مقاربة لأزمة الإمبريالية الرأسمالية سنة 2008


نايف سلوم
2017 / 9 / 21 - 21:42     

شواخص على الطريق
نستعرض هنا مطارحات (موضوعات) أساسية بغرض مقاربة أزمة النظام الرأسمالي العالمي لعام 2008، التي بدأت بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية ، وامتدت إلى القطاع المالي والمصرفي وإلى الاقتصاد الرأسمالي عامة ، وانعكاسات كل ذلك على الاستهلاك والبطالة وأسعار النفط والمواد الغذائية الأساسية كالقمح والأرزّ وعلى معدلات الفقر وتفاقم الحروب الظالمة وغير ذلك من المشكلات العالمية .
مطارحة 1:
الأزمة الحاصلة أزمة عالمية متفاقمة ذات تاريخ قريب، حيث شملت من قبل مناطق متعددة من العالم كالمكسيك والأرجنتين وبلدان "النمور" في جنوب شرق آسيا، وشملت أزمة الغذاء العالمي والارتفاع الجنوني في أسعار النفط 2004 وأزمة الرهن العقاري(2008) في الولايات المتحدة الأميركية، وتعديها إلى انهيارات في بنوك الاستثمار، وهي أزمة مصرفية واقتصادية عالمية متفاقمة ومستمرة .
فالاقتصاديات القومية متداخلة، والعمليات المصرفية التجارية وملكية المشروعات التجارية (التي تسيطر عليها نحو 75 شركة عالمية) تتجاوز الحدود الاقتصادية والتجارية الدولية . وتربط الأسواق المالية في العالم أجمع عمليات وصل فورية من الحواسيب الآلية ، وهذه الأزمة أكثر تعقيداً من أزمة ما بين الحربين العالميتين ، ونتائجها الاجتماعية وآثارها الجيوسياسية (الجغرافية السياسية) بعيدة المدى ، وخاصة في فترة الشكوك التي أعقبت نهاية الحرب الباردة.
مطارحة 2 :
تضبط حركة الاقتصاد العالمي عملية واسعة لجباية الديون ، تقيد مؤسسات الدولة القومية وتسهم في تدمير العمالة والنشاط الاقتصادي . فقد وصل عبء الدين الخارجي في البلدان النامية (2 ) تريليون دولار . وتزعزعت بلدان بكاملها نتيجة انهيار عملاتها الوطنية ، مما أدى في كثير من الحالات إلى نشوب شقاق اجتماعي ونزاعات عرقية وحروب أهلية .
مطارحة 3 :
يمثل شيوع إصلاحات الاقتصاد الكلّي انعكاساً ملموساً لميول النظام الرأسمالي بعد الحرب الباردة ، والتطور المدمر لهذه الإصلاحات . وقد لعبت هذه الإصلاحات الكلية للاقتصاديات القومية بعد الحرب الباردة دوراً رئيسياً في ظهور اقتصاد عالمي جديد سيطرت عليه السياسات الليبرالية الجديدة كمقولة رئيسية. لقد نظمت هذه الإصلاحات عملية التراكم على المستوى العالمي لصالح حفنة من المضاربين الماليين الكبار. وهذا النظام الجديد ليس نظام سوق رأسمالية "حرة" ، بالرغم من استناد " برنامج الإصلاح الهيكلي" الذي ترى المؤسسات المالية الرأسمالية الدولية(صندوق النقد الدولي، البنك الدولي) أنه يذهب أيديولوجياً إلى خطاب نيوليبرالي (ليبرالي جديد). إلا أنه يشكل إطاراً تداخلياً جديداً بين الشركات والمضاربين من جهة وبين الدولة الإمبريالية من الجهة الأخرى، خاصة الدولة الأميركية.
مطارحة 4 :
طرحت أزمة 2008 شكل قدرة البيروقراطية الدولية، ممثلة بحكومات الدول الغنية وبالهياكل الإدارية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ولمنظمة التجارة العالمية ، في الإشراف على الاقتصاديات الوطنية من خلال التلاعب المتعمد (القَصْدي) بقوى السوق عبر المضاربات المالية.
