اليسار و«الاستفتاء» في إقليم كردستان.. ما العمل والمهمات؟


رزكار عقراوي
2017 / 10 / 14 - 23:19     

1- المقدمة

القوى اليسارية في العراق كانت سباقة في النضال مِنْ أجل حقوق القوميات والأقليات والدفاع عنها، ونادت بحقها في تقرير مصيرها منذ بداية تشكل أولى التنظيمات الشيوعية واليسارية في ثلاثينات القرن المنصرم، وكان لها موقفٌ امميٌّ واضح وأعطت مثلاً إنسانياً رائعاً لأحزاب تضم كافة القوميات والأقليات الموجودة في العراق، وكانت الوحدة الأممية الطبقية أحد الروابط الأساسية في تلك التنظيمات السياسية.
ومع أن للكثير من القوى والشخصيات اليسارية العراقية والكردستانية موقفاً داعماً ومؤيداً لحق تقرير المصير للشعب الكردي من خلال استفتاء ديمقراطي، ولكنّها لم تدعم أو تؤيّد استفتاء 25 أيلول/سبتمبر الذي أُجري في إقليم كردستان العراق. وذلك لأسباب كثيرة، منها: افتقاده إلى أبسط مقومات الاستفتاءات الديمقراطية حسب القانون الدولي وحتى بمعايير العالم الثالث، وعدم شرعيته، وتوقيته غير الملائم، وغياب التوافق المحليّ عليه، وعدم إشراك جميع الأطراف به، إضافة إلى غياب الدعم والإشراف الدولي على إجراءاته.
موضوعة الاستفتاء، وإيجاد حلول للمشكلات القومية في العراق، من الممكن أن تتعدَّد آراء واجتهادات اليسار العراقي والكردستاني بشأنها، وأرى أنَّ بعض الرفاق والرفيقات الأعزّاء الذين أكنّ لهم كل الاحترام والتقدير كأشخاص وأحزاب يسارية ولهم دور نضالي معروف في الدفاع عن حقوق الجماهير الكادحة، وكان لي شرف النضال والعمل التنظيمي معهم أو تربطني بهم علاقات رفاقية أعتز بها كثيراً، اختاروا أن يتبنّوا سياسات أخرى وطرحوا حلولاً للمشكلة القومية في العراق من الممكن أن تكون خاطئة ولا تصب في صالح الجماهير، بل يمكن حتى أن تكون داعمة بشكل غير مباشر لأحد طرفي أقطاب الحكم والصراع القومي المقيت في العراق.
اليسار، برأيي، يجب أن لا يقف مع «حكامه القوميين» سواء أكان ذلك وفق مفهوم «التحرر القومي» في أربيل أو «الدفاع عن الوطن ووحدته» في بغداد، وقد أثبتت تجارب الجماهير مع حكمهم الفاسد والمستبد أن ذلك ليس إلا ذريعة وغطاء لتعزيز حكمهم الدكتاتوري وترسيخه. حيث في الإقليم اختاروا دون قيد أو شرط دعم وترسيخ سلطة حزب دكتاتوري ورئيسه باسم الاستفتاء الجماهيري الديمقراطي للقومية «المظلومة»، وفي العراق أيَّد بعض التنظيمات والرفاق والرفيقات الأعزّاء من اليسار إجراءات وقرارات حكومة الإسلام السياسي الشوفينية في بغداد بحق سكّان إقليم كردستان ما بعد الاستفتاء، بل إن البعض منهم رفض حتى مبدأ حق تقرير المصير من خلال استفتاء ديمقراطي.
وسأحاول هنا طرح وجهة نظري التي تقبل الخطأ والصواب حول «اليسار المؤيد للاستفتاء» و«اليسار الرافض لحق تقرير المصير» والنقاط التي تم الاستناد إليها في أطروحاتهم وفق الوقائع الحالية، وما العمل لحل المشكلات القومية في العراق ومهمات اليسار.



2- اليسار المؤيد للاستفتاء

2.1- اليسار الكردي والانفصال القومي تنظيميا....

