إشكاليات العِرق والتمييز العنصري في الولايات المتحدة: نحو فهم مادي وطبقي (الجزء الأول)


مسعد عربيد
2017 / 8 / 25 - 19:37     

مقدمة

أتناول في هذه السلسلة من المقالات إشكاليات العرق والتمييز العنصري في الولايات المتحدة في محاولة لتقديم فهم مادي وطبقي لهذا الجدل المحتدم في هذا البلد منذ نشأته، وسعياً لالقاء الضوء على خلفيات ما حدث من صدامات عنصرية وفاشستية في مدينة شارلوتسفيل (ولاية فرجينيا الأميركية) أواسط آب 2017 والتي تنذر بمزيد من مثل هذه الصدامات.

وسوف أناقش في هذه الحلقة وما يليها المواضيع التالية:

• جدلية بَياض البَشْرة والعِرق والطبقة
• الجذور الطبقية للعبودية والعُنصرية في أميركا
• تكوين الذهنية العُنْصرية في أميركا
• أميركا: العِرق أم العَرْقَنَة؟
• نحو فهم مادي للعِرق في أميركا
• العُنصرية البنيوية: آلية للاستغلال والهيمنة
• جدلية العِرق والدين والطبقة في تكوين الذهنية الفوقية

وكنت قد نشرت هذه الدراسات في عدة فصول في كتابي:" أمريكا الأخرى: أميركا في عيون مُغترِب عربي"، من منشورات دار «فضاءات» للنشر والتوزيع في عمان، الأردن عام 2014.
■ ■ ■

إشكاليات العرق والتمييز العنصري في الولايات المتحدة
نحو فهم مادي وطبقي
(الجزء الأول)

مسعد عربيد


جدلية بَياض البَشْرة والعِرق والطبقة
مدخل إلى فهم "الأبيض"


في معاني "بَياض البَشْرة" (Whiteness)

أبدأ بالإشارة إلى أنّنا لا نعني بحديثنا عن العِرق الأبيض مجرد لون البَشْرة، أي إننا لا نستخدم "بَياض البَشْرة" بالمعنى البيولوجي البحت، أي كلون للبَشْرة ومفردة تدلل على مجموعة عِرقية أو حتى إثنية أو ثقافية معينة، بل نستخدمها بمعناها الأوسع الذي يشمل الأبعاد الاجتماعية والطبقية والإثنية والثقافية، أما مفردة "الأبيض" فنستخدمها بمدلولها السياسي والاقتصادي (الطبقي) والتاريخي الكولونيالي. وعليه لا بدَّ من الحذر من السقوط في "المسلمات" الكثيرة التي تتضمن أوهاماً خاطئة ومُتَخَيّلة: فليس كل أبيض غني، فهناك الأبيض الفقير، وبالمقياس ذاته هناك الأبيض التقدمي لا الرجعي، والأبيض اليساري لا اليميني، كما أنَّ هناك ايضاً الأبيض اللاعُنصري والمناهض للعُنْصرية.
منعاً للالتباس وكي لا يبقى الباب مفتوحاً أمام التأويلات والجدل الطويل، كان لا بدّ في البداية من إبداء بعض الملاحظات المنهجية:
□ لا أدعي الإلمام بكافة جوانب الهيمنة البيضاء في الولايات المتحدة وهي هيمنة تتجاوز حدود الإثنية والثقافة لتشمل مجالات السياسية والاقتصاد والمجتمع. وهي كذلك إشكالية معقدة ومتشابكة وما زالت تحتل حيزاً كبيراً من الجدل الاجتماعي في الولايات المتحدة. إلاّ أنني أود الإشارة إلى أنّه لا يتسنى فهم أميركا، كتاريخ ومجتمع ذي حراك سياسي واجتماعي ديناميكي، دون فهم ودراسة التمييز العُنصري والإثني والثقافي بكافة أشكاله، ودور هذا التمييز في صياغة السياسات العامة للقوة والهيمنة في ذلك البلد وفي صناعة الحدث والقرار.

