سلاح النظرية


علي عامر
2017 / 10 / 25 - 15:37     

أميلكار كابرال
1966
سلاح النظرية
تعريب: علي عامر
رابط المقال الأصلي: https://www.marxists.org/subject/africa/cabral/1966/weapon-theory.htm

---------------------------------------------------------------------------------------------------
قدّمها لمؤتمر القارّات الثلاث لشعوب آسيا, أفريقيا وأمريكا اللاتينية, الذي أقيم في هافانا, في يناير, 1966.
---------------------------------------------------------------------------------------------------


إذا جاء أيٌّ منّا إلى كوبا, حاملاً في عقله شكوكاً حول صلابة, وقوّة, ونضج وحيويّة الثورة الكوبيّة, فإنّ ما سيراه في كوبا كفيلٌ بأنْ يبدد كل تلك الشكوك. تنعم قلوبنا اليوم باليقين الراسخ الذي يمنحنا الشجاعة في النضال الصعب ولكن المجيد ضد عدوّنا المشترك: ليس هناك قوّة في العالم قادرة على إهلاك الثورة الكوبيّة, التي تخلق في الأرياف والمدن, ليس فقط حياةً جديدةً –بل والأهم من ذلك- إنساناً جديداً, يعي تمام الوعي حقوقه وواجباته القوميّة, والقارّية, والأممية. خلال السبع سنوات الماضية, تحديداً عام 1965, عام الزراعة, حقق الشعب الكوبي تقدماً عظيماً في كل مجال من مجالات المشاط والفعل.
نعتقد أنّ هذا يشكّل درساً خاصّاً لحركات التحرر القوميّ, خاصّة لأولئك الذين يريدون لثورتهم الوطنية أنْ تكون حقيقية. لاحظ البعض أنّ عدداً محدوداً من الكوبيين, رغم أنّهم أقليّة غير معتبرة, لم يشاركوا في أفراح وآمال الإحتفال بالذكرى السنوية السابعة للثورة, لأنّهم ضدّها. من المحتمل أنّ آخرين لن ينضموا إلى الإحتفال بالذكرى السنوية الثامنة, إلّا أننا نؤكد, على أنّ سياسة "الباب المفتوح" لأعداء الثورة, ستكون درساً في الشجاعة, والتصميم, والإنسانية, والثقة بالشعب, لتكون نصراً أخلاقيّاً وسياسياً جديداً على الأعداء؛ ولأولئك المرجفين, بروحٍ من الصداقة, من الأخطار المحدقة بسبب هذا الخروج (خروج البعض من موالاة الثورة), نضمن لهم أنّنا نحن شعوب أفريقيا, المحكومين تماماً بالإستعمار البرتغالي, جاهزين لإرسال جحافل من الرجال والنساء إلى كوبا, ما يكفي لتعويض خروج أولئك الذين لأسبابٍ طبقيةٍ, أو بسبب العجز عن التكيّف, نمى لديهم مصالح أو مواقف لا تتوافق مع مصالح الشعب الكوبيّ. آخذين –من جديد- بعين الإعتبار, المسار التراجيدي الشظف لأسلافنا, (خاصّة من غينيا وأنغولا), الذين سيقوا إلى كوبا كعبيد, لذلك يجب أن ندخل كوبا الآن, كرجال أحرار, كعمّال تملؤهم الإرادة الحرّة, كوطنيين كوبيين, لإنجاز المهام الإنتاجيّة, في هذا المجتمع الجديد والمتعدد الأعراق, لنمدد يد المساعدة, وننافح بأرواحنا عن انتصارات الشعب الكوبي العظيمة. لذا, يتوّجب علينا معاً تعزيز روابط التاريخ, والدم, والثقافة, تلك التي توحّد شعوبنا مع الشعب الكوبي, يتوجّب علينا معاً تعزيز البذل الطوعي للنفس, الفرح العميق والإيقاع المتفشي الذي يجعل من بناء الإشتراكيّة في كوبا ظاهرة عالميّة جديدة, وفريدة, وحدثاً غير مألوف.
لن نستخدم هذا المنبر للهجوم على الإمبريالية. هناك قوّلٌ إفريقيٌّ مأثورٌ ودارجٌ في بلادنا: "إذا كان منزلك يحترق, فلا فائدة من قرع الطبول." على مستوى القارّات الثلاث, فإنّ هذا يعني أننا لن نلغي الإمبريالية بكيل الشتائم والسباب. فبالنسبة لنا, إنّ أفضل أو أسوأ شتيمة ضد الإمبريالية -مهما كان شكلها- رفع السلاح والقتال. هذا ما نفعله, وهذا ما سنفعله, حتى يتم الإجلاء الكامل لآخر حكم أجنبي عن أرضنا الإفريقيّة.
أجندتنا تحتوي مواضيعاً أهميتها ودلالتها ليست موضع سؤال, بل وتظهر انهماكاً متأصلاً بالكفاح. نلاحظ على أيّة حال, أنّ أحد أشكال الكفاح الأساسيّة, لم يذكر صراحةً في هذا البرنامج, رغم يقيننا بحضوره في عقول أولئك الذين صاغوا البرنامج. نتكلم هنا عن النضال ضد ضعفنا الذاتي. اختلاف التجارب الأخرى عن تجربة غينيا جليّ؛ إلّا أنّ خبرتنا تعلمنا أنّه في الإطار العام للنضال اليوميّ, فإنّ هذه المعركة ضد أنفسنا –بغض النظر عن الصعوبات التي يخلقها العدوّ- هي الأصعب على الإطلاق, أكان في الحاضر أم في المستقبل. هذه المعركة هي التعبير عن واقع التناقضات الداخليّة, الاقتصاديّة, والاجتماعيّة, والثقافيّة (وبالتالي التاريخيّة) لبلداننا. نحن مقتنعون أنّ أيّة ثورة قوميّة أو اجتماعيّة لا تستند إلى معرفة هذا واقعها الأساسي, معرّضة بشدّة لخطر الفشل.
حين يقول الأفارقة بلغتهم البسيطة: "مهما ارتفعت درجة حرارة الماء في البئر, فالماء لن يطبخ لك الأرز," يكونوا بذلك قد عبرّوا ببساطة عن مبدأٍ أساسيٍّ, ليس في الفيزياء فقط, بل في العلوم السياسيّة أيضاً. نحن نعلم أنّ تطوّر الظاهرة في حركتها, بغض النظر عن مظهرها الخارجي, يعتمد أساساً على خصائصها الداخليّة. ونعرف أيضاً أنّ المستوى السياسيّ لواقعنا الذاتيّ –مهما كان واقع الآخرين جيّداً وجذّاباً- لا يمكن تحويله إلّا عبر معرفتنا الدقيقة له, وجهودنا الذاتيّة, وتضحياتنا النفيسة. من المفيد أن نتذكر في هذا اللقاء القارّيّ الثلاثيّ, الغنيّ بالتجارب والخبرات, أنّه مهما عظمت المتشابهات بين حالاتنا المتنوّعة, ومهما تشابه أعداؤنا, فإنّ التحرر القوميّ والثورة الاشتراكيّة ليسا سلعاً مستوردة على الإطلاق؛ بل هما, وبشكل متزايدٍ يومياً, مخرجات الإعداد المحليّ والقوميّ, يتأثران بالعوامل الخارجية (سلبية وإيجابية) إلى هذا القدر أو ذاك, إلّا أنّهما يتحددان ويتشكلّان أساساً بالواقع التاريخي لكل شعب, ويتحققان من خلال الحلول الصحيحة للتناقضات الداخلية بين مختلف الفئات التي تميّز هذا الواقع. نجاح الثورة الكوبيّة, تحقق على بعد تسعين ميلاً فقط, من أعظم إمبرياليّة معادية للإشتراكيّة على مرّ العصور, هذا النجاح, بمضمونه, وبمساره التطوريّ, ليس إلّا مثالاً عملياً قاطعاً على صحّة هذا المبدأ.
