فلسفة هيغل ودورها التاريخي (2-3)


خليل اندراوس
2017 / 8 / 14 - 09:53     



** الوجود والواقع
إنجلز يلفت النظر الى الفرق الوارد في فلسفة هيغل بين الوجود والواقع، فليست جميع الظاهرات الاجتماعية الموجودة برأي هيغل، واقعية كذلك. الواقع بنظر هيغل أعلى من الوجود، وهو لا يلازم سوى الظاهرات التي وجودها ضروري موضوعيا، مثلا ضرورة ظهور هذا الشكل او ذاك من هيكل الدولة يمليها مجمل معين من الظروف التاريخية. وإذا كانت الدول تتطابق مع هذه الظروف فانها واقعية، فعلية ومعقولة في آخر المطاف.





قطع هيغل بحزم وعزم كل صلة بالتقليد السائد بين اغلبية الفلاسفة وعلماء الطبيعة، وهو ان يروا في المعرفة عملية التوصل بتتابع وثبات الى تفهم مجمل معين نهائي مما يسمى "الحقائق المطلقة"، وحسب هذا التقليد، تبقى هذه الحقائق كما هي في جميع الظروف الطبيعية او التاريخية ويجب ان تعطي الناس بمجملها المعرفة النهائية، الكاملة عن العالم.
خلافا لوجهة النظر هذه اعتبر هيغل الحدود بين الحقيقة والضلال نسبية ومتحركة جدا، واعتبر تفهم الواقع المحيط عملية معقدة ومديدة، لا نهاية لها حقا، ليس لها طريق رئيسية يسير عليها تطور المعرفة العلمية وحسب، بل لها ايضا طرق جانبية وحتى تشعبات مأزقية. وكان تصور لا نهائية حركة الفكر البشري يناقض قطعا ادعاءات الكثير من المفاهيم الفلسفية ومفاهيم العلوم الطبيعية في امتلاك المعرفة المطلقة عن العالم، ويوجه العلماء الى البحث الخلاق المتواصل. وقد قال إنجلز: "فالحقيقة التي كان ينبغي ان تعرفها الفلسفة لم تبد لهيغل بشكل مجموعة من العقائد الجامدة الجاهزة، التي ليس على المرء بعد اكتشافها الا ان يحفظها عن ظهر قلب، فالحقيقة قد انحصرت مذ ذاك في مجرى المعرفة نفسه، في التطور التاريخي الطويل للعلم الذي يصعد من درجات دنيا الى درجات اعلى فأعلى في سلم المعرفة ولكن دون ان يبلغ أبدا نقطة لا يستطيع ان يستمر سيره منها بعد ايجاد ما يسمى الحقيقة المطلقة، ولم يعد له بتاتا ان يبقى حيث هو، مكتوف الأيدي، يتأمل بإعجاب الحقيقة المطلقة التي حصل عليها، هكذا يجري سواء في ميدان المعرفة الفلسفية ام في ميدان أي معرفة كانت وكذلك في ميدان النشاط العملي". (ماركس إنجلز – مختارات في ثلاثة مجلدات المجلد 3 الجزء 2 صفحة 189).
وقد دل هيغل على السبيل الى استيضاح القوانين الديالكتيكية لا في حركة المعرفة البشرية وحسب، بل ايضا في تطور المجتمع. ان دراسة تاريخ البشرية من مواقع ديالكتيكية منسجمة تؤدي حتما الى القول بالطابع النسبي لدرجة التطور الاجتماعي المبلوغة بالمقارنة مع لا نهائية العملية التاريخية. ومن هذه المواقع يبدو المجتمع القائم، كل مجتمع من جهة، نهاية للتطور التاريخي السابق، ومن جهة اخرى، صانعا للمقدمات من اجل الانتقال الى شكل اجتماعي أعلى. وفي هذه الطريقة بالذات لتقييم الواقع الاجتماعي تجلى الطابع الثوري للديالكتيك الهيغلي، وتجلى رغم الشكل الغامض جدا والصوفي تقريبا في بعض الأحيان لعرض المادة. ونظرا لذلك يحذر إنجلز من التقييم الأحادي الجانب للموضوعات المعروفة جيدا في فلسفة هيغل، ويدعم فكرته بمثال قول مأثور واسع الاستعمال في ذلك الزمان من مقدمة مؤلف هيغل "فلسفة الحق" جاء فيه:
"كل ما هو واقع هو معقول، وكل ما هو معقول هو واقع" من النظرة الاولى يبدو هذا القول مجرد تبرير للأوضاع الاجتماعية القائمة، مجرد توضيح فلسفي للمؤسسات الاجتماعية أيا كانت، مهمة كانت رجعية. هكذا بالضبط كان يظن ممثلو الاوساط المحافظة الملكية الاقطاعية، والليبراليون البرجوازيون القصيرو النظر الذين كانوا يرون في هيغل مدافعا بوجه الحصر عن الملكية البيروقراطية البوليسية القائمة في ذلك الوقت في المانيا. وعلى نقيضهم عرض إنجلز تفسيرا مغايرا لهذا التعبير يرتكز على نظرات هيغل بالذات.
