الفلسفة، العلم والوعي اليومي


مالك ابوعليا
2017 / 8 / 26 - 22:59     

ان المفهوم التقليدي لمفهوم الفلسفة يرتبط ارتباطاً مباشراً يرتبط ارتباطاً مباشراً بمعارضة الوعي اليومي (اللامفكر). ويفسر هذا الاخير كشيء يمتلكه الجميع، وبمضمنهم الناس الجهلة. ولا شك ان اتخاذ موقف حاسم من الوعي اليومي والخبرة اليومية كأساس له هو امر ضروري ومبرر. ولكن تاريخ الفلسفة يظهر ان النقد الفلسفي التقليدي للوعي اليومي والخبرة اليوميةى عادة ما يفشل في فهم الصلة العضوية الضرورية للفلسفة والعلم بظواهر التطورات الاجتماعية اليومية. لا يمكن فهم رابطة الفلسفة- الوعي اليومي بشكل صحيح الا انها كوحدة للأضداد التي تؤلف لا التعارض وحسب، بل ولحظة التطابق ايضاً.
الموقف الذي يتكرر مراراً وتكراراً في الفلسفة المثالية التأملية حول الفهم المادي للعالم يكون كما يلي: المادية ليست فلسفة ولكنها وعي يويمي يفتقر الثقافة، الانقد يقارب فرضياتها، ولا حتى يشك في الحاجة الى تحليل نقدي الى انطباعاته الحسنة وثقته بنفسه في صحته.
وبما ان الوعي اليومي ليس اسطورة تأملية بل شيء موجود فعلاً، ينبغي لنا ان نفحص الموقف الحقيقي للمادية والمثالية لذاك الشكل من انعكاس العالم الموضوعي. يمكن للسوسيولوجيا، التاريخ، علم النفس، الاثنوغرافيا والعلوم الأخرى ان تدرس الوعي اليومي. ولكن انا هنا اتعامل مع الجوانب المعرفية والتاريخية-الفلسفية للمسألة.

تفرق المادية التاريخية بين الوعي الاجتماعي والوعي الفردي. الوعي الفردي بالطبع اجتماعي. ولكن غرار الفن، الأخلاق، الدين والأشكال الأخرى من الوعي الاجتماعي، انه الوعي اللحظي للأفراد. تبعاً لفريدريك انجلز، التفكير موجود (فقط كتفكير فردي لمليارات من الناس في الماضي والحاضر والمستقبل). ينطبق هذا ايضاً على الوعي اليومي: ذلك الشكل من الوعي الاجتماعي لا يعتمد مباشرةً على النشاط الانساني الادراكي الهادف والمخطط. ان تشكل الوعي اليومي و(الخبرة اليومية، كقاعدة له) هو عملية عفوية، وتشمل عناصرها الضرورية الذاكرة اللاارادية. يتم تحصيل الجزء الأكبر من الخبرة اليومية بطريقة غير ملاحظة، ببساطة لأن الانسان يعيش، ويدخل في تواصل مع الناس الاخرين، يتصرف في بيئته للتطورات التي تحصل في حياته الشخصية والاجتماعية بدون ان يدرك ما الذي ترك بصمة على وعيه وصار جزءاً من خبرته الشخصية.
والوعي اليومي هو كيان معقد ومتناقض متعدد الطبقات، يتألف من العديد من التصورات والعواطف والمفاهيم التي يتم توليدها واستنساخها باستمرار من خلال ظروف ثابتة ومألوفة نسبياً. وينعكس تنوع التحولات والتطورات التاريخية لتلك الظروف في تنوع التطورات التاريخية للخبرة اليومية والوعي اليومي وما يصاحبها، من خلال كيف يتم تصور وتطبيق هذه التجربة في المعرفة والنشاط العملي.
نحن نواجه مفاهيماً من الوعي اليومي في اي مكان. انها اولاً، وقبل كل شيء افكار امبريقية تتألف جزئياً من حقائق نسبية والجزء الاخر من اوهام وأخطاء: الماء يغلي على درجة حرارة 100س، الذهب لا يصدأ، الشمس تشرق في الصباح وتغرب مساءاً، المال عند ايداعه في البنك ينتج ارباحاً. الأمثال هي التعبيرات الكلاسيكية عن الوعي اليومي، مصقولة الى الكمال عبر العصور: (اصبر على الحصرم تيصير عنب)، (الشبع ما بحس)، (نيال اللي ببات مغلوب ولا يبات غالب) والمخاوف الشعبية والامال.