لدينا حالة مهمة في العراق تستحق التوقف عندها ودراستها وأعتقد أنها تتطلب معالجة مستقلة بحد ذاتها ولنا كيسار تجارب مماثلة في دول أخرى، وهي أن اليسار الكردستاني قد اختار الانفصال والاستقلال عن اليسار العراقي قبل أن تطرح القوى القومية الكردية الانفصال والاستقلال القومي؛ فقد انشق الحزب الشيوعي الكردستاني طوعياً عن الحزب الشيوعي العراقي في العام 1993، وكذلك انشق الحزب الشيوعي العمالي الكردستاني طوعيا أيضا في 2008 عن الحزب الشيوعي العمالي العراقي. وأثبتت الوقائع الحالية أن الأسس والأسباب التي استند إليها اليسار الكردي في تكوين أحزابه اليسارية القومية المستقلة آنذاك لم تكن صائبة ولم تؤدِّ إلى تقويتها وتعزيز وجودها بين الجماهير الكادحة في الإقليم كما كان مؤمّلاً. بل إنَّ العكس هو ما حدث؛ فقد تراجعت وأصبحت أحزاباً صغيرة ذات تأثير محدود جداً. وقد انعكس هذا الانشقاق القومي الجغرافي بشكل سلبي كبير على عموم اليسار في العراق. وبرأيي أن هذه الانشقاقات الطوعية تعود إلى حصول نوع من الانفصال الإداري - الحكومي بين الإقليم والمركز، ووجود مشكلات قومية معقدة في العراق، وقوة ونفوذ التيار القومي العربي والكردي وانعكاسه على عموم المجتمع بما فيه قوى اليسار، وكذلك التوجه لتغليب البعد القومي على البعد الإنساني الطبقي في بعض أحزاب اليسار، وتراجع اليسار بشكل عام محلياً وإقليمياً وعالمياً ولأسباب مختلفة.


2.2- هل الاستفتاء يعبر عن إرادة الجماهير؟

من خلال متابعتي المتواصلة لم أسمع بأي مظاهرة أو تحشيد جماهيري كبير في إقليم كردستان العراق طالب بالاستفتاء والاستقلال في السنوات الأخيرة، ولم يكن مطلب الاستفتاء أحد الشعارات الرئيسية في المظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية عام 2011 التي عمت مدن الإقليم بعد الربيع العربي؟ بل كانت كلها تطالب بالخدمات والرواتب والعدالة والحقوق الإنسانيّة والديمقراطية، وتناهض فساد حكام الإقليم واستبدادهم، وكان لمعظم قوى اليسار في إقليم كردستان دور نضالي قدير ومشهود فيها. لم أسمع أن رفاقي ورفيقاتي في اليسار المؤيد للاستفتاء أجروا إحصائيات دقيقة من خلال استبيانات واستطلاعات رأي فتبيَّن لهم أن الاستفتاء هو المطلب الآني الأساسي للجماهير الكادحة في الإقليم! بل إنَّني لم أرَ أنَّ مطلب الاستفتاء كان المطلب الأساسي لمعظم الكتل والأحزاب في الإقليم بشتى توجهاتها الطبقية. وإذاً، فكيف برز الاستفتاء فجأة مِنْ دون سابق إنذار كمطلب جماهيري ملحّ؟! ونرى أيضا انه حتى بعد مضى ما يقارب أكثر من ثلاث أسابيع على الاستفتاء لم يخرج أي نوع من المظاهرات الجماهيرية في مدن الإقليم تطالب الحكام بتنفيذ قرار الجماهير (الأغلبية) المصوتة للانفصال! وهذا يؤكّد أن «الجماهير» لم تنطلق عفوياً بالاستناد إلى حاجاتها قبل وبعد الاستفتاء، بل حركها الحزب الرئيسي الحاكم وحلفاؤه. ويعكس هذا، برأيي، ضعف جماهيرية قرار الاستفتاء وانشغال الجماهير بمشاكلها الحياتية اليومية المتفاقمة في ظل سلطة الفساد والاستبداد في الإقليم.
إذاً، إضفاء كلمة الجماهيري على الاستفتاء وأنه يعبر عن إرادة جماهير إقليم كردستان وحاجاتها الملحة الآن ليس له أساس علمي، بل هو خاطئ وغير واقعي. الأحزاب القومية الكردية الحاكمة، وبالأخص الحزب الديمقراطي الكردستاني، استطاعت جر الأحزاب القومية الأخرى وجزءاً من الجماهير بطرق شرعية وغير شرعية إلى قضية الاستفتاء بحكم ما تملكه من الإمكانيات المالية والعسكرية والإعلامية وسيطرتها على معظم مفاصل السلطة والنفوذ والمال في الإقليم، واستخدام «الأحاسيس القومية» وتأجيجها تحت غطاء حق تقرير المصير. وباعتقادي أن «الاستفتاء» لم يكن مطلب جماهير كردستان الملحّ الآن.

