازي- بحرية الرأي والتعبير وبروز الجماعات العرقية والاثنية بل والدينية.

بدأ غورباتشوف مع توليه منصب الامين العام للحزب الشيوعي السوفيتي، حملة شعواء لتغيير (تدمير) شكل النظام السياسي القائم، مستندا بذلك على رؤيته للنمط السياسي البورجوازي، بحيث عمل على إضعاف سلطة الحزب في مختلف نواحي الحياة العامة (اقتصاد، سياسة، إعلام)، فظهرت الدعاوي –من غورباتشوف شخصيا- إلى إيجاد أحزاب معارضة من أجل أن تشارك في عملية "النقد والنقد الذاتي"، والتحجج بأن عدم وجود المعارضة السياسية لن يسمح بمكافحة "البيروقراطية" التي اعتبرتها البريسترويكا سبب المصائب في البلاد، وهنا من الممكن القول بأن هذا الطرح وتبنيه والعمل عليه ستكون نهايته المنطقية، هي دفع الحزب الشيوعي للتخلي عن السلطة في نهاية المطاف بحجة انه العقبة الوحيدة أمام حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي كان يواجهها المجتمع السوفييتي حينها.
أقدم ياكوفليف (الذي عينه غورباتشوف عام 1985 مسؤولا عن قسم الدعاية والإعلام التابع للجنة المركزية في الحزب الشيوعي السوفييتي) على ترأس حملة إعلامية ضخمة هدفها تجييش الرأي العام ضد الحزب الشيوعي السوفييتي وتشويه سمعة هذا الأخير وتاريخه، وتم ذلك أولا من خلال اقالة الغالبية العظمى لرؤساء تحرير الصحف والمجلات والمسؤوليين في الإذاعة والتلفزيون واستبدالهم بأشخاص معاديين للاشتراكية وللحزب بشكل واضح وصريح، وثانيا، اسكات أي صوت ينتقد البيرسترويكا من خلال ملاحقة الوسيلة الاعلامية التي ينشر عبرها، وكان هدف هذه الحملة ليس فقط الهجوم على الحزب وعدم اعطائه حق الرد، وإنما العمل على إفقاد الناس لإيمانهم بوجود حلول اشتراكية للمعضلات الاقتصادية الاجتماعية التي تواجههم، وهذا كله تحت عناوين العلنية والشفافية التي أدت بالنهاية إلى التشويه والتلفيق بحق الحزب الشيوعي وقياداته وصل في أحيان كثيرة حد السخرية والهزل وذلك لأن هذا النهج الاعلامي –بالأصل- استند على الفكر البرجوازي المعادي للشيوعية.

أهمل غورباتشوف التمثيل القومي للجمهوريات السوفييتة، متجاهلا بذلك القانون الذي ينظم أوضاع ممثلي القوميات على المستويين الحزبي والحكومي وعموم البلاد، المشرع عام 1956، فعلى سبيل المثال، اختفى التمثيل لمواطني جمهوريات القوقاز في المكتب السياسي، كما وتم تغيير نصف أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكازخي، ففي كانون الأول من عام 1986 أصدر غورباتشوف قرارا يقضي بتغيير الأمين العام للحزب الشيوعي المذكور دين محمد كونايف واستبداله بالروسي الأصل غينادي كولبين، وهذه الخطوة بحد ذاتها زادت من تأزم الوضع في جمهورية كازخستان التي كانت تعاني آنذاك من حراكات التعصب القومي.
قام غورباتشوف بنزع كافة العبارات الاشتراكية التي كان يتشدق بها في بداية توليه لمنصبه والتي غطى بها البريسترويكا، وذلك خلال الفترة الممتدة من كانون الثاني 1987 إلى تموز 1988 التي عقد فيها كل من المؤتمر العام السابع والعشرون للحزب، واجتماعات اللجنة المركزية، حيث تضمن كل منهما اقتراحات تبين بوضوح أن مفادها الانتقال إلى السوق المفتوح وما يتطلبه ذلك من التخلي عن الحزب كقائد للمجتمع، ويمكن تصنيف ما صدر عن المؤتمرين المذكورين إلى ما يلي:
1. رفض اصلاح الحزب والاستعاضة عن ذلك بالغائه وابعاده عن السلطة.
2. استغلال شعار نشر الشفافية والعلنية باستخدام وسائط الاعلام الجماعية بهدف شن حملات دعائية معادية للاشتراكية ولكل ما هو سوفييتي.
3. من خلال الحملات الاعلامية الغير محدودة، حصلت محاولات لرد الاعتبار للملكية الخاصة وللنشاط الاقتصادي الحر.

لم يتم الاخذ بالتوصيات التي تقدم به مؤتمر الحزب الشيوعي السابع والعشرين، المتعلقة باجراء تعديلات داخل الحزب تحديدا فيما يتعلق باعداد وتثقيف الكوادر إلى جانب الرقابة على القياديين.. إلخ، بل وفي اتجاه مخالف تماما، جرت المباشرة "بالاجراءات السياسية الجذرية" التي سعت إلى اضعاف الحزب الشيوعي، فقد جرى التركيز على عمق وتجذر المشكلات الاقتصادية من خلال التلاعب بالاحصائيات والأرقام، ومن ثم تحميل الحزب –كمؤسسة موجودة- كافة مسببات هذه المشاكل، بتصويره للرأي العام على ان وجوده –أي الحزب- يعمل على تعميق الأزمات وليس حلها، وباختصار أصبحت طغمة غورباتشوف تنتهج سياسة العداء للاشتراكية بشكل واضح، صاحبه تغيير مئات الإداريين والمسؤولين المناهضين لهذه السياسة في مختلف قطاعات الدولة والحزب في كل جمهوريات الاتحاد السوفييتي، ناهيك عن احالة العشرات من الجنرالات ذوي الخبرة في الجيش الأحمر وتعيين أخرين من حملة الرتب الادنى الغير قادرين على تعبأة أماكنهم كما يجب.
يعتبر المؤتمر العام السابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي هو الذي قُرر فيه ابعاد الحزب عن السلطة وتحويله إلى حزب "برلماني" وهذا ما أكده المؤتمر الاستثنائي للحزب المنعقد في نيسان من عام 1988، والذي كان من المقرر عقده عام 1990.

ان عدداً من أنصار الرأسمالية يدعون أن الاشتراكية ليست ديمقراطية، لأن الاشتراكيات السابقة، مثل الاتحاد السوفييتي لم يكن لديها انتخابات مثلما هو في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى هذا كانت السلطة متركزة في ايدي نخبة محددة، بدلاً من أن تكون في ايدي الناس أنفسهم. وفي هذه القضية سوف نبين خطأ هذا الادراك السطحي حول الاشتراكية في الجانبين النظري والعملي.

في البداية هناك دليل قوي لكي نقترح أن الولايات المتحدة هي مجتمع منظم بطريقة ديمقراطية برجوازية، وليس ديمقراطية شعبية. هناك دراسة لمارتن جيلنز من جامعة برينستون تظهر أن (النخب الاقتصادية وجماعات البزنس المنظمة تمتلك تأثيراً حاسماً على مصالح سياسة الحكومة الأمريكية، بينما لا تمتلك الجماعات الجماهيرية القاعدية اي تأثير عليها). هذه الدراسة وعدد من الدراسات الأخرى تثبت أن المال، والمصالح الطبقية البرجوازية هي القوة الدافعة خلف سياسة الانتخاب والمرشحين، وليس (الارادة الشخصية) للمسؤولين. ونستنتج بذلك بأن الولايات المتحدة هي ديمقراطية للبرجوازيين وحسب.