فإن إنجلز يلفت النظر الى الفرق الوارد في فلسفة هيغل بين الوجود والواقع، فليست جميع الظاهرات الاجتماعية الموجودة برأي هيغل، واقعية كذلك. الواقع بنظر هيغل أعلى من الوجود، وهو لا يلازم سوى الظاهرات التي وجودها ضروري موضوعيا، مثلا ضرورة ظهور هذا الشكل او ذاك من هيكل الدولة يمليها مجمل معين من الظروف التاريخية. وإذا كانت الدول تتطابق مع هذه الظروف فانها واقعية، فعلية ومعقولة في آخر المطاف. ولكن الظروف التاريخية تتغير مع مر الزمن، وعاجلا ام آجلا تحل لحظة تكف فيه الدولة المعنية عن التطابق مع المرحلة الجديدة من التطور الاجتماعي، وبديهي ان شكل الدولة القديم قد لا يزول في الحال، ولكن بما أنه لم تبق ثمة ضرورة تاريخية لوجوده، فلا يمكن القول عنه انه واقعي وانه معقول. ومهما استمر وجوده، فإن هلاكه محتم، مثلما هو محتم حلول شكل جديد لهيكل الدولة محله. ان النظرة الى الواقع التاريخي بوصفه عملية ولادة ونمو وتطور واضمحلال مختلف الأشكال الاجتماعية تتناسب مع روح ديالكتيك هيغل. "فإن أي شيء، كان واقعا فيما مضى" حسب ديالكتيك هيغل "يصبح في مجرى التطور غير واقع، ويفقد ضرورته وحقه في الوجود وصفته المعقولة. ومحل الواقع المحتضر يحل واقع جديد صالح للحياة – يحل محله سلميا، اذا كان القديم عاقلا بحيث يتقبل مصيره دون مقاومة، وبالعنف اذا عارض القديم هذه الضرورة" (ماركس إنجلز – المؤلفات الطبعة الروسية الثانية المجلد 21 – ص 274 – 275). وهكذا تتحول الموضوعة القائلة "كل ما هو واقع هو معقول، وكل ما هو معقول هو واقع" من اداة موثوقة للدفاع عن الأوضاع الاجتماعية القائمة الى نقيض مباشر، الى اساس لضرورة الاستعاضة عنها بنظام اجتماعي جديد، وبما ان كل واقع اجتماعي في ميدان التاريخ البشري يصبح مع مر الزمن غير معقول ويفقد حقه في الوجود، فإن هذا يعني انه لا وجود لأي شيء منته، جامد، مطلق، يعني انه لا يمكن لأي مجتمع، لأي دولة، اعتبار نفسها ذروة التطور التاريخي. ومن جهة اخرى، كل ما هو معقول في رؤوس الناس يجب ان يصبح مع مر الزمن واقعا مهما كان مناقضا للتطورات القائمة، وتحويرا لقول لبطل غوته، ميفيستوفيلس، كتب إنجلز: "فالموضوعة التي تقول بأن كل ما هو واقع هو معقول، تتحول، وفقا لجميع قواعد التفكير الهيغلية، الى موضوعة اخرى، هي ان كل ما هو قائم يستحق الزوال". (ماركس إنجلز، مختارات في ثلاث مجلدات، المجلد 3 الجزء 2 صفحة 189).
وكما كتب إنجلز "وهكذا فان تصور الكون وتطوره وتطور الانسانية وكذلك انعكاس هذا التطور في عقول الناس تصور دقيق لا يمكن القيام به الا عن طريق الديالكتيك، وكذلك عن طريق اجراء مراقبة دائبة للتفاعلات العامة بين الصيرورة والزوال، بين التقدم والانحطاط"، "وهذه الفلسفة الألمانية الحديثة وجدت خاتمتها في منهج هيغل، الذي تتلخص مأثرته الكبرى في أنه صور العالم بأسره، الطبيعي والتاريخي والروحي للمرة الاولى، على انه عملية أي حركة دائمة وتحول دائم وتطور دائم، وفي انه قام بمحاولة اكتشاف الصلة الداخلية لهذه الحركة وهذا التطور. ومن وجهة النظر هذه، لم يعد التاريخ البشري يبدو خليطا وفوضى من اعمال العنف الخرقاء التي لا تستحق غير الشجب والنسيان السريع امام محكمة العقل الفلسفي الذي نضج الآن، بل برز، بالعكس بمثابة تطور الانسانية نفسها، وغدت قضية الفكر تتقوم الآن في اتباع سير هذا التطور في جميع مراحله المتتالية عبر جميع انحرفاته وتعرجاته وفي تقديم الدليل على وجود قانونه الداخلي بين جميع المصادفات الظاهرية".