2.3- أطروحة القومية الظالمة والقوميّة المظلومة!

للأسف، اليسار المؤيد للاستفتاء ردد نفس أطروحات الأحزاب القومية الحاكمة في وجود اضطهاد للقومية الظالمة «العرب» على القومية المظلومة «الكرد» وأحياناً كانوا ملكيين أكثر من الملك! وكما أشرت في مقالاتي السابقة كان هناك اضطهاد قومي صارخ وعنيف في العراق قبل العام 2003 ولكن بعد ذلك ووفق صفقات القوميين الأكراد مع قوى الإسلام السياسي في العراق، تحول إقليم كردستان إلى دولة قومية كاملة تقريبا تنقصها بعض المقومات الشكلية، وبالتالي انتهى الاضطهاد القومي. ومن خلال متابعتي لم أرَ أي تقرير من منظمات حقوق الإنسان الدولية يشير إلى وجود حالات للاضطهاد القومي على الأكراد في العراق ما بعد 2003، بل بالعكس تمت ممارسة الظلم القومي بحق القوميات والأقليات الأخرى في الإقليم وتمت إدانة ذلك من منظمات حقوق الإنسان الدولية (وبالأخص منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش) مرات عدة، ومنها سياسات «التكريد» المقيتة بحق سكان ما سمي بالمناطق المتنازع عليها. لذا أعتقد أن استخدام نصوص ماركسية حول القوميات الظالمة والمظلومة هنا، وكأنها نصوص قرآنية معصومة من الخطأ وصالحة لكل الأزمان والأمكنة لا تتلاءم مع حالة الإقليم وموضوعة الاستفتاء.
الواقع الحقيقي هو أن الأحزاب القومية الكردية كانت أحد أقطاب الحكم الرئيسية في العراق وشاركت مع أحزاب الإسلام السياسي في إشاعة الدمار والعنف والحروب والفقر والفساد والظلم والمآسي التي تمر بها شعوب العراق جمعيها الآن. ولم يعد سراً أن أحد أقطاب الطبقة البرجوازية الحاكمة الرئيسية في الإقليم والمشارك في حكومة بغداد «الحزب الديمقراطي الكردستاني» كان في أزمة عميقة وفي مشاكل متفاقمة في الإقليم مع الأطراف السياسية الأخرى ومع المركز، وأراد من خلال «الاستفتاء» تعزيز وترسيخ موقعه محلياً وإقليماً ودولياً وتمديد رئاسة مسعود البرزاني الذي فقد الشرعية منذ سنوات وفق أجندتهم وأجندة القوى الإقليمية والدولية المتحالفة معهم، والتحضر لمرحلة ما بعد «داعش» في العراق والإقليم والمنطقة. أصل الصراع هو بين أقطاب البرجوازية الحاكمة في العراق وليس ما يسمى بالقومية «الظالمة» والقومية «المظلومة» وليس هناك «معتدي» و«معتدى عليه» في هذا الصراع البعيد كل البعد عن مصالح الجماهير الكادحة.