□ نتناول "الأبيض" في هذه الدراسة كمبنى اجتماعي ــ طبقي ــ سياسي ـ مؤسساتي لأنه (الأبيض) كان دوماً المهيمن في الولايات المتحدة منذ نشأتها ويملك العديد من الآليات اللازمة لضمان هذه الهيمنة واستدامتها. فالأبيض في أميركا (والغرب عامة) هو العادي والمألوف وهو "الطبيعي"، وما عداه فهو "المختلف" و"الآخر". فقد أضحى بَياض البَشْرة في أميركا "معياراً" سياسياً واجتماعياً وقانونياً واقتصادياً هاماً لأنه بات واقعاً مادياً واجتماعياً وقومياً.
□ في سياق نشأة الولايات المتحدة وتطور مؤسسات دولتها ومجتمعها، وربما في التاريخ البشري الحديث عموماً، يحمل الرجل الأبيض عبأ مسألة العِرق ويعتبر المسؤول عن خَلْقها. وعليه، فإنه لا يسعنا مناقشة العِرق، وبالتالي التمييز العُنْصري وآثاره والحديث عن "الآخر" (السود واللاتينو والآسيويين والعالمثالثيين وغيرهم من الأعراق غير البيضاء الأخرى في الولايات المتحدة وخارجها)، من دون مناقشة وفهم البيض وبَياض البَشْرة كظاهرة ومفهوم وكقوة طبقية (اجتماعية ـ اقتصادية) وسياسية.
وعليه، فلسنا هنا معنيين بالعُنصرية، التمييز العُنصري، من المنظور الأخلاقي والفلسفي فحسب، أو من نظرة الأبيض إلى الآخر، بل ما يعنينا بالأكثر هو أنَّ هذه العُنصرية قد أصبحت واقعاً قائماً متمثلاً في نظام اجتماعي ـ اقتصادي سياسي، أي أنَّ التمييز العُنصري قد تمأسس institutionalization. وبهذا المعنى، يصبح حديثنا مرتبطاً بالعُنصرية الممأسسة وبشكل خاص في الممارسات التطبيقية التي خُلقت من أجل حماية امتيازات الأبيض، لأنَّ هذه الامتيازات قد أضحت جزءاً لا يتجزأ من النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني في الولايات المتحدة. وعليه، فإنَّ تناول العُنصرية ومناهضتها والنضال من أجل إزالتها يعني مناهضة النظام الذي أسس لها والمؤسسات التي خلقها ونفذها.
الأبيض هو الطبيعي... هو العادي

تفيد توقعات مكتب الإحصاء الفيدرالي الأميركي، في إشارة إلى المتغيرات الديمغرافية للتعداد السكاني في الولايات المتحدة، بأنَّ البيض الأميركيين لن يظلوا الأغلبية السكانية في البلاد أو في بعض ولاياتها. وتوحي بعض الكتابات والتحليلات بأنَّ الترجمة العملية المترتبة على هذه المعطيات هي إضعاف هيمنة الأبيض وقدرته على التحكم بالقرار (السياسي والاقتصادي والاجتماعي). وليس هناك شك بأنَّ مثل هذا الاستنتاج على قدر كبير من الصحة، على الأقل الإحصائية والديمغرافية، ولذا فهو جدير بالدراسة شريطة ألاّ نقع في الخلط بين المعطيات الديمغرافية للأبيض ودلالاتها وتأثيراتها من جهة، "والأبيض" كمبنى اجتماعي طبقي وسياسي ـ مؤسساتي مهمين من جهة أخرى. وهو ما يدفعني إلى الشكّ والتساؤل إن كان الأبيض حقاً قلقاً على ما قد تفضي إليه التحولات الديمغرافية في المستقبل. ولكن، مقابل هذه التوقعات وربما قبل القلق بشأنها، يجدر بنا أنْ نقرأ الواقع الراهن والذي لا يحتاج إلى عناء كبير للإقرار بأنَّ الأبيض في أميركا (والغرب عامة) هو المُهيمن.
1) فعلى المستوى الاقتصادي ـ الاجتماعي: أصبح بَياض البَشْرة معياراً لتوزيع الثروة والقوة والسلطة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) في الولايات المتحدة.
2) أما ثقافياً، فإنَّ "بَياض البَشْرة" يحمل دلالات ثقافية وفلسفية ورمزية محددة وتجليات في نمط الاستهلاكية الأميركية ومختلف أنشطة السوق والدعاية والأفلام السينمائية والتلفزيون والثقافة وكافة آليات الاستهلاك في الولايات المتحدة.
3) وعُنصرياً، فإنَّ استخدام "بَياض البَشْرة" كثيراً ما يثير معاني الفوقية والتمييز ويشير ولو ضمنياً إلى تفوق العِرق الأبيض white supremacy وإلى الصلة بين "بَياض البَشْرة" و"تفوق الأبيض".