وليس هذا نتاج لصدفة محضة، بل نتاج لطبيعة عمل النظام الرأسمالي. انه مجتمع، حيث تتحكم فيه اقلية الناس بوسائل الانتاج، مثل المصانع، المزارع، الات الانتاج، المكاتب الضرورية لانتاج الطعام، الاسكان، التعليم وكل شيء اخر يخدم وجود البشر على الأرض.
انها مبالغة بسيطة فقط، التأكيد على أنك تعيش لأن الرأسمالين يسمحون لك بذلك. ان هذا الأمر بالذات هو ما يمنعنا من أن نقول بأن الرأسمالية تنتج ديمقراطية اصيلة، ديمقراطية الأكثرية.
ان الاشتراكية تمثل بديلاً ذا معنىً حقيقي. ولننظر في قضية الاتحاد السوفييتي. ان واحدة من أكثر الانتقادات الموجهة ضد الاتحاد السوفييتي ذيوعاً أن الرأي العام لا يؤخذ به هناك، والقرارات المهمة كان جوزيف ستالين يتخذها. ومن أجل دحض هذه الفكرة يجب علينا أن ندقق في مفهوم (النخب الاقتصادية). ان جزءاً من مفتاح الرأسمالية كنظام هي أن الناس الذين يمتلكون سلطة-قادة البزنس، السياسيين، الخ، يتمتعون بنوعية حياة أفضل من جمهور الناس، حيث يتاح لهم أفضل الطعام والرعاية الصحية والتعليم، بينما ليس لدى العمال امكانية الحصول على كل ذلك، ونتيجة هذا ان اولئك الذين يمتلكون السلطة لا يمثلون مصالح اغلبية الناس. كان الوضع السوفييتي مختلف تماماً. في جمهورية المانيا الديمقراطية على سبيل المثال، كان قادة الحزب يحصلون على 725 دولاراً كبدلات سنوية. وكانوا يقطنون في مجمعات سكنية في ضواحي المدن، احتوت على المسابح، الساونات ومراكز اللياقة. وعلى كل حال، كان يتم تشارك هذه المتع مع سكان المجمعات الاخرين، لذلك كان هناك فارق بسيط في جودة الحياة.
كانت فوارق المدخولات بين القادة السوفييت والعمال العاديين متواضعة جداً. كانت النسبة 1:5 بالمقارنة مع 1:10000 على الأقل، في الولايات المتحدة. هذه الاحصائيات كانت متضمنة في منشور جون غنثر سنة 1940 (داخل اوروبا). يكتب مايكل بارينتي في كتاب (القمصان السود والحمر): (لم يعش القادة السوفييت مثل يوري اندروبوف حياة بذخة في قصور مثل البيت الأبيض، ولكن في شقة كبيرة نسبياً، في مشروع اسكاني بالقرب من الكرملين، لم يتملكوا اي من الثروة الشخصية التي امتلكها معظم القادة الأمريكيين)، من الواضح أن القادة السوفييت عاشوا في الحدود المعقولة القريبة من معيشة الجمهور، وبالتالي كانوا يمثلون بشكل أفضل المصالح العامة لمعظم الناس.


كان الاتحاد السوفييتي دولة حزب واحد. بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى، صار الحزب الشيوعي في روسيا السوفييتية، وبالنتيجة في كل الجمهوريات الحزب الشيوعي الوحيد. يجب لهذا ان يفهم كنتيجة لحقيقة أن المعارضة السياسية كانت رافضة تماماً ان تعمل في إطار النظام. وهذا السيناريو العام هو نتيجة الصراع الطبقي الحاد والعميق الذي حدث بعد ثورة اكتوبر، حيث تعاونت المعارضة مع البرجوازية. ولم تعترف احزاب المعارضة ما عدا الاشتراكيين الثوريين بشرعية النظام السوفييتي، وحتى الحزب الأخير تراجع عن موقفه. ان تحول السلطة السياسية السوفييتية الى حزب واحد صار بعد الحرب الأهلية سنة 1922 ومحاكمة الاشتراكيين الثوريين بتهمة الخيانة. يقول ادوارد كار في كتاب (الثورة البلشفية) أن الأفعال التي حوكم عليها الثوريين الاجتماعيين (كانت سوف تعتبر كجريمة تحت اي نظام حكم). وبهذا انبثق نظام الحزب الواحد من الظروف القاسية بعد الثورة، وحصل هذا السيناريو العام في كثير من الثورات الاشتراكية في القرن العشرين.

وبالرغم من كل هذا، يتم التأكيد ايضاً على ان اي شخص كان يخالف ستالين يقوم بارساله الى معسكرات الكولاك للاعدام. حسب ألبرت شيمانسكي في كتابه (حقوق الانسان في الاتحاد السوفييتي) ان نسبة السجناء السياسيين للسجناء الاخرين في معسكرات الكولاك كان 12% فقط. وأن أكثر من نصف حالات الموت في تلك المعسكرات من سنة 1934-1953 حدثت سنوات 1941-1943 بسبب نقص التموين الغذائي والدوائي لظروف الحرب.

من المهم ملاحظة ان معسكرات العمل وجدت في روسيا القيصرية ايضاً، وتم تهجير عدد كبير من الشيوعيين الى هناك بسبب انشطتهم الثورية ومنهم لينين. ان عقوبة العمل كانت ممارسة شائعة في كل العالم في ذلك الوقت، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية. انهى الاتحاد السوفييتي تماماً هذه العقوبة في الخمسينيات بينما لا زالت الولايات المتحدة اليوم تمارس هذه العقوبة (تظاهر 24000 سجين في 29 سجن في 12 ولاية ضد العمل الاجباري المنهك سنة 2016) ( https://www.thenation.com/article/at-least-24000-inmates-have-staged-coordinated-protests-in-the-past-month-why-have-you-not-heard-of-their-actions/ ).

في الحقيقة هناك اسباب كثيرة لنؤكد ان الاتحاد السوفييتي كان لديه نظام سجون تقدمي. يكتب تشامبرلن (نظام السجون السوفييتي المطبق على المجرمين العاديين يضمن عدداً من الأفكار الحقوقية التقدمية. توجد الدورات التعليمية والتدريب المهني في أكثر السجون تقدماً، ولا يوجد زي موحد مطلوب من كل المساجين، وكان يحصل على اجازة لمدة اسبوعين في السنة لكل شخص ذو تصرف جيد في السجن)، كتاب (روسيا السوفييتية). في كتاب (تذكر خروتشوف 1970) يكتب ستروب تولبات (أود ان اقول انه تم التعامل مع كل متهمينا بكل انسانية، كانوا يعتبرون نتاج المجتمع الرأسمالي، وبالتالي كان هناك شعور ان على المجتمع الاشتراكي اعادة تربيتهم بدلاً من معاقبتهم). اعطي سكان معسكرات العمل الحق في التصويت سنة 1934 تبعاً لسوكولوف، بينما ليس لدى السجناء الأمريكيين هذا الحق حتى اليوم.

يدور كلام كثير حول أن الاتحاد السوفييتي كان يضع عوائق شديدة امام حرية التعبير عن الرأي. ان جزءاً من إجراءات الرقابة الشديدة التي كانت اجهزة الاعلام تقوم بها كان موجهاً ضد النازيين، وضد الخرافة والترويج للحرب (كما يمنعه الدستور السوفييتي) والكراهية الدينية والعرقية، وأن انكار حقوق التعبير عن هذه الاراء تتضمن توسيعاً لحرية الناس الذين يتعرضون لتلك الكراهيات، والذين يعيشون في خوف منها. وحرية السير في الشارع دون التعرض للمضايقة هي أكبر من (حرية) أن تقوم بمضايقة أحدهم. على سبيل المثال، ان المديرية العامة لحماية اسرار الدولة في الصحافة، التابعة لمجلس وزراء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، كانت مسؤولة من بين مهام كثيرة، عن منع نشر اي مواد تتضمن التعصب القومي. وعلى العكس مما قد يؤكد الليبراليون، فان سوء الأفكار قد تتساوى مع سوء الأفعال. على سبيل المثال، نشر دايلن روف الأمريكي العنصري الأبيض الذي أطلق الرصاص على تسعة اشخاص رمياً بالرصاص، بياناً عنصرياً شرساً قبل ارتكابه جريمته، ولم يكن ليقوم بفعلته لو تم تجريم بيانه الذي انتشر على الانترنت وتم الامساك به. الموضوع بالطبع اوسع وأشمل من هذا بكثير، فحادثة روف هي جزء من تيار اعلامي أمريكي جارف يمتلئ بشتى اشكال العنصرية والدعاية للحرب وازدراء الشعوب. لدينا أمثلة كثيرة ملموسة في الاتحاد السوفييتي، فعلى سبيل المثال تعرض اليهود قبل الثورة لمذابح وحشية شجعها القيصر. وعندما قامت الثورة قام البلاشفة بمعاقبة معاداة السامية بالاعدام، صار يعني أنه لم يعد اليهود السوفييت يعيشون في خوف من المذابح، وبهذه الطريقة، أدت القيود المفروضة على حرية التعبير لإحدى المجموعات (المخطئة-طبعاً) الى زيادة حرية مجموعة أخرى، وهذا يعني أننا يجب أن نتبع منهجاً دقيقاً في معالجة مفهوم (القمع) ومبرراته وظروفه ومن يخدم ومن يقوم به.