2.4- حل المشكلة القومية؟ ام الهاء الجماهير وتهميش الصراع الطبقي؟

برأيي أن أحد أهم أهداف الاستفتاء غير المعلنة كانت إجهاض أو تأخير أي استفتاء ديمقراطي حقيقي ملزم وجدي لتقرير مصير ساكني إقليم كردستان بشكل سلمي حضاري بإشراف دولي تشترك فيه الأطراف المختلفة، وبدلاً مِنْ ذلك، إبقاء الورقة القومية المربحة بيد الطغمة الطفيلية الحاكمة في الإقليم. ولا أعلم كيف لليسار والتقدميين، إذا اقتنعوا بضرورة الاستفتاء كمطلب جماهيري ملح الآن وأن الظروف مناسبة لإجرائه، أن يشتركوا و يؤيدوا استفتاءاً غير ملزمٍ! ومِنْ دون غطاء أو دعم دولي؟ ما الذي اختلف، إذاً، عن استفتاء 2005؟ إنه كما أشار رموز الحزب الديمقراطي الكردستاني بعد يوم واحد من الاستفتاء انه «استبيان» لا أكثر! هل أصوات الجماهير لعبة بيدهم؟ وأكيد أن الأحزاب القومية الحاكمة ستستخدم وتستثمر «التفويض الجماهيري!» فقط لتقوية مركزها لا أكثر للمزيد من الصفقات والامتيازات التي تطمع بها داخلياً وإقليمياً وعالمياً.
وكما نرى أن أحد نتائج الاستفتاء كانت تصاعد لغة الحرب وخطاب التعصب والكره القومي في عموم العراق والإقليم، وتأجيج الحساسيات القومية بشكل كبير بدلاً من حلها. وللأسف، فإنَّ رفاقاً من اليسار اختاروا أن يقدموا النضال «القومي!» على النضال الطبقي والأممي، ومهما كانت تبريراتهم الفكرية للوقوف مع «حزب دكتاتوري ورئيسه» ضدّ ما سمي بـ «العدو القومي»، فإنَّهم يشاركون الآن بشكل غير مباشر في جر عموم ساكني العراق والإقليم إلى صراعات وحروب عنيفة، وإدخال الجماهير الكادحة وخصوصاً في الإقليم في أزمات سياسية واقتصادية أعمق (كما نرى الآن)، وتهميش الصراع الطبقي والهاء الجماهير الكادحة عن مشاكلها اليومية أو المطالبة بحقوقها في الخدمات والرواتب والعدالة والكهرباء والماء والعمل وتخفيض أسعار السلع..... الخ. وكان ذلك أفضل هدية قدمت لطغمة أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة في بغداد للتنفيس عن أزماتها العميقة.
ورغم الرفض الدولي وتهديدات دول الجوار التي من الممكن أن تخلق أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية قوية وحتى صراعات مسلحة، لم يتراجع اليسار المؤيد للاستفتاء عن دعمه له غير أبهين بالتأثيرات السلبية الكبيرة التي من الممكن أن تنعكس على الجماهير الكادحة في الإقليم وعموم العراق.

2.5- موقف اليسار المؤيد للاستفتاء من «ديمقراطية!» العملية الانتخابية.