ثنائية العِرق والدونية الثقافية

من أهم القضايا التي كثيراً ما تظل مبطنة والتي تشكل في الآن ذاته مدخلاً منطقياً إلى فهم مسألة الأبيض والآخر في أميركا هي الثنائية التي يقف العِرق على أحد طرفيها، وفي الطرف الآخر تقف الدونية الثقافية والاجتماعية والاثنية (دونية غير ـ الأبيض) من جهة أخرى، أي الربط بين البيولوجيا العِرقية من جهة، والدونية الثقافية من جهة ثانية. وبعبارة أخرى، فإنَّ البَشْرة غير البيضاء تمثل ما يسمونه بـ"الدونية الثقافية" cultural inferiority والتي تتضمن في الغالب الدونية الإثنية والعِرقية وتصبح امتداداً لهما.
من هنا نرى أنَّ مصطلح "الأقلية" المستخدم في اللغة الرسمية والشعبية والثقافة السائدة في أميركا والتي تعني في أغلب الأحيان الأقلية العِرقية أو الإثنية أي ما عدا الأغلبية البيضاء، هذا المصطلح يحمل مدلولات ضمنية مفادها أنَّ هذه الأقليات ذات ثقافة دونية بالإضافة إلى دونيتها العِرقية. وبدون هذا الفهم الواضح للمدلول الحقيقي لهذه المصطلحات، والمفاهيم التي تكمن فيها، والتي تربط بين الدونية العِرقية (الإثنيات الملونة) وتلك الثقافية، فإنّه يستعصي فهم الذهنية العُنصرية البيضاء وآليات فعلها في أميركا. ولعلّه من نافل القول أنَّ الإثنيات الملونة (غير البيضاء) ساهمت بقدر كبير وحاسم في بناء أميركا كما نراها اليوم (الأميركيون السود أي الأفروأميركيون، لاتينو، هنود أميركيون، وآسيويون من شعوب الصين واليابان وغيرها من الأقليات في أميركا).
نخلص مما أسلفناه أنَّ لهذه الثنائية عدة مفاهيم ومعتقدات يستعصي إدراك مدلولاتها الفعلية دون تفكيك مكوناتها والتي بدونها يتعذر فهم الواقع الأميركي وتفسير أكثر الإشكاليات حدةً في الحياة الأميركية وهي:
(1) فهم الذهنية العُنْصرية البيضاء وآليات فعلها في أميركا؛
و(2) فهم التمييز والممارسات العُنصرية كسبب وعامل أساسي في تأبيد إفقار وتهميش الأقليات الأخرى.
وهنا نرى أنَّ مصطلح "الأقلية" ـ المستخدم في اللغة الرسمية والثقافة السائدة في أميركا والذي يعني في أغلب الأحيان أية أقلية عِرقية أو إثنية عدا الأغلبية البيضاء ـ يحمل مدلولات ضمنية مفادها أنَّ هذه الأقليات ذات ثقافة دونية ناهيك عن دونيتها العِرقية والإثنية.

الأبيض و"الآخر":
بَياض البَشْرة واختراع هوية الآخر

نتيجةً للتهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المستديم، نلحظ أنَّ الجماعات والفئات المضطَهدة في أميركا (وغيرها من المجتمعات البيضاء وخاصة مجتمعات المستوطنات الأوروبية البيضاء مثل كندا واستراليا ونيوزيلاندا) ترى ذاتها في أسفل السُلّم الاجتماعي وكأقليات وجماعات مُستثناة ومُبعدة. كما أنَّ أفراد هذه الجماعات ينظرون إلى أنفسهم كـ "الآخر" و"الآخرين" وكأفراد خارجين عن العقد الاجتماعي وضحية للتهميش الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. إلا أنَّ ما نود الإشارة إليه هو أنّ هذه الفئات، رغم الاضطهاد والتمييز الذي تعاني منه، فإنّها كثيراً ما تتبنى خطاب الأبيض المهيمن ومفرداته في مقارعتها للنظام القائم وللتعبير عن رفضها وتمردها ومقاومتها للهيمنة المفروضة عليها.
لنتمعن، على سبيل المثال، في مفردة "سواد البَشْرة" (السواد blackness) أو "الأميركيين السود". ونسوق هذه المفردة كمثال ولكن أيضاً لأنها من أكثر المفردات شيوعاً وتكراراً في جدل العُنصرية في أميركا.
يفيدنا التاريخ بأنَّ الأفارقة لم يطلقوا على أنفسهم أسماءً ونعوتاً. فقد عاشوا في أوطانهم ومجتمعاتهم الأفريقية الأصلية آلاف السنين قبل وصول المستعمرين البيض، وهناك في تربتهم الطبيعية أنتجوا حضارات وثقافات ولغات وديانات ومعارف متنوعة وثرية، ولم تكن هذه المفردات والمفاهيم ("سواد البَشْرة" أو "الأميركيين السود") موجودة بينهم قبل استحضارهم على سفن تجار العبيد عبر المحيط الأطلسي إلى سواحل أميركا الشمالية. كان الأوروبيون البيض هم الذين اختلقوا مفردات ومفاهيم الأسود وسواد البَشْرة. فالسود لم يروا أنفسهم سوداً بل أن يكون المرء أسودَ وأن يُنعت بهذا الوصف هو مصطلح مفبرك اخترعه الأبيض الآخر (المستعمِر الأوروبي) وفرضه عنوة على ثقافة وخطاب الأفارقة ونظرتهم إلى أنفسهم. نخلص من هذا إلى أنَّ سواد البَشْرة مفهوم قائم على بنية اجتماعية معينة في العلاقة مع الآخر. وهذا "الآخر"، أصبح يُوصف بـ"بَياض البَشْرة". وعليه، أصبح لون البَشرة، أي سواد في حالة الأميركيين السود، السمة الأساسية لهذه الفئة الاجتماعية وطغى على المكونات التي تتعلق بالهوية أو الهويات الأخرى: الاثنية والجندرية والطبقية والدينية وألغى بعضها أو أحال بعضها الآخر إلى مواقع ثانوية وربما غير موجودة.