إلّا أنّه يجب أن ندرك أننا نحن والحركات التحرريّة الأخرى بشكلٍ عامٍ (مشيرين هنا إلى مجمل التجربة الأفريقيّة) لم ننجح في إيلاء الإهتمام الكامل لهذه القضيّة المهمة في نضالنا المشترك (يقصد قضيّة أساسيّة التناقضات الداخلية وثانوية الشروط الخارجية في الثورة التحررية, إضافة من المترجم).
القصور الإديولوجيّ, إن لم نقل الغياب الكامل للإديولوجيا, عند حركات التحرر القوميّ –التي وبسبب أساسيٍّ من جهلها بالواقع التاريخيّ الذي تدعي تحريره- يشكّل أحد أعظم نقاط ضعف نضالنا ضد الإمبرياليّة, إن لم يكن الأعظم على الإطلاق. نعتقد على أيّ حال, أنّ –عدداً كافياً من التجارب المتنوعة تراكم الآن, ما يمكنّنا من رسم خطةٍ عامّةٍ نظريّةٍ وعمليّةٍ بهدف تقويض هذا القصور. سيكون من المفيد مناقشة هذا الموضوع بشمول, ما سيمّكن هذا المؤتمر من تقديم مساهماتٍ قيّمةٍ باتجاه تطوير نشاط حركات التحرر القومي في الحاضر والمستقبل. هذه الخطة, ستنير الطريق لمساعدة حركات التحرر, وبرأينا, لن تكون أقل أهميّة من الدعم السياسي والمساندة الماديّة بالسلاح وما شابه.
إنّه وبعزمنا المساهمة في هذا النقاش -حتى لو كانت مساهمة متواضعة- نقدّم اليوم رأينا حول أسس وأهداف التحرر القومي من حيث علاقته مع البنية الاجتماعية. رأينا هنا, هو خلاصة تجاربنا الخاصة في النضال بالإضافة لقراءتنا النقدية لتجارب الآخرين. لأولئك الذين يرون من مساهمتنا جانبها النظريّ, نقول: نعم صحيح أنّ كل ممارسة تنتج نظريّة, ونعم صحيح أنّ فشل الثورة مازال ممكناً حتى لو استندت على أرسخ وأكمل الأسس النظريّة, إلّا أنّه من اليقيني أنّ أيّة ثورة لم تنجح بدون نظرية ثورية.
أولئك الذين يؤكدون –في حالتنا توكيداً صحيحاً- أنّ الصراع الطبقي هو القوّة الدافعة في التاريخ, سيوافقون حتماً على مراجعة هذا التوكيد, لجعله أكثر دقةً, وإغناءه من ناحية المضمون, واكسابه مجالاً أوسع للتطبيق, عبر امتلاكهم معرفةً أفضل للخصائص الجوهريّة الخاصة لكل شعبٍ من الشعوب القابعة تحت الاستعمار, أو لنقل الشعوب الخاضعة للإمبريالية. في الحقيقة, في خضّ التطوّر العام للبشريّة, ولكل شعبٍ من شعوبها المكوّنة, لا تظهر الطبقات كظاهرة عامّة أو متزامنة عند مجموع هذه الشعوب, ولا تظهر ككلٍ نهائيٍّ, وكاملٍ, ومتجانسٍ, وتلقائيٍّ. بروز الطبقات في مجموعة أو أكثر من المجموعات البشرية, هو نتيجة أساسية للتطوّر التقدمي لقوى الإنتاج وخصائص توزيع الثروة الي تنتجها الأغلبية وتغتصبها الأقليّة. من هنا, فإنّ تلك الظاهرة الاقتصاديّة الاجتماعيّة "الطبقة" تظهر وتتطوّر كاقترانٍ من متغيّرين اثنين على الأقل, ضروريين ومعتمدين على بعضهما: "مستوى قوى الإنتاج ونمط ملكيّة وسائل الإنتاج". هذا التطوّر يتحقق ببطؤ, وبتدرج, وبدون تكافؤ, من خلال التغيّرات الكميّة الدقيقة إلى ما حدّ له في العناصر المكوّنة الأساسية؛ وعند الوصول لنقطة محددة من التراكم الكميّ, تنتج هذه العملية قفزتها النوعيّة, أي ظهور الطبقات والصراع الطبقي.
العوامل الخارجية بالنسبة للكل الاقتصادي-الاجتماعي, تؤثر بهذا المقدار أو ذاك, على عملية تطوّر الطبقات, تسرّعها, تثبّطها, تنكّصها. وحين, ولسببٍ ما, يتوقف تأثير العوامل الخارجية, تستعيد صيرورة تطوّر الطبقات استقلالها الذاتي وإيقاعها الخاص, على أنّهما لا يتحددا بالخصائص الداخلية للنظام فقط, ولكن أيضاً بمحصلة الأثر الناتج عن نشاط العوامل الخارجية المؤقت. رغم أنّ إيقاع الصيرورة يتغّير, إلّا أنّه يبقى مستمراً وتقدميّاً. التطوّر المفاجئ (ليس التدريجي, من المترجم), يمكن فقط في حالة التحوّلات العنيفة –الطفرات- على صعيد قوى الإنتاج أو نمط الملكية. هذه التحوّلات العنيفة, الناتجة عن عملية تطوّر الطبقات, كنتيجة لطفرات في مستوى قوى الإنتاج ونمط الملكيّة, تسمّيها لغة الاقتصاد والسياسة بشكل عام: الثورات.
من الواضح على أيّ حال, أنّ إمكانيّات هذه العمليّة تتأثر بشكلٍ ملحوظٍ بالعوامل الخارجيّة, وبالتحديد بتفاعل المجموعات البشريّة. ينمو هذا التفاعل بشكلٍ معتبرٍ من خلال تطوّر وسائط النقل والاتصال, التي تشكّل أساس العالم الحديث, والتي تقوّض إنعزال المجموعات البشرية في مناطق منفصلة, في نفس القارة, أو قارّات مختلفة. هذا التطوّر, الذي يعتبر أحد تمظهرات تطوّرٍ تاريخيٍّ طويلٍ بدأ مع اختراع أوّل وسيلة مواصلات, كان أكثر وضوحاً في زمن الرحلات البونيقية وفي فترة الإستعمار الإغريقي, وبرز في فترة الكشوفات البحرية, وعند اختراع المحرّك البخاريّ واكتشاف الكهرباء. في وقتنا الحالي, مع تقدم تدجين الطاقة الذريّة, يإمكاننا أن نتيقّنٍ, إن لم يكن من إمكانية نقل الإنسان إلى النجوم, على الأقل من إمكانية أنسنة الكون.