اليسار المؤيد للاستفتاء يطرح أن أغلبية جماهير كردستان «صوتت بنعم» وأنَّ ذلك يعبر عن إرادتها، ولكن هم يعلمون قبل الجميع أجواء القمع والخوف والتخوين وهستيريا التعصب القومي، والانتهاكات والتهديدات العلنية التي رافقت عملية الاستفتاء وخصوصاً في مناطق سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني، سيطرة الحزبين الحاكمين على كل الأجهزة العسكرية والأمنية والحكومية، وكذلك افتقاد «العملية الانتخابية للاستفتاء» إلى مؤسسات مستقلة ونزيهة للإشراف عليه وإدارته، فتجربة السنوات الماضية أثبتت لنا أن الأحزاب الحاكمة والمتنفذة في إقليم كردستان وعموم العراق، قد استخدمت كل الطرق الملتوية والتزوير والرشوة واستخدام المال السياسي، وسطوة الميلشيات الحزبية وقمع الرأي الآخر.. الخ، لفرض سلطتها وتمرير سياساتها من خلال «انتخابات» شكلية تحت إشراف «مفوضيات مستقلة!» هي بالأساس مستندة إلى التقسيم الطائفي والقومي والحزبي ويسودها الفساد الكبير وتفتقد إلى النزاهة، وكل هذا في غياب إشراف دولي ذي مصداقية على العملية الانتخابية، ومع ذلك فإنَّ نسبة مقاطعة الاستفتاء قد قاربت النصف حسب الإحصائيات المستقلة، ولم تؤيد أي جهة دولية رسمية أو غير رسمية ذات مصداقية النتائج الرسمية التي أعلنت من قبل حكام الإقليم.
للأسف، فإنَّ ذلك يعطي انطباعاً سلبياً، ومن الممكن أن يعكس ازدواجية في المواقف وخللاً كبيراً في المصداقية الديمقراطية لليسار المؤيد للاستفتاء، حيث أن اليسار يجب أن يدافع عن ديمقراطية العملية الانتخابية ونزاهتها بغض النظر عن ما إذا كان مؤيداً أو معارضاً للسلطات الحاكمة وإجراءاتها وقراراتها، ومِنْ واجبه أنْ يطالب بتوفير أجواء ديمقراطية مناسبة وآليات مرنة لكي تعبر الجماهير عن رأيها بحرية.. سواء بالمقاطعة أم بالتصويت بـ «نعم» أو بـ «لا» وإلا فإنَّه سيعتبرها غير ديمقراطية ولا يجوز المشاركة فيها. لكنَّه، للأسف، لم يقم بإدانة التجاوزات الصارخة والتزوير المفرط وكل الإجراءات غير الديمقراطية التي رافقت الاستفتاء، بل اعتبرها شرعية بالكامل! واعتبر نتيجة الاستفتاء تعبّر عن رأي أغلبية الجماهير في الإقليم رغم المقاطعة الكبيرة، لكونه، أي ذلك اليسار، من مؤيدي الاستفتاء ومع توجه السلطة الحاكمة في الإقليم لا غير. وأرى أن نسبة المقاطعة الكبيرة جداً للاستفتاء أو التصويت بـ «لا» عكست موقفاً ثورياً جريئاً لجماهير كردستان بوجه الطغمة الحاكمة في الإقليم وممارساتها.


3- اليسار الرافض للاستفتاء وحق تقرير المصير

بعض الرفاق والرفيقات الأعزّاء من اليسار في العراق كتنظيمات وكشخصيات، لا يتقبلون إلى الآن حق تقرير المصير لساكني إقليم كردستان كمفهوم مبدئي عام، لا بل إنَّهم يقفون ضده. ومن هذا المنطلق، وقفوا مع حكام بغداد ومع إجراءاتهم الشوفينية بحق ساكني الإقليم، ويستندون في ذلك إلى الدفاع عن وحدة «الوطن» العراقي ومناهضة تقسيمه ويدعون إلى الاستناد إلى «الدستور»، وبشكل عام مواقفهم في هذه القضية المهمّة تقترب من أو هي مؤيدة بشكل عام لتوجهات الحكومة العراقية وقوى الإسلام السياسي الحاكمة.

3.1- وحدة الوطن مناهضة التقسيم

أحد مبررات رفض مبدأ حق تقرير المصير وحق الانفصال من خلال استفتاء ديمقراطي هو من أجل الدفاع عن سيادة الدولة ووحدة الأراضي العراقية والثوابت والمبادئ الوطنية، ومناهضة التقسيم واعتبار الحدود العراقية أمراً مقدساً لا يجوز المساس بها وأي توجه نحو ذلك يعتبر من جرائم الخيانة العظمى! وكما هو معلوم، العراق دولة أُنشئت وفق اتفاقية سايكس بيكو 1916، وتم دمج قوميات وأديان مختلفة في وحدة قسرية استناداً إلى مصالح الدول الاستعمارية آنذاك واتفاقياتها في تقسيم الشرق الأوسط. لذلك، أعتقد ان وحدة أراضي العراقية ليست بالأمر المقدس الذي لا يجوز التفريط به، ولا تعني الكثير برأيي في مقابل حياة وحقوق الجماهير الكادحة وتوفير أجواء آمنة لعموم المجتمع، وأعتقد كماركسيين ويساريين علينا أن ننبذ الوحدة القسرية بين الشعوب وأن ندعم التعايش والوحدة الطوعية على أساس المواطنة المتساوية، وفي نفس الوقت نؤيد وندعم أيضاً حق تقرير المصير بما فيه الانفصال وتشكيل دول مستقلة لكل ساكني العراق، سواء أكان على أساس قومي، أم جغرافي، أم مناطقي.... الخ، إذا كان ذلك سيعطي حقوقاً ومساواة أكثر وحياة أفضل لهم، وسيخفف من حدة الصراع والتناحر القومي والديني والطائفي كما يجري الآن في العراق.