بَياض البَشْرة: ركيزة للعُنْصرية

يتطلب التحليل من هذا المنظور تفكيك العِرق وإزالة الأوهام حول كونه أمراً "طبيعياً":
أ ـ صحيح أنَّ العِرق أمر بيولوجي من حيث إنّه سمة فيزيائية، إلاّ أنَّ اعتقاد الفرد بأنّه "أبيض" أو "أسود" ليس اعتقاداً يولد معه بل يتكون عبر مسيرة اجتماعية وتاريخية وثقافية طويلة.
ب ـ كما أنَّ إدراك الفرد لعِرقه لا يعني بالطبيعة أو الفطرة بأنّه متفوق على الأعراق الأخرى.
ج ـ لا يختلف هذا الاعتقاد، من حيث الجوهر، عن الاعتقاد بأفضلية الإنسان على غيره وتميزه عن غيره من البشر سواء كان هذا التمييز على أساس العِرق أو الإثنية أو الدين أو الثقافة وغيرها. كذلك هو الأمر مع العقل والنص الديني في الديانات التوحيدية الثلاث ونخص هنا المسيحية الغربية في الحالة الأميركية، ذلك العقل الذي يتمثل في اعتقاد الفرد أو الجماعة بأنَّ الله قد اختاره لوحده دون غيره وخصة بميزات روحانية سامية تعلو على الآخرين وأنه وغيره من أتباع ديانته "يشارك في جسد السيد المسيح" كما تقول الطقوس الدينية المسيحية.
هنا نستطيع أنْ نمسك بالترابط بين "بَياض البَشْرة" (العِرق) من جهة، والمسيحية الغربية من جهة أخرى، وسوف نعود إلى مناقشة هذه الثنائية في فصلٍ لاحق.
وإذا ما عدنا إلى الركيزة الأساسية للعُنْصرية وهي تفوق الإنسان الأبيض والاعتقاد بأنَّ الأسود والآخر "إنسان أدنى"، فإنَّ الأمور تصبح واضحة وضوحاً بلورياً. وقياساً عليه، فإنَّ النظرة إلى هذا "الآخر" تتباين في مستوياتٍ عدة: فمعاناة الأسود أو الآخر الملون لا تعادل معاناة الأبيض، وإن ألم به الجوع فلا بأس لأنه ليس أبيضَ ولا يحس بالجوع كالأبيض، وإذا ما حُكم عليه بأقسى العقوبات ولو لأصغر الجنايات فليس في الأمر ظلمٌ ولا تعسفٌ، وإذا ما قبع الأسود في السجن فهذا ليس قسوة، وإذا حُرم من حق الانتخاب فليس هناك أيُّ انتهاك "للإجراءات والقوانين الديمقراطية". خلاصة القول في كل هذه الأمثلة أنها تُرسخ المعادلة القائمة والتي مفادها أنَّ الأبيض هو الأفضل وهو المحق دوماً.
ضمن هذا الفهم وفي السياق التاريخي والاجتماعي الممتد على مساحة أكثر من أربعة قرون تصبح البَشْرة والحدود والمحدوديات التي ترسمها نقطة الانطلاق في (1) تحديد دور الفرد أو الجماعة في العملية الاقتصادية والاجتماعية و(2) في تحديد حصتهم في توزيع الموارد والوصول إلى مواقع القوة الاقتصادية والسلطة السياسية. وهنا تذهب العُنْصرية إلى أبعد من لون البَشْرة وليست مجرد "امتياز" للأبيض على الأسود، فمَنْ يتحكم بآليات الهيمنة هو الذي يمارس التمييز العُنصري. ولمزيد من التوضيح، نقول إنَّ العُنْصرية بكافة أشكالها ليست مجرد مجموعة من المعتقدات التي تشكل الخطاب العُنصري بالمعنى الضيق، بل إنَّ الأهم هي القدرة (أي قدرة الأبيض في هذه الحالة) على فرض معتقداتٍ ورؤيةٍ ونظرةٍ معينة للعالم كالنظرة المهيمنة والتي تشكل في الآن ذاته الأساس في قبول "الآخر" أو رفضه ورفض المساواة والعدالة بين الناس والتنكر لحقوقهم وحرياتهم واجتراح الذرائع (على تنوعها) لتبرير ذلك. هكذا تتغلغل العُنْصرية في علاقات الحكم (السلطة) بمستوياتها المختلفة. فحتى لو كان السود عُنصريين أو أنهم يؤمنون بأنَّ عِرقاً ما أو فئة ما متفوقة على الآخرين، فإنّهم، أي السود، يفتقرون إلى الآليات والأدوات اللازمة للهيمنة والإقصاء والاستغلال ولا يملكون بالعادة سلطة الحكم كي يمارسوا العُنْصرية والتمييز العُنصري عملياً وما ينتج عن هذه الممارسة من آثار وأذى بالآخرين. وعلى هذا الأساس، فإنه ليس منطقياً اعتبار عُنْصرية السود أو غير ـ البيض مثل تلك التي تمارسها الفئات المهيمنة ضد الفئات المضطَهَدَة.

