ماركس : تدوير رأس المال و الخدمات (2-5)


حسين علوان حسين
2017 / 8 / 26 - 17:24     

الدروس الواضحة من نص ماركس الوارد في الحلقة الأولى السابقة :

1. أن ماركس يفصّل به في موضوع رأسمالي خالص و واضح جداً ، ألا و هو : التكاليف الحقيقية للتداول ، أي عملية تدوير رأس المال في السوق ؛ و ليس في موضوع : "الخدمات و موت الرأسمالية" مثلما يلفق البعض . و لهذا نجد أن نصه يبدأ بعنوان "التكاليف الحقيقية للتداول" ، و ينتهي بجملة "إنها مجرد جزء من كُلَف التداول".
2. يؤكد ماركس في نفس النص أن عملية التداول لرأس المال هي أفعال بيع و شراء ضرورية في النظام الرأسمالي و لكنها تخص الرأسمالي وحده لأن هدفها هو تحويل أشكال رأس المال من بضائع إلى مال و من مال إلى بضائع لمصلحة الرأسمالي فحسب ، و ليس لخلق القيمة و لا الإنتاج . أي أن عمل الرأسمالي في تدوير رأس المال هو عمل غير منتج .
3. أن تحقيق هذا التغيير في حالة وجود رأس المال يكلف وقتاً و قوة عمل اجتماعية لإتمام تحويل القيمة من شكل لآخر سواء تم ذلك من طرف الرأسمالي نفسه أو من طرف وكيل ترويج أجير يستخدمه عنده ، و الذي سيتيح للرأسمالي استغلاله بتشغيله ساعات عمل إضافية مجانية تزيد من دخل الرأسمالي و ليس من رأس ماله لكون مثل هذا العمل عاجز عن خلق القيمة .
4. يلاحظ بوجه خاص تشبيه ماركس لعملية الترويج لتداول رأس المال بعمل الماكنة المخصصة لبيع السلع رغم أن مثل هذه الماكنة لم تخترع و تنتشر إلا بعد وفاته . هذا ما قصده أنجلز عندما تحدث عن "ماركس العبقري الذي رأى ما هو أبعد" .
5. الدرس البليغ من هذا النص هو : أن النظام الرأسمالي بطبيعته الجوهرية لا يتيح اتمام عملية تدوير رأس المال التي يختنق من دون أوكسجينها إلا عبر تكبيده للمجتمع يومياً ساعات عمل إضافية على نطاق واسع لترويج صفقات البيع و الشراء و التي من الممكن منع هدرها لو أن أدوات الانتاج أصبحت ملكية جماعية . يرى الأن كل مستخدم للإنترنيت بأم عينيه ، في كل لحظة ، كم من ساعات العمل البشري الكوني و حياة الانسان تهدر في الترويج الدعائي بغية تحويل بضاعة إلى مال و مال إلى بضاعة . كم هو تربوي-انساني عمّنا المعلم ماركس : إنه يشخص الداء الاجتماعي الذي يتهدد البشرية بالفناء ، و يصف لنا الدواء الناجع !

الحذف المتعمد للتزوير

أدناه نص الجملة المستشهد بها و المحذوفة منها كلمات محددة بالذات :
"و ابتغاء لتبسيط الامور(... نظرا لاننا لن ندرس التاجر كراسمالي... )"

و ترجمتي لكامل متنها هي :
"و لتبسيط الأمر (لأننا لن نبحث التاجر باعتباره رأسمالياً و لا لرأس مال التاجر إلا لاحقاً)"