هذا يقودنا لطرح السؤال التالي: هل بدأ التاريخ فقط مع نمو ظاهرة الطبقة؟ وبالتالي بدأ التاريخ مع ظهور الصراع الطبقي؟ إذا كانت الإجابة بالإيجاب, فهذا يعني إقصاء خارج حدود التاريخ, فترة كاملة من حياة المجموعات البشرية, منذ اكتشاف الصيد, إلى الزراعة المترحلة والمستقرة, إلى تنظيم قطعان الماشية والحيازة الخاصة للأرض. والإجابة بالإيجاب أيضاً, ستعني –وهذا ما نرفضه- أنّ مجموعاتٍ بشريّةٍ مختلفةٍ في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية, كانت تعيش بدون تاريخ, أو خارح التاريخ, حين تعرّضت لنير الإمبريالية. هذا يعني النظر إلى شعوب دولنا, مثل البلانطس في غينيا, والكونياماس في أنغولا, والماكونديس في الموزامبيق, الموجودة حتّى الآن –إذا حذفنا التأثير الخفيف الذي ألحقه بهم الإستعمار الذي سلّط عليهم- على أنّها شعوب خارج التاريخ, أو بدون تاريخ.
رفضنا هذا, المبني على أساس معرفة ملموسة بالواقع الاقتصادي- الاجتماعي لبلداننا, وعلى أساس تحليل عملية نمو ظاهرة الطبقة, كما رأينا من قبل, قادنا لاستنتاج مفاده: إذا كان الصراع الطبقي محرّك التاريخ, فهو كذلك فقط في فترة محددة من التاريخ. هذا يعني أنّه قبل الصراع الطبقي –وبالضرورة بعده, حيث أنّه في هذا العالم, لا يوجد قبل بدون بعد- عامل واحد أو أكثر, كان وسيكون القوّة الدافعة للتاريخ. ليس من الصعب إدراك أنّ هذا العامل في تاريخ كل مجموعة بشريّة هو نمط الإنتاج –مستوى قوى الإنتاج ونمط الملكيّة- أي الخصائص الداخلية لتلك المجموعة.
بالإضافة لذلك, وكما رأينا, الطبقات نفسها, والصراع الطبقي وتعريفهم تبعاً له؛ نتاج تطوّر قوى الإنتاج مقترناً بنمط ملكيّة وسائل الإنتاج. لذلك, يصحّ الاستنتاج التالي: مستوى قوى الإنتاج, عنصر الشكل والمضمون في الصراع الطبقي, والذي ينشط كعامل محدد جوهري, هو القوّة الدائمة لدفع التاريخ.
الموافقة على هذا الإستنتاج كفيلة بأنْ تبدد الشكوك من رؤوسنا. لأنّنا حينها سنتيّقن من وجود التاريخ ما قبل الصراع الطبقي, وبالتالي تجنيب المجموعات البشرية في دولنا –ولربما في قارّات أخرى- ذلك الموقف البائس من كونهم شعوباً بدون تاريخ, ومن جهة أخرى, سنرى استمراريّة التاريخ, حتى بعد تلاشي الصراع الطبقي أو تلاشي الطبقات نفسها. رغم أننا لسنا من افترض –بناءاً على أسس علميّة- حقيقة تلاشي الطبقيّة كحتميّة تاريخيّة, إلّا أننا نشعر بالرضى من الوصول لهذا الاستنتاج, الذي وإلى مدى معيّن, يعيد إنتاج الترابط المنطقي (في النظرة الكليّة للتاريخ), وفي نفس الوقت, يمنح لتلك الشعوب, مثل الشعب الكوبي, المنهمكة في بناء الإشتراكيّة, اليقين الأكيد بأنهم لن يتوقفوا عن إمتلاك التاريخ بعد إكمال صيرورة إلغاء ظاهرة الطبقة والصراع الطبقي من نظامهم الاقتصادي الاجتماعي. الخلود ليس من هذا العالم, فالإنسان سيتخلّص من الطبقات, وسيستمر في إنتاج وصناعة التاريخ, حيث أنّه لن يتحرر أبداً من عبء حاجاته, الجسدية والروحية, المُشَكِّلَة لأساس تطوّر قوى الإنتاج.
حقيقة ماضينا وواقع حاضرنا, يخوّلانا أنْ نقول أنّ تاريخ مجموعة بشرية واحدة أو تاريخ البشرية كاملة, يمرّ على الأقل بثلاثة مراحل أساسيّة؛ الأولى تتحدد بمستوى متدني من قوى الإنتاج –مستوى متدني من سيطرة الإنسان على الطبيعة؛ نمط إنتاج بدائي, ماقبل ظهور الحيازة الخاصة لوسائل الإنتاج, لا وجود للطبقات, وبالتالي, لا وجود للصراع الطبقي. في المرحلة الثانية, ارتقاء مستوى قوى الإنتاج, يؤدي إلى الحيازة الخاصة لوسائل الإنتاج, فيدخل التعقيد تدريجيّاً على نمط الإنتاج, محفزاً صراع المصالح داخل النظام الاقتصادي الاجتماعي في حركته, لينتج إمكانيّة ظهور ظاهرة الطبقة وبالتالي الصراع الطبقي بإعتباره التعبير الإجتماعي عن التناقض الاقتصادي بين نمط الإنتاج والحيازة الخاصة لوسائل الإنتاج. في المرحلة الثالثة, عند وصول درجة محددة من تطوّر قوى الإنتاج, تظهر إمكانية إلغاء الملكيّة الخاصة لوسائل الإنتاج, لتتحقق لاحقاً, مع إلغاء ظاهرة الطبقة والصراع الطبقي؛ لتتكشف قوى جديدة ومجهولة في العمليّة التاريخيّة للنظام الاقتصادي الاجتماعي.
في لغة الاقتصاد السياسي, فإنّ المرحلة الأولى هي مجتمع الزراعة وتربية الماشية المشاعي, حين كان البناء الاجتماعي أفقيّاً, بدون دولة؛ أمّا المرحلة الثانية, فهي الإقطاع أو البرجوازية الزراعية أو الزراعية-الصناعية, التي تظهر بنيتها الاجتماعية ودولتها على شكلٍ عموديٍّ؛ المرحلة الثالثة, هي المجتمعات الإشتراكية أو الشيوعية, حيث يكون الاقتصاد صناعياً بشكل أساسيّ إن لم يكن حصريّ, حين تتحوّل الزراعة نفسها إلى صناعة, وحين تميل الدولة إلى التلاشي, أو تتلاشى فعليّاً, وتعود البنية الاجتماعية لشكلها الأفقيّ, ولكن في مستوى أعلى من قوى الإنتاج, والعلاقات الإجتماعية وتقدير قيمة الإنسان.
على مستوى البشريّة, أو جزءٍ منها, على مستوى مجموعاتٍ بشريةٍ في نفس المنطقة, أو في قارّات مختلفة, فإنّ هذه المراحل الثلاث (أو اثنتين منها) تتواجد معاً, وهذا ظاهر في الحاضر كما ظهر في الماضي. هذا نتيجة التطوّر اللامتكافئ للمجتمعات البشريّة, أكان بسبب من عوامل داخلية, أو من عامل خارجيّ أو أكثر, يدفع أو يسرع أو يثبط تطوّر تلك المجتمعات. في المقابل, في العمليّة التاريخية لنظام اقتصاديّ اجتماعيّ ما, كل من تلك المراحل المذكورة, تحوي عند وصول درجة معيّنة من التطوّر, بذور المرحلة التي تليها.