ما وراء لون البَشْرة
(البياض كموقع اجتماعي)

بعيدا عن الرطانة والدجل السياسي والأيديولوجي فإنَّ كونك "أبيضَ" في أميركا هو من دون شك صفة أو امتياز يتجاوز لون البَشْرة وله من التداعيات والآثار ما هو أبعد بكثير مما يُظن، وبهذا المعنى يصبح بَياض البَشْرة "معياراً اجتماعياً".
فالأبيض، كما أسلفتُ، هو العادي والطبيعي وهو الأكثر حظاً وثروةً من غير "الأبيض" بغض النظر عن شخصية هذا الأخير ومسلكيته ومهارته وكفاءاته. وعليه فإنَّ لون البَشْرة يعني، فيما يعني، من منظور غير الأبيض، أنَّ الآخرين هم الذين يحددون موقعك الاجتماعي ودورك لا بناءً على قدراتك بل وفق التنميط stereotype القائم على لون البَشْرة والمظهر الخارجي الذي يصبح أحد مكونات البنية الطبقية ـ العِرقية وإحدى آلياتها التي تمثل وتحمي المصالح والامتيازات الاقتصادية ـ الاجتماعية للأبيض.
ويجدر التذكير هنا بأنَّ هذا التفاعل اكتمل في مجتمع يقوم على الفوارق والتمايزات العِرقية، وعبر عملية تراكمية مديدة مما أفضى إلى قيام نظام وبنية مؤسساتية كاملة تضمن منح الأبيض (احتكاره) العديد من الامتيازات والفرص التي تضمن له الثروة والرخاء والرفاهية، وفي الوقت ذاته حرمت الآخر ـ غير الأبيض، من هذا كله. ففي وجه هذا الأخير تراكمت العقبات والصعوبات على مدى عقود طويلة حالت دون العدالة الاجتماعية والاقتصادية والمساواة والحرية في مجتمع ترى فيه الأغلبية السكانية مثالاً للحرية والديمقراطية. وعليه، فليس من الغرابة أنْ يتوصل مارتن لوثر كينج، المناضل الأميركي الأسود، إلى العبرة التي أوجزها في قوله أنَّ حقائق التاريخ تؤكد أنَّ الفئات الاجتماعية والمجموعات السكانية قلما تتخلى عن امتيازاتها طوعاً. فإذا فعل بعضهم ذلك، حسب ما ذهب إليه كينج لأسباب أخلاقية وتنازلوا طوعاً عن امتيازاتهم أو موقعهم الاجتماعي غير العادل، فإنهم يفعلون ذلك على أساسٍ فردي أي كأفراد، أمّا الفئات (وهنا أضيف ما تحاشى قوله كينح، الطبقات) الاجتماعية فإنها تفتقر إلى مثل هذه الأخلاقية التي يتمتع بها الفرد, وكان مالكولم إكس قد وصل إلى هذا الاستنتاج مبكراً وعلى نحو أكثر عمقاً وراديكاليةً، إذ أكدت تجارب الشعوب عبر التاريخ أنَّ الطبقات المهيمنة والحاكمة لا تتنازل عن مصالحها ولا تهادن طوعاً، بل هي في هذا الصراع التناحري المحتدم حتى النهاية: فإما تنتصر وإما تنهزم.