نقول، أنه من غير الصحيح القول ان الانتخابات الرسمية لم تكن موجودة في الاتحاد السوفييتي، وعلى الرغم من أن اعضاء اللجنة المركزية لم ينتخبوا مباشرةً من قبل الشعب، الا أن عامة الناس كانوا ينتخبون السياسيين المحليين، وهؤلاء يقومون بانتخاب من هم أعلى منهم وصولاً الى اللجنة المركزية. وقد جرت هذه الانتخابات عادةً في المصانع، وتم اختيار المرشحين من قائمتين. الحزب الشيوعي كان في كثير من الأحيان المنظمة الوحيدة التي تمكنت من حشد المرشحين، لكن المناشفة ظلوا متسامحين مع منافسيهم حتى عام 1920. ويمكن للمرء أن يجادل بأن الانتخابات المحلية السوفييتية كانت أكثر ديمقراطية من الانتخابات المحلية في الولايات المتحدة، نظراً لأنه كان يمكن للشعب أن يلغي أو يسقط المرشحين غير المرضي عنهم. وعلى الرغم من ذلك، فان الكثير يؤكدون أن الانتخابات كانت (دون اي معنىً) أو (غش). ومن أجل الجدل، لنفترض أن هذا صحيح. وإذا كانت الولايات المتحدة يمكن أن تكون لها انتخابات وليست ديمقراطية، فمن المنطقي أن يظل مجتمع ما دون انتخابات تقليدية، ديمقراطياً، فليست الانتخابات هي نهاية كل شيء. ولا تتحدد المشاركة الشعبية في شكل (الانتخابات وحسب)، بل الاقتراحات الشعبية كذلك، ففي الاتحاد السوفييتي كانت الوثائق الهامة تناقش شعبياً في الصحف والمجلات والاعلام الرسمي كله، وليست مجالاً للمختصين المحترفين فقط. مثلاً، حسب جورج موريس، في كتابه (اين توجد حقوق الانسان الحقيقية) ساهم في صياغة دستور الاتحاد السوفييتي سنة 1977، 400000 اقتراح قدمها الناس للتعديل والاضافة، قدمت لمجلس السوفييت الأعلى، حيث اخذت في الاعتبار، وساهمت تلك الاقتراحات باحداث 150 تغييراً لـ118 فقرة من اصل 173، واضافت فقرة جديدة. أما الدستور الأمريكي، فان السياسيين الأمريكيين اليوم يضعون هالةً غامضة حوله ويحفظونه من التبديل والتحريف كما لو انه كتابهم المقدس، فهو لم يتبدل منذ أكثر من 200 سنة. ويذكرنا هذا باسطورة قوانين موسى العشر التي كتبها على لوحات حجرية ثابتة، واعتبار لوكورغوس الدستور الذي وضعه لاسبارطة القديمة هديةً الهية.

كما يحدد الدستور السوفييتي، فليس الحزب الشيوعي وحده القادر ان يرشح ممثليه في الانتخابات، بل اي منظمة جماهيرية اخرى، كالنقابات بالـ122 مليون عضو، والكومسمول الشبابي بالـ38 مليون عضو، تعاونيات العمل والوحدات العسكرية كذلك. لقد كان 27% من أصل 1517 عضواً في مجلس السوفييت الأعلى سنة 1976، الذي يحتوي على سوفييت الاتحاد وسوفييت القوميات من غير الشيوعيين.

ولم يكن تبادل التشهير في الانتخابات، الافشاء عن الفضائح، الخداع، التزييف، العنصرية والتأثير الاثني، إنفاق الملايين، التمثيل الاحترافي والوعود الكاذبة موجودة في الانتخابات السوفييتية، هذه التي تميز الانتخابات في الدول الرأسمالية. وما يمكن ان يثير اهتمام المراقب الأجنبي في الانتخابات السوفييتية أن عدة ملايين من الناس يشاركون في الحملات الانتخابية. وهي، اي الحملات، ليست اقل من حملات تعليمية من ان تكون حملة لاختيار مرشح. وأكثر شيء غبي يمكن لمرشح ان يقوم به في الاتحاد السوفييتي أن يحضر نفسه لأكثر من مجرد (نظرة شعبية) حوله، او ان يقوم بوعود زائفة، أو ان يتبجح بميزاته الشخصية او ان يعتمد على صداقته الشخصية مع الناس.

ان ارضية الترشيح تختلف في الاتحاد السوفييتي عن العالم الرأسمالي: هل مؤشرات الصناعة جيدة؟ هل المرشح متواضع، ام يبحث عن نفسه فقط؟ هل ينزع لأن يكون/تكون بيروقراطياً ام لديه علاقة جيدة مع الناس؟ هل لديه اي شيء عنصري او اي موقف شوفيني؟ وتعتبر الحملات الانتخابية كذلك فترة لمراجعة وضعية المنشأة او المؤسسة.

في جمهورية ترينيداد وتوباغو لا ينتخب الشعب مباشرةً الرئيس او رئيس الوزراء أو مجلس الشيوخ، وهي مقسمة الى 44 دائرة انتخابية، وينتخب الناس ممثلاً كعضو للبرلمان في كل دائرة، وينتخب اعضاء البرلمان هؤلاء رئيس الوزراء ويتم تعيين رئيس مجلس الشيوخ من قبل الرئيس ورئيس الوزراء وزعيم المعارضة. ولا ينتخب الشعب الرئيس مباشرةً، وينتخب البرلمان ومجلس الشيوخ معاً الرئيس. وفي الاونة الأخيرة، قدمت ترينيداد وتوباغو ما يعرف باسم الحق في الالغاء، وهذه ممارسة يمكن فيها للمنطقة أو الدائرة الانتخابية أن تطلب استبدال ممثلها، وهذه الممارسة كانت قد طرحت في الاتحاد السوفييتي لأول مرة. وعلى الرغم من هذا لم نسمع قط أحد المعادين للشيوعية يشير الى ترينيداد وتوباغو على انها غير ديمقراطية، وتصفها الادارة الأمريكية بأنها (ديمقراطية برلمانية). هذه أحد الأدلة على أنهم مهتمون بتشويه الشيوعية أكثر من التعلم حول كيفية عمل النظام الديمقراطي الاشتراكي. ان المعادين للشيوعية خصوصاً في امريكا يشاركون في خيانة الأمانة الفكرية، ولذلك لا يمكن اعتبار اي شيء تقوله الدعاية الامريكية عن الاتحاد السوفييتي كمصدر موثوق.

ينبع وهم الديمقراطية الأمريكية هذا من الرئاسية الأمريكية نفسها ايضاً، يميل المواطنين الأمريكيين الى رفع رؤسائهم الى ارتفاعات لا تصدق، ويفترض أن الرئيس هو المسؤول الحكومي الأقوى تأثيراً، وبالتالي يفترض أن الحكومات لا يمكن أن تكون ديمقراطية الا اذا انتخب الرئيس مباشرةً، وكما رأينا فان هذا بعيد عن الحقيقة.