المستشهد بنص ماركس أعلاه بغية توثيق ترهاته و تلصيقها زوراً بماركس ، يتعمد وضع ثلاث نقاط للدلالة على حصول الحذف في بداية التقويس و في نهايته . السؤال هو : ما هي الكلمات المحذوفة في بداية نص ماركس ، و ما هي الكلمات المحذوفة في نهايته حسبما توضحه نقاط الحذف الثلاث ؟ الجواب : لا توجد كلمات محذوفة في بداية التقويس ؛ بل إن الحذف المتعمد حاصل في نهايته فقط ؛ و الكلمات المحذوفة بنية شريرة – أكثر شراً من محاولات الرأسمالي عند بيعه بضاعته – هي : " و لا لرأس مال التاجر إلا لاحقاً ". فإذا كان لا يوجد ما هو محذوف في بداية التقويس ، فلماذا تعمد المستشهد الشرير التنقيط للدلالة على حصول الحذف فيه ؟ الجواب : للتعمية على الحذف في آخره مثلما يفعل زعاطيط المزورين . و لكن ، لماذا تم الاصرار على حذف عبارة ماركس المسكين : " و لا لرأس مال التاجر إلا لاحقاً " المهمة جداً لاحقاً ؟ الجواب : لكي يتاح للمزور الزعم بأن ماركس يعتبر التجارة عملاً غير رأسمالي ! و لكن ، لماذا لم يقم المزور بحذف كل عبارات ماركس داخل القوس ؟ الجواب : لكي يخدع القارئ عندما يقول له بعدئذ : "ماركس يرفض دراسة التاجر باعتباره رأسمالياً " و يستشهد بعبارة : " نظرا لاننا لن ندرس التاجر كراسمالي " ! أي طرطرا ، تطرطري ! فاشل حتى في التزوير ! قه ، قه ، قه ، قاه !

التعميم المتعامي

نأتي الآن إلى الجملة "القنبلة" :
"و قس على ذلك, عزيزي حسين علوان, باقي الخدمات الضرورية لعملية الانتاج الراسمالي من خدمات المحاسب و التقل الخ..."

عجيب أمور ، غريب قضية !

الجملة أعلاه تتحدث عن (1) باقي الخدمات ؛ (2) أن تلك الخدمات ضرورية لعملية الانتاج الرأسمالي ؛ أن من تلك الخدمات : (3) المحاسبة و النقل ؛ و كذلك 43) الخ ! و هذه "الإلخ" هي الطامة الكبرى ، طبعاً !
عن أي خدمات يتحدث نص ماركس أعلاه لكي نسمح لأنفسنا بالتعميم المتعامي استناداً إليه فنقول : "باقي الخدمات" (كذا !) ، بهذا الصدد ؟ الجواب : نص ماركس لا توجد فيه قط كلمة "خدمة" ، بل إنه يتحدث عن "كلفة" تحويلية ؛ و عن رأس مال مسلف ، أي راس مال مدفوع مقدماً ؛ و عن رأس المال التجاري (و هو تاريخياً أحد أقدم نواتات تراكم رأس المال في أوربا - إيطاليا خصوصا - منذ القرن السادس عشر ، حسب ماركس) . و لكن الماركسي ، لكي يسمح لنفسه التكلم بإسم ماركس يجب أن يكون عارفاً بالتعريف الماركسي للكلفة ، فما ما هو التعريف الماركسي للكلفة ؟ أنها : "المصروف غير المُنتِج " مثلما يقول بعدئذ ماركس في نفس هذا الفصل تحت عنوان "نفقات الخزن" . و لكن ، ما هو التعريف الماركسي للخدمة ؟ إنه : "العمل المفيد غير المادي ذي القيمة التبادلية و الذي يكون منتجاً إذا ما خلق فائص القيمة ، و يكون غير منتج إن لم يخلق فائض القيمة قدر تعلق الأمر بالرأسمالي حصراَ" مثلما سأبين بعدئذ بالنصوص الساطعة القاطعة . كل هذا يعني أن "الكلفة" في الماركسية هي مفهوم ( = مصروف غير مُنتِج ) و أن "الخدمة" هي مفهوم آخر مختلف تماماً ( = مُنتَج غير مادي ). ثم كيف يمكن الكلام بالضبط عن "عملية الانتاج الرأسمالي" هنا و ماركس يعيد و يصقل القول في متن نفس هذا النص عن أن هذه الكلفة التحويلية تخص تدوير رأس المال في السوق و ليس في الانتاج لكون تلك الكلف تمثل ساعات عمل غير منتجة ؟ صحيح أن ماركس يعتبر المحاسبة عملاً غير منتج ، و لكن ليس النقل مثلما يحاول المزورون ، الذي هو قطعاً عمل منتج بالنسبة لماركس الذي يقول في نفس الفصل من الجزء الثاني من رأس المال بعنوان "نفقات النقل" ما يلي :