بَياض البَشْرة كمفهوم طبقي ـ اجتماعي متحرك

مَنْ هو "الأبيض" في أميركا؟ ماذا وراء بَياض البَشْرة كموقع طبقي ـ اجتماعي؟
سؤال يُفترض أنَّ الإجابة عليه سهلة. إلاّ أنَّ حقيقة الواقع غير ذلك. فبالرغم من أنَّ هذا السؤال ظلَّ حاضراً في أميركا منذ نشوئها وعبر تاريخها، غير أنَّ الإجابة عليه كانت دوماً موضوع جدل مستمر. ولا يعود ذلك بالطبع إلى صعوبة تحديد لون البَشْرة للأفراد أو الجماعات العِرقية والإثنية، بل لأن تعريف "الأبيض" (ولون البَشْرة) في السياق الأميركي، وبعيداً عن الرطانة السياسية والدجل الأيديولوجي، لم يكن مجرد صفة بيولوجية أو إثنية من حيث الجوهر، بل كان "معياراً اجتماعياً" وسلاحاً طبقياً وآلية للحفاظ على المصالح الاجتماعية والطبقية للبيض الأغنياء وضمانة لديمومة امتيازاتهم.
لهذه الأسباب، نلحظ أنَّ التعريف القانوني لـ "الأبيض" وتحديد مَنْ هو الأبيض في القوانين الأميركية، قد مرّ بمراحل متعددة حددت الدلالات والتلونات الحقوقية لمفردة "الأبيض" ومَنْ يحق له أنْ يتمتع بهذا التصنيف العِرقي. إلاّ أنَّ هذه التعريفات القانونية على تنوعها عبر المراحل التاريخية المختلفة جاءت لتخدم الهدف ذاته: مصالح الأغنياء والبرجوازية الناشئة ولاحقاً الرأسمالية الأميركية. ومن أجل تحقيق هذه الغاية (حماية المصالح الطبقية)، ولأنَّ تعريف الأبيض كان يُحدد دوماً وفي الآن ذاته تعريف الآخر غير ـ الأبيض، (أي أنَّه تحديد مَنْ هو هذا الآخر غير الأبيض non-white كان دوماً مصاحباً وحصيلة لتحديد مَنْ هو الأبيض)، لهذه الأسباب ظلّ تعريف الأبيض هدفاً متحركاً ومتنقلاً ومسايراً لهذه المصالح والمتغيرات.
أسوق فيما يلي، تمثيلاً لا حصراً، بعض المعطيات التاريخية لتوضيح ما أقوله:
- كان الأرمن يعتبرون "آسيويين" حتى عام 1909 حين أصبحوا بيضاً حسب القانون وبقرار من المحكمة في ذلك العام.
- أما السوريون فقد أصبحوا بيضاً حسب قانون عام 1909، ثم أصبحوا غير بيض عام 1913 أي نُزعت عنهم صفة "البيض" ثم عادوا وأصبحوا بيضاً عام 1915.
- عانى الإيرلنديون واليهود الأشكنازيون أشكال التمييز العُنصري إلى أنْ ارتقوا إلى مصاف البيض بعد عدة أجيال في الولايات المتحدة.
- تم استثناء المهاجرين الآسيويين المولودين خارج أميركا (خصوصاً الصين واليابان) وجردوهم من حق التجنس حتى عام 1952.
تشير التقديرات الإحصائية إلى أنَّ "البيض غير الإسبانيين" non-Hispanic White (أي أولئك البيض الذين ينحدرون من أصول أوروبية لا أصول إسبانية من القارة اللاتينية حسب تعريف مكتب الإحصاء الأميركي)، سوف يبلغ تعدادهم أوجه عام 2016 ثم يبدأ بالانحدار، مما يعني أنّهم لن يعودوا يشكلون الأغلبية السكانية في أميركا. وهو أمر يرفض الكثيرون منهم الإقرار به، أمّا الوجه الآخر لهذه الحقائق فهو يؤكد أنَّ تأثير الإثنيات الأخرى سوف يتعاظم في الحياة السياسية الأميركية (أي الإثنيات الآسيوية، اللاتينية، الكاريبية، العرب الأميركيون وغيرهم ).
ولا شك في أنَّ هذه التغييرات الديمغرافية سيكون لها تداعيات كثيرة على الجدل المحتدم في المجتمع الأميركي حول "الديمقراطية" والمساواة والتنوع والتعددية الإثنية والثقافية وغيرها من المسائل الشائكة.