كما قطع الاتحاد السوفييتي خطوات هائلة في تعزيز المؤسسات الديمقراطية خارج النظام الانتخابي، وكان أبرزها مكان العمل. يكتب السوسيولوجي الأمريكي ألبرت شيمانسكي أنه عقدت مؤتمرات الانتاج في المصانع خلال الثلاثينيات والأربعينيات، ومرة أخرى من عام 1957 فصاعداً. وانتخب اعضاء مؤتمرات الانتاج في اجتماعات عامة لجميع العمال، وتألفت المؤتمرات نفسها من موظفين، وجمعيات علمية وتقنية ونقابات عمالية واعضاء رابطة الشباب وشارك اعضاء المؤتمر في صياغة خطط الانتاج وتحديد الأجور وتخصيص الموارد وحماية العمال. وكان مطلوباً منهم أن يقدموا تقاريراً الى الجماهير في اجتماعات عامة، حيث كان هناك مستوىً عال من المشاركة، ويمكن الغاء عضوية الممثلين في حال لم يكن اعضاء المؤتمر يمثلون العمال بشكل كاف، ويشير جورج موريس في كتابه (اي توجد حقوق الانسان الحقيقية)، انه تم ازاحة 10000 شخص اداري من مناصبهم النقابية بناءاً على طلب لجان النقابات سنة 1976، ومثل هذه الازاحة لممثلي المشاريع الكبيرة من النقابات الأمريكية بناءاً على طلب النقابة يعتبر اعتداءاً على (الامتياز الاداري). وكان في الاتحاد السوفييتي عشرات الاف المؤسسات والجمعيات الشعبية المعنية بالفنون والموسيقى والمسرح والعلم والثقافة والشباب والرياضة وجميع مناحي الحياة الاجتماعية. بينما يمكننا ايضاً ان نتحدث عن عدد محظور من النقابات في الولايات المتحدة، وحظر حزب الخضر الأمريكي بعد أشهر من انشائه سنة 1991 وحظر الحركات المعادية للصهيونية ايضاً. الحزب الماركسي اللينيني الشيوعي الذي حظر في تركيا سنة 2007، وحظر الحزب الشيوعي في سويسرا وحظره في تايلندا. لا أحد يتهم هذه الدول بأنها (غير ديمقراطية). ان هذه الاجرائات والأمور جزء لا يتجزأ من هذه الديمقراطية الشكلية.

في جانب اخر، عندما كانت قوانين جيم كرو العنصرية (1830-1965) في أوجها-تم الغاء الفصل العنصري رسميا في الولايات المتحدة سنة 1971، وبقي عاملاً بشكل غير رسمي اليوم -فر اللاجئون السود الى الاتحاد السوفييتي بحثاً عن التحرر، وكان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية خالياً تماماً من العنصرية، فالخطاب العنصري كان يجرم أكثر من أي مجتمع موجود حالياً وفي ذلك الوقت." حسب الصحافية الأمريكية انا لويس في تقريرها (السوفييت توقعوا ذلك). كان الاتحاد السوفياتي صديقا عظيما للشعب الأسود في الولايات المتحدة وحزب الشيوعيين المؤيد للسوفييت في الولايات المتحدة (CPUSA) اجتذب بعض أعظم الشخصيات السياسية السوداء في التاريخ الأمريكي - ريتشارد رايت، كلوديا جونز، هاري هايوود، دوبويس، بول روبنسون، ويليام باترسون وعشرات الآلاف من المتشردين السود، العمال المنزليين وعمال الصلب والسيارات كذلك. في عام 1951، في خضم حرب الولايات المتحدة الشرسة ضد الشيوعيين في جميع أنحاء العالم، والشيوعيين السود كتب باترسون، دوبويس، وروبنسون عريضة تاريخية للأمم المتحدة لمساعدة السود ضد الجريمة التي ترتكبها الولايات المتحدة الأمريكية، إن قراءة تلك الوثيقة بعد 66 عاما تعكس الحرب المؤلمة والفظيعة، والتي لا نهاية لها للحكومة الأمريكية ضد الأمة السوداء اليوم.
ولا تمثل صورة الاتحاد السوفييتي هذه أحلاماً للتمرد الرومانسي، بل كان في صميمه، إمكانات تحريرية وماركسية متأصلة في الممارسة في العالم الحقيقي له، والتي لا تزال تحمل دروسا بعد قرن من الزمان.

لقد كان الاتحاد السوفييتي منارةً للثوريين، فمثلاً درس هو تشي مينه في موسكو خلال العشرينات من القرن الماضي، ومن هناك بدأ النضال ضد الامبريالية، ودرس50،000 فيتنامي في موسكو خلال مدة حرب فيتنام. ودرس عديد من السود الأمريكيين هناك حيث حصلوا على مزيد من الدعم لدمج القومية السوداء والشيوعية وعادوا إلى الولايات المتحدة بمكانة بارزة ليناضلوا ضد الامبريالية العنصرية البيضاء.

كما شهد الاتحاد السوفييتي انشاء نظام رعاية صحية شامل، ولم يكن لدى اي بلد اخر عدد أكبر من الأطباء لكل فرد أو أكثر من اسرة المستشفيات لكل فرد في الاتحاد السوفييتي. وفي عام 1977، كان للاتحاد السوفييتي 35 طبيباً و212 سريراً في المستشفى لكل 10000 شخص بالمقارنة مع 18 طبيباً و63 سريراً في المستشفيات في الولايات المتحدة حسب مايكل رايان في مقاله (بيانات متوسط العمر ومعدل الوفيات في الاتحاد السوفييتي) و21 طبيباً لكل 10000 نسمة في المانيا الغربية حسب جورج موريس (الأعلى بين الدول الرأسمالية)، والأهم من هذا أن الرعاية الصحية كانت مجانية كلها وللجميع. وارتفع متوسط العمر المتوقع من حوالي 30 الى حوالي 70 بعد الثورة، ولم يزد منذ سقوط الاتحاد السوفييتي حسب موقع http://missinglink.ucsf.edu. وفي سنة 1978 حسب جورج موريس كان هناك 900000 طبيب في الاتحاد السوفييتي، اي ثلث اجمالي عدد الأطباء في العالم على الرغم من ان 260 مليون شخص عدد سكان الاتحاد السوفييتي يمثلون 6.5% من سكان الأرض، وتراجع كل عائلة سوفييتية واحدة من 36600 عيادة في الدولة
كما ارتفعت نسبة محو الأمية والتعليم، وأرسل البلاشفة المعلمين الى بيوت الفلاحين لتعليمهم حسب كتاب (نهوض القرية الفلاحية بعد الكلخزة-1994) لبتزباتريك. وبنى الاتحاد السوفييتي في منتصف السبعينات مليون و400 ألف مكاناً جديداً للطلاب من أجل 600 ألف طفل في عمر ما قبل المدرسة، ووصل عدد مراكز العناية بهم في الاتحاد السوفييتي الى 13 مليون مركز، والاشتراكية بعيداً عن المهاترات التي تتحدث عن كونها (فشلاً اقتصادياً)، ادت الى العديد من الماثر التي لا تصدق. كان الاتحاد السوفييتي، في أحد الفترات أسرع الاقتصادات نموا في التاريخ والذي سقط في الركود فقط خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.

لعل أفضل مثال على كيفية أداء الملكية العامة والتخطيط بشكل أفضل في رفع مستويات المعيشة يأتي من مقارنة للدخل في اسيا الوسطى السوفييتية مع دول الجوار في الشرق الأوسط وجنوب اسيا. في عام 1928 كانت هذه المناطق متخلفة جداً، في حالة ما قبل الصناعة. وفي ظل الملكية العامة والتخطيط نمت الايرادات في اسيا الوسطى السوفييتية الى 5257 دولاراً سنوياً بحلول عام 1989، أي اعلى بنسبة 32% مما كانت عليه في تركيا الرأسمالية المجاورة، وأعلى بنسبة 44% في إيران الرأسمالية المجاورة و241% أعلى مما كان في العاصمة الباكستانية. حسب روبرت الن في كتابه (من المزرعة الى المصنع، تفسير اخر للثورة الصناعية السوفييتية 2003). وبالنسبة الى وسط اسيا، كان واضحاً أن معايير المعيشة كانت ممتازة. تعزى هذه الانجازات مباشرةً الى الاشتراكية، وخلافاً للرأسمالية التي تسعى فقط الى اثراء اقلية صغيرة من الناس، تسعى الاشتراكية لتلبية الاحتياجات الغالبية العظمى من الناس، ولا يشمل هذا الاحتياجات الاقتصادية وحسب، بل يشمل ايضاً الاحتياجات الثقافية مثل تحرير المرأة وغيرها من الأقليات المضطهدة، فمثلاً قامت الحكومة السوفييتية بتحريم اي مراسيم قضائية تضغط على المرأة، ومنها التي تجبر المرأة على وضع النقاب في القوقاز او دول وسط اسيا، وفي حين أن الأخطاء ارتكبت بالتأكيد، فمن الواضح أن الاتحاد السوفييتي حاول تحقيق هذه الأهداف وخطا خطوات هائلةً في ذلك.