3.2- الشوفينية القومية ورفض مبدأ حق تقرير المصير

الكثير من رفاق ورفيقات وتنظيمات اليسار في العراق مازالوا تحت تأثيرات الفكر القومي العروبي المتعصب، الذي يرى في أي توجه للأقليات للمطالبة بالحقوق القومية أو الانفصال في دول العالم العربي مؤامرة استعمارية - إسرائيلية ليس هدفها إلا لتفتيت الدول العربية وضرب وحدتها، في حين أنَّهم يطالبون ويناضلون من أجل أن يتمتع الشعب الفلسطيني بحق تقرير مصيره و تشكيل دولته المستقلة، ينفون ذلك الحق عن الشعوب والأقليات غير العربية في دول العالم العربي وبل يقفون ضده. اعتقد انه على قوى اليسار في العراق وعموم العالم العربي والشرق الأوسط ان تناضل وتدعوا كافة القوميات إلى الوحدة الطوعية وفق مبدأ المواطنة وفصل الدين عن الدولة وتوعية الجماهير الكادحة بروح الإخاء الإنساني والمساواة القومية والدينية الكاملة، ولكن في نفس الوقت الدفاع عن حق الأقليات القومية الكامل والشرعي في تقرير المصير سواء بالبقاء في أطر الدول الحالية بأي شكل كان (الحكم الذاتي، الفيدرالية، والكونفدرالية..... الخ )، أو الانفصال وتشكيل دول مستقلة، وهذا لا يشمل العراق فقط، بل الكثير من الدول العالم العربي التي فيها مشاكل قومية وأثنية.

3.3- الدعوة للالتزام بالدستور وتأييد الحكومة والبرلمان

للأسف، أيد بعض الرفاق والرفيقات الأعزّاء من اليسار إجراءات وقرارات حكومة الإسلام السياسي الطائفية – الشوفينية وبرلمانها في بغداد بحق ساكني إقليم كردستان، وهما يعتبران مِنْ أفسدِ وأسوأ الحكومات والبرلمانات في العالم. وأيدوا، أيضاً، قرار المحكمة الاتحادية مع علمهم بعدم نزاهة القضاء العراقي وانعدام استقلاليته، ومنها إجراءات مجحفة ستؤثر سلباً بشكل كبير على الجماهير الكادحة وعموم المجتمع، ولن تتأثر بها الطغمة الحاكمة في الإقليم، بل إن البعض منهم رفض بشكل تام مبدأ حق تقرير المصير من خلال استفتاء ديمقراطي سلمي مستندين إلى «الدستور العراقي»، الذي صيغ وفق توافقات قوى الإسلام السياسي والقوى القومية الكردية وحلفائهم، في حين أنَّه حق مكفول ومعترف به في القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان الدولية ومستمدة من الأفكار الماركسية واليسارية ومنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، ويجب أن لا يخضع لتفسيرات دستورية محلية. وللأسف، لم يدينوا بشكل واضح التلويح بالحصار الاقتصادي والتدخل العسكري وتدخل الدول الإقليمية وخصوصاً الأنظمة الدكتاتورية في إيران وتركيا وتعاون حكومة بغداد الجبان والمدان معهم، والإجراءات والمناورات العسكرية المشتركة لتهديد سكّان الاقليم، بل، للأسف الشديد، أن قسماً قليلاً طالب الحكومة بإجراءات أشد ومنها العسكرية.