تداخلات لون البَشرة والعُنْصرية والطبقة

حين يسود لون البَشْرة كثنائية، (أي ثنائية الأبيض ـ الأسود وبالمدلول العملي الأبيض كجلاد والأسود كضحية) وحين تطغى هذه الثنائية على التصنيفات العِرقية تختلط الأمور ويصبح كل ضحايا العُنْصرية على شاكلة واحدة ومن لون واحد وتغيب العوامل والفوراق الأخرى (مثل التمييز بين الرجل والمرأة والفوارق بين الطبقات الاجتماعية والإثنيات). وبالرغم من هذا، فإنه كثيراً ما تضيع الفوراق في تلونات التجارب وأشكال المعاناة ودرجاتها وتضحى الممارسات العُنْصرية وكأنها غير مرئية أو ربما "غير موجودة". فعلى سبيل المثال تستعصي وربما تستحيل رؤية التمييز ضد فقراء العالم الثالث أو ضد الإيرلندي (الأبيض) في بريطانيا أو ضد العمال اللاتينو المهاجرين في الولايات المتحدة، وكلها تُعبر في العديد من تجلياتها وتطبيقاتها عن التمييز العُنصري إضافة إلى الاستغلال الطبقي والاقتصادي.
من ناحية أخرى، فإنَّ الموقف من هذه المعادلة، أي ثنائية الأبيض ـ الأسود، كثيراً ما يتطلب الحذر، كي لا يصبح الأبيض، كل البيض، عُنصريين ويتم التعامل معهم على هذا الأساس دون الانتباه إلى التمفصلات المختلفة للعُنْصرية والمتأصلة في الطبقة والإثنية والجندر وغيرهما من الأطياف الاجتماعية والإثنية.

بَياض البَشْرة: تراتبية عِرقية أم طبقية؟

تتسم أميركا بتراتبية عِرقية hierarchy واضحة للعيان. وقد صاحبت هذه التراتبية حقبات نشأة وتطور المجتمع الأميركي وشملت كافة نواحي ومستويات الحياة الأميركية، وأنتجت في نهاية المطاف بنية اجتماعية عمادها "بَياض البَشْرة" والتي تهمين عليها فئة عِرقية بيضاء تتمتع بمصالح طبقية واجتماعية واسعة وتحظى بامتيازات وأفضلية على الأعراق والفئات الأخرى مستندة في ذلك إلى التنميط العِرقي للأغلبية السكانية غير الأوروبية البيضاء. هذه المصالح، وما خلقته من بنى طبقية واجتماعية لحمايتها، هي السبب الجذري في تهميش "الآخر" واضطهاده ومحاولة محوه واجتراح الذرائع لتبرير مثل هذه الجرائم: الإبادة العِرقية لأغلبية الهنود الأميركيين الأصلانيين والمتاجرة بالعبيد السود ثم استعبادهم بعد استحضارهم من أفريقيا.
وكي لا نغفل عن رؤية المجتمع بشموليته، تجدر الإشارة إلى أنَّ التراتبية العِرقية ليست الوحيدة، بل تتفشى في أميركا أشكال متعددة من التمييز منها ما هو ظاهر والكثير ما هو خفي ومستور، ترافقها أصناف ومستويات معقدة من التراتبية والاصطفافات الاجتماعية والعُنْصرية، وهي مترابطة في جدليتها وتأثيراتها المتبادَلة، نذكر منها على سبيل المثال:
ـ التمييز الطبقي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وما تنتجه من توزيع ظالم للموارد والثروات ومصانع وبنوك ومؤسسات مالية وتمركزها في أيدي القلة، والدفع بالأغلبية السكانية إلى الفقر والبؤس والتهميش.
ـ التمييز ضد المرأة على أساس الجندر: إخضاع المرأة للذكر على أساس النوع وحرمانها لعقود من حق الانتخاب والملكية التي قدّسها النظام الرأسمالي الأميركي منذ نشأته.