"لما كانت القيمة الاستعمالية للأشياء لا تتحقق إلا عند استهلاكها ، فقد يحتم استهلاكها نقلها ، أي يحتم إجراء العملية الإنتاجية الإضافية التي هي عملية صناعة النقل . و هكذا ، يضيف رأس المال الإنتاجي الموظف في هذه الصناعة قيمة للمنتجات المنقولة و ذلك لحصول انتقال في القيمة انطلاقاً من وسائل النقل . ذلك هو أحد شقي الزيادة ؛ أما الشق الثاني فيتم لحصول إضافة قيمية و ذلك عبر فعل النقل . و الشق الأخير يتحلل - مثلما يحصل في كل انتاج رأسمالي - إلى بدل الأجر ، و إلى فائض القيمة ."

طيب ، ما دام ماركس يقول في تضاعيف نفس الكتاب المستشهد به – و في عدة أماكن أخرى ، أشهرها نقده لآدم سمث في نفس هذا الموضوع – بأن النقل هو "عملية انتاجية إضافية" و أنه "صناعة منتجة" ، فكيف يجوز لمن يدعي الماركسية أن يفتئت على ماركس فيقوِّله عكس ما يقول ، بلا أدنى التزام بشرف الكلمة ، و يستشهد بهذا النص للزعم بأن ماركس يعتبر النقل عملاً غير منتج ؟ ثم لنضع ماركس على جَنَبْ ، و نسأل أنفسنا : كيف يمكن تصور إمكانية وجود صناعة ضخمة و انتاج كثيف (mass production) و تبادل بضاعي بلا نقل و وسائل نقل ؟
نصل الآن إلى "إلخ" . ما هذه : الإلخ ، الإلخ ، إلإلخ ، إلاخ ، مثلما غنى لها ثلاثي أضواء المسرح ؟ الجواب : إنها لا لشيء سوى لذر الرماد على العيون لأمر في نفس يعقوب !

التزوير الفاضح ليس فقط للماركسية ، بل و حتى لطبيعة الرأسمالية

نأتي الآن إلى نص "فتيلة" أخرى من هذه "النمونات" لنفس مزور النص الماركسي السابق ، و التي تؤكد ما قد بينته سابقاً بخصوص تبييت النية الشريرة لتصليق فرية إلغاء الرأسمال التجاري بماركس نفسه :

" سمة الراسمالية كما شرحها ماركس هي انتاج الفائض من اليضائع و الراسمال التجاري و حتى المالي يكفان ان يكونا رساميلا مالم تكن في خدمة الانتاج البضاعي الراسمالي و عليه ايها العزيز ان الراسمالية تزداد توحشا , لانها لم تكن يوما اليفة , كلما انتجت الفائض من البضائع . و الخدمات ليست من البضاعة و لا هي تنتج قيما فلماذا نصف الدول الخدماتية بالراسمالية ؟؟؟ "