لقد كانت الجرائم (المنظمة) في الاتحاد السوفييتي معدومة نهائياً، جيوش القتلة، عصابات السطو المسلح والمهربين. ويذكر جورج موريس بأن معظم الجرائم الموجودة في الاتحاد السوفييتي تعتبر اعتدائات متوسطة وبسيطة في حال تم وضعها في التصنيف الأمريكي للجرائم، ويذكر كذلك ان مدن الاتحاد السوفييتي تخلو من مناطق (الضوء الأحمر) التي تميز الولايات المتحدة، اي تلك التي يتركز فيها المجرمين، ويقول انه لا يوجد دعارة تجارية او ملاهي جنسية وثقافة خلاعية، تلك الصناعة التي تدر المليارات في الولايات المتحدة.

لقد خلق الاتحاد السوفييتي عجائب تكنولوجية هائلة، سكة حديد موسكو التي بنيت سنة 1931 لا تزال قيد الاستخدام، وحسبما قالت ال BBC ذات مرة أن مجمعات الحديد والصلب السوفييتية تتفوق على ايها في العالم الرأسمالي.
(https://www.youtube.com/watch?v=s5axVunzQSA).

الانجازات السوفييتية في الفضاء تستحق الذكر وتشمل الأقمار الصناعية الأولى والحيوان الأول في المدار وأول رجل مشى في الفضاء. وكما يكتب فريدريك شومان في (السياسة السوفييتية 1946): "يستنتج النقاد الأجانب فوراً أن الانتلجنسيا السوفييتية عاجزين ولا حول لهم ولا قوة وخاضعين للعبودية ويعانون من عقم كامل. لا يوجد حكومة فعلت مثلما فعل الاتحاد السوفييتي في اي وقت من الأوقات لتعزيز الفن والعلوم من خلال توفير مرافق للتدريب والعمل والنشر، ومن خلال منح العلماء والفنانين الأمن الاقتصادي من خلال الرواتب العادية بالاضافة الى المكافئات السخية والجوائز والعديد من الامتيازات، ان هذه السياسة قد حققت انجازات هائلة في الموسيقى والدراما والسينما والأدب وكذلك العلوم البيولوجية والفيزيائية. في الواقع كان الابتكار التكنولوجي الذي حققه الاتحاد السوفييتي كبيراً لدرجة أن الولايات المتحدة تبنته في نهاية المطاف، وان كان ذلك بشكل ملتو". ووجدت دراسة اجريت سنة 2008 من قبل بلوك وكيلر أن 77 من اصل 88 ابتكاراً امريكياً، في مجلة البحث والتطوير تم تمويلها بالكامل من قبل القطاع العام، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي- كما تقول الدراسة.

هناك نقطة يشترك فيها كل معادي الشيوعية، هي أن المجتمعات الاشتراكية السابقة لم تتمكن من البقاء على قيد الحياة الا على اساس الاكراه بدلاً من الدعم الشعبي. هؤلاء غالباً ما يستخدمون هذا الاكراه المفترض كدليل على أن الاشتراكية لم تعمل جيداً أو ليست في مصلحة الجماهير.

يجادل كثير من المعارضين بأن الدعم الذي يتمتع به النظام السوفييتي كان نتيجة السياق الذي تم تشكيله به، لم يعرف الشعب السوفييتي اي شيء سوى القمع والبؤس تحت القيصرية واي تحسن، مهما كان هامشياً كان سيحظى بتأييد شعبي كبير.

اثناء البيروسترويكا وقبل انعقاد المؤتمر الثامن والعشرين، وبعيد انشاء مؤسسة الرئاسة التي تنقل فعلياً مركز القرار السياسي من المكتب السياسي للحزب الشيوعي الى الرئاسة تم انشاء الحزب الشيوعي الروسي بزعامة بولسكوف حيث تجاوز عددهم أكثر من نصف عدد اعضاء اللجنة المركزية، حيث وقفوا ضد كتلة يلتسن وغورباتشوف.

كان هناك دعوات واصوات كثيرة مناهضة للعودة الى السوق. يذكر كتاب (موسكو تعرف الدموع) لأحمد الخميسي أن عمال المناجم في مؤتمرهم بمدينة دونيتسك رفضوا خطة ريجكوف للتحول الى اقتصاد السوق، وقالوا ان الحكومة تريد ان تحل مشاكلها على حساب العمال، ويقول الأكاديمي (لابتييف) "ينتشر الآن هوس لتصفية ملكية الدولة، فاذا سمحنا بالملكية الخاصة فاننا نسمح للمافيا بالاستيلاء على السلطة الاقتصادية".

وبعد ان شهد مواطني الاتحاد السوفييتي السابق أكثر من عقدين من الديمقراطية الرأسمالية فهم يدركون أن النموذج السوفييتي غير مرغوب فيه. ولكن هذا غير صحيح. يدرك المواطنون العاديون في الجمهوريات السوفييتية السابقة انهم عاشوا بشكل افضل في ظل الاشتراكية، ووفقاً لمقالة "تركوا خلف قطار الرفاهية)في Globe and mail لسنة 2000 يذهب كارول 14 عاماً وشقيقته الينا 12 عام الى حيث يتم ايداع النفايات الصناعية خارج سويتوكلويس في بولندا الاشتراكية السابقة جنباً الى جنب مع والدهم للبحث عن الخردة المعدنية والفحم من الصنف الثاني لجلب بعض الدولارات لشراء امدادات قليلة من محلات البقالة. يقول والد كارول (49 عاماً)، وهو يكرر ما سمعه مراراً وتكراراً، ليس فقط في بولندا بل ايضاً في جميع البلدان الاشتراكية السابقة في اوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي: (كانت هناك حياة أفضل في الشيوعية، لقد كنت أعمل 25 عاماً لنفس الشركة، والان لا استطيع العثور على وظيفة، اي وظيفة انهم يريدون فقط العمال الشباب والمهرة). ويقول غوستاف مولنار المحلل السياسي في معهد لازلو تيليكي في Chicago Tribune (الواقع هو انه عندما تأتي الشركات الأجنبية الى هنا، فانهم مهتمون فقط بتوظيف اشخاص دون سن الثلاثين، وهذا يعني ان نصف السكان خارج اللعبة). ان هذا مع سياسة الشركات الأجنبية، وقد تكون الاطاحة بالاشتراكية نتيجة مرضية للمثقفين المرتاحين في بوسطن، الا أن هذا لا يلائم ذلك الجزء من السكان البولنديين الذين يجب أن يتدافعوا-او حتى يموتوا-على جبال النفايات الصناعية. ويشكو ماسيج جدولا 34 عاماً، وهو عضو مؤسس في مجموعة (كريتيكا بوليتيكشنا) أو النقد السياسي في النيويورك تايمز 2010، من أن العديد من البولنديين (يشعرون بخيبة أمل من الوعود التي لم تتحقق من الرأسمالية، لقد وعدونا بعالم من الاستهلاك والاستقرار والحرية. وحصلنا على جيل كامل من البولنديين الذين هاجروا وذهبوا لغسل الأطباق بدلاً من ذلك). وأشار تقرير صادر في عام 2008 في صحيفة (غلوب اند ميل) الكندية الى أن (العديد من الروس الذين تمت مقابلتهم قالوا انهم لا يزالون يشعرون بالحزن على بلدهم المفقود منذ فترة طويلة) ومن بين هؤلاء جانا سريبنايا 73 سنة، وهي كاتبة في موسكو. تتذكر سريبنايا (معسكرات الرواد عندما كان يمكن للجميع الذهاب الى البحر الأسود لقضاء العطلات الصيفية. الان فقط، يمكن للمال ان يأخذك الى تلك العطلات).