لون البَشْرة وتوزيع الموارد

تتحكم القوى الطبقية ـ الاجتماعية المهيمنة على التراتبية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بصنع القرار سواء عن طريق ملكية وسائل الإنتاج وما تفرزه من علاقات الإنتاج والسيطرة على توزيع الثروات والاستحواذ على الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال الاستفراد بالسلطة (الحكومة، الطبقة الحاكمة). ومن هنا فإنَّ لهذه القوى مصلحة كبيرة في صناعة وفبركة وإعادة إنتاج الفوراق الطبقية والإثنية والعِرقية بشتى تصنيفاتها ومستوياتها. فعلى سبيل المثال، اخترع مكتب الإحصاءات الأميركي عام 1971 مصطلح Hispanic ليدلل على فئات اجتماعية (مجموعات سكانية) بلغ تعدادها آنذاك 16 مليوناً وجمعها كلها في صنف إثني وعِرقي واحد يشمل قوميات واثنيات مُعَرقنة متعددة واحتضن تقاليد وثقافات وولاءات سياسية مختلفة وأحيانا متناقضة:
- سود من أصول كاريبيه.
- أرجنتينيين من أصول ألمانية وإيطالية.
- كوبيين بيض وأغنياء يعادون الثورة الكوبية ونظام كاسترو.
- فقراء من المكسيك يعملون في مزارع كاليفورنيا.
- سود من أصول أفريقية قدموا من الجمهورية الدومينيكانية.
إلا أنَّ السلطة (الدولة) هي التي تستأثر "بالحق" والصلاحية من خلال مؤسساتها في تسمية فئة اجتماعية معينة وتصنيفها ديموغرافياً واجتماعياً وتحديد موقعها في تراتبية المجتمع الأميركي، وهي (أي الدولة/السلطة) تفعل ذلك من أجل تحقيق غايات سياسية واقتصادية واجتماعية، لتخلق واقعاً مادياً معيناً لعيش لهذه الفئات وتحديد هوية/هويات هؤلاء الأفراد والجماعات العِرقية والإثنية والقومية وفرضها عليهم.
في هذه اللوحة المعقدة، حيث تتشابك التناقضات والصراعات بشتى أشكالها وتجلياتها، نسجت الطبقة المهيمنة أيديولوجيتها الطبقية وغلّفتها بأقنعة الاستحقاق والأحقية للبيض الأوروبيين. إلاّ أنَّ جشع هذه الطبقة لم يتوقف عن هذا الحد ولا عند حدودها الجغرافية ولم يكتفِ بسوقها المحلية، بل سعت إلى غزو العالم وعولمت هيمنتها على شعوبه واحتكارها لمواردها وسلمتها للشركات الرأسمالية الكبرى كي تتحكم بها سعياً وراء الربح الأقصى ووراء الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها الاقتصادية ـ الطبقية وترسيخها. إلا أنها لم تغفل في هذا كله أنْ تلقي بالفتات على الشعب الأميركي لإخماد التناقضات ولو لأمد قصير، وكبح عوامل التمرد والثورة وضمان استتباب "السلم الاجتماعي".

خاتمة

تناولت في هذا الفصل إشكالية بَياض البَشْرة وتداخلاتها الجدلية مع العُنْصرية والطبقية في علاقات الأبيض لـ"الآخر"، مما يقتضي تحليل ظاهرة بياض البَشْرة وكونها ركيزة للعُنْصرية وفي إطار ثنائية العِرق والدونية الثقافية كموقع اجتماعي ـ طبقي. وقد أثرتُ العديد من الأسئلة في مستويات متعددة:
ــ مَنْ اخترع العِرق وفوقية الأبيض، وبالتالي مَنْ اخترع التمييز العُنصري؟ ومَنْ هو الأبيض في أميركا؟ وكيف تغيّر التعريف القانوني للأبيض عبر التاريخ وفق المصالح الاقتصادية والسياسية؟
ــ أما على المستوى الاجتماعي والطبقي: هل "الأبيض" أو " البَشْرة البيضاء" مجرد مجموعة عِرقية أو ثقافية معينة؟ وهل تعني هذه المفردة فوقية الأبيض على الآخر غير ـ الأبيض؟ وما هو المضمون الطبقي والعِرقي والثقافي للأبيض والبشرة البيضاء؟
من أجل الوصول إلى فهم هذه الظاهرة، والتأسيس لما هو أبعد ـ أي مناهضة العُنصرية وكافة أشكال التمييز ـ كان لا بد من تفكيك معاني "بياض البَشْرة" وتفسيراتها ودلالاتها الطبقية والسياسية والمؤسساتية وصولاً إلى الاستنتاج إلى أنَّ مناهضة "مأسسة" لون البَشْرة وخصوصاً في مجال التنشئة وخلق الوعي لدى الأجيال الناشئة (مجال التربية والتعليم) هي شرط لتحقيق أي تغيير في المجتمع الأميركي وأن طمس هذه الحقائق والجهل بها يعني استمرار الواقع الراهن.
يشكّل التمييز العُنصري والثقافي وأشكاله الأخرى عاملاً أساسياً فيما تعانيه الطبقات الشعبية من فقر وبطالة وتدني مستوى المعيشة والأوضاع المتفاقمة للإقليات الملونة ـ غير البيضاء وإدامة الفقر وأوضاعهم المتردية في شتى جوانب الحياة وأنشطتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
على الرغم من الإنجازات التي حققتها الأقليات الملونة بفضل نضالاتها وتضحياتها إلاّ أنها ما زالت تعاني من أقسى أشكال الفقر والحرمان والتهميش. ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى أنَّ المرأة في هذه الأقليات الملونة هي الأكثر ظلماً واضطهاداً وفقراً وهي التي تواجه تاريخياً تمييزاً وظلماً مزدوجين: التمييز على أساس العِرق والطبقة من جهة، والجندر من جهة ثانية. ولعل من أكثر حالات الفقر والظلم في أميركا هي حالة العائلات الملونة حيث تكون المرأة في كثير من الحالات ربة العائلة الوحيدة كما هو الأمر في حالات الطلاق الواسعة الانتشار.