في دراساته الاقتصادية والتاريخية أظهر ماركس ان الاقتصاد السياسي غير العلمي يسجل ويتبنى نظرياً المفاهيم اليومية للبرجوازية: رأس المال، الربح، العمل،. لقد كشف ماركس عن جوهر هذه المفاهيم غير العلمية، التي رفعها الاقتصاد السياسي المبتذل الى وضع العقيدة النظرية، واثبت ان العمل الحي وحده ينتج القيمة، فائض القيمة وتعديلاتها. وشرح في نفس الوقت ان الصيغ الكاذبة غير العلمية للاقتصاد السياسي تعكس نوعاً معيناً من الواقع، لأن مالك رأس المال يحقق ربحاً، ويحصل مالك الأرض على الايجار، ويدفع للرجل العامل اجراً مقابل عمله. وفي هذه الحالة يعكس الوعي البرجوازي اليومي سطحياً العلاقات الانتاجية الرأسمالية، وهو يعكس المظاهر الناشئة عن الطرق الرأسمالية عادةً لاعادة توزيع القيمة الفائضة التي تنتجها البروليتاريا بين مختلف مجموعات الرأسماليين.
كما اشار ماركس فان ايديولوجية البرجوازية الصغيرة تلخص نظرياً المفاهيم اليومية للبرجوازية الصغيرة، وبعبارة اخرى، فان كل المظاهر النظرية فانها لا ترتفع فوق التحيزات الطبقية.
يحدد انجلز الفارق الجوهري بين المفاهيم اليومية والمفاهيم العلمية: "يمكننا ان نقول عن حيوان ما ان كان حياً ام لا، للأغراض اليومية. ولكن عند اجراء تحقيق أوثق، ان هذه مسألة معقدة جداً".
التناقض بين الفهم العملي للواقع وانعكاسهفي مفاهيم التجربة اليومية هو حتماً مفارقة اذا كان ينظر اليها من وجهة نظر الوعي اليومي. وفقاً لماركس: (الحقيقة العلمية تكون دائماً مفارقة، اذا حكم عليها من خلال التجربة اليومية، التي تلتقط فقط المظهر الوهمي للأشياء).
وبصرف النظر عن مضمونه الامبريقي والأيديولوجي، فان الجانب الديني هو سمة بارزة للوعي اليومي، وخصوصاً في المجتمع المتضارب. على عكس العلم اللاهوتي الزائف، الوعي الديني هو ايضاً وعي يومي، بالرغم من ان اللاهوتيين يرفضون قبول هذا. لقد لاحظ ماركس ان الاغتراب الذاتي وتقسيم العالم الى خيالي وحقيقي، كسمة للانعكاس الديني للواقع، ويعبر عنها في الطبيعة المتناقضة للوعي اليومي والذي يجمع الخبرة الامبريقية مع الأفكار الدينية. يتصرف المؤمنين في عملهم اليومي العملي، بالطريقة التي يتصرفها غير المؤمنين: انهم يتجاهلون، بطريقة غير ملاحظة-نظراً لطبيعة الحياة اليومية- التفسير الديني للأصل المتعالي لأي شيء موجود، انهم يسترشدون بالأسباب والتأثيرات المقامة امبريقياً. ولكن هذا الاتجاه العفوي اللاديني (الذي يتضح من خلال النشاط الواعي والمعرفة) يدور باستمرار في الأفكار الدينية التي يتم ادخالها في عقول البشر ليس فقط خلال العلاقات الاجتماعية المتناقضة والعدائية، بل ايضاً من خلال التربية والتعليم. هذا الانقسام يجبر المؤمن على الحكم على الأشياء وحياته من وجهتين متعارضتين تماماً، وحتى متبادلتين. وبطبيعة الحال فانه لا يستطيع التوفيق بين شعوره الديني ومقاربته اللادينية للأشياء، ولا يستطيع التغلب على الشكوك المتجذرة اجتماعياً، والتي لا يفهمها.
ويتبع هذا، ان الوعي اليومي لا يمكن ان يقتصر فقط على الخبرة اليومية، واسسها الواقعية. فهي تواجه كل من العالم الحقيقي و(العالم الاخر) غير الموجود. لذلك من الخطأ ان نعرف الوعي اليومي ب(الحس السلم) Common sense، على الرغم من أن هذا الأخير هو عنصر حيوي في السابق.