في مقالة (ازدراء تشاوتشيسكو يتلاشى بانحطاط الاقتصاد الروماني) في غلوب اند ميل 1999 يقول ايون فانسيا الذي يكافح في حياته ويحصل على راتب تقاعدي قدره 40 دولاراً في الشهر مردداً الكثير مما يقوله الرومانيين (صحيح انه لم يكن يوجد الكثير لشراؤه انذاك، ولكن الان الاسعار مرتفعة جداً، حتى اننا لا نسنتطيع ان نشتري ما نأكله ولا نستطيع ان ندفع ثمن الكهرباء، لقد كانت الحياة أفضل بـ10 مرات تحت قيادة تشاوتيسكو (امين عام الحزب الشيوعي الروماني). ووجد استطلاع سنة 2010 ان فانسيا ليس في الأقلية. اجري المسح من قبل منظمة الاقتراع الرومانية CSOP ان ما يقرب من نصف الرومانيين يعتقدون ان الحياة كانت افضل في ظل تشاوتشيسكو مقارنةً بأقل من الربع، الذين يعتقدون أن الحياة افضل اليوم. وبينما يتم ذكر تشاوتشيسكو في الغرب على انه شيطان احمر، تقول مقالة (استفتاء للرأي: 61% من الرومانيين يعتبرون الحياة افضل في ظل الشيوعية، الوكالة الرومانية للاعلام الاخباري 2010) بأن 7% فقط ممن اجروا الاستفتاء انهم عانوا في ظل الاشتراكية. لماذا يعتقد اكثر من نصف الرومانيين ذلك؟ لأنهم يشيرون الى العمالة الكاملة وظروف معيشة لائقة بالجميع والمساكن المضمونة-المزايا التي اختفت مع انهيار الاشتراكية.

برزت في جمهورية المانيا الديمقراطية السابقة ظاهرة جديدة، نوستالجيا الحنين الى الماضي. ووفقاً لأساطير معاداة الشيوعية يعزى الفقر النسبي هناك الى الملكية العامة والتخطيط المركزي. لكن الدعاية تجاهلت كثيراً حقيقة ان قوات الاحتلال الأمريكية قد نهبت الجزء الشرقي من ألمانيا من اصوله البشرية الرئيسية في نهاية الحرب العالمية الثانية. علاوةً على ذلك، قيل أن الذين فروا من المانيا الشرقية كانوا يهربون من قمع وحشي. ويتنبنى هذا الرأي هوب هاريسون من بين كثيرين، وهي استاذة مشاركة في التاريخ والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن. وفي حين أن بعض الهاربين من هناك معادين للشيوعية الا أن معظمهم من اللاجئين الاقتصاديين. حيث سعى معظم الذين فروا من المانيا الديمقراطية الى احتضان الغرب (الأكثر ازدهاراً)، والتي تعتمد ثروته الى حد كبير على تاريخ العبودية والاستعمار، وعمليات الامبريالية الجارية من تراكم رؤوس الأموال.

اليوم لا يوجد من هو عاقل يقول بأن الثروة التي وعدها الغرب لألمانيا الشرقية قد تحققت. والبطالة التي لم يسمع بها أحد هناك صارت تتضاعف وارتفعت الايجارات. البنية التحتية الصناعية التي كانت موجودة في المانيا الشرقية توق اليوم توسعها بشكل نهائي. ويتضائل عدد سكان شرق المانيا، حيث أن الناس يتجهون نحو الغرب للبحث عن فرص عمل على خطى لاجئي الحرب الباردة قبلهم. وفيما يتعلق بالادعاء الذي يقول بأن الألمان الشرقيين (لديهم الحرية اليوم) يجيب هاينز كيسلر وزير دفاع سابق في المانيا الديمقراطية بأن (الملايين من الناس في أوروبا الشرقية ليس لديهم اليوم عملاً، ولا توجد هناك شوارع امنة، وليس لديهم رعاية صحية، وليس لديهم اي ضمان اجتماعي)- اقتباس من كتاب (Blackshirts & Reds: Rational Fascism & the Overthrow of Communism) لمايكل بارنتي، من صحيفة نيويورك تايمز 1996.

أكد استطلاع غالوب سنة 2013 (الدول السوفييتية السابقة ترى ضرراً من الانقسام) أن حوالي 60% من مواطني الاتحاد السوفييتي السابق يفضلون العيش كما في السابق أكثر مما كما اليوم. ويقول 58% من الناس أنهم يفضلون تخطيط الدولة وتوزيعها على نظام السوق. ونشير الى أن 75% من المواطنين السوفييت صوتوا للحفاظ على الاتحاد السوفييتي قبل حله.

كتب شيمانسكي سنة 1984 في كتابه (حقوق الانسان في الاتحاد السوفييتي) أن (النظام السوفييتي يتمتع بدرجة عالية من الشرعية بين جميع مواطنيه، وهذا ما يعترف به بسهولة من قبل منتقديه داخل الاتحاد السوفييتي وخارجه).

واحدة من الحكايات الخيالية المفضلة للمعادين للشيوعية هي ما يسمى بـ(مذبحة كاتين)، وطبقاً للنازيين الجدد والليبراليين، المعادين للسوفييت، قامت المفوضية الشعبية للشئون الداخلية السوفييتية بموجب اوامر ستالين بتنفيذ عمليات اعدام جماعية لمواطنين بولنديين في ابريل-مايو 1940. حتى ويكيبيديا (مصدر شعبي جداً لا يمكن الاعتماد عليه تماماً) يقول ذلك. على الرغم من أن هناك ادلة قوية لا جدال فيها تثبت أن الجريمة نفذها النازيين، لا تزال هذه الاسطور المعادية للشيوعية موجودة. وقد قامت المؤسسة البرجوازية الرأسمالية بعد 1991 بقيادة يلتسن، وفي ظل الرئيس الحالي فلاديمير بوتين ببذل كل ما في وسعها لالقاء اللوم على الاتحاد السوفييتي.
-راجع الملحق في نهاية المقالة

لم يمض الكثير على انهيار منظومة الدول الاشتراكية، وما زالت الأساطير التي أطلقها الغرب حول النظام السوفييتي تتردد حتى يومنا هذا في سيل جارف من عشرات الاف الصحف والكتب والدوريات السياسية والثقافية، وواحدة من أكبر تلك الأساطير هي اسطورة (الشمولية).

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخروج الاتحاد السوفييتي منتصراً على الفاشية ظهر اهتمام شديد لمناقشة مسائل السيكولوجيا الاجتماعية والأيديولوجيا في المؤتمرات والكتب والصحف بهدف توجيه وعي الناس وسلوك الجماهير، وخصوصاً في ظل نموذج الاتحاد السوفييتي. ان رغبة الاحتكارات الرأسمالية الضخمة نحو السيطرة الكاملة على تفكير الناس كانت، وما زالت ذات اهمية قصوى، واحتدت تلك النقاشات بسبب الصراع الدولي، الاقتصادي-الاجتماعي والأيديولوجي بين المنظومة الاشتراكية والمعسكر الرأسمالي.

إن جو الخوف، والتوتر الذي كان سائداً بين مواطني اوروبا الغربية والولايات المتحدة بسبب النتائج البربرية التي ادت اليها مقولات مثل (الايديولوجية، القومية، الاشتراكية القومية) في المانيا وايطاليا كان سبباً لتلك النقاشات. وظهرت استنتاجات بطرق كثيرة، في عدد هائل من المؤلفات تخلص في مجموعها الى أن (الدول الشمولية تمتلك ميزات متعددة، ومنها أن الايديولوجيا تقود سياساتها، وهي دول بمواطنين متعصبين، دوغمائيين، ويظهر هذا جلياً في الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية). لقد ظهر مفهوم (الشمولية Totalitarianism) أول ما ظهر على يد الباحثة البرجوازية هانا ارندت في عملها الرئيسي (اصول الشمولية) سنة 1951. والفكرة من وراء هذا الكتاب أن (الشيوعية والنازية شكلت نفس نوع المجتمعات التي تسمى بـ"الفاشية").

وعند ارندت، اختفت كل الاختلافات الجوهرية والحاسمة بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية، وعندها، فان الأيديولوجية الليبرالية هي الايديولوجيا الوحيدة التي لم تنشيء اي نوع من الشمولية.

