إشكاليات العِرق والتمييز العنصري في الولايات المتحدة: جدلية العِرق والدين والطبقة (الجزء السابع والأخير)


مسعد عربيد
2017 / 8 / 31 - 20:41     

العِرق والدين والطبقة
جدلية الثلاثي في تكوين الذهنية الفوقية الأميركية


كيف خلق الأبيض صورته عن نفسه؟

تناولت في فصل آخر بعض إشكاليات بَياض البَشْرة والعِرق الأبيض، وأود في هذا الفصل الانتقال إلى مناقشة العلاقة الجدلية والمتبادلة بين ثلاثي: العِرق (الأبيض) والدين (المسيحية الأوروبية) والطبقة (هيمنة الطبقة البيضاء).
ولا بد في البداية أنْ نشير إلى أنَّ العلاقة بين العِرق والدين تقوم على معادلة مفترضة وغيبية ترتكز في طرف منها على العِرق (والافتراض بأنه أمر طبيعي)، وفي الطرف الثاني على الدين (والذي يُفترض بأنه اعتقاد "فوق طبيعي"). لذلك فإنَّ المقاربة بين العِرق والدين في الحالة الأميركية فهم الرابطة بين المسيحية (الأوروبية الغربية) والعِرق الأبيض، وتفكيك هذه الرابطة من منظور أنَّهما (الدين والعِرق) يشكلان نظماً سياسية وهويتية.
يبدأ المجتمع الأبيض بالتكون عندما يأخذ البيض بتكوين وجهات نظرهم حول عِرقهم ويتبادلونها فيما بينهم، وهكذا يرسمون صورتهم عن ذاتهم، حتى وإن كانت مُختلقة ومكونة وفق نظرتهم وتعريفهم لذاتهم في إطار عملية التكوين الاجتماعي. وحسب ما ذهب إليه مايكل أومي وهووارد وينانت Michael Omi and Howard Winant فإنَّ التكوين الاجتماعي هو "العملية التي من خلالها تحدد القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مضمون وأهمية التصنيفات العِرقية، ومن خلال هذه العملية، ترتسم المعالم والدلالات العِرقية لهذه التصنيفات". وحيث إنَّ أشكال التكوينات والتجليات العِرقية والدينية والثقافية تتغير وفقاً لتغير الأوضاع الاجتماعية والطبقية والاقتصادية والسياسية، فإنَّ السمات والخصوصيات التي تتميز بها جماعة ما ليست ساكنة ولا ثابتة بل هي دائمة الحركة والتغير وهو ما يستدعي ضرورة التكيف مع وعلى ضوء السياقات والمتغيرات المستجدة في المجتمع والحياة والتاريخ. وبهذا المعنى فإنَّ تغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية في أميركا كان له تأثيرٌ كبيرٌ على تطور الفوارق العِرقية والدينية وتكيفها حسب المصالح الطبقية والسياسية في ظل الظروف والسياقات المختلفة.
إلاّ أنَّ الأمر الجدير بالذكر هو أنَّ فهم التكونات الدينية وعلاقتها الجدلية مع العِرق (المسيحية الأوروبية والعِرق الأبيض نموذجاً)، فهماً اجتماعياً وطبقياً وفي سياقها الإجتماعي ـ التاريخي، لا ينفي أو ينتقص من أهمية خصوصيات العوامل الدينية والعِرقية وتأثيراتها الكبيرة على أشكال التعامل اليومي بين الناس والعلاقات الاجتماعية والإنسانية. وهنا لا بد من التذكير بأنَّ الكثير من الخصوصيات العِرقية والدينية هي في الحقيقة فوارق مُتخَيَلة وتفتقر إلى أي معنى موضوعي، إلا أنّها في الآن ذاته نتاج وحصيلة للواقع والظروف المادية التي تفرزها.
* * *
كان من الضروري التوقف عند هذه الركائز كمدخل لتفسير المفاهيم التي بناها الأبيض حول ذاته وحول الآخر (غير الأبيض) ووضعها في سياق فهم تكوين الهوية الأميركية، وهي مفاهيم لا تقوم في الحقيقة على أسس موضوعية ولا تحمل آية دلالات مادية. فعبر مسيرة دولته ومجتمعه، حرص الأميركي الأبيض،على أمرين أساسين:
الأول، أنْ تظل مفاهيمه حيال الآخر "مطاطة" ودائمة الحركة كي يستطيع تكييفها بما يخدم مصالحه؛
والثاني، أنْ تظل مفاهيمه إزاء ذاته (أي أفضلية الذات البيضاء على "الآخر" واعتلائها عليه)، "ثابتة".
قد نجد في هذا ما يفسر كيف ولماذا نجح الأميركيون البيض في استخدام المفاهيم الدينية والعِرقية الغيبية والأوهام المُختلقة في ترسيخ وتعميق الفوراق بينهم وبين "الآخر". كما أنَّنا نجد في بلادنا، مع اختلاف السياق التاريخي والاجتماعي، حالات مشابهة في إقصاء الآخر وتكفيره والتي ما فتأت تتعزز في ظل تصاعد التيارات السلفية والتكفيرية.