وبما ان الوعي اليومي لا يزال في حد ذاته لا يرقى الى التفسير العلمي للعالم، فهو غير قادر على تحليل محتوياته، التي تتصادم فيها العقلانية واللاعقلانية وتتداخل وتندمج معاً، نقدياً. الأفكار اللاعقلانية ليست الدينية تلك وحسب، ولكن اللاعلمية والمعادية للعلم. لهذا قلت بأنه ليس من الصحيح ان نقول ان هذا هو (الحس السليم) Common sense.
اثبتت المادية الجدلية ان التناقض بين المعرفة النظرية والبيانات الحسية المباشرة لا يقلل من اهمية هذا الأخير، وبالتالي لا يدحض اطروحة المذهب الحسي حول الأصول الحسية للأفكار المجردة. عادة يكون هذا التناقض الجدلي بين العقلاني والحسي غير مفهوم للوعي اليومي لأنه يصر دائماً على الاعتراف بتلك الأشياء التي يمكن التحقق منها عبر الحواس. لهذا السبب لا تستطيع معايير ومفاهيم الحس السليم، التي تعكس جوانب معينة من الواقع بدقة اكثر او اقل ان توجه دراسة علمية محددة: مجال هذا الأخير أكبر بكثير من ذلك الذي يتعامل معه اليوعي اليومي.
كلنا نعرف كيف ان الحس السليم وقف ضدج نظام مركزية الشمس والهندسة غير الاقليدية ونظرية النسبية، ولكن ليس فقط الوعي اليومي هو الذي فعل ذلك ولكن ايضاً المحافظين في العالم الأكاديمي المعاصرين لكوبرنيكوسولوباتشيفسكي واينشتاين، الذين واصلوا رفض الاعتراف بنظريات اينشتاين ولوباتشيفسكي التي كانت تبدو مفارقات. العلماء المحافظين لم يرتفعوا عن الحس السليم اليومي.
ولكن على النقيض من الوعي اليومي والعلمي، لا ينبغي علينا ان نتجاهل تنوعات الوعي اليومي التي لا تراكم فقط الأفكار المألوفة في البيئة الاجتماعية التي تحيط بالانسان بشكل مباشر، ولكن ايضاً خبراتهم المتعددة الجوانب والكتسبة في انشطة الانتاج، تلك الخبرات تخدم كقاعدة للاستنتاجات العلمية. ووفقاً للعالم الرياضي السوفييتي الشهير اندريه كولوموفوروف، فان بديهيات اقليدس الهندسية تعكس الحقائق المستقاة من التجربة اليومية، وانه في النهاية فان الثقة في صحة البديهيات هي دائماً ذات اصل تجريبي، واذا كانت التجربة الكامنة وراء هذه الثقة هي حالة من التجربة السابقة للعلم التي تشترك فيها البشرية جمعاء وتحولت الى قناعة تلقائية لا تشير الى اية ملاحظة محددة كدليل، فاننا نتعامل مع حقيقة واضحة، وبديهيات الهندسة الأولية هي مثال على ذلك.
تعلم الانسان حصد المحاصيل وبناء المنازل ودق المعادن قبل وقت طويل من بدء العلم دراسة عمليات الانتاج هذه. تم دفعت الهندسة الزراعية والهندسة الانشائية والتعدين من خلال تجارب الانتاج اليومية.
لا توجد معارضة مطلقة بين الوعي اليومي و(الفلسفي والعلمي). والوعي اليومي لا يوجد في عزلة، وهو اليوم ليس كما قبل 100 سنة، انه يتطور، ولكنه لا يختفي، وتنشأ اشكال جديدة منه بنشوء وتطور الحياة الاجتماعية. انه يتأثر بالثقافة والتعليم، وتجد المفاهيم العلمية (مشوهة، او اكثر دقة) طريقها اليه، ويظل وعياً يومياً مع ذلك.
ينطبق نفس الشيء على الخبرة اليومية الشائعة المحدودة مقارنةًبالخبرة الخاصة بالعلم. يستوعب الوعي اليومي الخبرة والمعارف وافكاراً علمية معينة، يستخدمها الناس كقوالب نمطية من اجل اختيار طريقهم في مجال مهنهم ومصالحهم اليومية غير المهنية.