4- ما هو البديل لحل المشكلات القومية في العراق؟

لحل المشكلات القومية في العراق والتوصّل إلى تحديد واضح لعلاقة الإقليم مع المركز ونوعها ومصير المناطق المتنازع عليها، أنا مع إجراء استفتاءات ديمقراطية سلمية ملزمة للمركز والإقليم وبإشراك الأطراف المختلفة بعد فترة تحضير مناسبة، وأعتقد أن على قوى اليسار في العراق والإقليم تبني حل تدخل الأمم المتحدة، ومطالبة كافة الأطراف بالبدء بالحوار السلمي والمفاوضات تحت إشراف دولي لحل كافة المشكلات القومية في العراق وليس الكردية فقط، وأن نطالب بتشكيل لجنة - بعثة أممية دائمية تشرف على ذلك، وتكون مهمتها الأساسية إيجاد حل سلمي وفق القانون والمواثيق الدولية وتوفير الأجواء الملائمة لذلك.
طرحي لحل الأمم المتحدة يستند للأسباب التالية:
- باعتباره هو أفضل الحلول الموجودة الآن، حيث أحياناً بسبب ضعف القوى اليسارية والتقدمية في المركز والإقليم لا بد أن نختار بين السيء والأسوأ الآن، رغم تحفظي الكبير على سياسات الأمم المتحدة وهيمنة الدول الرأسمالية الكبرى عليها.
- سيطرة الفكر القومي الشوفيني العروبي - الإسلامي المتعصب على معظم النخب السياسية العراقيّة، يؤجِّج النزعة الإقصائية تجاه القوميات والأديان الأخرى في العراق.
- استخدام الطغمة الحاكمة في الإقليم للقضية القومية الكردية لترسيخ دكتاتوريتها، واحتكار الحزبين الحاكمين للسلاح في الإقليم وسيطرتهم الحزبية على كافة القوى العسكرية والأمنية التي تعمل كميلشيات حزبية، بحيث يجعل مصداقية أي عملية انتخابية في الإقليم ضعيفة، ففي ظل سطوة تلك القوى لا يمكن للرأي الآخر المعارض لها أنْ ينشط بحرية في حالة عدم وجود ضغط وإشراف دولي.
- الضعف الكبير في المؤسسات الدستورية وعدم وجود مفوضية انتخابات ديمقراطية ونزيهة مستقلة سواء في بغداد أو أربيل.
- عدم وجود قضاء مستقل ونزيه وغياب الفصل بين السلطات في المركز والإقليم.
- قطبا الحكم يفتقدون إلى المصداقية والنزاهة لحل المشكلة القومية في العراق، ولذلك لابد من وجود إشراف وضغط دولي.
- إشراف الأمم المتحدة من الممكن أن يؤدي إلى إعاقة أو على الأقل إضعاف التدخل السلبي للدول الإقليمية.
- الاستفادة من الخبرة الكبيرة للأمم المتحدة في حل المشكلات القومية وإدارة وتقديم الدعم والخبرة والتدريب في حالة موافقة الأطراف المختلفة على إجراء استفتاء ديمقراطي تحت إشراف دولي.
- من الضروري وجود دور وإشراف أمميّ مؤثر في تقرير مصير المناطق المتنازع عليها ذات التنوع القومي والديني الكبير مثل منطقة كركوك وسهل نينوى، وأن يكون لها استفتاءات محلية خاصة بها.


5- مهمات اليسار

لقد تم جر الجماهير بشكل أكبر إلى الصراعات القومية في فترة ما بعد الاستفتاء والتي تعمقت أكثر الآن، وتم إلهائها بشكل كبير عن المطالبة بحقوقها وإيجاد حلول لمشاكلها اليومية في عموم أنحاء العراق، وخلقت أجواء من القلق والتوتر والخوف بين عموم الجماهير من المستقبل والحروب. الأحزاب القومية الكردية وقوى الإسلام السياسي الحاكمة كانت بأمس الحاجة إلى هكذا صراع مقيت، لصرف الأنظار عن سياستها الفاسدة والمستبدة وترسيخ سلطتها الكالحة، وللأسف نجحت في ذلك والذي حصل كان «انتصاراً وقتياً» للطغمة الحاكمة في إقليم كردستان وأحزاب الإسلام السياسي والحكم الرجعي في بغداد، وهم عاجلاً أم آجلاً سيرجعون ويتفاوضون حول تقسيم السلطة والسرقات ويتحالفون معاً مرة أخرى، لإدامة حكمهم المشترك المستبد والفاسد الذي خلق المآسي والحرمان والفقر لعموم ساكني العراق وإقليم كردستان. ولمواجهة ذلك الأن أعتقد أن على قوى اليسار في العراق والإقليم ما يلي:

- أن تدين بشدة لغة السلاح وفرض الأمور بالقوة العسكرية من كل الأطراف وبأي تبريرات كانت، وتقف ضد تصاعد لغة الكره والتعصب والحقد والاستعلاء القومي سواء أكان عربياً أم كردياً أم تركمانياً......الخ، وضد الحكم الفاسد في بغداد وأربيل وسياسات الاستبداد والنهب والإفقار، والتركيز على النضال من أجل الدولة المدنية، والدفاع عن حقوق الجماهير الكادحة وحقوق الإنسان والحريات والمساواة والمواطنة والعدالة الاجتماعية.
- تبنّي حل الأمم المتحدة لحل المشكلة القومية في العراق، والنضال والدفاع وتوعية الجماهير بالوحدة الطوعية الإنسانية وفق مبدأ المواطنة المتساوية في العراق لكل القوميات والأديان، وفي نفس الوقت الإقرار بحق القوميات الساكنة في العراق في تقرير المصير بما فيه الانفصال وتشكيل دول مستقلة.
- الدفاع عن الحقوق الإنسانية المتساوية لسكان ما سمي بالمناطق المتنازع عليها ذات التنوع القومي والديني، ومناهضة سياسات الاضطهاد القومي المقيتة سواء أاتخذت شكل «التعريب» أو «التكريد»، ولحين تقرير مصيرها بشكل ديمقراطي أرى من الأنسب أن تكون تحت إشراف دولي وبإدارة ذاتية مشتركة من ساكنيها.
- يفصل خطه عن البارزاني واستفتائه وعن خط العبادي وإجراءاته العقابية الشوفينية، ويقر بان الطرفين يقفان في الجبهة المعادية للجماهير الكادحة.
- التركيز على هويتنا الإنسانية قبل القومية، وأن نوضح أن الصراع الحالي هو ليس بين شعوب العراق وخصوصاً «العرب والكرد»، بل هو صراع فج وقذر بين الطبقات الحاكمة في بغداد واربيل وحلفائهم الإقليمين والدوليين باسمنا وفق نظام حكمهم المستند إلى المحاصصة الطائفية والقومية المقيتة.
- التفكير في إعادة توحيد أحزاب اليسار في العراق والإقليم بعد الفصل التنظيمي الذي حصل، وخلق نوع من ألآليات التنظيمية المرنة لكي توحد وتنسق عملها على صعيد البلد الواحد.
- أحزاب اليسار والقوى التقدمية في العراق والإقليم مطالبة قبل أي وقت مضى بالتقارب وتعزيز العمل المشترك وصولاً الى تحالف يساري - ديمقراطي واسع.
- ...................


6- الخاتمة

كماركسيين ويساريين لا بد أن نتعامل بعقلانية علمية وندرس الظروف المحلية والإقليمية والدولية، وموازين القوى الطبقية وقدرات وقوة «أعدائنا»، والإمكانيات الواقعية لتحقيق الحلول التي نطرحها وآلياتها، ونتجنب المشاركة في جر الجماهير الى حروب قومية أو طائفية خاسرة ومدمرة. ومع أني لا أناضل من أجل تشكيل دول على أساس قومي إلا أنَّني ادعم وأؤيد توجه ورغبة أي مجموعة سكانية معينة سواء أاتخذت شكل القومية أو أي تكوين آخر في تقرير مصيرها بشكل ديمقراطي سلمي، وحتى الانفصال وتشكيل دول مستقلة، إذا كان ذلك سيؤدي إلى حقوق وحياة أفضل لهم، وسلام وآمان أكثر لعموم ساكني المنطقة. ومع تأييدي الكامل للحق الكامل والشرعي للشعب الكردي لتقرير المصير بما فيه الانفصال، إلا أنَّني في حالة إقليم كردستان لا أرى أن الظروف مناسبة الآن للانفصال والاستقلال وإعلان الدولة القومية، وأعتقد أن الجماهير الكادحة في الإقليم والعراق تُجر إلى حروب وصراعات قومية كما يجري الآن، وستتعرض إلى أزمات اقتصادية وسياسية أعمق من أجل «دولة قومية» حتى إذا تشكلت الآن في الإقليم لن تكون إلا نموذجاً دكتاتورياً جديداً بائساً للدول القومية الفاشلة في المنطقة، ولن تغير شيئاً من حياة الجماهير الكادحة.