عجيب ! متى قال ماركس أن سمة الرأسمالية هي "إنتاج الفائض من البضائع" ، و متى قال ماركس أن "الخدمات ليست من البضاعة" ؟ و لكن ما هي هذه الفتيلة الجديدة التي يطلق عليها إسم : "الدولة الخدماتية" ؟ هل الماركسية تبحث في الرأسمالية كنمط انتاج إقتصاجتماعي بغض النظر عن الدولة ، أي كبناء تحتي ؛ أم أنها تبحث في الرأسمالية كبناء فوقي ، كدولة ؟ شنو هذا الخرط غير المربوط ؟ و هذه الدولة الخرافية الجديدة ، هل هي رأسمالية ، أم شيوعية ، أم بروتستانتو بوذيهودية ، أم مسلمة كاثوليكوسيكية ؛ أم دولة "رخلية" (لا هو طلي و لا هو سخل) ؛ أم لعلها دولة "نمرفاخرزارية" خرافية ؟
كل ماركسي أو غير ماركسي مطلع على شيء من التاريخ يعلم علم اليقين بأن إنتاج البضائع لا يخلق الرأسمالية حيث شهدت كل المراحل التاريخية للبشر إنتاجاً للبضائع ، و سيستمر انتاج البضائع من كل الأنواع المعروفة و المستحدثة المادية و غير المادية في المرحلة الاشتراكية و الشيوعية ، و إلى ما شاءت البشرية . أنتاج البضائع الزائدة أو غير الزائدة ليس هو السمة المميزة للرأسمالية البتة . ما هي السمة المميزة للرأسمالية مثلما تعلمناه من ماركس ، إذن ؟ أنها استغلال قوة عمل العامل – و هو المنتج الوحيد للقيمة - لخلق الرأسمال من فائض القيمة . في المجلد الأول من "رأس المال" ، الجزء الخامس المعنون "إنتاج فائض القيمة المطلق و النسبي" يقول ماركس (يرجى من القارئات و القراء الأعزاء الإنتباه إلى عبارة "المعمل التعليمي" التي تنسف جملة تفصيلاً كل الخرافات لشلة تسويق الامبريالية بزعم دفنهم لها رغم أنها حية و في عنفوان تغولها و استفرادها الرهيب بكل خيرات الكون) ؛ و تنسف كل تزويراتهم حول "الدولة الخدماتية" و "عدم انتاجية الخدمات":

Capitalist production is not merely the production of commodities, it is essentially the production of surplus-value. The labourer produces, not for himself, but for capital. It no longer suffices, therefore, that he should simply produce. He must produce surplus-value. That labourer alone is productive, who produces surplus-value for the capitalist, and thus works for the self-expansion of capital. If we may take an example from outside the sphere of production of material objects, a schoolmaster is a productive labourer when, in addition to belabouring the heads of his scholars, he works like a horse to enrich the school proprietor. That the latter has laid out his capital in a teaching factory, instead of in a sausage factory, does not the relation. Hence the notion of a productive labourer implies not merely a relation between work and useful effect, between labourer and product of labour, but also a specific, social relation of production, a relation that has sprung up historically and stamps the labourer as the -dir-ect means of creating surplus-value.

ترجمة نص ماركس (الأقواس لي) :
"إن الإنتاج الرأسمالي ليس هو مجرد الإنتاج للبضائع ، إنه جوهرياً الإنتاج لفائض القيمة . العامل ينتج ، ليس لنفسه ، و إنما لرأس المال . لذا لم يعد كافياً للعامل أن ينتج ببساطة ؛ بل إن عليه أن ينتج فائض القيمة . وحده ذلك العامل هو من ينتج ، إنه هو من ينتج فائض القيمة من أجل التمدد الذاتي لرأس المال . فإذا ما أخذنا مثالاً من خارج مجال إنتاج الأشياء المادية ، فإن مدير المدرسة هو عامل منتج عندما يقوم ، بالإضافة إلى القرع على رؤوس المعلمين ، بالاشتغال مثل الحصان لإغناء مالك المدرسة . أما كون الأخير (أي مالك المدرسة الرأسمالي) قد استثمر رأس ماله في معمل تعليمي بدلاً من معمل لإنتاج المقانق (الصوصج) فأن ذلك لا يغير شيئاً في تلك العلاقة (بين الرأسمالي مالك المدرسة و المعلمين المنتجين في مدرسته) . و لهذا ، فإن مفهوم العمل المنتج يقتضي ليس فقط العلاقة بين العمل و نتيجته المفيدة ، بين العامل و انتاج العمل ، بل يقتضي كذلك علاقة انتاج اجتماعية محددة ؛ تلك العلاقة التي بزغت تاريخياً و فرضت طابعها على العامل كوسيلة مباشرة لخلق فائض القيمة "

و هل يوجد ما هو أوضح من كلمات ماركس هذه لمن يريد أن يفهم الماركسية بلا أجندات إمبريالية شريرة مبيتة مسبقاً ؟!

يتبع ، لطفاً .