يوجد لدى الناس اليوم الهاتف، الانترنت، الاذاعة، التلفزيون، السيارات والسينما وغيرها من الانجازات في مجال العلم والتكنولوجيا، ولكن لديهم في العادة فكرة غامضة الى حد ما حول القوانين العلمية التي يقوم عليها تشغيل تلك الأجهزة، وكيف انبثقت، واسسها التاريخية يعرف الفرد في العادة الغرض منها وكيف يستخدمها ويستمتع بها. ومن المستحيل بالنسبة له، بل وحتى من غير المفيد ان يفهم كل شيء واضح بالنسبة للفيزيائيين والميكانيكيين والالكترونيين ومهندسي الاتصالات والمتخصصين الاخرين. ولكن بسبب التخصص، يكون العلماء انفسهم غير مطلعين على انجازات العلوم والتكنولوجيا البعيدة بهذا الشكل او ذاك عن تخصصهم. لذلك هنا، لا يوجد تعارض مطلق بين الوعي العلمي والوعي اليومي. لا يوجد اناس وعيهم علمي، واخرون وعيهم يومي، هذين الشكلين من الوعي البشري لا ينفصلان.
وهكذا، فان الفهم الماركسي للوعي اليومي يقوم على قبول تنوع اشكال ومحتويات علاقة الانسان بالواقع الموضوعي الطبيعي والاجتماعي.
ان المثالية عادةً وليس دائماً تقف ضد الحس السليم. والمثال لهذا هو ادعاء كوينتس ترتليان من القرن الثاني الميلادي بأن الايمان الديني يجب ان لا يخشى السخافة التي يرفضها الحس السليم. ولكن تاريخ المسيحية والفلسفات ذات الصلة يثبت ان اللاهوت المسيحي وحتى الاسلامي يحاولون الوصول الى هدفهم عبر نقد الحس السليم.
حاول توما الاكويني الذي اعلن اسنجام الدين والعقل، ان يثبت ان هذا الأخير، يخلص الى وجود الله حتماً من خلال حقائق التجربة اليومية. على سبيل المثال، يتحرك الشيء لأن الحركة نقلت اليه، وبالتالي وفقاً لتوما الاكويني، الاستنتاج المنطقي انه يستحيل ان يتحرك جسم بدون ان يحركه جسم متحرك، ولكن المحرك في حد ذاته في حركة، وهذا ايضاً لديه محرك خاص به. لا يمكن لهذه السلسلة ان تكون بلانهاية لأنه في تلك الحالة لا حركة يمكن ان يكون لها بداية في الوقت. وبالتالي يجب ان يكون هناك شيء ما ينقل الحركة في حين يكون نفسه بلا اية حركة، اي المسبب الأول.

وهنا، المطلع على تاريخ الفلسفة قادر على تمييز كيف ترى الوجودية الوعي اليومي والوجود اليومي وكيف تراها الماركسية، والمطلع الجيد، يستطيع ان يرى محدودية رؤية الفلسفة الوجودية لهذه القضية، والأفق الذي تفتحه الماركسية في فهمها.
تعارض الوجودية وصف العلوم الطبيعية للعالم الموضوعي بالوصف التفسيري (الهرمنيوتيقا) لوجود الانسان، معرفاً كقلق، خوف من ان أكون موجوداً في العالم، من الحرية الخ. العاطفة هي التي تملأ الوجود اليومي للأفراد. الوجودية تفسر تلك العواطف بروح ظواهرية هوسرل وتفصلها عن مصدرها الامبريقي وتعلن انها وجودية، اي انها متأصلة سلفاً في ذات الانسان. في هذا الصدد يرسم هايدغر وسارتر متبعين في ذلك كيركيجارد خطاً فاصلاً فاصلاً بين الخوف الناتج عن اسباب تجريبية خارجية ويزعمون لا اهميته، والمصيبة (الكارثة، الكرب) الناجم عن الوجود نفسه والذي لا يمكن التغلب عليه. الوجودي يعتبر الوعي الوجودي منظفاً من جوانبه اليومية. وهذا يشابه ايضاً فهمهم للخوف من الموت، وهم يفصلون بين الخوف من الموت لأسبابه التجريبي، هذا الخوف (اليومي المبتذل)، والخوف منه لكونه عدماً وجودياً.
الوجودية تجادل بشراسة ضد الوجود اليومي مظهرين انه وهمي ولا معنى له، وضد الوعي اليومي المادي العفوي، وهم يزعمون انه لا يعكس الواقع بل الاعتيادية الكاذبة. الوجوديين يصفون الوعي اليومي على انه مغرور (على الرغم من ان ذلك غير صحيح الا في بعض جوانبه) مدعين ان الوعي الذاتي الوجودي للوجود، والتخلي عن كل تفاصيل الحياة يتغلب على الاغتراب. ولكن (العزلة الانطلوجية) للوعي الذاتي يعكس بشكل صوفي الاغتراب الفعلي للشخصية في المجتمع البرجوازي. والوعي الوجودي في الأساس هو وعي يومي مصقول، للأفراد في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، والنخب المنعزلة.