يجب أنْ نلاحظ أنّه في المرحلة الحاليّة من حياة البشرية, وفي نظام اقتصاديّ اجتماعيّ معيّن, لا يمكن تجنّب التسلسل الزمني لتلك المراحل الثلاث. مهما كان مستوى قوى الإنتاج والبنية الاجتماعية القائمة لمجتمع ما, يستطيع المجتمع قطع تلك المراحل بسرعة تتوافق مع الواقع المحليّ الملموس (التاريخي والبشري) ليصل إلى مستوى أرقى من الوجود. هذا التقدم يعتمد على الإمكانات الماديّة لتطوّر قوى الإنتاج, ومحكومٌ بشكلٍ أساسيٍّ بطبيعة السلطة السياسيّة التي تحكم المجتمع, بلغة أخرى شكل الدولة, أو إذا أحببت, بخصائص الطبقة أو الطبقات السائدة داخل المجتمع.
تحليل أكثر تفصيلاً, سيظهر لا محالة, أنّ إمكانيّة تلك القفزة في العمليّة التاريخيّة, تظهر أساساً في الحقل الاقتصادي, منبثقة من قوّة الوسائل المتاحة في ذلك الوقت للإنسان ليسيطر على الطبيعة, وفي الحقل السياسي, تنبثق من الحدث الجديد الذي غيّر جذريّاً وجه العالم وتطوّر التاريخ: إنتاج الدولة الإشتراكيّة.
لذا نرى أنّ شعوبنا تملك تاريخها الخاص, بغض النظر عن مرحلة تطوّرها الاقتصادي. وحين خضعت للهيمنة الإمبريالية, فإنّ الصيرورة التاريخيّة لشعوبنا (وللمجموعات البشرية المكوّنة لها), تعرّضت لفعل عنيف من عامل خارجي. هذا الفعل –أثر الإمبرياليّة على مجتمعاتنا- سيؤثر على صيرورة تطوّر قوى الإنتاج والبنية الاجتماعية في بلداننا, وسيؤثر أيضاً على مضمون وشكل كفاحنا للتحرر القومي.
ولكننا نرى ذلك أيضاً في السياق التاريخي لتطوّر تلك النضالات, فشعوبنا تمتلك الإمكانيّة الماديّة الملموسة للإنتقال من واقع إستغلاليّ غير متطوّر, إلى مرحلة أرقى من صيرورتهم التاريخية, التي ستقود إلى شكلٍ أعلى من الوجود الاقتصادي الاجتماعي الثقافي.
في البيان السياسي الذي قدمته اللجنة التحضيرية الأمميّة لهذا المؤتمر, نعيد تأكيد دعمنا الكامل, واضعين الإمبريالية, من خلال التحليل الواضح المقتضب, في سياقها الاقتصادي وإحداثيّاتها التاريخية. لن نكرر هنا, ما قيل سابقاً في الجمعية, بل سنعرّف الإمبريالية ببساطة على أنّها التعبير العالمي عن بحث راس المال المالي الإحتكاري عن الربح والتراكم اللامحدود لفائض القيمة, المتمركزة في جزأين من العالم: أوّلاً أوروبا, وثمّ في شمال أمريكا. وإذا أردنا وضع حقيقة الإمبريالية في المسار العام لتطوّر عامل التجاوز الذي غيّر وجه العالم؛ أي رأس المال وعملية التراكم, نستطيع أن نقول أنّ الإمبريالية زُرعت خلسةً من خلف البحار إلى الأراضي الجافّة, تنظّمت, وتلبورت, وتكيّفت خلسةً, بهدف إستغلال موارد شعوبنا الطبيعيّة والبشريّة. ولكن إذا استطعنا بهدوء تحليل ظاهرة الإمبريالية, لن نصدم أحداً بإقرارنا أنّ الإمبريالية –رغم أنّ كل الشواهد تذهب لإثبات أنّها في الحقيقة المرحلة الأخيرة من تطوّر الرأسمالية- مثّلت ضرورة تاريخيّة في السياق العام للبشريّة, برزت من الزخم النابع من قوى الإنتاج وتحوّل وسائل الإنتاج, كانت ضرورة, مثل ضرورة هذه الأيّام للتحرر القومي للشعوب, وتدمير الرأسمالية, والتقدم نحو الإشتراكية.
من المهم أن تعرف شعوبنا إذا كانت الإمبريالية, في دورها كرأسمال نشط, قد حققت مهمتها التاريخية في دولنا أم لا: مهمة تسريع عمليّة نمو قوى الإنتاج وتحويلها من حيث رفع مستوى التعقيد في وسائل الإنتاج؛ وتعزيز الفرق بين الطبقات مع تطوّر البرجوازيّة, وتكثيف الصراع الطبقي؛ والإرتقاء الملحوظ بمستوى الحياة الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للشعوب. ومن المهم أيضاً فحص تأثيرات وآثار النشاط الإمبريالي على البنى الإجتماعية والصيرورة التاريخية لشعوبنا.
لن نتهم الإمبريالية هنا ولن نبرئها؛ بل سنقول ببساطة, على الصعيد الاقتصادي وعلى الصعيد الثقافي سواء, فإنّ رأس المال الإمبريالي مايزال بعيداً عن تحقيق مهمته التاريخيّة التي أنجزها رأس المال في دول التراكم. هذا يعني: إذا كان رأس المال الإمبريالي من جهة قد أدّى وظيفته البسيطة في مضاعفة فائض القيمة في الأغلبية العظمى من الدول الخاضعة لهيمنته, فمن الجهة الثانية, يمكن أن نرى أنّ قدرة رأس المال التاريخية (كمسرّع جبّار لصيرورة تطوّر قوى الإنتاج) تعتمد بشكل كبير على حريّة رأس المال, أي على درجة الإستقلال في توظيفه واستخدامه. يجب علينا على أيّ حال أن نلاحظ أنّه في حالات محددة, امتلك رأس المال الإمبريالي أو الرأسمالية المتعفنة مصلحة خاصة كافية, وقوّة ووقت كافيان لرفع مستوى قوى الإنتاج (وبناء المدن أيضاً) والسماح لأقليّة من السكان المحليين بالتمتع بمستوى معيشي وامتيازات أعلى, ما ساهم في عمليّة يسميها البعض ديالكتيكية (جدلية)! من خلال تعزيز التناقضات في المجتعات موضع النقاش. وفي حالات أخرى أكثر ندرة, وُجِدَت إمكانية تراكم رأس المال, ما أنتج الظروف اللازمة لتطوّر البرجوازيّة المحليّة.
في قضية آثار الهيمنة الإمبريالية على البناء الاجتماعي والصيرورة التاريخية لشعوبنا, يجب علينا أولاً, أن ندرس الأشكال العامة للهيمنة الإمبريالية. هناك شكلان على الأقل: الأوّل الهيمنة المباشرة, من خلال قوّة وسلطة من الخارج (قوّات شرطة مسلحة, وكلاء إداريين, مستوطنين)؛ هذا يسمّى الاستعمار الكلاسيكي, والثاني: الاستعمار بهيمنة غير مباشرة, من خلال قوّة سياسية مكوّنة بالكامل من عملاء محليين؛ ما يسمّى الإستعمار الجديد.
في الحالة الأولى (الاستعمار الكلاسيكي, يسميه الكاتب هنا "الاستعمار"), ممكن أن تعاني البنية الاجتماعية للشعب, بغض النظر عن مستوى تطوّرها, من التبعات التالية: (أ) تدمير شامل, من خلال التخلص المباشر أو التدريجي من الشعب الأصيل, ومن ثمّ استبداله بسكّان من الخارج؛ (ب) دمار جزئي, من خلال توافد كبير أو صغير للسكان من الخارج؛ (ج) حماية شكليّة, مشروطة بحصر المجتمع الأصيل في مناطق أو محميّات لا توفّر إمكانيّات الحياة, مرفوقة بغرس مجموعة ضخمة من السكان من الخارج.