حتى نظرية ارندت حول الشمولية، لم تنطبق على العالم الواقعي. فحتى من مواقع نظريتها لا يوجد هناك ابداً ما يسمى بالمجتمع (الشمولي)، ولا حتى في ظل الدكتاتوريات الفاشية لهتلر وموسوليني، ولا يمكن ان توجد واقعياً على الاطلاق. لم تقدم هانا ارندت اي تفسير لماذا كان الاتحاد السوفييتي والمانيا على طرفي نقيض خلال الحرب العالمية الثانية، ولا لماذا غزت المانيا النازية الاتحاد السوفييتي، ولا لماذا دخل الاتحاد السوفييتي الصراع حتى قبل الولايات المتحدة، او لماذا فقد 22-27 مليون جندي ومواطن سوفييتي حياتهم على يد النازيين. وبالطريقة التي تتعامل بها ارندت مع الموضوع، كان على السوفييت والنازيين أن يكونوا على نفس الجانب ضد الدول الرأسمالية والليبرالية، واضعةً جانباً حقيقة أن الفاشية الألمانية هي شكل اخر من الرأسمالية. تتميز الشمولية عند ارندت بأنها دكتاتورية تخضع الفرد للمجموع وبأن ذلك المجموع لا يجيد الا العسكرة والتجنيد الاجباري وتمنع فيه حرية التعبير والفنون. لماذا لا تعتبر الولايات المتحدة حينذاك دولةً شمولية؟ ان المال والربح يتحكم في كل جوانب المجتمعات الرأسمالية. وستشتغل الهروات والصواريخ إذا عارض ذلك مصلحة الدكتاتورية الحاكمة. يمكنك عبادة ما تريد، وان تقوم بالرسم والطلاء والغناء وقول ما تشاء. ولكن كيف ستستمر اذا لم يحقق كل ذلك ربحاً؟ او كيف يمكنك حتى أن تبدأ بذلك؟

لم تتوقف الدعاية الغربية المعادية للشيوعية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فلم تكن تلك الدعاية المهولة المعادية للشيوعية مجرد نتاج (للحرب الباردة) بسبب الصراع السياسي مع الدولة السوفييتية (وهو امر حاسم، بالمناسبة)، بل كانت كذلك حرب الرأسماليين ضد شبح يطاردهم، ذلك الشبح الذي سيستولي على ثرواتهم ويوزعها، شبح الشيوعية، الذي ما زال يطاردهم، حتى بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية كأساس مادي كان قد جسده في وقت من الأوقات. لقد عقد في العاصمة الأستونية في تالين بتاريخ 23 اغسطس 2017 مؤتمر دولي مخز معني بما يسمى (باليوم الأوروبي لضحايا الشيوعية والنازية) الذي يواصل جهود تشويه التاريخ. ويستند ما يسمى بـ (اليوم الأوروبي لاحياء الذكرى) الى قرار سخيف، ويميني غير تاريخي تماماً، اعتمده البرلمان الأوروبي سنة 2009، وضع الشيوعية والنازية معاً بوصفها (ايديولوجيات شمولية). ان الحكومة الاستونية التي تتولى في هذا الوقت رئاسة الاتحاد الأوروبي مسؤولة تماماً عن هذا التشويه المخزي للتاريخ، حيث في استونيا، كما في دول البلطيق الأخرى يحظر الحزب الشيوعي تماماً. وبمساواة الاتحاد السوفييتي بألمانيا النازية يتم التغطية على جرائم هذه الأخيرة، باعتبار المقاتلين (Waffen SS) الأستونيين الذين قاتلوا بجانب الجيش النازي كـ (أبطال رسمياً) ويتمتعون بمعاشات حكومية. ان المناسبات التي عقدت في المؤتمر، هي استمرار لما حدث في الأعوام التي سبقها تحت رعاية الاتحاد الأوروبي الذي يتخذ من العداء للشيوعية سياسةً رسميةً له بميزانيات كبيرة. لقد كان الهدف الرئيسي لذلك المؤتمر هو اخفاء حقيقة ان قوة الشركات الاحتكارية التي اتخذت في المانيا شكل النازية، تمت الاطاحة بها نفسها في الاتحاد السوفييتي وفي البلدان الأخرى التي تولت الطبقة العاملة بقيادة احزابها الشيوعية فيها السلطة. وكما شكل المؤتمر، استفزازاً لملايين ضحايا النازية، وجميع شعوب اوروبا الذين انتصروا على النازية، شكلوا استفزازاً كذلك لملايين الشيوعيين الذي ساهموا بشكل حاسم في سحق النازية.

وفيما يتعلق بمساواة الشيوعية والنازية، في تشويه تاريخي كبير، خطاب السويدي غوران ليندبلاد رئيس ما يسمى بـ (منصة الضمير والذاكرة الاوروبية) وعضو حزب الوسط السويدي في المؤتمر حيث اشار الى اهمية ادانة كل (الأنظمة الشمولية)، وقال (كانت الايديولوجيا الشيوعية في حد ذاتها سيئة، وليس ان شيئاً ما خاطئاً قد حصل حينما تم تطبيقها). وقد قال بصفاقة كذلك ان كل من (كتاب كفاحي-هتلر، وكتاب الرأسمال-ماركس يحتويان على افكار يمكن عن طريقها استخدام الارهاب للحفاظ على الأنظمة الدكتاتورية في السلطة).

وهكذا، اذا كان علينا أن نعيد الاعتبار الى ثورة اكتوبر الاشتراكية، فعلينا أن نكشف الحقائق، ونبدد ضباب التشويه الاعلامي الذي لحق بالاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية الأخرى على مدار 100 سنة كاملة من وجودها وما بعد انهيارها. وهذه مهمة تقع على عاتق الماركسيين المخلصين لقضية الاشتراكية.

ملحق

نترجم باختصار أهم ما ورد في مقالة The Real Story of the Katyan Massacre- Exposing An Anti-Communism Fabrication التي وردت في موقع In Defence Of Communism. بالرابط التالي:

https://communismgr.blogspot.com/2016/04/the-real-story-of-katyn-massacre.html

تم في نهاية الحرب العالمية الأولى ترسيم الحدود بين روسيا وبولندا على طول الخط المعروف بأسم خط Curzon.

في 1/9/1939 غزت ألمانيا النازية بولندا، وفي 17/9، قام الاتحاد السوفييتي بتحريك قواته شرق الخط الحدودي، وقام هناك بتوزيع الأراضي على الفلاحين واحداث نوع من الاصلاحات الديمقراطية. وخلال المعركة القى الاتحاد السوفييتي القبض على حوالي 10 الاف ضابط بولندي أصبحوا أسرى حرب، ثم تم احتجاز هؤلاء السجناء في مخيمات في المنطقة المتنازع عليها ووضعوا في بناء الطرق وما الى ذلك.

غزت المانيا النازية الاتحاد السوفييتي بعد عامين، اجبر الجيش الأحمر على التراجع وتم الاستيلاء على اوكرانيا من قبل الألمان. ولم يكن من الممكن اخلاء الأسرى البولنديين الى الداخل السوفييتي خلال هذا التراجع السريع. وفي نيسان 1943 أعلن الهتلريون أنهم عثروا على العديد من المقابر الجماعية في غابة كاتين بالقرب من سمولينسك، التي تحتوي على جثث الالاف من الضباط البولنديين الذين زعم ان الروس قتلوهم. وكان هدف هذا الزعم هو تقويض جهود التعاون بين البولنديين والسوفييت لهزيمة الألمان. كان هناك حكومة بولندية برجوازية في المنفى في لندن، وكانت معادية للسوفييت بشدة. وقسم اخر من الاتحاد الوطني للبولنديين المقيمين في الاتحاد السوفييتي الذين شكلوا حكومة منفى بديلة.

نشر الألمان ادعائاتهم حول مذبحة كاتين (التي قام بها الشيوعيين السوفييت) بين 13-16/4. وأصدرت الحكومة السوفييتية بياناً رسمياً نفى فيه (الافتراءات القائلة بشأن عمليات القتل الجماعي المزعومة التي قامت بها الأجهزة السوفييتية في منطقة سمولينسك في ربيع عام 1940). وأضاف: (ان البيان الألماني لا يدع مجالاً للشك في المصير المأساوي لأسرى الحرب البولنديين السابقين الذين شاركوا سنة 1941 في أعمال البناء غرب سمولينسك، والذين سقطوا جنباً الى جنب مع العديد من سكان الاتحاد السوفييتي بعد انسحاب القوات السوفييتية).