تنتقد الوجودية الوعي اليومي بما هو غير متوافق مع استيعاب جوهر الوجود، ووفقاً لهايدغر، فان الفلسفة تنتهك نفسها عندما تعترض على الاعتراضات التي يعبر عنها الحس السليم، لأن الأخيرة لا تستطيع ان ترى ما تعترضه.
خلافاً للوجودية فان الفلسفة الماركسية تحلل بشكل نقدي الحياة اليومية والمفاهيم والعواطف اليومية ذات الصلة مثل الظواهر الاجتماعية والتي لا تبقى بدون تغير خلال التاريخ.
السكولاستيكية في العصور الوسطى اعتبرت الحس السليم كوعي لبعض المبادئ الأساسية، بغض النظر عن الزمان والمكان ، وهي نفسها تندرج عند كل الناس، ولكن اليوم، لم تعد هناك حاجة لاثبات ان الحس السليم واليومي ككل، يعكس البيئة الاجتماعية ويتغير جنباً الى جنب معها.
بالفعل، من وجهة نظر الحس السليم الدنيوي والعلم والفلسفة (الفلسفة المادية ايضاً) على سبيل المثال، في القرنين الثامن عشر واوائل القرن التاسع عشر، فان فكرة سنتيمتر مكعب من المادة تحتوي على كمية هائلة من الطاقة لم تكن سخيفة وحسب ولكن غامضة جداً ايضاً، ولم تقم الفرق بين خارق للطبيعة (غير واقعي) والطبيعي (الموجود بالفعل او الممكن).
واليوم، فان العلم والفلسفة حذران جداً في تفسيرهما لمفهوم (المستحيل). وفي الوقت نفسه، نما الوعي اليومي الذي يستخدم المنجزات التي يعمل بها العقل البشري، وبالكاد يهتز من قبل الانجازات العلمية والتكنولوجية. لم يفقد بعد شعوره بالاستغراب، ولكنه يعتقد (على الأقل في المجتمعات المتطورة) بأنه لا توجد معجزات خارج اطار العلم والتكنولوجيا.
كما تغير الوعي الديني اليومي في المجتمعات الأوروبية (على الرغم من انه لم ينقرض طبعاً(، لا احد يعتقد ان الله خلق العالم في ستة ايام. وهذا يفسر اليأس الحقيقي لبرداييف الذي قال ان معظم الناس، بمن فيهم المسيحيون، قد تحولوا الى المادية لأنهم يؤمنون فقط في القوة العسكرية والاقتصادية وليس في قوة الروح. وقد تصالحت الكنيسة البروتستانتية مع نفسها ولم تعد تطلب من اتباعها قبول كل دوغما: يكفي ان نعتقد نؤمن ان الله ويسوع ابنه موجودين.
في منطقتنا المتخلفة، الوضع يختلف، الدين بمؤسساته مقاتل شرس. العلم والتكنولوجيا، على الرغم من انها تخترق كل جوانب حياة الناس، الا ان الوعي الديني لا يزال يسيطر بقوة. وتنتقل المعارف التكنولوجية-بعيداً عن كونها معارف جامعية متخخصة مهنياً- الى تصنيفات اعلامية مبتذلة، فتوضع اخبار العلوم والتكنولوجيا مع اخبار الترفيه والتسالي في المنتديات، وتصير تلك المعارف جزء من التسلية التي يقرأها الناس بحكم انتشارها (مواقع التواصل الاجتماعي). وتكون الصفحات العلمية، والقنوات العلمية محملة بشحنة ضخمة من المعلومات التي لا يتم ربطها بالنظرة الى العالم، علم الكونيات والمكتشفات ليس لها علاقة بوحدة العالم المادية، والبرامج الوثائقية التي تتحدث عن الحيوانات، لا تذكر شيئاً عن التطور. والحديث عن النيازك التي حملت المياه الى الأرض ليس لها اية علاقة ولا تذكر اي شيء يخص انتقال المادة غير الحية الى المادة الحية والصراع الفلسفي الضخم بين الحيوية والمادية الجدلية، الخ.