الحالتان الأخيرتان, هما اللاتي يجب أن نأخذهما بعين الإعتبار في إطار إشكاليّة التحرر القومي, وهما موجودتان في إفريقيا بشكل واسع. يمكن القول أنّه في كلا الحالتين فإنّ أثر الإمبريالية على الصيرورة التاريخية للشعوب المهيمن عليها, هو شلّ وتثبيط وأحياناً قهقرة الصيرورة. إلّا أنّ هذا الشلل لا يكون مطلقاً. في أحد قطاعات النظام الاقتصاد-اجتماعي موضع البحث أو في آخر, من الممكن التنبؤ بالتحوّلات الجديرة الناتجة عن عوامل محليّة أو عن نشاط عوامل جديدة أقحمتها الهيمنة الاستعمارية, مثل إقحام المال أو تنمية المراكز الحضرية. من بين هذه التحوّلات يجب أن نتنبأ بخسارة الطبقات أو القطاعات المحلية السائدة لهيبتها تدريجياً, والهجرة الطوعية أو القسرية لجزء من الفلاحين إلى المراكز الحضرية, وما يتبع ذلك من تكوّن طبقات اجتماعيّة جديدة؛ وعمّال مأجورين, ورجال دين, وموظفين في التجارة والمهن الليبرالية, وطبقة غير مستقرّة من المعطلين عن العمل. أمّا في الريف, فيتطوّر هناك بكثافة متنوّعة جداً, وبارتباط مع المركز الحضري, طبقة مكوّنة من ملّاك الأرض الصغار. في حالة الإستعمار الجديد (نيوكولونيالي), أكانت أغلبية السكان تحت الاستعمار من أصل محلي أو كانت من أصل أجنبي, فإنّ النشاط الامبريالي يظهر على شكل إنتاج برجوازية محليّة أو شبه برجوازية, خاضعة لسيطرة الطبقة السائدة في الدولة المهيمنة.
التحوّلات في البنى الاجتماعية لا تكون ظاهرة إلى ذلك القدر في الطبقات الدنيا, وأقل ظهوراً في الأرياف التي تحتفظ بخصائص المرحلة الإستعمارية؛ إلّا أنها تظهر بوضوح في إنتاج طبقة محلية شبه برجوازية, تتطوّر عادةً من طبقة برجوازية صغيرة من البيروقراطيين, وتُبرز الاختلاف بين الطبقة الاجتماعية ووسطاء النظام التجاري (الكمبرادور), من خلال تعزيز النشاط الاقتصادي لعناصر محليّة, ما يفتح الباب لنظرات جديدة في ديناميكية المجتمع, بشكل رئيسي من خلال تطوّر طبقة عمّال في المدن, ودخول الملكية الزراعية الخاصة, والظهور التدريجي للبروليتاريا الزراعية. هذه التحوّلات -البارزة إلى هذا الحد أو ذاك- في البنية الاجتماعية, الناتجة عن ارتقاء معتبر في مستوى قوى الإنتاج, تؤثر تأثيراً مباشراً على الصيرورة التاريخية للنظام الاقتصادي الاجتماعي موضع البحث. بينما تصاب الصيرورة بالشلل الواضح في حالة الاستعمار الكلاسيكي, فإنّ الهيمنة النيوكولونيالية (الإستعمار الجديد) -ومن خلال إيقاظ البنية الاجتماعية (صراع المصالح بين الطبقات الاجتماعية المحلية أو الصراع الطبقي,)- تخلق الوهم بأنّ الصيرورة التاريخية قد عادت لمسارها التطوريّ الطبيعي. هذا الوهم يتعزز, بوجود سلطة سياسية (دولة قوميّة) مكوّنة من عناصر محليّة. في الحقيقة, هذا يكاد لا يكون وهماً, حيث أنّ خضوع الطبقة المحلية الحاكمة للطبقة الحاكمة في الدولة المهيمنة يحد أو يمنع تطوّر القوى الإنتاجية القوميّة. في الظروف الملموسة لحال اقتصاد العالم الآن, هذه التبعية مهلكة, وبالتالي فإنّ الطبقة المحلية شبه البرجوازية, حتى لو كانت وطنيّة, لن تتمكن من تحقيق مهمتها التاريخية؛ لن تتمكن من توجيه نمو القوى الإنتاجية بحريّة؛ باختصار, لا تستطيع أن تكون برجوازية وطنية. كما رأينا, فإنّ قوى الإنتاج هي القوّة الدافعة للتاريخ, والحريّة الكاملة لصيرورة تطوّرها شرط لا مناص منه لتحقيق فاعليتها السليمة.
هكذا نرى في الإستعمار وفي الإستعمار الجديد, أنّ الخصائص الجوهرية للهيمنة الإمبريالية واحدة: نفي الصيرورة التاريخية للشعب الخاضع عبر الاغتصاب العنيف لحرية تطوّر قوى الإنتاج القومية. هذه المشاهدة, التي تحدد جوهر شكلا الهيمنة الإمبريالية الظاهرين, تبدو لنا أنها على قدر كبير من الأهمية, لفكر وممارسة حركات التحرر, في سياق الكفاح وبعد الظفر بالإستقلال.
على هذا الأساس, يمكن القول أنّ التحرر الوطنيّ, هو تلك الظاهرة حيث يرفض نظام اقتصادي-اجتماعي معيّن استلاب صيرورته التاريخية. بكلمات أخرى, التحرر القومي للشعب, هو استعادة شخصيته التاريخية, عودته للتاريخ عبر تدمير الهيمنة الإمبريالية.
رأينا كيف أنّ الاغتصاب العنيف لحرية صيرورة تطوّر قوى الإنتاج في النظام الاقتصادي-الاجتماعي الخاضع للهيمنة الامبريالية, تشكّل الخصيصة المبدأية والدائمة للهيمنة الإمبريالية, بغض النظر عن شكل تلك الهيمنة. ورأينا كيف أنّ تلك الحريّة هي الضمانة الوحيدة للنمو الطبيعي لصيرورة الشعب التاريخيّة. يمكن إذن, أن نستنتج أنّ التحرر القومي يتحقق فقط حين تتحرر تماماً قوى الإنتاج الوطنيّة من أي شكل من أشكال الهيمنة الخارجية.
يقال أحياناً أنّ التحرر الوطني يرتكز أساساً على حق كل شعب بحرية التحكم بمصيره الخاص, وأنّ هدف هذا التحرر هو الاستقلال القوميّ. رغم أننا لا نختلف مع هذه الطريقة الغامضة والذاتية للتعبير عن واقع معقد, نميل إلى أن نكون موضوعيين, فالتحرر الوطني عندنا, بغض النظر عن الصيغ التي يتبناها القانون الدولي, هو حق الشعب غير القابل للمصادرة بأن يمتلك تاريخه الخاص, وهدف التحرر القومي إستعادة هذا الحق الذي اغتصبته الإمبريالية, أي تحرير صيرورة نمو قوى الإنتاج الوطنية.
لهذا, برأينا, فإنّ أيّة حركة تحرر وطني, لا تأخذ بعين الإعتبار هذه القاعدة وهذا الهدف الأساسيّان, ممكن أن تناضل ضد الإمبريالية, ولكنها بالتأكيد لن تناضل من أجل التحرر الوطني.