مطارحة 5 :
في هذا السياق لعبت الإصلاحات التي يرعاها صندوق النقد الدولي دوراً حاسماً في "ضبط تكاليف العمل" في عدد من البلدان المستهدفة، غير أن هذا "التقليل من تكاليف العمل" يقوض توسع الأسواق الاستهلاكية . إن إفقار قطاعات واسعة من سكان العالم تحت وطأة "إصلاح الاقتصاد الكلّي" قد أدى إلى انكماش درامي للقوة الشرائية .
بدورها ارتدت المستويات المنخفضة للدخول في جميع البلدان، المتقدمة اقتصادياً والمتخلفة، على الإنتاج، وأسهمت في سلسلة جديدة من إغلاقات المصانع والإفلاسات. والحركة في كل مرحلة من مراحل هذه الأزمة هي نحو فائض إنتاج عالمي وهبوط في الطلب الاستهلاكي .. مما يعوق في النهاية توسع رأس المال.
مطارحة 6:
يتسم النظام الاقتصادي العالمي بميلين متناقضين:
الأول؛ دعم اقتصاد عالمي رخيص العمل من ناحية ، و الثاني؛ البحث عن أسواق استهلاكية جديدة .
والميل الأول يقوض الميل الثاني . ففي ظل نظام يولّد فائض الإنتاج لا تستطيع الشركات الدولية والشركات التجارية "توسيع" أسواقها إلا بتقويضها أو تدميرها للقاعدة الإنتاجية المحلية في البلدان النامية؛ أي بتفكيك الإنتاج المحلي الموجّه إلى السوق الداخلية . وفي هذا النظام يقوم توسيع الصادرات في هذه البلدان على انكماش القوة الشرائية الداخلية ، وتفتح "الأسواق الناشئة" عن طريق الإزاحة المتزامنة لنظام إنتاجي موجود ، وتدفع المنشآت الصغيرة والمتوسطة إلى الإفلاس أو تُجبر على الإنتاج من أجل موزع عالمي، ويجري خصخصة منشآت الدولة أو إغلاقها، ويتم إفقار المزارعين المستقلين. فتوسيع الأسواق أمام الشركات العالمية يتطلب تخليع الاقتصاد المحلي وتدميره، وإزالة الحواجز أمام حركة الأموال والسلع، وتحرير الإئتمان، وينزع رأس المال الدولي ملكية الأرض وملكية الدولة في كل مكان .
مطارحة 7:
اعتنقت الحكومات في كل أنحاء العالم بوضوح جدول أعمال سياسي نيوليبرالي منذ عام 1989. ومنذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي حددت إصلاحات الاقتصاد الكلّي التي اتبعت في البلدان المتقدمة اقتصادياً (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE ) كثيراً من المكونات الأساسية لبرنامج التكييف الهيكلي المطبقة في البلدان النامية وفي أوربا الشرقية .
مطارحة 8:
يميل الدائنون في الغرب الرأسمالي إلى ممارسة ضغوطهم على الحكومات "الوطنية" بدون وساطة البيروقراطية القائمة في واشنطن (الحكومة الأميركية، إدارة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات بريتون وودز عموماً) ، وتصنف الأسواق المالية ديون المنشآت شبه العامة، والمرافق العامة وحكومات الدول والمقاطعات والبلديات و "تقيمها " بعناية .. ويصبح وزراء المالية بصورة متزايدة مسؤولين أمام بيوت الاستثمار الكبرى والبنوك التجارية .
مطارحة 9:
أدى تراكم الديون العامة الكبيرة في البلدان الغربية بدوره إلى تزويد المصالح المالية والمصرفية "بأدوات سياسية" ، فضلاً عن القدرة على أن تملي على الحكومات السياسات الاقتصادية والاجتماعية .
مطارحة 10:
مع تحقق الانكماش تخيم على الاقتصاد العالمي حفنة من البنوك الدولية والاحتكارات العالمية. وهذه المصالح الصناعية الاحتكارية والمالية القومية في نزاع متزايد مع مصالح "المجتمع المدني". في هذا النظام كرست الدولة عمداً تقدم الاحتكارات الخاصة ، فرأس المال الكبير (الشركات الكبيرة الاحتكارية متعددة الجنسية) يدمر رأس المال الصغير بكل أشكاله. ومع الاندفاع نحو تكوين كتل اقتصادية في كل من أوربا وأمريكا الشمالية، استؤصل المنظم الإقليمي والمحلي ، وحولت حياة المدن ، واكتسحت الملكية الفردية الصغيرة . وتوفر "التجارة الحرة" ، والتكامل الاقتصادي قدرة أكبر على الحركة للمنشأة العالمية في ذات الوقت الذي تكبح فيه عن طريق الحواجز غير الجمركية والمؤسسية ، حركة رأس المال المحلي الصغير. وإذا كان "التكامل الاقتصادي" (تحت سيطرة المنشأة العالمية ) يعطي مظهر الوحدة السياسية فإنه كثيراً ما يشجع التفكك والشقاق الاجتماعي في ما بين المجتمعات وداخلها.