روج الألمان قصتهم ببرقشة معادية للبيهود مدعين أنهم قادرين على تسمية المسؤولين السوفييت المسؤولين عن المذبحة ويحمل جميعهم اسماءاً يهودية، وردت صحيفة البرافدا في 19 ابريل: (يشعر الألمان بسخط عظيم على الانسانية التقدمية برمتها التي تأسى على مذبحة المواطنين السلميين واليهود منهم، يحاولون الان اثارة غضب الناس السذج ضد اليهود، ولهذا السبب اخترعوا مجموعة كاملة من (الذين يقولون انهم شاركوا في قتل الضباط البولنديين البالغ عددهم 10 الاف. ولم يكن من الصعب بالنسبة لهؤلاء الملفقين الكذابين من ذوي الخبرة ان يخترعوا اسماءاً قليلة من الناس الذين لم يوجدوا ابداً-ليف ريباك، افرام برودنسكي، شيم فينيبرغ، لم يكن هؤلاء في قسم OGPU في سمولينسك أو اي قسم اخر من NLVD.)

وأدى اصرار حكومة المنفى على تأييد الدعاية الألمانية الى انهيار كامل للعلاقات بين حكومة لندن البولندية والحكومة السوفييتية، كما علق وزير الدعاية النازية غوبلز في مذكراته: (ان هذا الانقطاع يمثل انتصاراً للدعاية الألمانية مئة في المئة وخاصة بالنسبة لي شخصياً... لقد تمكنا من تحويل حادثة كاتين الى سؤال سياسي للغاية).

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، التحق ميخائيل غورباتشوف بهذه الحملة التضليلية، وأنتج مواداً يزعم انها من ارشيف الاتحاد السوفييتي تثبت ان السوفييت ارتكبوا المذبحة بناءاً على اوامر جوزيف ستالين. من المعروف جيداً حملة غورباتشوف سيئة الصيت ضد ستالين، وبالطبع لم يكن من المهم تشويه شخص ستالين بقدر ما هو تشويه الاشتراكية والعودة للنظام الرأسمالي واحضار حياة التطفل الفاخر لأنفسهم على حساب المعاناة الجماعية للشعوب السوفييتية. لا تذكر المصادر البرجوازية شيئاً من الأدلة التي حتى غوبلز كان يعترف انها تشكل مشكلة من وجهة نظره. كتب في مذكراته في 8/5/1943 (لسوء الحظ، تم العثور على الذخائر الألمانية في قبور في كاتين. ومن الضروري أن يبقى هذا الشيء سراً، وإذا عرف العدو ذلك فيجب حينها اسقاط قضية كاتين بأكملها).

بالاضافة، تقدم الكثير من الشهود لاثبات وجود السجناء البولنديين في المنطقة بعد أن استولى عليها الألمان. ويوجد ايضاً ادلة كثيرة من السكان المحليين على ما كان يحدث، على الرغم من أن الألمان لم يطلقوا النار على البولنديين على مرأى ومسمع الشهود المحليين.
يسائل الدكتور غروفر كار فور، وهو استاذ امريكي ومؤلف خبير بارز في التاريخ السوفييتي في كتابه (هل تم اثبات عدم صحة "الرواية الرسمية" لمذبحة كاتين؟) صحة الرواية (الرسمية) حول مسؤولية الاتحاد السوفييتي عن مذبحة كاتين، ويكشف عن أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعاً حول هذه المأساة، وسلط الضوء على أن الأساس الاستدلالي للرأي (الرسمي) "واهي بشكل مثير". ويشير ايضاً الى ما يتحدث حوله الباحثين بشكل مستمر حول (الرزمة المغلفة رقم 1) التي قامت ادارة يلتسن بتسليمها للسلطات البولندية عام 1992، التي تحتوي على الوثائق التي يزعم انها تثبت ادانة الاتحاد السوفييتي في مذبحة كاتين الجماعية، ومع ذلك تثار تساؤلات كثيرة حول اصالة الرزمة المغلفة.

وفي اكتوبر من سنة 2010 تم تقديم قضية موثوقة تقول بأن "(وثائق الأسلحة النارية)، العائدة لـ(الرزمة المغلفة رقم 1) تحتوي على مواد مزورة. ان المواد التي قدمها عضو الدوما فيكتور اليوخين في اكتوبر 2010 تشكل أقوى دليل حتى الان على أن هذه الوثائق قد تكون مزورة".

وكشف فيكتور اليوخين بالفعل، أن الوثيقة الأساسية من (الرزمة المغلفة رقم 1) -مذكرة لافرينتي بيريا والتي تطالب بعقوبة الاعدام لـ14000 من اسرى الحرب المدنيين البولنديين، التي وقعها جوزيف ستالين في عام 1940 ملفقة في اواخر الثمانينيات. واقترح عضو الدوما أنه يمكن ان يكون وراء التزييف شخصيات البيروسترويكا البارزة مثل ألكسندر ياكوفليف، ديمتري فولكوغونوف ورودولف بيخويا.

يشير الدكتور غروفر فور ايضاً الى الاكتشافات التي اجرتها مجموعة اثرية بولندية اوكرانية مشتركة في 2011-2012 في بلدة فولوديمير فولينسكي الأوكرانية تتصل مباشرةً بمذبحة كاتين.

اكتشف المجموعة موقع مقبرة جماعية حدده الاخصائيون كمقبرة جماعية نموذجية (صناعة المانية) ويستشهد الدكتور فور بدومينيكا سيميسكا رئيسة المجموعة الأثرية البولندية التي تقول بأن الضحايا الذين دفنوا في المقبرة الجماعية لم يقتلوا في وقت أبكر من اواخر 1941 أو 1942.

ووفقاً للتقرير البولندي فان 98.67% من القذائف التي وجدت في الموقع كانت من صنع الماني يعود لسنة 1941، كما عثر على بقايا للنساء والأطفال في المقبرة الجماعية.
ولكن الحقيقة الأكثر اثارةً للدهشة هي أن الباحثين البولنديين اكتشفوا ايضاً البقايا والشارات المعدنية والكتابات والأزرار التي تعود للضباط الذين يعتقد انهم قتلوا فيما يسمى بمذبحة كاتين عام 1940.

لقد حلل الدكتور فور عدداً من الوثائق والحقائق الهامة التي تعتبر (دليلاً وافراً) على ادانة السوفييت من قبل مؤيدي (الرواية الرسمية) وأظهر أن العديد من الافتراضات التي تستند الى هذه الوثائق تنهار تحت التدقيق.

ويثير الدكتور فور حقيقة أن كبار المسؤولين الروس ووسائل الاعلام الرئيسية تواصل دعم (الرواية الرسمية) لمذبحة كاتين. يقول فور تعتبر "كاتين أفضل توثيق لجرائم الستالينية، واذا اعترفوا بأن الرواية الرسمية لكاتين كاذبة، فما الشيء الاخر الذي يمكن أن يكون كذباً ايضاً؟ وبعد ذلك، ما هو المبرر الأيديولوجي لحل جمهوريات الاتحاد السوفييتي الاشتراكية"؟

ليست قصة مذبحة كاتين وحدها هي التي تم تلفيقها من قبل النازيين ضد الاتحاد السوفييتي، وتم اجترارها من قبل الدعاية الغربية ضد الشيوعية. بل قصة المجاعة الأوكرانية التي زعم ان البلاشفة حضروا لها عمداً في بداية الثلاثينيات، وقصة (الملايين) الذين قتلهم الشيوعيين في معسكرات العمل والكولاك من سنوات 1930-1953. وقمنا بترجمة مقالة لماريو سوسا الذي درس التقارير الصادرة عن مؤرخين روس بحثوا في الأرشيف السوفييتي وبينت كذب الاعلام البرجوازي الذي لا يتوقف عن ترديد الكذب المعادي للشيوعية، وهذا هو رابط المقال http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=570777.