هذا يعني, وباستحضار الخصائص الجوهرية للاقتصاد العالمي الحالي, مع الخبرات المكتسبة في مجال الكفاح ضد الإمبريالية, فإنّ الجانب الأساسي في الكفاح ضد الامبريالية هو الكفاح ضد الاستعمار الجديد (النيوكولونيالي). علاوة على ذلك, إذا قبلنا بأنّ التحرر الوطني يتطلب طفرة أساسية في صيرورة نمو قوى الإنتاج, سنلاحظ أنّ ظاهرة التحرر الوطني مرتبطة بالضرورة بالثورة. من المهم إدراك الشروط الذاتية والموضوعية لتحقق الثورة, ومعرفة شكل النضال أو النضالات الأكثر ملائمة لإنجاز الثورة.
لن نكرر هنا أنّ هذه الظروف مواتية في المرحلة الحالية من تاريخ البشرية؛ يكفي أن نقول أنّ الظروف غير المواتية موجودة أيضاً, بقدرٍ متساوٍ على الصعيد الدولي, والصعيد الداخلي لكل أمّةٍ تكافح من أجل التحرر.
على الصعيد الدولي, يبدو لنا أنّ العوامل التالية, على الأقل, غير مفضلة لحركة التحرر القومي: الوضع النيوكلونيالي لعدد كبير من الدول, التي ظفرت باستقلالها السياسي, وتميل الآن للإنضمام لدول أخرى هي أصلاً مستقلة سياسياً وخاضعة للنظام النيوكولونيالي؛ التقدم الذي يحرزه النظام الكولونيالي (الإستعمار الجديد), بالتحديد في أوروبا, حيث تتبنّى الإمبريالية الاستثمارات التفضيلية, وتشجّع تنميّة البروليتاريا صاحبة الامتيازات, ما خفّض المستوى الثوري للطبقة العاملة؛ والموقف الصريح أو المخفي لبعض الدول الأوروبية, مثل البرتغال, التي مازالت تحتفظ بالمستعمرات؛ حيث تبنت الإمبريالية ما يسمّى سياسة "دعم الدول المتأخرة" لهدف خلق أو تعزيز شبه-البرجوازيّات المحليّة, التابعة بالضرورة للبرجوازية العالميّة, وبالتالي تعطّل مسار المستعمرات التطوري؛ ورهاب الإحتجاز والخجل الثوري الذي قاد بعض الدول حديثة التحرر –رغم ظروفها المواتية للثورة- إلى قبول المساومات مع العدو ووكلائه؛ ونمو التناقضات بين الدول المعادية للإمبريالية؛ وأخيراً, تهديد السلام العالمي, المطروح بسبب الحرب الذريّة المحتملة من جانب الإمبريالية. كل هذه العوامل عززت مواقع الإمبريالية ضد حركات التحرر القومي.
إذا كان من الممكن تفسير التدخلات الإمبريالية المتكررة, وعدائيتها العنيفة ضد الشعوب, على أنّها إشارات على يأسٍ ناجمٍ عن حجم حركات التحرر القومي, يمكن تفسيرها أيضاً, إلى مدى معيّن, بالضعف الناتج عن هذه الظروف غير المرغوبة في الجبهة العامة للكفاح ضد الإمبريالية.
على الصعيد الداخلي, نعتقد أنّ أهم نقاط الضعف أو الظروف غير المرغوبة, تقع في صميم البناء الاجتماعي-الاقتصادي, وميول تطوّره تحت الضغط الإمبريالي, أو بشكل أكثر دقة, فإنّ نقطة الضعف تقع تحديداً في غياب الأخذ بخصائص هذه البنية وتلك الميول, في تقرير حركات التحرر الوطني لاستراتيجياتها النضالية.
بقولنا هذا, لسنا نرغب بإهمال مختلف العوامل الداخلية المهمة, والتي تشكل ظروفاً غير موائمة للتحرر الوطني, مثل الاقتصاد المتأخر, وما يتبعه من تخلّف الجماهير الاجتماعي والاقتصادي, والقبليّة والعشائريّة, وتناقضات أخرى أقل أهمية. على كل حال, يتوجب الإشارة إلى أنّ وجود القبائل, لا تظهر أهميته كتناقض إلّا بالنسبة للمواقف الإنتهازية, خاصة في الجزء المتعلّق بنزع القبلية عن الفرد والجماعة, داخل حركة التحرر القومي. فالتناقضات بين الطبقات, حتى في شكلها الجنيني, أكثر أهميةً بكثير من التناقضات بين القبائل.
رغم أنّ أوضاع الإستعمار والإستعمار الجديد متطابقة في الجوهر, وأنّ الجانب الأساسي في النضال ضد الإمبريالية هو نيوكلونيالي, نشعر بضرورة التمييز في الممارسة بين هذين الوضعين. في الحقيقة, فإنّ البنية الأفقية -رغم عدم مطابقتها للمجتمع المحلي- وغياب القوّة السياسية المكوّنة من عناصر وطنية في الوضع الإستعماري الكلاسيكي, تفتح المجال لإمكانية خلق جبهة واسعة من الوحدة والنضال, وهي ضرورية لنجاح حركة التحرر القومي. إلّا أنّ هذه الإمكانية لن تلغي الحاجة للتحليل الصارم للبنية الاجتماعية المحلية, وميولها وتطورها, وللتبني العلمي لسياسات سليمة لضمان تحرر وطني حقيقي. رغم إدراكنا أنّ كل حركة أدرى بشعابها وخصوصيتها, فإنّ واحدة من هذه السياسات العامة لا غنى عنها: خلق طليعة وثيقة الوحدة, مدركة للمعنى الحقيقي والموضوعي للنضال القومي التحرري الذي ستقوده. هذه الضرورة هي الأشد إلحاحاً لأننا نعلم أنّ الوضع الإستعماري –رغم بعض الإستثناءات النادرة- لا يسمح ولا يحتاج لوجود طبقات طليعية معتبرة (إدراك طبقة العمّال لوجودها وبروليتاريا الريف) تضمن يقظة الجماهير على امتداد صيرورة التحرر الوطني. على العكس, فإنّ الخصائص الجنينية العامة للطبقة العاملة والاقتصاد, والوضع الاجتماعي والثقافي للقوى الماديّة للفلاحين –الأهم في نضال التحرر الوطني- لا تسمح لهتين القوتين الرئيستين بأن تميّزا الإستقلال القومي الحقيقي عن الإستقلال السياسي الوهمي. تلك الطليعة الثورية, الأقليّة النشطة والفاعلة, هي الوحيدة القادرة على إدراك ذلك التمييز منذ البداية, وتعلّمه للجماهير في خضمّ النضال. هذا يفسّر الطبيعة السياسية الأصولية لنضال التحرر الوطني, وإلى مدى محدد ينتج شكل النضال المهم في النتيجة النهائية لظاهرة التحرر الوطني.