مطارحة 11:
يقترن تحلل "الاقتصاد الحقيقي" تحت وطأة إصلاح الاقتصاد الكلّي ذي الميل الليبرالي الجديد بـ نظام مالي عالمي غير مستقر للغاية. فمنذ يوم الاثنين الأسود 19 أكتوبر 1987 ، الذي اعتبره المحللون أقرب ما يكون إلى انهيار بورصة نييورك ، تكشف نموذج شديد التقلب اتسم بتشنجات كثيرة ومتزايدة الخطورة في البورصات الرئيسية ، وانهيار العملات الوطنية في أوربا الشرقية وأميركا اللاتينية ، فضلاً عن تدهور "الأسواق" المالية الطرفية الجديدة (مثل المكسيك وبانكوك والقاهرة وبومباي) الذي سرّع به الاستيلاء على الأرباح والانسحاب المفاجئ لكبار المستثمرين المؤسسين . وقد أصبحت البورصات الطرفية وسيلة لانتزاع الفائض من البلدان النامية.
تفتحت بنية مالية عالمية جديدة ؛ فقد عبدت موجة اندماج الشركات في أواخر الثمانينات من القرن الماضي الطريق أمام تعزيز جيل جديد من الماليين تجمعوا حول البنوك التجارية والمستثمرين المؤسسين وشركات السمسرة في البورصة وشركات التأمين الكبيرة ، الخ.. وفي هذه العملية تداخلت وظائف البنوك التجارية مع وظائف بنوك الاستثمار وسماسرة البورصة.
مطارحة 12:
منذ أوائل الثمانينات من القرن الماضي مسحت مقادير كبيرة من ديون الشركات والبنوك التجارية الكبيرة في البلدان المتخلفة وحولت إلى دين عام . وقد منحت قروض ثنائية ومتعددة الأطراف إلى البلدان النامية لتمكين هذه البلدان من السداد للبنوك التجارية (الخاصة) ؛ أي أن الدين التجاري قد حُوّل بيسر إلى دين رسمي تتكفل به الدولة (ثنائي ومتعدد الأطراف ) مما يقلل من "تعرض" البنوك التجارية الخاصة للإفلاس. وعملية "تحويل الدين" هذه سمة رئيسية للأزمة: فقد حولت الخسائر التجارية والمصرفية ، بما في ذلك القروض السيئة ، بانتظام إلى الدولة . وليست خطة الإنقاذ التي قدمتها الحكومة الأميركية في أزمة الرهن العقاري والبنوك الاستثمارية عقب الأزمة سوى مثال واحد على ذلك.

هوامش
تنويه: استفدنا من كتاب ميشيل تشوسودوفسكي: "عولمة الفقر" ترجمة محمد مستجير مصطفى ، ومن كتاب د. رمزي زكي: "المحنة الآسيوية " ، ومن كتاب د. حازم الببلاوي: "النظام الاقتصادي الدولي المعاصر من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب الباردة" "

1- تمتد أزمة الديون إلى أوائل الثمانينات من القرن الماضي ، مترافقة مع السعي إلى تحقيق أقصى ربح ، وهو ما وجه سياسات إصلاح الاقتصاد الكلي (الهيكلي) بما تؤدي إليه هذه السياسات من تفكيك مؤسسات الدولة في البلدان المتخلفة وتمزيق الحدود الاقتصادية وإفقار الملايين حول العالم ورميهم في لُجّة البطالة.
2- قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ الحلفاء التفكير في وضع أسس لنظام دولي جديد ، يتفق مع تصوراتهم لعالم ما بعد الحرب ... ففي المجال الاقتصادي فقد وضعت أسسه المؤسسية في مؤتمر بريتون وودز المنعقد في يوليو /تموز 1944 ، حيث تمخض الأمر عن إنشاء مؤسستين ، هما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، وهما يتعاملان مع قضايا التمويل والنقد على المستوى العالمي