العِرق والدين في الولايات المتحدة

تبلور مفهوم العِرق في أميركا، كما أشرنا في أكثر من مكان، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلاّ أنَّ دوره تعاظم خلال القرن التاسع عشر وأصبح طاغياً على مفاهيم الهوية والانتماء بين الأميركيين بفضل مكانتة الأيديولوجية في الثقافة السائدة. وتذهب الدكتورة أودري سميدلي Audrey Smedley، الأستاذة الجامعية في علم الأنثروبولوجيا، إلى أنَّ أغلبية الأميركيين كانت تعتقد في تلك الآونة بأنَّ موقعها العِرقي (كما تحدده الملامح البيولوجية) هو العامل الرئيس في صياغة هويتها. وترى سميدلي أنَّ قيمة العِرق عَلَت وطغت على عوامل ومكونات الهوية الأخرى لدى الأميركيين: فقد عَلَت "الهوية العِرقية على الدين والأصل الإثني والتعليم والمؤهلات والموقع الاجتماعي ـ الاقتصادي والمهنة واللغة والقيم والمعتقدات والأخلاق وأسلوب الحياة والموقع الجغرافي وكافة الصفات الإنسانية الأخرى التي تمنح الأفراد والجماعات الشعور بذاتهم والنظرة إليها".
يقول رأي أنَّ هذا بدوره ترك آثاراً عميقة وبعيدة المدى على الخطاب الديني، ولكن على الرغم من ذلك، فإنَّ الاختلافات العِرقية، التي قامت على أساس بيولوجي مُتَخيل، كثيراً ما شكّلت حجر عثرة أمام اعتناق الأعراق الأخرى (غير البيضاء) للمسيحية وحالت دون انتشار هذه الديانة بينهم، على الرغم من أنَّ التبشير بالمسيحية يعتبر واجباً دينياً وأن المسيحية ومؤسساتها الكنسية عمدت، عبر تاريخها منذ العقود الأولى التي تلت رحيل السيد المسيح، إلى كسب المزيد من الأتباع ونشر معتقداتها بين الشعوب.
إلاّ أنَّ وقائع التاريخ التي تؤكد على سطوة العِرق، تستوقفنا أمام إشكاليتين هامتين نرى أنَّهما جديرتان بالمناقشة:
(1) الأولى: هل كان العِرق هو الذي حسم أمر الهوية الأميركية أم أنَّ الهيمنة العِرقية وتمفصلاتها الطبقية مع الهيمنة البيضاء هي التي تقف خلف ذلك؟ وهنا يكون التمييز بين هذين الأمرين (العِرق والهيمنة العِرقية) هاماً:
ــ إذ إنَّ العِرق يقوم على فوارق بيولوجية معينة، في حين أنَّ الهيمنة العِرقية متجذرة في الظروف المادية للمجتمع والاقتصاد والطبقة والسلطة التي تشكّل مصدر قوتها وتأثيرها واستدامتها؛
ــ إضافة إلى أنَّ الهيمنة العِرقية والعُنصرية الممأسسة تتجسدان موضوعياً وفعلياً في الممارسات العُنصرية والتمييزية في مختلف جوانب الحياة والسياسة والمجتمع.
(2) أما الإشكالية الثانية فهي: هل كان العِرق مكوناً مستقلاً في تكوين الهوية الأميركية، وهل لعب دوره بمعزل عن الدين (المسيحية الأوروبية) ومؤثراته؟
الواقع أنَّ هيمنة العِرق لم تقم لأن العِرق أزاح العوامل أو المكونات الأخرى للهوية وحلّ محلها أو لأنَّه محا آثارها. فالعِرق على سبيل المثال لم يُلغِ الدين في أميركا (كمجتمع مُعَرقن)، بل إنَّ الخطاب العِرقي في ذلك البلد قام على دمج الفوارق البيولوجية بين الأعراق المختلفة من جهة، مع الدين والإثنية والطبقة واللغة والنظم القيمية وغيرها من جهة أخرى، ومنحَ هذه دلالاتٍ ومعانيَ وقيماً مُعَرقنة وضمّنها في نُظُم تراتبية للطبقات والفئات الاجتماعية. إضافة إلى أنَّ هذه الفوارق لم تكن جديدة بل كانت قائمة سابقاً بين الناس، ثم قام الخطاب العِرقي بترسيخها وإعلاء أهميتها وموقعها في الهوية الإنسانية.
لست إذن في معرض التقليل من أهمية العِرق في أميركا، ولا التنكر لسطوته على الفوارق وبالأخص الطبقية والاقتصادية والاجتماعية، إلاّ أنَّ ما أريد أنْ أؤكده هو أنَّ العِرق لم يحل مكان الفوارق والعوامل الأخرى ولم يمحُ آثارها كما رأينا في حالة الدين، بل تحالف معها في ترسيخ هيمنة الأبيض وحماية المصالح الطبقية لأغنياء أميركا الرأسماليين. فالحقيقة أنَّ الحضور الدائم لهذه الفوارق (التي كانت قائمة سابقاً كما أسلفت) في الخطاب العِرقي واندماجها معه، كان وما زال عُنصراً أساسياً في تثبيت موقع العِرق كـ"كعامل رئيس في تحديد الهوية الإنسانية" في أميركا.