أمّا في وضع الإستعمار الجديد, فإنّ هذا القدر أو ذاك من البنى الاجتماعية العمودية في المجتمع المحلي, ووجود قوّة سياسية متكوّنة من عناصر وطنية محليّة, فاقمت تناقضات المجتمع, ما جعل من الصعب -إن لم يكن مستحيلاً- إقامة جبهة عريضة كما في الوضع تحت الإستعمار الكلاسيكي. من الجانب الأول, فإنّ الآثار الماديّة (بشكل أساسي: ارتفاع نسبة الكادر المحلي, وارتفاع المبادرة الاقتصادية من عناصر محليّة, خاصّة في الحقل التجاري) والآثار النفسيّة (الفخر الناتج عن الشعور بأنّ من يحكمك هم أبناء بلدك, واستغلال التضامن الديني والقبائلي بين بعض القادة وجزء من الجماهير), الآثار الماديّة والنفسيّة معاً الناتجة عن الوضع النيوكولونيالي, نزعت فتيل الثورة من جزء معتبر من القوى الوطنية. ولكن من الجهة الثانية, الطبيعة القمعية الضرورية للدولة النيوكولونيالية ضد قوى التحرر الوطني, وشحذ التناقضات بين الطبقات, والديمومة الموضوعية لدلائل ووكلاء الهيمنة الأجنبية (المستوطنون الذين احتفظوا بامتيازاتهم, القوى المسلحّة, التمييز العرقي), نمو فقر الفلاحين, وتأثير العوامل الخارجية المقيتة, كل ذلك دفع باتجاه الحفاظ على شعلة القوميّة متوهّجة, نحو ارتقاء وعي قطاعات واسعة من الجماهير بشكل تدريجي, ونحو إعادة توحيد أغلبية السكّان, على أسس إدراك إحباط الإستعمار الجديد, أمام نموذج التحرر الوطني. بالإضافة لذلك, بينما تتحوّل الطبقة الحاكمة المحليّة تدريجياً لتصبح أكثر برجوازية, يتم إستغلال تطوّر الطبقة العاملة المكوّنة من عمّال الحضر وفلاحي الريف, على يد الهيمنة الإمبريالية غير المباشرة, ما فتح وجهات نظر جديدة عن تطوّر التحرر الوطني. يبدو أنّ طبقة العمّال, بغض النظر عن مستوى وعيها السياسي (بأخذ الحد الأدنى من وعيها, أي إدراك حاجاتها), تشكّل الطليعة الجماهيرية الحقيقية لنضالات التحرر الوطني في حالة الإستعمار الجديد. على أي حال, لن تكون قادرة على التحقيق الكامل لمهمتها في هذا النضال (الذي لا ينتهي بحيازة الاستقلال) إلّا إذا أوثقت وحدتها مع الطبقات المُسْتَغلّة الأخرى, الفلاحين بشكل عام (العمالة المأجورة, والمزارعين المأجورين, ومستأجري الأراضي, والمزارعين الصغار) والبرجوازية الصغيرة الوطنية. خلق هذا التحالف يتطلب تحشيد وتنظيم القوى القومية في إطار (أو من خلال الممارسة) منظمة سياسية قويّة ذات بناء متين.
فرق مهم آخر بين أوضاع الاستعمار والإستعمار الجديد, هو في آفاق وإمكانيات النضال ضد كلّ منهما. الوضع الإستعماري (حيث تقاتل الطبقة الوطنية قوى القمع من برجوازية الدولة الإستعمارية) يمكن أن يؤدي, بالظاهر على الأقل, إلى حل وطني سياسي (ثورة وطنية)؛ حيث تنتزع الأمة استقلالها, وتتبنى نظرياً البنية الاقتصادية الأنسب لها. أمّا وضع الإستعمار الجديد (حيث تحارب الطبقات العاملة وحلفائها معاً ضد البرجوازية الإمبريالية والطبقة الحاكمة المحلية) لا يأتي الحل وطنيّاً فقط؛ بل يتطلّب الامر تدمير البنية الرأسماليّة التي رزعتها الإمبريالية في كبد الوطن, ما يفرض ضرورة الحل الإشتراكي.
يبرز التمييز بشكل أساسي بسبب من اختلاف مستويات قوى الإنتاج في الحالتين, وما يتبع ذلك من شحذ للصراع الطبقي.
ليس من الصعب, إظهار أن هذا التمييز في هذه الأوقات نادراً ما يظهر بوضوح. من المفيد تذكّر أنه في وضعنا التاريخي الحالي –القضاء على الإمبريالية, التي تستغل كل الوسائل لإدامة سيطرتها على شعوبنا, وتوحيد الجهود الإشتراكية عبر أجزاء كبيرة من العالم- فإنّ مسارات الإستقلال القومي محصورة في خيارين ممكنين اثنين: العودة للسيطرة الإمبريالية (الإستعمار الجديد, الرأسمالية, دولة الرأسمالية), أو اتباع طريق الإشتراكية. هذه العمليّة, التي يعوّل عليها في التعويض عن جهود وتضحيات الجماهير أثناء نضالها, تتأثر إلى حد كبير بشكل النضال ودرجة الوعي الثوري الذي يقودها. الحقائق تعفينا من ضرورة إثبات أنّ الأداة الأساسية للهيمنة الإمبريالية هي العنف. إذا قبلنا بمبدأ أنّ النضال التحرري ثورة, وأنه لا ينتهي عند لحظة رفع العلم الوطني وعزف النشيد, سندرك أنّه لا يوجد, ولن يكون هناك تحرراً وطنياً بدون استخدام القوى الوطنية للعنف التحرري, للرد على العنف الإجرامي الذي يقترفه وكلاء الإمبريالية. لا أحد يشكك, في حقيقة فرض الهيمنة الإمبريالية لعنف دائم ضد القوى الوطنية, بغض النظر عن خصائصها المحليّة. لا يوجد شعب على وجه البسيطة, خضع للنير الإمبريالي (الإستعماري أو الإستعماري الجديد), حاول إنتزاع استقلاله (الإسمي أو الفعلي) بدون ضحايا. ما يهم هنا, هو تحديد أنماط العنف الواجب تبنيها, لا للرد على العنف الإمبريالي فقط, بل أيضاً لضمان انتصار القضية من خلال النضال نصراً نهائياً, وانتزاع الاستقلال الوطني الحقيقي. تجارب الشعوب المختلفة في الماضي والحاضر, والوضع الحالي لنضالات التحرر الوطني في العالم (خاصة فيتنام, والكونغو, وزيمبابوي) وديمومة العنف, أو على الأقل التناقضات والاضطرابات, في دول محددة من تلك التي نالت استقلالها عبر ما يسمّى الطريق السلميّ, لا يظهر لنا عدم جدوى المساومات مع الإمبريالية فقط, بل ويظهر أيضاً أنّ الطريق الطبيعي للتحرر الوطني المفروض على الشعوب التي تضطهدها الإمبريالية؛ هو الكفاح المسلّح.
لا نعتقد أننا سنصدم هذا التجمع, حين نقول أنّ الطريقة الفعّالة الوحيدة نحو التحقيق الحتمي لتطلعات الشعوب, بنيلها تحررها الوطني, هي الكفاح المسلّح. هذا هو الدرس العظيم, الذي لقنّه تاريخ الكفاح التحرري المعاصر لأولئك الملتزمين حق الإلتزام بجهود تحرير شعوبهم.
من الواضح أنّ كلّاً من فعاليّة هذا الطريق, واستقرار الوضع الذي ستؤدي إليه بعد التحرر, لا تعتمد على خصائص المنظمة القتالية فحسب, بل وعلى وعي وقيم أولئك, الذي سيصبحون, لأسباب تاريخية الورثة المباشرين للنظام الإستعماري أو الإستعماري الجديد. أثبتت الأحداث أنّ القطاع الإجتماعي الوحيد القادر على إدراك حقيقة الهيمنة الإمبريالية, وإدارة جهاز الدولة الموروث عن الهيمنة الإمبريالية هو البرجوازية الصغيرة المحليّة. إذا استحضرنا في الذهن الخصائص العرضية وتعقيد الميول الكامنة طبيعياً في الوضع الاقتصادي للطبقة الاجتماعية, سنرى أنّ الحتمية الخاصة في وضعنا تشكّل واحدة من نقاط ضعف حركة التحرر الوطني.
الوضع الكولونيالي, حيث يُمنع تطوّر شبه البرجوازية المحلية, وحيث لن تصل الجماهير الشعبية بشكلٍ عام إلى المستوى الضروري من الوعي السياسي, ما لم تظهر حركة التحرر الوطني, يمنح البرجوازية المحلية الصغيرة فرصة قيادة النضال ضد الهيمنة الخارجية, من حيث أنّ طبيعة وضعها الذاتي والموضوعي (مستوى معيشة أعلى من الجماهير الشعبية, واتصال أعلى مع وكلاء الإمبريالية, وبالتالي احتمالات أعلى للتعرّض للإهانة, ومستوى أعلى من الوعي السياسي والثقافي, إلخ.) إنها الطبقة الأسرع في إدراك الحاجة للتحرر من الهيمنة الأجنبية. هذه المسؤولية التاريخية المفترضة للبرجوازية المحليّة الصغيرة, يمكن تسميتها في السياق الاستعماري: ثوريّة. بينما تحتفظ القطاعات الأخرى بشكوكها اتجاه هذه الطبقات, أو بتحالفها مع الإستعمار للدفاع –وإن بشكل قبيح- عن وضعهم الاجتماعي.
وضع الإستعمار الجديد, الذي يستدعي إلغاء شبه البرجوازية المحلية الضرورية لتحقيق التحرر الوطني, يمنح البرجوازية الصغيرة فرصة لعب دور رئيسي وحاسم في النضال من أجل إلغاء الهيمنة الأجنبية. ولكن في هذه الحالة, وبحكم تطوّر البنية الاجتماعية, يتم تقاسم مهمة قيادة النضال (إلى هذا القدر أو ذاك مع القطاعات الأكثر تعلّماً من الطبقة العاملة, بل ومع بعض العناصر من شبه البرجواية الوطنية, الملهمة بالروح الوطنية.) دور البرجوازية الصغيرة المشاركة في قيادة النضال, على قدر كبير من الأهمية, لأنّها في حالة الاستعمار الجديد, اشكل القطاع الأكثر ملاءمة لتلك المهام, بسبب حدود الجماهير العاملة الاقتصادية والثقافية, وبسبب تعقيدات وحدود الطبيعة الإديولوجيّة التي تشكّل خصائص قطاع شبه البرجوازية الوطنية الداعمة للنضال. في هذه الحالة, من الضروري ملاحظة أنّ الدور المنوط بهذا القطاع من البرجوازية الصغيرة, يتطلب منها وعي ثوري أعظم, وقدرة على التعبير الصادق والأمين عن تطلعات الجماهير في كل مرحلة من مراحل النضال, وفي دمج أنفسهم أكثر مع الجماهير.
مهما بلغ مستوى الوعي الثوري لقطاع البرجوازية الصغيرة المطلوب لتحقيق هذه المهمة التاريخية, فهي لا يمكنها تحرير نفسها من الواقع الموضوعي: البرجوازية الصغيرة, كطبقة خدمية (غير منخرطة فعلياً في العملية الإنتاجية) تفتقد للقاعدة الاقتصادية الضامنة للاستيلاء على السلطة. في الحقيقة, أظهر التاريخ, أنه مهما كان الدور –أحياناً مهم- الذي يلعبه أفراد البرجوازية الصغيرة في صيرورة الثورة, فإنّ هذه الطبقة لن تحوز السيطرة السياسية أبداً. ولن تحوزها, لأنّ السيطرة السياسية (الدولة) مبنية على أسس القدرة الاقتصادية للطبقة المسيطرة, وفي شروط مجتمع الاستعمار والاستعمار الجديد, فإنّ هذه القدرة تصان عبر كيانين: رأس المال الامبريالي أوالطبقات العاملة المحليّة.
للحفاظ على السلطة التي يمنحها إيّاها التحرر الوطني, ليس أمام البرجوازية الصغيرة إلّا مسار واحد: إطلاق العنان لميولها الوطنية لتتبرجز, والسماح بتطوّر البرجوازية البيروقراطية والوسيطة في الدورة التجارية, في سبيل تحويل ذاتها إلى شبه برجوازية وطنية, أي في سبيل نفي وخيانة الثورة وحليفها الضروري. أمّا في سبيل عدم خيانة هذه الأهداف, ليس أمام البرجوازية الصغيرة إلّا خيار واحد: تمتين وعيها الثوري, ورفض إغراءات صيرورتها نحو التبرجز, ورفض الإهتمامات الطبيعية لعقليتها الطبقية, ودمج نفسها في الطبقات العاملة, وعدم معارضة التطوّر الطبيعي لصيرورة الثورة. هذا يعني, أنّه وفي سبيل التحقيق الحقيقي لدورها في نضال التحرر الوطني, يجب على البرجوازية الصغيرة امتلاك القدرة على الإنتحار كطبقة في سبيل الإنبعاث من جديد كعمّال ثوريين, يجب عليها الإندماج الكامل مع أعمق تطلعّات الشعب الذي تنتمي إليه.
هذا الخيار – بين خيانة الثورة أو الانتحار الطبقي- يشكّل حيرة البرجوازية الصغيرة في الإطار العام للنضال من أجل التحرر الوطني. الحل الإيجابي من وجهة ثورية, يعتمد على ما أسماه فيديل كاسترو بصواب: تطوّر الوعي الثوري. أساسية الوعي الثوري هنا, تستدعي انتباهنا لقدرات قيادة نضال التحرر الوطني, وإخلاصهم لمبادئ النضال وقضيته الجوهرية. هذا يظهر لنا, إلى مدى محدد, إذا كان التحرر الوطني قضية سياسية في الأساس, فإن شروط تطوّره سترسم خصائصه المحددة المنتمية لدائرة القيم والأخلاق.
لن نهتف بهتافات الفرح والنصر, ولن نعلن تضامننا مع نضال هذا الشعب أو ذاك. فوجودنا في حد ذاته, يمثّل نداءاً لإدانة الإمبريالية, ودليل ملموس على تضامننا مع كل الشعوب الراغبة في طرد النير الإمبريالي من أراضيها, وجودنا بحد ذاته, يمثّل تضامناً ملموساً مع هذه الشعوب, وبالتحديد الشعب الفيتنامي. إلّا أننا نعتقد بحسم, أنّ أفضل دليل نقدمه على موقفنا المعادي للإمبريالية, وتضامننا النشط مع رفاقنا في هذا النضال المشترك, هو العودة لبلادنا, لتطوير هذا النضال, والإخلاص لمبادئ وأهداف التحرر الوطني.
أمنيتنا, أن تتمكن كل حركة تحرر موجودة معنا الآن, من ترديد الصرخة الكوبية الأسطورية في بلادها, وقد استلّت سواعدها السلاح, بروح واحدة مع شعبها:

Patria O Muerte, Venceremos!

الوطن أو الموت, النصر لنا!

الموت لقوى الإمبريالية!

الحرية والإزدهار والسعادة لشعوبنا!

Venceremos!

النصر لنا!